عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > ~¤¢§{(¯´°•. العيــون الساهره.•°`¯)}§¢¤~ > أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه

أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه.

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #21  
قديم 07-10-2010, 12:56 AM
 
الفصل الخامس عشر
الربيع يزداد قرب الحبيب ربيعاً..والليل الساكن الجميل يزداد روعة وسحراً، والنسيم العليل المفعم بأريج الياسمين يتسلل إلى النفس فينعشها ويزيدها بهجة وسعادة، والسماء الصافية البديعة ترمق العاشقين بعيون تتلألأ بالنور، والهلال الفضي يتألق في القبة الزرقاء كثغر ضاحك يشع بابتسامة السماء، وكأنها تشارك الأحبة فرحة القرب وأنس اللقاء ...
وضاقت الشرفة بعصام فلم تعد تسعه من فرط السعادة وفيض الحبور ، فالقلب اليوم هانئ مسرور، والنفس مترعة بأعذب الأحاسيس وأحلاها، والروح ترفرف حول الحبيب في فرح .. تناجي روحه اللطيف، وتبثه لوا عج الشوق والهيام، والعين ترنو إليه في حنان، فيبهرها هذا الجمال الباسم الماثل أمامها، فترسل نظراتها الوالهة المتولعة، لتتأمل القسمات الوسيمة، وتجوب الملامح الحسناء، وتسافر عبر القد الأهيف الممشوق، ثم تعود بعد طول تجوال لترتاح في عينيه الذابلتين، فيأسرها اللحظ الوداع في حياء، وتتيه في بحر من البراءة والصفاء...
وتتأجج مشاعر عصام وتتوهج أحاسيسه وتتألق عواطفه فيسطع ألقها من نظراته الأسيرة، وينطلق بها لسانه فيهمس في وجد وهيام:
- سامية ..على عتبة قربك الحبيب أخلع كل همومي وأحزاني ليسربلني حبك الكبير، وفي واحة حنانك الوارف يحيط قلبي المكدود رحاله، فينفض عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه ولهفاته، فتخضوضرُ فيها الآمال، وتزهر الأماني، وتبسم الأحلام، ويحل في أعماقي المقفرة ربيع ساحر عامر بالأفراح.
همست سامية في دلال:
- عصام...
تابع عصام في توسل :
- دعيني أتكلم ..دعيني أبوح بكل ما في صدري ..لقد آن للعواطف الحبيسة أن تنبثق، وآن للقلوب الظامئة أن ترتوي، وآن للحب الصامت العفيف أن يصدح ويشدوا.. .. إنك الآن زوجتي وشريكة عمري ..أنت الإنسانة التي خلقت لي وخلقت لها.. أنت النصف الأخر الأجمل والأحلى من نفسي والذي يمدني دوماً بالآمال والثقة والتفاؤل، فدعي الأرواح في أفراحها سعيدة بهذا اللقاء بعد أن أضناها الشوق وأوجعها الحنين.
هيجت كلمات عصام مشاعر سامية، وألهبت عواطفها، عصام.. قد لا أتقن مثلك حلو الكلام، لكني أبادلك كل المشاعر والأحاسيس التي تحملها نحوي، ولو أصغيت إلى حديث نفسي لسمعتها تتحدث بلسانك وتحس بعواطفك، وكأن خواطرها رجع الصدى لما يأتلق في نفسك من خواطر..
وصمتت للحظة، ريثما استوعبت أمواج الانفعال التي فاضت بها نفسها، ثم تنهدت وهمست بنبرات مرتعشة ندتها دمعتان تألقتا في صفاء عينيها الفاتنتين :
- عصام.. أنا أحبك يا عصام.. أحبك كما لم تحب فتاة من قبل ..أني أحسّ نحوك بميل جارف عميق.. ميل عارم عجيب.. ميل أكبر من ميل فتاة لشاب.. لكأن روحينا كانتا على موعد قد ضرب منذ الأزل...
نفذت كلمات سامية إلى أعماق عصام بكل صدقها وحرارتها فطرب لسماعها، وخفق قلبه وهو يستقبل ذلك البريق العجيب الذي سطع من عينيها الساجيتين، وقال وهو يرنو إليها في حبّ ووله :
- لو تعلمين كم أنا سعيد بك اليوم .. أنت ملاك طاهر حطّ في دربي فآنس وحشته وبدد غربته.. أنت الماء الروحي لعطشى.. أنت البلسم الشافي لكل جروحي وأدوائي.. أنت الأمل الذي يشحذ همتي ويلهم خطواتي .
ثم تناول يدها بين راحتيه وطبع قبلة طويلة سرت حرارتها في دماء سامية، فأطرقت في حياء وقد تضرجت وجنتاها وسكنت مقلتاها واسترخت الأهداب الطويلة المنسابة كالأشعة حول منبع النور، فنامت فوق العينين الوادعتين في حنان ولاح وجهها المورد الفاتن من تحت غرتها المتدلية الشقراء كمملكة من الجمال الباهر تلوح من خلال أفق حالم يتوهج بالإشراق، وهمست وهي تسحب يدها في رفق :
- عصام ... قد يدخل أحدهم في أي لحظة !...
قال عصام وهو يرمي بنظراته الحالمة إلى نجمة بعيدة:
- عمّا قريب سيكون لنا عش دافئ جميل ..تتفجر فيه ينابيع السعادة والهناء ، وتجري خلاله أنهار النعيم، وفي فردوسنا الصغير سيخرج إلى النور وليدنا المنشود الذي سيضفي عليه حياة رائعة جميلة، تبعثها الطفولة الوادعة البريئة.
هتفت سامية في لهفة وفرح :
- أريد طفلاً.. طفلاً جميلاً تلوح في وجهه ملامحك الوسيمة وتنطق نظراته بذكائك المتقد وكلما ارتقى في سلم الزمان درجة، ظهرت في سلوكه طباع أبيه وأخلاقه، سأسميه عصام ((عصام الصغير)) فاسم ((عصام)) من أحب الأسماء إلى قلبي وأحلاها.
- هتف عصام وهو يرنو إليها بنظرة ودودة حالمة:
- بل أريدها طفلة.. طفلة وديعة جميلة.. طفلة هادئة رزينة، فيها من روحك اللطيفة قبس يشرق به شكلها وطبعها وسلوكها، فألمحك من خلالها في طفولتك وصباك وأراك في نضحك وشبابك، وسوف أستمد اسمها من صفاتك العظيمة.. سأسميها ((صفاء)).. بل ((براءة)).. فأنت البراءة مجسدة في فتاة.
- حسناً.. سأنجب لك طفلاً وطفلة...
- بل أطفال.. سنربيهم أحسن تربية، ونعدّهم أروع إعداد، وسوف تنمو براعمنا الجميلة وتتفتح، فتزداد حياتنا نضارة وسعادة، ويزداد حبنا توطداً وثباتاً، وتتألق في أعماقنا أزهار المحبة والوئام..
- تبدو مغرماً جداً بالأطفال!..
- في أعماقي أبوة جائعة عطشى تهفو للري والإشباع.
- ترى أيهما أقوى؟.. عاطفة الأبوة أم عاطفة الأمومة؟
- اسألي نفسك؟
- يتملكني شعور طاغ بأنه لا يوجد في الكون كله فتاة تحب الأطفال مثلي.
- لعلنا جميعاً يراودنا نفس الشعور.
ثم قالت سامية وهي تسرح بخيالها في وجدانها الخصيب:
- عندما أرى طفلاً يبتسم أرى الوجود من حولي باسماً سعيداً وأحس به مفعما بالبهجة والفرح وتلح عليّ رغبة جارفة لأن أضم ذلك الطفل إلى صدري، وأودعه في قلبي إلى الأبد..
قال عصام وهو يشملها بنظراته المتولعة:
- عندما أنظر إلى وجهك الجميل أراه بريئاً صافياً، وعندما تتحدثين أجد الداخل أصفى وأحلى.. إن نفسي الآن تنعم بالسعادة والارتياح، فبالأمس اطمأنت بمبادئ الإسلام الأصيلة الصافية واليوم تسكن إلى الإنسانة الحبيبة التي شُغفت بها.. ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا!..
قالت سامية في حماس:
- نسيت أن أخبرك.. لقد بدأت أصلي.
- هذا خبر رائع.. كنت على يقين من أن إيمانك الكبير ومعدنك الطيب سيقودك إلى الصلاة.
- عندما أديت صلاة الصبح اليوم، انتابني شعور عذب مريح، وشعرت بنفسي وقد اطمأنت وسمت. وألقي في روعي أني إنسانة جديدة، قد طهرتها الصلاة من كل أدران الدنيا وهمومها ومشاكلها.
صمت عصام ملياً ثم سألها ( بعد تفكر) وهو يرمقها بإعجاب:
- لو كان بحوزتك جوهرة نادرة.. جوهرة ثمينة عزيزة على نفسك، فماذا تفعلين بها؟
- أحفظها وأصونها من العيون والأيدي وأتعهدها بالحماية والرعاية والحرص والاهتمام.
- وأنت يا سامية جوهرتي الغالية، ودرتي النفيسة التي أحبها وأغار عليها.. لكم أتمنى أن أصونك في قلبي فأحميك من كل عين جائعة وكل نظرة مريضة.. عندما كنت ألمح شاباً في الجامعة أو في الشارع ينظر إليك أو يتأملك، كان يغلي في صدري مرجل من الغيظ، وتنطلق في دمائي أمواج عاتية من الغضب، وتلهب أعصابي شحنات ثائرة مجنونة.. إني أخاف عليك من النسمة إذا هبت، فكيف أصبر على عين جائعة تلتهمك بنظراتها الخائنة الخبيثة.
هزت مشاعر الغيرة التي أبداها عصام نفس سامية، فطربت لها، وشعرت بحرارة الحب الذي يكنه نحوها وهي تمس قلبها وتسري في دمها، فسألته تستزيد من عواطفه الثرة الغنية:
- هل أفهم أن الحب عندك يعني التملك؟
ابتسم عصام وأجاب:
- الميل المتبادل إلى التملك بين الزوجين من مقتضيات الحب الصادق العميق.. ينبغي أن يشعر كل منا بأنه ملك للآخر، بل جزء من الآخر.. إنَّه نتيجة منطقية لاتصال المشاعر ووحدتها وانصهارها في شعور واحد، فكما أغار عليك وأحب أن تكوني لي وحدي، أنت أيضا تغارين علي وتحبين أن أكون لك وحدك، أم أنك لا تغارين علي؟...
ضحكت وتساءلت في عتاب:
- أنا؟.. إنِّي لأتمنى لو أكبلك بقيود من حديد، فلا تخرج من مملكتي إلى الأبد.
حبك الطاهر الذي يكبلني أقوى من كل قيود الدنيا وأغلالها.
- يقولونا بأن التملك في الحب أنانية!.
- هذا إذا كان التملك شيئا مفروضاً من طرف واحد.. إنه منتهى الأنانية، فترين الرجل مثلاً يغار على زوجته أشد الغيرة، ويحاصرها بأوامره ونواهيه، ويفرض عليها قيوداً مبالغاً فيها في اللباس والحركة، ويعتقل البسمة إذا رفًّت على شفتيها، ثم يبيح لنفسه كل ما يحرمه عليها، وينجرف وراء شهواته وملذاته وغرائزه دون احترام لمشاعر زوجته المسكينة وحقها في أن يكون لها وحدها. هذا النوع من الرجال ينظر إلى المرأة على أنها مجرد متاع شخصي دون اعتبار لشخصيتها وحقوقها وعواطفها وفي هذا احتقار لها وإيذاء.
سألت سامية في حيرة:
- وكيف لي أن أملك نظرات العابثين والفضوليين، لقد اعتدت هذا الإزعاج المتكرر كل يوم.
- لا تقولي اعتدت.. أرجوك.
- لا أقصد بالاعتياد أني مرتاحة لهذا، فالفتاة التي يسرها أن تلتهمها العيون الجائعة الخبيثة فتاة في سلوكها مرض.. ما أقصده هو أني لا أملك حيال نظرات هؤلاء شيئاً.
- بل تملكين.
- كيف ؟
- بأن تغلقي نوافذ الفتنة والإغراء.
- لعلك تقصد...
- الحجاب.. هذا ما أردته فعلاً.. حجاب الرأس والجسد فلا يبدو منك إلا الوجه والكفّان.
قالت وهي تتفكر:
- فكرت بارتدائه كثيراً، لكن التردد كان يوهن عزمي، ويثنيني.
- ولماذا التردد؟.. إنه أمر من الله يجب تنفيذه، والله يا عزيزتي هو الأعلم بتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي وهو الخبير بطبائعنا وغرائزنا وميولنا، لذا فإن منهجه هو الأولى بالإتباع.
- إني أدرك هذا، لكني - في الحقيقة – لم أتعود عليه، ثم إن زميلاتي سوف يحرجنني بكلماتهن اللاذعة، ويحاصرنني بسخرياتهن السخيفة، ويكبلنني بنظراتهن المتطفلة.
- قال عصام معترضاً:
- لست أنت بالتي تقول هذا!.. يجب أن تكون شخصيتك أقوى من ذلك.. ينبغي أن نتحرر من ضغط المجتمع الفاسد.. أن نتصرف بوحي من مبادئنا وقناعاتنا.. أن نكون فاعلين في المجتمع لا منفعلين به.
- كلامك حق، لكن ما يزيدني تردداً وجود بعض الفتيات اللواتي يسئن للحجاب.. يرتدين الحجاب ويسلكن سلوكاً شنيعاً لا ينسجم مع ما يرمز إليه هذا اللباس من طهر وتعفف!
- لا أنكر وجود هؤلاء، لكن هذا ليس مبرراً لأن ننفر من الحجاب ونتخلى عنه، أليس هناك أطباء يحملون الطب دون أن يتقنوه؟
- بلى..
- لكن ذلك لم يدفع أحداً لأن يتخلَّى عن دراسة الطب وممارسته، واستطاع الأطباء الناجحون أن يحطموا بإخلاصهم وإتقانهم ومهاراتهم أولئك الذين ليس لهم من الطب إلا اللقب الأجوف.
- هذا صحيح.
- إذن لماذا لا تكون الفتيات اللواتي ينسجم حجابهن مع سلوكهن هن الأوضح والأبرز في المجتمع، حتى يسطّرن بأخلاقهن الرائدة ومعاملتهن النظيفة الناصعة مثلاً رائعاً للفتاة المسلمة الأصيلة.
قالت سامية وهي مشدودة إلى الحوار:
- لماذا أمرنا الله بالحجاب؟.. ما الحكمة من تشريعه؟
- لأنه يريد أن يحاصر عوامل الفتنة في المجتمعات، فالنظرة المقصودة للمرأة، ورؤية مواطن الفتنة والإغراء فيها، والاختلاط الفوضوي بها يثير غرائز الرجال، ويفقدهم على أعصابهم، ويدفعهم للتهافت على اللذات والرغبات، فتطغى مشاعر الجنس عندهم على آلاف المشاعر المهمة للحياة، مما يدفعهم لتجاوز حدود الأخلاق والآداب، فينحدر المجتمع نحو الفساد، وتصاب الأمة بالضعف والانهيار.
- وهذا ما يعاني منه مجتمعنا فعلاً.
- لقد رفض الإسلام أن ينظر الرجل إلى المرأة كجسد فحسب، لأن في ذلك غضاّ من مكانتها الرفيعة السامية وإهانة لكرامتها الإنسانية، فالمرأة نصف المجتمع، وشقه المكمل للرجل، وبها تناط مهمات إنسانية نبيلة يعجز الرجل عن أدائها، ولا تقوم الحياة بدونها.. لقد أراد الإسلام أن يثير منظر المرأة أثناء حركتها في المجتمع المشاعر الطاهرة
النظيفة المفعمة بالاحترام والتقدير.. المشاعر النبيلة التي تليق بمكانتها العظيمة في الحياة، أمّا المشاعر الجنسية والجسدية فقد دعا الإسلام إلى إطلاقها ضمن إطار الحياة الزوجية حيث يتحول التبرج والإغراء إلى واجب مقدس تبذله المرأة لزوجها ويتحول الإرضاء الجنسي إلى واجب مقدس يبذله الرجل لزوجته، وعندما يقوم الزوجان بواجبهما في حبّ واحترام وإيثار يتحقق لهما السكن النفسي والاستقرار الروحي، وتمضي سفينة الأسرة في أمان دون أن تعصف بها رياح الرغبة أو الخلاف..
قالت سامية وهي تتفكر:
- كلامك هذا يذكرني بـ ((منى))..
- منى؟.. ما شأنها؟..
- لقد عادت تتقرب مني من جديد، وقد لمَّحت لي أمس بأني كنت على حقّ حينما حذرتها من صفوان، وعندما حاولت أن أعرف منها سبب هذه الصحوة المتأخرة دمعت عيناها وقالت لي بأنه سيأتي يوم تحدثني فيه بكل ما حدث.
قال عصام في شرود:
- يبدو أنَّ أحداثاً خطيرة قد وقعت!! أخشى أن...
ودخلت أم عصام الشرفة لتقدم الفواكه لابنها وخطيبته، وما إن رأتهما حتى خفق قلبها لهذا المنظر الرائع، والتمعت الفرحة في عينيها.. فها هو ابنها الغالي يسكن إلى زوجته الجميلة الفاتنة، وها هو الأمل الرائع العذب يتحقق، وشعرت بالسعادة العارمة تكتسح أغوارها وتطهرها من كل رواسب الماضي وذكرياته الأليمة، وأحست بسحب الحزن القاتمة السوداء وهي تنقشع رويداً...رويداً من نفسها الملبدة بالكآبة لتسطع من خلالها شمس التفاؤل والسرور فتذيب فتذيب بأشعهتا الدافئة صقيع الأيام الباردة التي شغلت سنوات شبابها المهدور، وتفجرت في أعماقها ينابيع الأحلام السعيدة،فرات نفسها في لوحة الخيال جدّة طيبة يحف بها أحفادها الأحبة الذين يملؤون لها حياتها بهجة وأنساً ومتعة،فذاك يشدّها من يدها لتقوده الى مكان الحلوى،وتلك تهرع إليها فتعطيها المشط لتسرح لها شعرها الأشقر الطويل، وذلك يدس يده في جيبها باحثاً عن القروش، وهذه تبكي في دلال وترمقها في توسل فتدعوها بنظراتها البريئة وأنينها المفتعل لأن تحملها وتعطيها حظها من الرعاية والعطف والاهتمام أسوة بأخوتها، وقد أوهمها تفكيرها الطفولي الغض بأن أخوتها الكبار قد استولوا على جدتها الحبيبة، واستحوذوا عليها، وهي المدللة الأثيرة لديها، فنشبت الغيرة في قلبها الصغير. وغلبتها ابتسامة فرحة مشرقة أضاءت ملامحها، فتهللت بالبشر وفاضت بالحبور وقالت وهي تبش في وجه كنتها العزيزة
- الله يكتب لكما السعادة العمر كله.. تفضلي يا ابنتي..
- لقد أتعبت نفسك يا أمّاه.. كان ينبغي أن أقوم بهذا بنفسي.
- ((تعبك راحة يا حبيبتي)).. تفضلي.. لقد انتخبت لك هذه الفواكه بنفسي فلا تتركي منها شيئاً.
- سلمت يداك.. ستكون ألذ فواكه آكلها لأنها من اختيارك أنت..
هتف عصام في دعابة:
- ((يا عيني)).. أراكما قد نسيتماني.. لقد بدأت أغار. ضحكت الأم وكنتها، بينما قال عصام في توسل :
- اجلسي معنا يا أماه.
قالت وهي ترميه بنظرة ذات معنى:
- ((اعذروني يا ابني، لا يصح أن أترك حماتك وحدها)). ثم مضت ونفسها مترعة بالمشاعر اللذيذة، وقالت سامية:
- لكم أنا محظوظة، زوج حبيب وحماة رؤوم.
قال يمازحها:
- هذا كلام تقولينه الآن، فقط.
- الآن وغداً، وسوف ترى..
- لا تقنعيني يا عزيزتي.. لن تنقضي الأيام الأولى للزواج حتى تنضمي إلى حلبة الصراع الأبدي بين الكنة والحماة!.
- ومن قال لك أنه صراع أبدي معلوماتك خاطئة يا أستاذ.
- ((دكتور)). إذا سمحتِ ...
- الخلافات بين الكنة والحماة يا ((دكتور)).. لا تحدث إلا بين النفوس الأنانية المتسرعة الضيقة المهيأة للخلاف والشجار والخصام، أما حماتي فهي شيء آخر!.
- أريد أن أعرف سر هذه المحبة التي بينكما.
- الحب شعور روحي طليق لا يخضع لتفسيرات العقل وقوانينه.
- لعلك تحبينها من أجلي!.
- قد أجاملها من أجلك، أما المحبة فهي شيء صادق يولد في الأعماق، إما أن يكون أو لا يكون وأنا أحبها يا عصام لأني أحبها.. أمك امرأة عظيمة حقاً.. لقد بدأت أدرك مصدر شمائلك الرفيعة.
ابتسم وقال بنبرات حالمة رقيقة:
- المرأة كائن عظيم ينطوي على أسرار روحية عجيبة..كائن لطيف يملك كنوزاً من الحب والرحمة والحنان يفتقر إليها تلك المحاولات المستمرة لإثبات أنًّ المرأة تستطيع أن تكون مهندسة أو عاملة أو محامية أو.. من قال أنها لا تستطيع؟... إن المرأة لديها القدرة والاستطاعة لأن تحل مكان الرجل في الكثير من أعماله، بل وأن تتفوق عليه فيها، لكن جوهر القضية ليس هنا.. الأسرة الناجحة السعيدة يا عزيزتي تقوم على التخصص وتقاسم الأعباء.. ثمة حقيقة أخرى.. إن المراة تستطيع أن تحل مكان الرجل من المستحيل أن يحل مكان المرأة..
قالت سامية في دعابة:
- أنت تعترف إذن بتفوق الجنس اللطيف على الجنس الخشن!.
ابتسم عصام وقال:
- القضية ليست تنافساً وصراعاً.. إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل .. فما ينقص الرجل تكمله المرأة وما ينقص المرأة يكمله الرجل وباجتماعهما تتشكل الوحدة الإنسانية المستقرة الفاعلة في الحياة.. المرأة والرجل في الإسلام متساويان من حيث الإنسانية متكاملان من حيث الخصائص والوظائف.. من الإجحاف والغباء أن نضع المرأة مكان الرجل والرجل مكان المرأة.
- ما خصائص المرأة برأيك؟...
- المرأة روح شفاف رقيق مزودة بجهاز عاطفي فريد، هيأه الله ليقوم بأخطر مهمة في الوجود.
- تريد التربية طبعاً.
- أجل.. فتربية الطفل وإعداده لرحلة الحياة من أهم وأخطر المهمات التي تواجه الإنسان على هذه الأرض.. لأنها عملية إنضاج لأجيال، يتم بواسطتها غرس الصفات النفسية الفكرية والروحية التي تبلور شخصية الفرد وتؤهله ليحتل موقعه الفاعل في المجتمع والأم هي القادرة على القيام بهذه المهمة بما أوتيت من عطف وحنان وصبر على مشاكل الطفل وتفهم لها، مما يجعل الطفل أكثر تقبلاً واستجابة لعملية التربية.. طبعاً أنا لا ألغي دور الأب في التربية، لكن الدور الحاسم يبقى للأم بلا جدال.
وافقته سامية بإيماءة وقالت وهي تقدم له قطعة من تفاحتها:
- إنني أعزو الكثير من أمراضنا ومشاكلنا الاجتماعية لفشل التربية في البيت.. هذه ملاحظة واضحة جداً في حياتنا..
- فعلاً قد يخطئ الرجل فلا يتعدى خطؤه إتلاف آلة أو خسارة صفقة، أما إذا أخلت المرأة بوظيفتها فإنها بذالك تحطم جيلاً وتدمر أمة. أن أكبر مأساة تعيشها البشرية اليوم هي غياب المرأة عن مسرح التربية، وتخليها عن وضيفتها الحساسة للخادمة أو دور الحضانة ووسائل الإعلام، مما أدى إلى فساد الأجيال الجديدة واضطراب شخصيتها، لأنها لم تتلق القدر الكافي من العطف والرعاية والاهتمام، ولم تتناول الجرعات الكافية من الحنان الذي لا بد منه لكل شخصية سوية، وقد بدأ المصلحون والمفكرون في الشرق والغرب يدركون خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية المدمرة وأخذوا يهيبون بالمرأة أن تعود إلى عشّها لتمارس وظيفتها الإنسانية الطبيعية.
- ليت المرأة في مجتمعنا تدرك هذا..
- إن المرأة في مجتمعنا ما زالت مبهورة بتجربة المرأة الغربية وعليها أن تتحرر من البريق الخادع قبل أن نجني الحصاد المرّ الذي جنته حضارة الغرب...
قالت سامية:
- لكن الرجل في مجتمعنا ينظر إلى المرأة على أنها مخلوق قاصر أقل منه قيمة وشأناً. مما يضطرها لإثبات شخصيتها وكفاءتها من خلال منافسته والقيام بأعماله ووجباته!...
أجابها عصام:
- أنا لا أنكر أن الرجل يرتكب الكثير من الممارسات الخاطئة بحق المرأة، لكنّ ذلك لا يبرِّر لها أن تعالج الخطأ بالخطأ، فتدفعها رد الفعل على تصرفات الرجل لأن تتخلى عن وظيفتها وتخرج إلى الشارع والمعمل لتثبت له أنها قادرة على احتلال موقعه بجدارة.. على المرأة أن تكون أكثر ثقة بنفسها وأشدّ اعتزازاً بدورها في الوجود، فإذا كان الرجل يوفر متطلبات الأسرة ويحمي كيانها ويرسم لها مسيرتها، فأن المرأة تحمي روح الأسرة وجوهرها وتهندس عناصرها الإنسانية الصالحة المهيأة لحمل رسالة الحياة كما تنبغي الحياة.
- على هذا فعمل المرأة خارج البيت مرفوض؟
- الإسلام لم يرفض عمل المرأة يا عزيزتي، لكنه رفض أن تمارس المرأة أي نشاط مهني أو اجتماعي أو علمي أو ثقافي إذا كان سيتم على حساب تربية أبنائها التربية السليمة الكافية، فإذا ما قامت بواجبها نحو أطفالها كاملاً واطمأنت على سلامة أوضاعهم واستقرارها فلها أن تقوم بأي نشاط تهواه ما دام نشاط مفيداً بانياً شريفاً يراعي القيم الصحيحة ويحترمها.
سألته في شرود:
- هل هناك زيّ محدد يجب على الفتاة أن تتقيد به في حجابها
- الحجاب ليس زيّاً من الأزياء أو نمط من أنماط اللباس، بل هو مبدأ وقناعة. اختاري في لباسك اللون الذي تريدينه أو الزيّ الذي ترتاحين إليه على أن يكون منافياً للحشمة أو مظهراًً للفتنة.. الحجاب الأكمل والأفضل هو الذي يجمع بين الحشمة والأناقة والجمال.
- وهل تتوقع أن أبدو في حجابي أجمل من الآن؟
- ستكونين أجمل بلا شك ، لأن جمال جوهرك سيسطع ويتألق من خلال سلوكك الجديد. بيد أني أريدك أن تتحجبي لله وحده، لا من أجل الجمال...
سامحك الله، إنما أمزح.. إني مقتنعة بكل ما قلت، وقد فكرت فيه كثيراً قبل الآن، لكني لم أجد من يشجعني على ذلك.
صمت عصام ملياً ثم قال وهو يمسك بيدها في ود:
- سامية أنا لن أكرهك على شيء... أريدك أن تتخذي قراراتك بنفسك عن رضا وقناعة، لكن مالا أرضاه لزوجتي وحبيبتي هو أن تضطر لمخالفة قناعتها ومبادئها من أجل الناس فالحق أحق أن يتبع.
قالت وهي تشد على يده في حنان:
- عصام ...كلماتك دائماً تملؤني ثقة وارتياحاً، وقد اتخذت قراري منذ الآن ولن أتراجع عنه مهما كان تقبل المجتمع له، ولن يريحني أن أرضي الناس وأغضب الله، ولن أسمح لنفسي أن أتركك تتلوى تحت سياط الغيرة ولهيبها. إذا لم أرع مشاعرك وأحاسيسك فلن أكون جديرة بحبك.. إني أعاهدك أن ألتزم بالحجاب، وستكون أول من يراه..
أثلج قرار سامية صدر عصام فرنا إليها في حب وإكبار وهو غارق في طمأنينة غامرة وأحس بروحة تحلق فرحة سعيدة في سماء من الود والتفاهم والانسجام، وبدت له سامية فيها ملاك طاهر جميل يحمله على أجنحة الأمل إلى دنيا الأحلام.
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #22  
قديم 07-10-2010, 12:49 PM
 
طبعا اكتبيها شكلها حلوة
  #23  
قديم 07-10-2010, 07:03 PM
 
الفصل السادس عشر

اليوم.. تثمر سنوات الدراسة والسهر والتعب والكفاح، ويحين موعد الحصاد الكبير، وترسو سفينة الأماني على شاطئ جديد وهي تمضي في رحلتها الطويلة إلى جزر الآمال الخضراء...
واستيقظ طلبة الصف السادس من كلية الطب مبكرين على طرقات الشوق والترقب، وبدؤوا يستعدون لهذه المناسبة الفاصلة في خفة ومرح ونشاط، باليوم.. يتحول الحلم إلى حقيقة،وتدب الحياة في أمل كبير من الآمال العظيمة التي طالما داعبت خيالهم الشاب، ويرتقون درجة في سلم النجاح، ويقطعون خطوة جديدة إلى قمة المجد الذي يتطلعون إليه.
ووقفت سامية أمام المرآة تتأمل حجابها الأنيق، وتحكم ترتيبه وهندامه، بانتظار قدوم عصام الذي سيصحبها إلى الكلية لمعرفة نتائج التخرج، وقد أرسلت ابتسامة عريضة شفّت عن بهجتها وسعادتها العميقة، فهي تقف الآن مع حبيبها على بوابة الأفراح، فاليوم التخرج وغداً الزفاف وبعده السفر والاختصاص ثم تمضي قافلة العمر الجميل من فوز إلى فوز ومن نجاح إلى نجاح على حداء الحب الخالص العميق ويزدهر المستقبل ثرياً بالمنجزات.
وشعرت سامية بعقارب الانتظار وهي تلسعها، فلماذا تأخر عصام؟، لم تعد تطيق بعده عنها..لقد أمسى روحها وقلبها وحياتها فمتى تسكن الروح إلى الروح؟ ومتى ينصهر القلب في القلب وتبعث الحياة في عش الزوجية الدافئ السعيد فيرتاحا من أنين البعد وأوجاع الحنين وتنهدات الحرمان، وراحت ترقب الساعة في ضيق وملل...لقد أخبرها أنه سيمر لاصطحابها في الثامنة وها هو عقرب الساعة يتخطى الثامنة في رتابة مزعجة لم ترحم آلام الشوق والانتظار التي تمس أعصابها المرهفة. وهرعت إلى الباب تسترق السمع لوقع أقدامه على درجات السلم، وما هي إلا هنيهة حتى ملأ الهدوء والسلام أغوارها، وفاضت من نظراتها وملامحها، وتحفزت للقائه،وما إن قرع الجرس حتى فتحت الباب في لهفة، فأطل منه فتاها بسمته الهادئ، وابتسامته الوداعة العذبة، فخفق قلبها لمرآه، وشعرت بنظراته التي تلمع بالحب والإٍعجاب وهي تحاصرها، فلم تصمد لذالك البريق الساطع الذي أخترق قلبها وعطر دماءها بمعانيه الرائعة اللذيذة، فخفضت طرفها في حياء وقالت بصوت هامس رقيق:
- تفضل...
همس وهو ثابت مبهور:
- لكم تبدين اليوم رائعة جميلة!...
- هل ستبقى واقفاً هكذا على الباب؟
- دعيني أتملى هذه اللوحة الفاتنة الماثلة أمامي!
وشدته من يده في دعابة، فقال في مرح وهو يتقدم إلى الداخل خطوات:
- أين حماتي؟..
- إنها في المطبخ تستعد لمناسبة تخرجنا بصناعة الحلوى والمأكولات اللذيذة؟..
وعمي؟..هل خرج؟..
- منذ الصباح الباكر.
- الحجاب يزيدك بهاءً وجمالاً.. لكأنكِ فيه ملاك تحفّه هالة من النور!
- أنت تبالغ...
- أبداً هذه صورتك في أعماقي.
- لعل هالة النور قد سطعت من أعماقك تلك، فتوهمتها حولي!..
همس في أذنها قائلاً:
- بتُّ الآن متلهفاً أكثر للزفاف.
ابتسمت وقالت في دلال :
- إنْ هما إلا أسبوعان...
- سيمران عليّ كسنة.
- فليمرا كسنة.. ستنقضي بسرعة كما انقضت سنوات الكلية الست.
- حقاً لقد مرت كالحلم.. من يصدق؟.. بالأمس دخلناها واليوم نتخرج منها..ما أعجب عجلة الزمان!، إنِّها تمضي بسرعة هائلة، فتطوي بدورانها الأيام والشهور والسنين، فيتلاشى الزمان،ويمحى ويتحول مهما طال إلى مجرد ذكرى، قلما تنجو من قبضة النسيان!!....
- هي الحياة هكذا.. افتح عيناً وأغمض الأخرى، ترَ نفسك عجوزاً هرماً يتربع فوق التسعين.
تساءل عصام مازحاً:
- وأنت؟ هل تظنين بأنك ستبقين صبية؟
- أنا؟.. وما أدراك؟.. لعلي أكون يومها في عداد الراحلين!.
هتف كالملدوغ:
- سامية.. ما هذا الكلام؟.. بالله لا تعيدي هذا على مسامعي
- لكن الموت حق ..أنت تردد هذا كثيراً!!.
- صحيح، ولكن... بالله عليك لا تذكري هذه السيرة الآن.
ثم أردف في وله دامع:
- لا أجرؤ أن أتخيَّل فراقنا على أية صورة!.. إني لأتمنّى أن نحيا معاً ونموت معاً حتى لا يلدغنا الفراق المرّ ويكوينا.
نظرت إليه في حب ووجد، وقالت وهي تمسح دموعه بأناملها الحانية الجميلة:
- كلما تخيَّلت مقدار حبك وإخلاصك فاجأتني بالمزيد..لكأنَّ نفسك الكبيرة بحر ممتد من الحنان بلا نهاية، وأنا تائهة في خضم أمواجه، عاجزة عن بلوغ آفاقه الرحيبة.
- ولن تبلغيها، ذلك أن هذا البحر الذي تتيهين فيه إنما ينبع من قلبك العامر الفياض الذي يرفده دائماً بالمزيد، وسيَّتسع البحر ويَّتسع حتى يغمرنا كله بالسعادة والتفاهم والوئام.
و رانت لحضات صامتة جميلة قد أفعمت بالانفعالات الصادقة اللذيذة، لكنها سرعان ما تلاشت على أعتاب الفرحة الوشيكة، وقال عصام في مرح:
- لقد اقترب موعد النتائج، فهل أنت مستعدة
- سيكون زوجي الأول...
- وما أدراكِ أن تكون زوجتي هي الأولى؟
- أنا؟.. أنا أتفوق عليك يا عصام؟..
- ولماذا لا؟.. تعالي بنا الآن نودّعَ أمك قبل أن نمضي..
* * *
- ترى.. من سيكون الأول على الكلية هذا اليوم؟
أجاب سعد
- وهل هذا يحتاج إلى سؤال.. إنه عصام ولا أحد غيره.
قال عرفان وقد دبت فيه روح الدعابة:
- بل الأصح أن تقول عصام وقرينته.
أثارت كلمات عرفان عاصفة من الضحك استرعت انتباه الطلبة الذين تحلقوا في مجموعات ينتظرون إعلان النتائج المرتقبة في لهفة وشوق، وقال مجدي:
- سمعت أن زفافهما قد أصبح وشيكاً.
أجاب سعد:
- هذا صحيح، لكني لا أعرف موعده بالضبط.
تدخل عرفان قائلاً:
- اسألني أنا، فأنا يا صديقي مغرم بالأخبار السعيدة.. زفاف صاحبنا قد تقرَّر في الأول من الشهر القادم، أي بعد أسبوعين من الآن تقريباً.. ((عقبال عندي)).
علق بهاء من بين الضحكات/
- لقد سبقك عصام يا عرفان.
فأجابه قائلا:
- تصور يا بهاء.. لقد خطب وكتب كتابه وسيتزوج في أقل من ثلاثة أشهر.
حدجه سعد بنظرة متسائلة، وقال يداعبه:
- أتحسده على ما أنعم الله عليه؟
أجاب عرفان:
- بل أغبطه يا سعد.. أغبطه على هذا العم الواقعي المتساهل.
قال له عثمان:
- يبدو أنك وعمك على غير اتفاق.
أجاب عرفان في غيظ:
- إنه يكبلني بشروطه الكثيرة، ولكل شرط عنده فلسفة يستوحيها من تجاربه الخاصة، وكلما طالبته بالتعجيل بالزفاف شمخ بأنفه وقال بلهجة واعظة تثيرني:
(( لماذا الاستعجال يا بني؟ في التأني السلامة.. انتظر حتى تتخرج وتؤمن مستقبلك وتهيئ الضروف المناسبة التي توفر لك عيشة هانئة ولائقة.. لا داعي للاستعجال يا بني، فهذه زوجتك بانتظارك، فأرِنا همتك يا دكتور)).
ثم تابع عرفان وهو محتد حانق:
- تصوروا يا جماعة.. كأني تزوجتها لأخزنها في بيته.
ابتسم الأصدقاء مشفقين بينما قال سعد:
- لا عليك يا عريس، إنه يشجعك ويشد من عزيمتك وما إن يرى نتائج تخرجك حتى يسهل لك كل الأمور.
هتف عرفان وهو يرفع يديه إلى السماء في ضراعة:
- الله يسمع منك يا ((أبو السعود))..
وران على الأصدقاء صمت قصير ما لبث أن قطعه مجدي:
- لقد تأخرت النتائج!
- يقولون بعد دقائق..
- تباً لها من دقائق ثقيلة!
ومضت برهة من الزمن ما لبثت القلوب بعدها أن خفقت، وأطل الترقب من العيون وهي ترى الدكتور ماهر رئيس اللجنة الامتحانية يخرج من غرفته وفي يده رزمة من الأوراق، فهرع إليه الطلبة في لهفة وحماس، وتجمهروا حوله يسألون:
- طمئنونا يا دكتور؟...
- دكتور لم نعد نطيق الانتظار!
- ما هي نسبة النجاح لهذا العام؟...
كان الدكتور ((ماهر)) يشق طريقه بين جموع الطلبة الصاخبة بصعوبة بالغة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشفقة، ولم يصمد للأسئلة الملحة التي انهالت عليه، فأجاب ليطمئن القلوب المضطربة التي قلقل كيانها الانتظار:
- سنوزع النتائج بعد قليل.. لم يبقَ سوى توقيع العميد.. كلكم ناجحون – إن شاء الله – فلا داعي للقلق والاستعجال.. انتظرتم هذا اليوم كل هذه السنين، أفلا تصبرون دقائق؟!
ولم يكد ينتهِ من كلامه حتى عادت الحناجر تضح بالأسئلة والاستفسارات، فما كان منه إلاّ أن حثّ الخطا حتى وصل إلى غرفة العميد، فدخلها بسرعة وغلق الباب وراءه، فخمدت الأسئلة وهدأت الضجة وعاد الطلبة إلى انتظارهم المحفوف بالملل والترقُّب، والتأم شمل الأصدقاء من جديد في حلقة واحدة، وقال سعد:
- سمعت أن نسبة الرسوب لهذا العام لا تتجاوز الثلاثة بالمائة.
علَّق بهاء:
- يبدو أن دفعتنا من الدفعات الممتازة التي تخرجت من الكلية.
قال عرفان وهو يشير إلى نفسه في فخر:
- طبعاً ... لأنها تحوي كوكبة من العباقرة الأفذاذ.
قال له مجدي مداعبا:
- لا تستعجل يا عزيزي.. (( في الامتحان يكرم المرء أو يهان)).. بعد قليل سوف نعرف النتائج ونتبين موقعك من هذه الكوكبة المزعومة..
قال عرفان في استسلام:
- أريد النجاح فحسب، ولا يهمني بعده كنت الأول أو الأخير.. المهم عندي أن أتخرج وأستقر حتى أثبت لعمي المتسلّط القاسي أني جدير بحمل المسؤولية.
ضحك الجميع في مرح وسرور بينما قال عثمان وهو يرمي بنظراته إلى مداخل الكلية:
- ها هو عصام.. إنه قادم بصحبة سامية..
همس عرفان:
- انظروا إليه كيف يتقدّم بثقة وهدوء، وكأن النتيجة في جيبه!
قال بهاء ونظراته تنطق بالرضى والاستحسان:
- لكم أنا معجب بخطوة سامية الجريئة.. إن حجابها الذي ترتديه يخلع عليها هيبة ووقاراً يجبرك على احترامها.
وأردف سعد:
- إنا سامية فتاة ممتازة، تملك شخصية قوية وعقلاً راجحاً سرعان ما استجاب لنداء الله، فالتزمت بمنهجه.
قال مجدي:
- لا تنس يا صاحبي تأثير عصام.. لقد لعب دوراً كبيرا في إقناعها.
قاطعه بهاء قائلاً:
- لقد انضمت سامية إلى صديقاتها، وها هو عصام يبحث عنا...
هتف عرفان ينادي عصاماً وهو يشرئب بعنقه بين جمهور الطلبة.
- نحن هنا يا عصام.. هلمَّ إلينا..
والتفت الأنظار في فضول ترقب الفتى الذي شغل كلية الطب بأخبار تفوقه ونبوغه، وسرت الهمهمات الخافتة تتحدث عنه وتروي أخباره، أما عصام، فقد تقدم من ثلة الأصدقاء في هدوء وقال وهو يأخذ مكانه في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمه:
- السلام عليكم.. ما هي الأخبار؟...
تلقفته كلمات الترحيب النابضة بالحب والتقدير، واستلمه عرفان مداعباً:
- مبروك سلفا يا دكتور...
- ولماذا سلفاً؟
- لأن النتيجة معروفة، فالمقدمات السليمة تعطي نتائج سليمة.. إني أراهن على أنك الأول..
- أخشى أن تخسر الرهان.
- تدخل سعد إلى جانب عرفان قائلاً:
- بل أراهن أنه سيربح، وسأدفع الرهان سلفاً.. أنتم جميعا مدعوون عندي مساء الخميس القادم على حفلة عشاء جميلة، سوف أقيمها لكم في الحديقة.. في أحضان الطبيعة الخلاّبة.
هتف عرفان في مرح وحماس:
- يا لك من شاب طيب يا سعد.. مواقفك النبيلة تعجبني.
ضحك الأصدقاء لدعابة عرفان، ثم انخرطوا من جديد في دوامة الترقب والانتظار...
* * *
في هذا العالم نفوس مكلومة، لا تستطيع أعظم الأفراح وأسعدها أن تلأم جراحاتها أو تسكن آلامها، بل على العكس من ذلك، فإن مناسبات البهجة والفرح في الملح الذي يلهب جراحها ويوقظ آلامها فتزداد إحساساً بالتعاسة والشقاء، وهكذا كانت ((منى))...
لقد تطورت علاقتها مع صفوان من سيء إلى أسوأ، بعد أن شعرت بالخديعة الماكرة التي حبكها لها، وأيقنت أنها ما كانت إلاّ دمية.. دمية ساذجة جميلة، استمتع بها ثم رماها، وها هو يستبدلها بدمية جديدة اسمها ((رشا)).
وتنظر ((منى)) إلى ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغيرة بالرثاء، فهي ترثي لها لأنها شريكة مأساتها التي ستنتهي حتماُ إلى نهايتها الأسيفة، لكنها في الوقت نفسه تغار منها وتحقد عليها.. ليس لأنها احتلت مكانها في قلب ((صفوان))، ((فصفوان)) في نظرها إنسان بلا قلب أو عاطفة أو إحساس ، ولن يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، بل لأن رشا هي الأداة التي يستخدمها صفوان لإغاضتها وتحطيمها وإهانتها انتقاما منها، لأنها تمرَّدت على سيطرته وأنانيته ورغباته، وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع.
أما صفوان، فقد أوحت له ثعابين الحقد والغرور التي تعربد في دمه أن يلقِّن ((منى)) درساُ قاسياً لا تنساه جزاء تمردها عليه، وتحديها السافر له الذي وشت به كل تصرفاته
ا
الأخيرة نحوه، مما جعله أضحوكة بين أفراد الشلة الفاسدة التي جمعها حوله، وصرف عليها بسخاء، ليرضي بها أنانيته وغروره وحبه للظهور. ولم يجد صفوان وسيلة للانتقام أنجح من تجاهلها وإغاضتها بتقرُّبه المقصود من رشا. واليوم، هو آخر يوم لهم في الكلية، وقد قرر أن يفسد على منى فرحة التخرج؟.. وأن يحول هذه المناسبة إلى حفلة وداع منكرة تتذكرها أبد الدهر، وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي تجرأت فتحدته برفضها الاستمرار في تحقيق مطالبه السافلة، وطموحها لأن تكون له زوجة لا عشيقة.
- ((زوجة؟!!..)).
لا يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً لمنى!.. كيف يتزوج من فتاة لا يصل دخل أبيها إلى دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟!..
- (( لقد شمخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها لها في التراب...))
وبدأ صفوان يتسقط كلماتها وتصرفاتها باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها مبرراً لإهانتها أمام من استخفت به بينهم، ثم أخذ يستفز مشاعرها فأمعن في تدليل رشا ومغازلتها، وتجاهل منى بشكل جارح، فكلما تكلَّم وجَّه كلامه للآخرين، وخصَّ به رشا، فإذا تكلمت منى أشاح بوجهه عنها أو رماها بنظرة هازئة تفيض بالاحتقار.
وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((منى)) باحترام وهي تشعر بالحسرة والندم لأنها لم تصغي فيما مضى لنصائحها الأمينة المخلصة، أما صفوان، فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ:
- انظروا لهذا الشبح القادم.. لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية، وأن يفرض عليها عقليته المتزمتة..
أردف أحد أفراد الشلة قائلا:
- هذه أفكار سعد.. سعد هو المسؤول عن هذا الوباء.
قالت رشا:
- كلهم متعصبون.. لقد سمعت سامية تدافع عن الحجاب بحماس منقطع النظير.
علق صفوان على كلمات رشا قائلا:
- يا للسخرية.. أمريكا وصلت إلى القمر، ونحن ما زلنا نتخلَّف إلى عصر الحريم، ترى؟.. كيف يهضم هؤلاء المتزمتين هذه التصرفات؟.. أنا لا أفهمهم!!
قالت له منى وقد نفذ صبرها على هذا التجاهل المقصود الذي يبديه نحوها:
- تحتاج إلى الكثير لتفهمهم.
سألها في شك:
- ماذا تعنين؟!
- أنت تدرك ما أعني!
ضايقت كلمات منى صفوان، لكنه تظاهر بالهدوء، ورفع كتفيه مظهرا عدم الاكتراث، وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة:
- لكنها جميلة.. جميلة جداً.. لكم تبدو في حجابها هذا فاتنة مثيرة!
لكزته رشا في كتفه متظاهرة بالغيرة، بينما قالت له منى في نبرات هازئة تنطق بالتحدي:
- أرى أن عدوى ((الرجعية)) والجمود قد انتقلت إليك، أتعجبك فتاة متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!
علق أحدهم وهو ممن يحب الاصطياد في الماء العكر:
- هذه ليست ((رجعية)) يا ((منى)).. إن صفوان من أتباع المدرسة الكلاسيكية.. إنه مغرم (( بالأنتيكا))..
أطلق أفراد الشلة ضحكات مجلجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما أردف آخر:
- والعطر الذي يستعمله ألا يوحي لك ((بالتقدمية)).. إنه يستحضره خصيصاً من ((باريس)).
تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي، فشعر صفوان بكبريائه الفارغة تهان وأحسَّ بأنه أصبح مثار سخرية من الجميع، وثار غروره المتحفز دائما للظهور، فخاطب ((منى)) قائلا في لهجة غاضبة وقحة:
- إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى، فأنت قادمة من عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت المرأة مشاعا لكل رجل...
صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة منى وصدمتها، وشعرت بالنظرات الخبيثة تحاصرها وتعريها، وأحست بالضحكات الماجنة الخليعة تمزق كرامتها وتهين كبرياءها، وزادت من غضبها تلك الابتسامة الهازئة الحاقدة الشامتة التي ارتسمت على شفتيه، فحملقت في وجهه ثائرة مجنونة.. أرادت أن ترد عليه، لكن لسانها خانها، فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة لا تلوي على شئ، لكأن هذه المناسبة الكبيرة لا تعنيها... لكأنها لم تدرس الطب.. لكأنها لم تقضي في هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب، فقد عصفت الفضيحة بكل آمالها وأحلامها وأحالت حياتها إلى جحيم لا يطاق ومضت في ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي بالانتصار.
* * *
قال سعد وقد رأى منى مندفعة بين جموع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل وجهها:
- انظروا إلى هذه.. ما دهاها؟... أتبكي في مثل هذا اليوم؟!
أجابه بهاء:
- لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أنها راسبة!.
قال عصام وهو ينظر إليها في دهشة:
- لا أعتقد هذا.. من أين لها أن تعرف؟!.
أجابه عرفان في سخرية ذات معنى:
مثل هذه الفتاة تملك الكثير من النفوذ، لا بد أنها توصلت إلى النتيجة من أحد معارفها في الديوان.
هتف سعد في إنكار غاضب:
- عرفان.. لا تطلق لخيالك العنان.. لسمعة الناس حرمة لا يجوز انتهاكها.. تبين الأمر ثم أطلق الأحكام.
قال عرفان معتذراً:
- أستغفر الله، لقد سبقني لساني!.
قال مجدي وهو يرقب عقارب ساعته في ضجر:
- اتركونا من سيرتها الآن.. دعونا في الأهم.. لقد تأخرت النتائج كثيرا.
وأردف عثمان:
- لقد سئمت الانتظار...
قال سعد:
- يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعلاً.. سأحضر بعض المرطبات...
وما كاد سعد أن يمضي حتى اخترق فضاء الكلية صوت المذيع وهو يدعو طلاب الصف السادس عبر مكبر الصوت إلى الاجتماع في مدرج ((ابن سينا)) حيث سيتم إعلان النتائج، فانطلقوا إليه كالنسيم، وانهمروا عليه كالمطر وراحوا يتدافعون على أبوابه، ويتسابقون إلى مقاعده، وسادت المدرج جلبة وضوضاء، وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزانهم، وانبعثت في أعماقهم طفولتهم القديمة، فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون، وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة الامتحانية حتى ضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وانبرت مجموعة من الطلاب الذين عرفوا بالشغب تردد بإيقاع طفولي مألوف ((صباح الخير يا أستاذ)) فابتسم العميد لهذه الهفوة المغفورة ابتسامته الرزينة المألوفة، بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة الامتحانية من المنصة وهو يضحك وتناول ((المايكرفون)) وقال وهو يدنيه من فمه:
- أعزائي الطلبة.. بل زملائي الأطباء – كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ الآن - ، إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه، لأنكم الآن على عتبة منعطف جديد في حياتكم، فاليوم تطوون مرحلة الدراسة الجامعية الأولى لتنالوا أولى الشهادات العلمية العليا ألا وهي شهادة ((البكالوريوس)) في الطب والجراحة التي ستؤهلكم لممارسة مهنتكم الإنسانية المقدسة لخدمة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام...
زملائي وأخوتي وأخواتي.. بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل المضني الدؤوب: قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب لي – بصفتي رئيسا للجنة الامتحانية لهذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة والأربعين لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الترتيب الأول مع تمنياتي لكم جميعا بالنجاح والتوفيق.
وران على المدرج صمت عميق وخفقت القلوب حتى كادت أن تبلغ الحناجر، وتوترت الأعصاب من رهبة الانتظار، وسطع الترقب من العيون التي تعلقت نظراتها المتلهفة بشفتي الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكلام، فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها المتوسل الصامت:
- المتخرج الأول : الدكتور (( عصام السعيد )) ، وقد حقق معدلا فريدا قدره (( خمس وتسعون درجة وسبعة أعشار بالمائة )) وهو أعلى معدل تم تسجيله في تاريخ الكلية حتى الآن، ويسر عمادة الكلية أن تمنحه ((درجة الشرف)) على هذا التفوق الكبير.
وضج المدير بالتصفيق الحار، واتجهت نظرات التقدير والإعجاب ترمق أبرز المتخرجين وأول المتفوقين وهو يمضي إلى المنصة لاستلام نتيجته بخطوات واثقة هادئة وقد انتشرت في أغواره السعيدة فرحة عظيمة لم يتسع لها صدره، فتكاثفت وتكاثفت حتى قطرت من عينيه دموع صامتة معبرة اهتز لها الجميع، وتأثروا بها، ووقف له العميد في إكبار واحترام، وقال له وهو يصافحه في ود وحرارة:
- مبروك يا بني.. إنه لمما يشرفني أن تكون أحد طلابي وأن تصبح أحد زملائي، ومما يزيدني شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسيرة نجاحك ونبوغك حتى تحقق كل ما تصبو إليه من آمال.
وأراد عصام أن يشكر العميد لكن الموقف المؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته في خضم الانفعال، فشكره بإيماءة صامتة وعاد إلى مكانه في هدوء وتواضع، ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت ملامحها الفخورة بدموع الفرح فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إلى أعماق قلبه، فطرت لها وانتشى، وتلقفه عرفان، وكان يجلس على مقعد جانبي من المدرج فطبع على جبينه قبلة خاطفة، وعانقه في حب وحرارة غير عابئ بوجود العميد والأساتذة فضج المدرج بعاصفة مدوية من الضحك شملت العميد نفسه إذ صرحت ملامحه الجادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز لها جسده، مما شجع الطلبة على التمادي في ضحكاتهم فانقلب المدرج إلى مهرجان صاخب أدخل السرور والمتعة إلى النفوس القلقة وخفف من اضطرابها، أما سعد فقد رنا إلى صديقه العظيم بنظرة باسمة معبرة أغنته عن أبلغ ما يمكن أن يقال في هذه المناسبة الكبيرة.
وتتالت الأسماء...
كان سعد هو الثاني على الكلية، وكانت سامية السابعة، وتبوأ بقية الأصدقاء أمكنتهم بين العشرين الأوائل وعندما علي اسم صفوان في ذيل القائمة المتخرجين أيقن الجميع أنه لم يكن ليتخرج لولا أنه اتبع كل وسائل الغش والخداع في الامتحان حتى انتزع هذا النجاح الذي لا يستحقه أما عندما تلي اسم منى فقد فوجئ الجميع بعدم وجودها في المدرج وهي التي كانت منذ قليل تنتظر معهم إعلان النتائج!!.
وتبادل الأصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة.. فمنى لم ترسب كما توقع أحدهم، فما هو سر بكائها الغامض وغيابها المفاجئ الغريب؟!!...
* * *
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #24  
قديم 07-10-2010, 07:06 PM
 


الفصل السابع عشر

(( أيها الليل.. أما لك من آخر؟.. وأنت أيتها النجوم؟.. ما لك ثابتة في كبد السماء لا تريمين؟.. ألا تمضين في دروبك الرتيبة فتحملين معك هذا الليل الجاثم الطويل؟.. وأنت أيها النوم؟... ما بالك قد خاصمت أجفاني؟.. إلامَ تتركني نهباً للهواجس، وفريسة للهم والأرق؟.. أين أنت حتى أنسى في أحضانك خيبتي ويأسي؟.. ألا تأتي فتنقذني من آلام الوعي ومرارة الحقيقة؟.. وأنت أيها القمر؟.. آه لو ينطق القمر!.. لكان شاهدا على الضحية والجلاد.. على الظالم والمظلوم.. على الجريمة والمجرم.. الخائن.. ظننته فتى أحلامي.. بذلت له الحب والإخلاص.. منحته الثقة العمياء فاستسلمت لأهوائه ورغباته.. آه.. لكم أشمئز من تلك الأيام الماجنة اللعينة.. باسم الحب جردني من إرادتي.. باسم الحب ميع لي الأخلاق الفاضلة وقيم العفة والشرف.. باسم الحب استدرجني إلى حياته التافهة الحقيرة.. الحب!.. هذه العاطفة النبيلة باتت مشجباً نعلق عليه انحرافاتنا وأهوائنا.. أضحت قناعاً براقاً نخفي تحته بواعثنا الشريرة ودوافعنا المريضة .. الحب!.. عنوان خديعة كبرى عشتها سنوات طويلة وأنا أجري وراء فارس مزيف سرعان ما تعثر جواده الرديء على دروب التجربة المريرة.. باسم الحب أرقت أحلى أيام عمري لأروي بها زهرة سامة كنت أول ضحاياها.. وصدقته، فخلعت على أعتاب حبه كل الأخلاق التي تربيت عليها.. تحايلت على أمي الطيبة، وهزئت بنصائحها وتوجيهاتها، واتهمت أفكارها بالتخلف والرجعية والجمود.. خدعت والدي المسكين الذي يحترق كشمعة لينير لنا بتضحياته درب الحياة الكريمة المستورة، وهو يمضي وراء عربته الخشبية العتيقة، يدفعها عبر الأزقة والحارات.. يبيع عليها الخضار والفواكه.. يخرج منذ الفجر، ويعود عند المساء بعد كدح وجهاد طويل، فيتناول عشاءه وينام ليتزود بقسط من الراحة يعينه على متابعة رحلة الحياة اللاحبة الطويلة، وينام ملء جفنيه وهو مطمئن إلى زوجته وأولاده.. واثق بأننا سنقدر كفاحه وتضحياته فننتظم في حياتنا وسلوكنا وفق ما يحبه ويرضاه.. كان أشد ثقة واطمئنانا إلى سلوكي فخذلته دون أن يدري وخنت الأمانة. ماذا لو عرف الحقيقة؟.. حتماً سينهار.. أي جريمة ارتكبتها بحقه وهو الذي يحبني أكثر من كل أخوتي؟.. دائما يقدم لي كل ما أطلب.. دائما يهتم بي ويشجعني ليراني طبيبة يتباهى بها أمام الناس، فيقولوا ها هو ((أبو الدكتورة)).. ها قد أتى ((أبو الدكتورة)).. اشتروا خضاركم من ((أبي الدكتورة)).. الدكتورة؟.. أي لعنة حلت بهذا القلب؟.. خدّر أمي فرضخت لسلوكي الجديد.. خدّر أبي فأطلق العنان لتصرفاتي ومنحني الحرية دون تحفظ.. خدّر أخي الذي يشعر أمامي دائماً بالنقص وهو الذي أخفق في تحقيق طموحه بدخول كلية الطب.. خدّرهم جميعا فلم يرتابوا للحظة بسلوكي في الجامعة.. أولست ((الدكتورة))؟!.. أولست أعلى منهم علماً وثقافة ومكانة في المجتمع؟.. إذن فكل ما أفعله صواب. هذا اللقب المقيت كم بت أكرهه!.. لقد أورثني التعاسة والشقاء.. ليتني لم أدخل كلية الطب.. على الأقل لما كنت تعرفت بصفوان.. يا للسخرية!!.. صرت ألعن الظروف التي جمعتني به.. يا لها من نهاية تعيسة لقصة حب مزيفة.. حب؟!.. أي حب هذا؟!.. إنه ضياع.. عاطفة متوثبة عطشى تبحث عمن يرويها، فصادفت صفوان ليترعها بسمومه، فماتت بعد تخبط طويل، الإنسانة الوحيدة التي وقفت في وجه تهافتي المجنون على صفوان هي سامية.. هي الوحيدة التي قرعت في أعماقي أجراس الإنذار.. هزتني بعنف.. صدمتني بالحقائق، لكني كنت مندفعة بلا وعي فهزئت بنصائحها وتحذيراتها ووثقت بصفوان.. صفون!.. سرّ مأساتي المدمرة وتعاستي وشقائي.. ضحك علي.. أوهمني بحبه.. خدّرني بكلماته المعسولة...
((لكم أنت جميلة يا منى.. درت باريس من أقصاها إلى أقصاها فلم أرَ فتاة بفتنتك وجمالك!.. شاهدت حسناوات لندن فلم يفعلن في لبي ما فعلته أنت.. ذرعت إيطاليا من الشمال إلى الجنوب فلم تشدني فيها أنثى كما شددتني أنت.. درت وسافرت ورأيت ثم عدت إليك لتلقي روحي مراسيها على شاطئ حبك الكبير)).
الخبيث!.. تصورت نفسي ملكة جمال العالم. شمخت بأنفي إلى السماء.. أغلقت سمعي أمام كل الأصوات إلا صوته.. كانت كلماته تدغدغ أعصابي وترضي عواطفي.. كانت تلين إرادتي لتسلس له القياد.. وانقدت إليه.. مفتونة بشبابه.. مبهورة بثرائه.. مسحورة بلسانه.
((- سوف نتزوج.. سأبني لك ((فيلا)) فخمة.. بل قصر.. قصر كبير يليق بك وبجمالك..
- قلبك الكبير أعظم قصر أهفو إليه.. ما دمت أسكن قلبك فأنا أسعد فتاة في الوجود.
- وسنسافر إلى أوربا لنقضي شهر العسل..
- كم أتمنى أن أرى باريس.. لطالما سمعت عن باريس!.
- سأريك باريس ولندن وروما وبرلين و...
- رويدك.. رويدك.. كل ذلك في شهر؟!..
- في شهر.. في سنة.. المهم أننا معاً.. في أفياء حبنا السعيد.
- لماذا لا نتزوج الآن؟
- نتزوج الآن؟!.. ليس الآن.. ووالدي لن يوافق على زواجي قبل أن أتخرج، ولماذا نستعجل بالزواج؟ ها نحن معاً...
- معاً؟!.. أترضى من حبنا بهذا الفتات؟!.. لقاءات خاطفة، وجلسات قصيرة!!.. هل يرضيك هذا؟!!.
- لا.. لا طبعاً.. لم أقصد.. اسمعي.. لماذا لا تأتين تذاكرين عندي.. عندي شقة فخمة.. تقوم في شارع هادئ، فيها كل أسباب الراحة والهدوء)).
فاجأني بعرضه.. تجربتي معه تتطور بسرعة، فمن نظرات الإعجاب الجريئة، إلى ابتسامات الود والرضى، إلى كلمات المجاملة والغزل المستور التي تمخضت عن صداقة عميقة، سرعان ما تحولت إلى حب جارف سيطرت مشاعره وأحاسيسه على أحاديثنا ولقاءاتنا وسهراتنا الممتعة الجميلة، والآن تطور جديد!.. إنه يدعوني للقاء في شقة خاصة دون رقيب!.. ليتني أصغيت يومها لمخاوفي وهواجسي، لكنه شعر بترددي فلم يترك لي فرصة للتفكير وأخذ يحاصرني بأسلوبه الماكر الخبيث:
((- ((منى)).. يعني لم تجيبي على سؤالي.. أنت لا تثقين بي إذن.. الثقة أول دعائم الحب الصادق.. لقد رسبت في الامتحان يا ((منى)) وها هو حبنا يولد ميتاً فلنواريه النسيان.. لكن لا.. قد تنسينه أنت أما أنا فلن أنساه لأن قصته محفورة في قلبي، ضاربة في أعماقي وسوف أعيش على ذكرياته الحبيبة أبكي نهايته الأليمة)). الماكر!.. أشعرني بالذنب.. أصبحت أسعى إلى رضاه.. طفرت الدموع من عيني.. هتفت في توسل:
((- صفوان.. أرجوك.. ما هذا الكلام؟.. لست بالتي تنسى.. أنت لا تدرك عمق حبي وإخلاصي.. أنا أنسى؟!.. كيف سولت لك نفسك أنت تفكر في هذا؟!..)).
- ما معنى خوفك من زيارتي إذن؟
- صفوان.. أنا لست خائفة منك.. أنا خائفة من المجتمع.. من التقاليد.. من كلام الناس..
- أنت لا تثقين بنفسك إذن.. تضحين بحبنا وسعادتنا من أجل الناس والتقاليد.. التقاليد يا عزيزتي والقيم والأخلاق كذبة كبرى اخترعها الناس وصدقوها.. صنعوا منها سجناً شاهق الأسوار وحبسوا فيه أرواحهم.. أنت لم تري أوروبا يا حبيبتي.. الناس هناك بلا عقد.. بلا تعصب.. بلا قيود.. حرية وانطلاق وسعادة ما بعدها سعادة.. يجب أن نعيش حياتنا يا منى.. قطار العمر يمضي، فلنملأ أيامه بالبهجة والمتعة والفرح.. ليس هناك وقت نضيعه.. لا بد من الجرأة في اقتحام الحياة وانتزاع سعادتنا من براثن الأخلاق والتقاليد، فلنتمرد على الحواجز والقيود.. منى.. عل تأتين لتذاكري عندي؟
- سآتي، ولكن...
- ((منى)).. لا تجرحيني.. ولكن ماذا؟..
- لا أستطيع أن أتأخر.
- لن أؤخرك.. تعالي واذهبي متى شئت، اعتبري الشقة بمثابة بيتك.
- بيتي؟.. متى سيضمنا بيت واحد.. تتفجر في رحابه ينابيع حبنا العظيم لتملأ أيامنا القادمة بالسعادة والهناء.. بيت هادئ جميل لا يعكر صفوه إلا صخب أطفالنا الذين يملأون أرجاءه أنساً وبهجة، ويبعثون فيه حياة جميلة رائعة بصياحهم العذب، وضجيجهم المحبب وعبثهم البرئ. لكم أعشق الأطفال يا صفوان!!؟
- الأطفال؟!.. الأطفال هموم ومتاعب ومسؤوليات ووجع قلب))..
يا للسذاجة.. كيف لم أفطن يومها إلى حقيقة مشاعره وأفكاره؟.. إن تعليقه هذا يعكس تفكيره الشاذ الغريب ونفسيته الأنانية اللامبالية التي لا همّ لها إلا تحقيق الرغبات والأهواء، والتهافت على الملذات.. هل يوجد مخلوق عاقل لا يحب الأطفال؟!.. وعندما سألته عن سرّ موقفه من الأطفال استطاع –كعادته- أن يخرج من دائرة الشك بالكذب والمراوغة تحت ستار الثقة العمياء التي منحته إياها..
((- عجباً!.. ألا تحب الأطفال؟!..
- أنا؟!.. آه.. نعم.. أحب الأطفال.. أحبهم جداً.. لكنك يا عزيزتي دائما تستعجلين الأحداث.. أخبرتك أن والدي لن يوافق على زواجنا قبل التخرج.. ستأتين لعندي غداً أليس كذلك؟..
- سآتي...
- سأنتظرك بعد انتهاء الدوام.. سأنتظرك على أحر من الجمر)).
ما أخطر العواطف إذا اندفعت دون كابح من عقل أو إرادة.. ما أخطر أن يتحطم سد التعقل الذي ينظِّم تدفقها.. إنها تتحوَّل إلى طوفان مدمِّر يخلف وراءه المآسي والكوارث والأحزان.. تتحوَّل إلى جحيم يكوي بلظاه القلوب والأفئدة.. وأنا.. فتاة بسيطة أفتقر إلى الوعي والتجربة.. فتاة طيبة تعودت دائماً أن أنظر إلى الحياة من جانبها المشرق المضيء.. فتاة حالمة طموحة أبحث عن سعادتي تكافئ الحرمان الذي عشته طيلة حياتي.. لكني كنت غبية.. كنت مغرورة بعقلي وذكائي، والذكاء لم يعد يكفي لمواجهة الحياة، فالحياة اليوم تعجُّ بالثعالب والذئاب، وأنا فتاة غضة لا أعرف كيف تنسل الأفاعي أو تتلون الحرباء.. كل الناس عندي صادقون.. كل الرجال عندي طيبون.. تماماً كوالدي الحبيب، لذلك صدقته، وأغلقت مسامعي أمام تحذيرات سامية وهي الصديقة المخلصة التي كنت أسرُّ لها بأدق أسراري وأحترم رأيها ومشاعرها..
لقد وقفت عواطفي الجارفة حاجزاً سميكاً بيني وبينها فلم أعد أسمع إلاّ صوت صفوان، وتصورته يتهمني بضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس، فخشيت أن يفسد ترددي وخوفي الحب القائم بيننا فذهبت إليه وكان ما كان...
أي ضعف اعتراني أمامه.. أي جنون اجتاحني.. أي غباء ركبني حتى منحته مفتاح الحصن الذي أودعت فيه سمعني وشرفي وعفافي.
وابتدأت رحلة الشيطان..
وأوغلت في الأيام والشهور..
وأنا مستسلمة لتأثيره الطاغي، غافلة عن الحقيقة الأليمة، وكلما سألته عن مصير هذه العلاقة الآثمة وعدني بالزواج، دون أن ينسى تحذيري من الحمل، ومن حسن حظي أني طالبة طبّ أدرك ما علي فعله.. كانت كلمات سامية تتردد في خاطري فلا ألقي لها بالاً، ولكنها ما لبثت أن وجدت في نفسي بعد الأصداء عندما بدأ الطلاء الكاذب يذوب والقناع الخادع يسقط وبدأت الحقائق تتكشَّف.. اكتشفت أنني لست الأولى في حياته، وأنني لست الأخيرة.. هناك أخرى وثالثة ورابعة وأخريات.. مجون.. وعبث وخمر ومخدرات.. ألاعيب وخدع ومؤامرات... اكتشفت أني بين أنياب وحش لا قلب له أو ذمة أو ضمير...
وصبرت عليه، فمفتاح الحصن بين يديه.. التمست كل الطرق التي تؤدي إلى رضاه حتى
لا يعصف بسمعتي ومستقبلي، وكلما رأيته يتقرَّب مني كان الأمل ينبثق في أعماقي وأقول: ها قد عاد إلى واحة حبه.. ها قد اقتنع بأني فتاته المميزة بإخلاصها وجمالها وحنانها وذكائها، بيد أن الحقائق البشعة لا تلبث أن تثقل أجنحة الأمل فيهوي إلى قرار سحيق من اليأس ويصدم بقاع صلد من الوقائع والتفاصيل المرة، فيتحطَّم فؤادي ويشتد ألمي ويزداد عذابي.
وتتقلَّب ((مني)) في فراشها، وترسل نظراتها اليائسة الحزينة عبر النافذة، فتجد الليل ما زال حالكاً مقيماً والنجوم ما زالت لم تغادر والقمر ما زال ساطعاً منيراً وكأنه يرقبها في شماتة، فتنتفض في ضيق وتدفن وجهها بين ثنايا وسادتها فتغرقها بالدموع..
(( اشهدي أيتها الوسادة على تعاستي وشقائي بعد أن كنت مسرحاً لأعذب آمالي وأحلاها.. هل تذكرين؟... آه لو تذكرين... كنت آوي إليك كل مساء وقلبي الفرح النشوان يخفق بالحب والسعادة.. كنت أسترجع في أحضانك أحداث اليوم الذي أفل وأستمتع بذكرياته اللذيذة وأحلق في سماء الأحلام. وها أنا اليوم آوي إليك لأفضي بآلامي وأمضغ هزيمتي وأجتر أحزاني.. أي إنسان هذا.. هزأ كبريائي ومرغ سمعتي في التراب.. آخر شئ كنت أتوقعه منه أن يشهر بي على الملأ ويجعلني عرضة لنظرات الشك والريبة وهدفا للألسنة تلوك سمعتي وتفضح غلطتي وتتداول قصتي في كل مكان.. ولماذا؟.. لمجرد انفعال طارئ.. لمجرد أني عاندته في رأيه بسامية.. لقد شعر بأني أتمرد على سيطرته وآرائه، أدرك بأني لم أعد ملكه فانتم لغروره بتلك الكلمة البذيئة الحقيرة.. آه من لؤمك وغدرك يا صفوان.. في آخر يوم من حياة الجامعة ترفع القناع في وقاحة وتكشف عن أنياب الغدر والخيانة.. ولماذا لا.. لقد انتهى دوري.. أخذ مني ما أراد ورماني.. سلّى نفسه بفتاة ساذجة، جميلة، وبعد أن رشف رحيقها ركلها وكأنها شئ تافه لا حس له أو كرامة أو شعور..
لكأن آثام العالم وشروره قد أودعت قلب هذا الإنسان.. إنسان؟.. ومن أين له الإنسانية.. ليسه له منها إلاًّ الجسد الآثم والغرائز المحمومة.. ليس له من الإنسانية إلاَّ نقاط الالتقاء مع الحيوان.. آه ما أقساه.. ليتني لم أذهب إليه.. ليتني لم أسترحمه.. ماذا كنت أنتظر منه؟.. ولكن ماذا عساي أن أفعل؟.. فأنا غريقة أبحث عن قشة الخلاص.. ظننت أن الحب والصداقة قد يشفعان لي عنده فينقذني من محنتي الفظيعة...
- ((أهلاً ((منى)).
- مبروك.
- على ماذا؟.. آه.. ((مرسي)).. مبروك لك أيضاً على التخرُّج.. إنها فرحة حقاً.
- النفوس التعيسة المقهورة لا تتذوَّق الأفراح ولا تحس لها طعماً.
- منى .. تبدين كئيبة هذا اليوم.. عمَّ تتحدثين؟..))
اللئيم.. كأنه لم يفعل شيئاً!!.. تمنيت لو أن في يدي خنجراً لأنقضَّ عليه وأمزقه إرباً.. إرباً.. لكني لم أستطع أن أعلن ثورتي، فمفتاح الحصن بين أنياب الوحش ولا بد من ترويضه ريثما أستردها..
- ((ألا تعلم عمًّ أتحدث؟!..
- منى.. لعلك في ضائقة مالية.. اطلبي ما تريدين.. لا فرق بين الأصدقاء...)).
كدت أنفجر.. إنه يمعن في إهانتي وتجاهل مشاعري، ولكن.. قشة الخلاص.. يجب أن أستخلصها من بين أنيابه..
- ((صفوان.. تعرف أني لا أقصد هذا.. أنا عاتبة عليك..
- عاتبة؟!.. آه، تذكرت.. تقصدين سوء الفهم الذي حصل عندما كنا بانتظار النتائج.. أنا آسف.. مجرد انفعال..
- أيقودك انفعال بسيط لتفضح علاقتنا وتشهر بسمعتي أمام الجميع؟!!
- لا تنسي أنك البادئة.. لقد سفهت رأيي أمام الشلة، وأنت تعرفين أكثر من غيرك أن هذا يثيرني جداً!
- لدرجة أن تشهر بي على هذه الصورة!.
- ما كنت لأرحم من يتحدّاني.. أنت تعرفين هذا، ومع ذلك عاندتني في رأيي فأثرت حفيظتي..
- ((صفوان)).. لننسً الماضي.. لنعد إلى أيامنا الممتعة الجميلة.. لنعد إلى واحة حبنا القديم.. لنحقق ما اتفقنا عليه.. ها قد تخرَّجنا ولم يبقَ أي مبرر لتؤخر زواجنا.
- زواجنا؟!.. أنا لا أنوي الزواج..
- لكنك وعدتني!..
- كثيراً ما يتراجع المرء عن وعوده وقراراته، وقد تراجعت..
- لكنك اغتصبتني..!
- وأنت راضية.
- ما كنت لأرضى لولا إخلاصي لك وثقتي بوعودك.
- ماذا تريدين الآن؟..))
ماذا أريد؟ّ!.. صفعني بسؤاله.. أصبحت عبثاً عليه.. أصبحت عقبة في طريقه.. أصبحت في نظره لا شئ.. ماذا أريد؟.. الحقير!!..
- أردي منك أن تفي بوعودك فتتزوجني وتستر سمعتي وتصون شرفي..
- هذا محال.. اسمعي يا حضرة الدكتورة.. أنا لم أضربك على يدك.. لم أجرك إلى شقتي جراً.. جئت إليَّ بقدميك واستسلمت في بإرادتك، ولست مضطرا لأدفع ثمن رغبتك وسذاجتك وغبائك.
في تلك اللحضات تذكرتً ((سامية)).. دوت كلماتها في أعماقي بقوة.. وبدا لي طيفها المضيء وسط فضاء مظلم..
أذهلني الصدمة.. تقلَّصت ملامحي في ذعر وجحضت عيناي في غضب تريد لو تنقض عليه فتحرقه بنظراتها الثائرة..
هدرت في وجهه: ((صفوان.. أنت وغد.. وغد.. وغد..))..
آه.. ما أقساها من لحضات.. لحضات الصدمة والذهول.. إني لأتذكرها وكأني أعيشها الآن.. لقد انفلت هاربة لا ألوي على شئ.. كانت دموع القهر تنهمر من عيني الذاهلتين بغزارة.. وفي صدري كان يغلي مرجل من الغضب والثورة والغيظ المكتوم.. وتلاحقت أنفاسي متسارعة وبدأت أشعر بالاختناق.. الدنيا لم تعد تسعني.. الدنيا لم تعد لي.. الدنيا ليست للمقهورين والمعذبين.. ملعونة هذه الدنيا.. معلون هذا العالم. ملعونة هذه الحياة.. ماذا بقي لي فيها؟.. فلأغادرها بسرعة، والموت هو السبيل.. إنه أقوى طريقة للرفض.. أعلى صرخة في وجه هذا العالم التافه المجنون.. ولكن لا.. لن أغادر هذا العالم قبل أن أفضح الجريمة والمجرم.. يجب أن يكون لمودتي دوي هائل يهز حياة الطاغية، ويعلن النذير في صفوف الضائعين أمثالي، وينير أمامهم درب الفضيلة والعفاف)).
وتتناول منى ورقة وقلماً وتخط رسالتها الأخيرة على أضواء القمر الوانية بيد مرتعشة، وقلب يائس، وعينين ذارفتين قرحهما البكاء:
((إلى كل فتاة غرر بها.. إلى كل عذراء اغتصبت قهراً أو خداعاً.. إلى كل مظلوم في هذا العالم القذر الملعون، أقد روحي البائسة رفضاً لهذا المجتمع الفاسد المريض، وقبل أن أغادره أريد أن أفضح وألعن سبب بؤسي وشقائي.. الدكتور ((صفوان الناعم)).. هذا الثعبان الماكر الذي لدغني في أعز ما أملك، وحطَّم سمعتي ومستقبلي.. وقبل الرحيل أودُّ أن أعتذر إلى أمي الطيبة ووالدين المسكين اللذين...)).
وتقف منى عند هذه الكلمات...
لقد تذكرت أمها الطيبة ووالدها المسكين، فتذكرت كفاحهما الشاق الطويل من أجلها، وتصورت حجم المأساة الفظيعة التي سيعيشانها بسبب انتحارها، وتخيلت تلك القصص والفضائح التي سينسجها الناس حول هذا الانتحار فهالها ما ستقدم عليه..
ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء، وتراوحت بين التماسك والانهيار، فترددت طويلاًً ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف، فتناولت زجاجة السم التي أحضرتها لهذا الغرض ووقفت على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة تقدم خطوة وتؤخر أخرى.. وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفاً، وأخذت مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها، فتشنجت أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنَّح على حافة الفناء... وتفاقم الصراع في أعماقها المدلهمة.. فتقدمت من المرآة في رهبة وتأملت ذلك الشحوب الذي عكر ملامحها الكئيبة، وذلك الذعر الذي لاح في عينيها الحمراوين فانتابها خوف وهلع وأخذت ترتعش..
وأصغت لليأس العاصف وهو يدفعها للاستسلام، فحملقت في جنون وقربت الزجاجة من فمها، فعلا وجيب قلبا وتسارعت خفقاته وأخذ يتلاطم في صدرها وكأنه سجين ضمن غرفة مغلقة راح يدق الأبواب والجدران باحثا عن مخرج وقد أحاق به خطر داهم.
وهوت منى إلى الدرك الأسفل من اليأس، فباعدت بين أسنانها المنطبقة بقوة ورعب وحركت فكها المتشنَّج عنوة، وفتحت فمها إلى أقصى ما تستطيع وهمَّت بإفراغ السم القاتل في أحشائها، لكنها توقفت فجأة وهي تصغي لصوت العقل وهو يهيب بها هادراً قوياً أن تحجم، وامتدَّ لها خيط من الأمل فانتشلها من وهدة اليأس فحاول اليأس أن يعيدها إلى أحضانه، لكنها تشبثت بخيط الأمل ورمت بالزجاجة من النافذة وقررت أن تبقى...
وبلغ الإجهاد بها منتهاه، فانهارت على الأرض مهدودة خائرة، وراحت تبكي في مرارة فالحياة التي آثرت أن تعود إليها أقسى ألف مرة من الموت الذي كانت ستقدم عليه.
((يجب أن أبقى.. يجب أن أعيش.. من أجل والدي الطيب.. من أجل أمي المسكينة.. من أجل إخوتي.. سأبقى لهم، فلا داعي لأن أزيد تعاستهم وشقاءهم.. حرام.. حرامٌ علي أن أقتل الفرحة الوليدة في أعماقهم بعد أن انتظروها كل هاتيك السنين.. سأبقى في أذهانهم ((الدكتورة منى)) التي يفخرون بها.. سأطوي صدري على الجراح وسأمضغ مأساتي في صمت.. لا داعي للانتحار فلديَّ ما أقوم به.. ولماذا الانتحار؟.. لقد متَّ منذ زمن ولم يبق مني إلاَّ هذا الجسد.. فلأعتبره آله.. آلة نافعة مفيدة تعود على أسرتي بالمال الذي يوفر لها الحياة الكريمة الرغيدة.. سأعزف عن الزواج.. سألغي في أعماقي غرائز الأنثى، وأشواق الأنثى وسأعمل ليل نهار لأقدم لأبي وأمي أسباب الراحة والسعادة وأوفر لإخوتي حياة أفضل تحميهم من الاندفاع وراء الأحلام الكاذبة التي تعدهم بريِّ حرمانهم كما وعدتني فخذلتني))...
وسرى أذان الفجر فوق أمواج الظلام، فاخترق هدأة الليل ومزق وحشته، وانسابت معانية الخالدة إلى سمع منى فأنصتت إليه في خشوع وكأنها تسمعه لأول مرة.. وذكرت الله فذرفت بين يديه الدموع...
* * *

__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #25  
قديم 07-10-2010, 07:10 PM
 
الفصل الثامن عشر

انفض جمع الأصدقاء في ساعة متأخرة من الليل، بعد سهرة جميلة قضوها في ضيافة سعد الذي دعاهم إلى حفلْ عشاء وسمر بمناسبة تخرجه. ولم يبقَ منهم سوى عرفان وعصام الذي كان منهمكاً مع سعد في الحديث عن المستقبل والطموحات الكثيرة التي اتفقا على إنجازها معاَ، واستبدَّ النعاس بعرفان فتثاءب قائلاً:
- أم ينتهٍ حديثكما؟.. لقد مللت أحاديثكم التي لا تنتهي عن السرطان والجمعية الوطنية لمكافحة السرطان والصندوق الوطني لمكافحة السرطان و.. لا أدري ما الذي يجبركم على حمل هموم المجتمع ومشاكله كلها.. هناك وزارة الصحة يا سادة.. هناك عقول كبيرة تخطط لتنمية المجتمع وتطويره، فأريحوا أنفسكم من هذا العناء.
ضحك عصام وقال:
- لك أن تقول بأنك قد نعست وتريد أن تذهب لتنام، لكن لا يحق لك أن تكبت أفكارنا وطموحاتنا في تطوير مؤسسات مكافحة السرطان بحجة أنها ليست من اختصاصنا.. ليس من الضروري أن ننفذ كل ما نفكر فيه بأنفسنا.. قد ننفذه نحن وقد ينفذه غيرنا.. المهم أن نفكر ونحاول...
قال سعد يخاطب عصاماً:
- لا تلق بالاً لكلامه يا عصام، فهو يملك نفس حماسنا، لكن الإسراف في الطعام قد أصابه باسترخاء أورثه النعاس والكسل.
قال عرفان وهو ينهض في تثاقل:
- ارحموني أرجوكم.. أريد أن أنام.. إذا كنت لا تنوي ان تمضي يا عصام فاتركني أذهب لوحدي.
هتف عصام وهو يهم بالنهوض:
- بل سنذهب معاً يا عزيزي، فقد تأخرنا.
ثم وهو يتوجه بالحديث إلى سعد:
- حسناً يا سعد.. سنكمل حديثنا غداً – إن شاء الله – المهم الآن أن نبدأ بتأسيس الصندوق الذي اتفقنا عليه لنستطيع مع الزمن توفير الدعم المادي لجمعية مكافحة السرطان.. سنتحدث غداً في التفاصيل...
قال سعد:
- سأزورك غداً في عيادة الدكتور إياد بعد أن تكون قد استشرته في أفكارنا التي تحدثنا عنها.. ستأتي معي يا عرفان، أليس كذلك؟
- إذا استيقظت باكراً..
قال عصام وهو يدعو عرفان للمسير بإشارة من يده :
- والآن هيا بنا يا عرفان.. عفواً.. بل يا دكتور عرفان.. ضحك الثلاثة في ود وافترقوا على أمل اللقاء...
* * *
وقف عصام وعرفان على الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقلهما إلى بيتهما، حيث يقع منزل عرفان في الطريق إلى منزل عصام، وقال عرفان وقد عاوده نشاطه:
- يا لروعة هذا المساء.. ما أجمل السهرة في حديقة سعد.. لقد تمنيت لو امتدت بنا الجلسة حتى الفجر، لكن النعاس الذي دهمني أفسد متعتي.
سأله عصام مداعباً:
- أهي الحديقة التي أغرتك بالسهرة، أم الطعام الشهي الذي تناولته؟
أجاب عرفان وهو يتحسس بطنه:
- هل تريد الصدق؟.. لقد كان طعاماً شهياً لم أذق مثله.. و ((الكاتو)).. يا عيني على ((الكاتو)).. لقد أكلت منه حتى مللت...
ضحك عصام وقال متوعداً:
- إياك أن تسرف في حفلة زفافي كما أسرفت الليلة، فالمدعوون كثير، وزادنا على قدنا... عليك أن تقرأ كل ما درسناه عن أخطار السمنة قبل أن تأتي.. مفهوم؟
هتف عرفان محتجا:
- حرام عليك.. (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق).. أبعد أن دمجت حفلة التخرج مع حفلة الزفاف، تريد مني أن أقتصد في الطعام.. هذا ظلم يا دكتور.. ظلم سوف أقاومه بكل ما أوتيت من طاقة على الأكل والطعام، فخذ احتياطك منذ الآن...
ومرت سيارة مسرعة فاستوقفها عصام بإشارة من يده، لكنها كانت مليئة فلم تحفل بإشارته.
- لقد تأخرنا فعلاً!.
سأله عرفان وهو يحل ربطة عنقه قليلاً:
- أزمعت السفر للاختصاص إذن...
- أنا وسامية – إن شاء الله - .
- هل جاءك رد من أمريكا؟
- ليس بعد.. يتوقع الدكتور إياد أن يتأخر الرد قليلاً، لكنه يؤكد لي بأن القبول مضمون، لأن رئيس الجمعية الأمريكية للسرطان صديق حميم له من أيام دراسته في أمريكا وهو يضع كل ثقله في الموضوع، ولا تنسَ أن الدكتور إياد ((زميل)) في الجمعية الأمريكية للسرطان ولرأيه وزن هناك وقد أرسل صوراً مترجمة ومصدقة عن أوراقي وأوراق سامية، سبقها تمهيد طويل حول هذا الأمر، وأنا متفائل جداً بالقبول.
- يحق لك أن تتفاءل.. الجميع يفكرون بالاختصاص ويسعون إليه إلا أنا!.
- ولِـمَ؟
- لأسباب كثيرة.. أهمها تكاليف الاختصاص الناهضة..
- العائق المالي قائم أمام الجميع لكن أغلبهم قد استطاع التغلب عليه، أنا مثلاً سأبيع قطعة أرض نملكها في الريف لنسدد منها تكاليف السنة الأولى، وبعدها سيبدأ عملنا في المستشفى هناك فيدر علينا راتبا جيداً...
- كنت أتمنى أن يتوفر لدي ما يساعدني على البداية، لكن والدي كما تعلم لا يملك إلا محل الحلويات المتواضع الذي يصرف علينا منه، وأنا لا أريد أن أرهقه بالمزيد من المصاريف.
صمت عصام متفكراً ثم قال في حماس:
- لا عليك.. سنتعاون معا على تكاليف المرحلة الأولى من الاختصاص، إلى أن تتقاضي راتبك في المستشفى الذي ستمارس اختصاصك فيه.. حرام أن تئد طموحك من أجل عقبة مالية يمكننا إزالتها.
- لا أريد أن أكون عالة على أحد.
قال عصام معاتباً بحده:
- سامحك الله يا عرفان.. من قال بأنك ستكون عالة؟.. تعاوننا وتكافلنا واجب لا فضل لأحدنا فيه أو منَّة، فالمسلمون كالجسد الواحد، وفي سبيل الأهداف الكبيرة تتلاشى هذه الاعتبارات التافهة الصغيرة.
همس عرفان وقد تأثر بكلام عصام أيما تأثر:
- اعذرني يا أخي، فالمشاكل والهموم ترهق الأعصاب وتضغط على المشاعر فتصبح مرهفة أكثر مما ينبغي.. أعدك بأني سأدرس عرضك هذا شاكراً ممتناً.
- لست ممتناً لأحد.. أن نطور بلادنا وننهض بها واجب مقدس لا منَّة لأحد فيه، واختصاصك العلمي خطوة في هذا الاتجاه.. حسناً سأريحك من هذا الشعور.. اعتبر مساعدتنا لك ديناً تسدده للصندوق الوطني لمكافحة السرطان الذي أزمعنا على إقامته، أو تسدده لأي مشروع خيري آخر، متى شئت.
وصمت عرفان يفكر في عرض عصام وهو متأثر بكلماته الصادقة التي تقطر أخوة ونبلاً، بينما قال عصام بعد شرود ليس بالقصير:
- أتعلم بماذا أفكر؟..
ضحك عرفان وقال:
- من أين لي أن أعرف، فبالك مسرح لمشاغل العالم ومشاكله!
- يؤرقني ما حدث لمنى...
- ما الذي ذكرك بها الآن؟!.
- فكرت فيما رواه ((مجدي)) الليلة عن مأساتها مع صفوان فخطر ذكرها ببالي.. كلما تذكرت وجهها الباكي الحزين المهموم يوم التخرج يا عرفان شعرت نحوها بالإشفاق رغم كل ما بدر منها.. لكم يؤلمني منظر المقهور.. لشدّ ما تعذبني دموع المظلوم أيّاً كان...
- هي التي ظلمت نفسها، فانطلقت وراء رغباتها وسلمت نفسها للشيطان.
- إني أدرك هذا، لكني أعتبرها بالرغم من هذا ضحية.. ضحية للفقر الذي لسعها بسياط الحرمان.. ضحية للفساد الذي يسيطر على حياتنا.. ضحية للأفكار الغريبة التي لوثت العقول والضمائر.
- لم يبق طالب في الكليلة إلا وعلم من صفوان وشلته بسرّ علاقتها معه.. لقد فضحها على الملأ!
هتف عصام في حنق:
- هذا الذي اسمه صفوان.. ألا يرعوي؟!.. يا له من متبجح وقح!!!
- لكم يحيرني سعد عندما يدعو له بالهداية.. إنه يقول لك بأن الإنسان مهما طغى وتجبر فإنه ينطوي على بذرة خير مهيأة للإنبات.. شاب مثل صفوان لا يمكن أن يحمل في قلبه ذرة خير واحدة!
- سعد على حق يا عرفان، لكن الخطأ والانحراف يبقى مداناً محتقراً يدعو للثورة والاشمئزاز.. هذه سيارة تتجه نحونا، فلنستوقفها..
أشار عصام للسيارة فتوقفت أمامه، فتقدم منها:
- إلى حي الفردوس لو سمحت؟
- تفضلا..
ودعا عصام عرفان للجلوس في المقعد الأمامي لكنه أبى وقال وهو يدلف إلى المقعد الخلفي:
- لا والله ... الأول على الكلية في الأمام.. تحتل المقدمة في الجامعة وترضيني بالمقدمة في السيارة، هذا شئ لن يكون...
رضخ عصام لرغبته وهو يرمقه في عتاب باسم، ثم جلس إلى جوار السائق الذي انطلق بسيارته في هدوء أوحى لهما بقيادة متأنية أمينة.
* * *
كان السائق رجلاً كهلاً قد اشتعل رأسه شيباً فأضفى على ملامحه وقاراً مريحاً يجذب إليه من يراه، وبعد أن مضت بهم السيارة تطوي المسافات سأل ونظراته ثابتة إلى الأمام ترقب الطريق في حذر تحسباً لكل طارئ:
- الشباب طلبة.. أليس كذلك؟
أجابه عصام بعد أن تبادل نظرة مع عرفان:
- منذ أيام فقط كنا طلبة..
- تخرجتم من الجامعة إذن.
- صدقت..
- مبروك، ومن أي فرع؟
- من كلية الطب.
- ما شاء الله.. أنتما إذاً طبيبان.. تشرفت بمعرفتكما.
- زادك الله شرفاً.
وأردف عرفان:
- وهذا الدكتور الذي يجلس بجانبك هو الأول على كلية الطب.
قال السائق يخاطب عصاماً:
- وفقك الله يا بني.. لم نتعرف على الإسم الكريم؟
- ((عصام السعيد)).
- تشرفنا.
هتف عرفان وهو يلوح بيده متصنعا الاحتجاج:
- ما شاء الله ((الدنيا دائماً مع الواقف)).. الناس لا يهتمون إلا بالأوائل والعظماء. أما المغمورون.. أما المساكين، فلا يسأل عنهم أحد.
ثم وهو يميل إلى الأمام مخاطباً السائق:
- وأنا يا عمّ؟.. أنا؟.. ألا تريد معرفة إسمي الكريم؟!
هتف السائق معتذراً:
- طبعاً، طبعاً.. يسرني أن أتعرف بالاسم الكريم...
قال عرفان وهو يزهو في دعابة ومزاح:
- الدكتور عرفان.. ((عرفان النابلسي)).. كان والد جدي من نابلس، وعندما هاجر منها حمله معه صناعة ((الكنافة النابلسية)) فورثناها كابرا عن كابر، لكني تنكرت لهذا التراث وتخرجت طبيباً، وقد أعود إليه إذا ما أصيب سوق الطب بالركود.
ضحك الجميع في مرح ثم ما لبث السائق أن قال وهو يرسل تنهيدة عميقة بعثتها ذكريات الماضي:
- إيه.. ما أعجب الأيام.. لقد كان حلم والدي رحمه الله أن أصبح طبيباً، لكن المنية سرعان ما خطفته منا وأنا في السابعة عشر من عمري، ولم يكن لأسرتنا من يعيلها فتركت المدرسة ورحت أعمل، لأصرف على أخوتي وأمي وجدتي.. إيه... الحمدلله... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لكن ربك لا ينسى أحداً، لقد أنعم علينا وفضل...
مست كلمات السائق الوتر الحزين في قلب عصام فاهتز ليبعث في نفسه الشجن، وطافت بخياله ذكرى أبيه الراحل فشعر بوخزها الأليم وراح يناجيه في صمت وشرود:
- ((إيه.. أين أنت يا والدي لترى ابنك الآن، وقد صار طبيباً كما كنت تحلم وتتمنى.. لكم يحزنني أن أحرم من ابتسامة الفرح والفخر والاعتزاز وهي تشرق من وجهك الطيب فتملأني ثقة وعزيمة وتمدني بأروع الزاد وأثراه في رحلة الحياة، لكني أعدك يا أبت أن أرقى في سلم المجد بهمة وإصرار.. سوف أطير إلى قمته السامقة البعيدة لأحط عليها كنسر عنيد... يرفعني إليها جناحان حانيان.. أمي العظيمة وزوجتي الحبيبة.. آه.. لو أنك رأيتها يا أبت لتمنيت أن تضعها في قلبك، لكن.. أين أنت؟.. غيابك الأبدي يؤلمني ويشوه أفراحي ويوشح خطواتي بالحزن والأسى.. لقد حققت حتى الآن الكثير، والدروب أمامي ممهدة لتحقيق المزيد، لكن ذلك كله لم يمسح من نفسي كآبتها المزمنة، لكأن الحزن فيها قد استوطن وأبى الرحيل..)).
قال السائق وقد أحب أن يصل ما انقطع من الحديث:
- الأطباء في مجتمعنا طبقة مرموقة اجتماعياً ومادياً.. تفرض احترامها أينما ذهبت وتلعب بالمال...
قال عرفان:
- هذا الكلام كان على أيامكم يا عم، أما اليوم، فيا حسرتي علينا... أخشى أن نتحول من طبقة مرموقة إلى طبقة مسحوقة!.
قال السائق وهو ينعطف إلى اليمين:
- لا تتشاءم يا بني، لقد أنعم الله عليك بمهنة عظيمة، سوف تسعدك وتسعد الناس الذين سيشفيهم الله على يديك.
قال عصام وقد خرج من شروده الحزين لينخرط في الحديث:
- حقاً إن السعادة التي يجدها الطبيب وهو ينقذ الناس من براثن المرض والألم لا تقاس بمال الدنيا.
قال السائق بنبرات تفيض بالاحترام :
- ما شاء الله.. ما أحلى أن يكون أطباؤنا جميعاً بهذا الشعور، لكن بعضهم يتحول بكل أسف إلى تجار.. يتاجرون بأمراض الناس وآلامهم!. لكم يسرني أن أتعرف بكما..
قال عصام وهو يتناول من جيبه بطاقة أنيقة تحمل اسمه وعنوانه:
- بارك الله فيك يا عم.. هذا عنواني، فاحتفظ به، فإن احتجت لأي خدمة فأنا..
ولم يكد يكمل حتى صرخ عرفان هاتفاً في ذعر شديد:
- انتبه.. إلى اليمين.. هناك سيارة.. آه........
كان القدر أسرع من الكلمات، وفي لحظات قليلة وقعت الكارثة، وأريقت الدماء البريئة لتسطر مأساة جديدة من مآسي الطيش المجنون.
* * *

__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 10:00 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011