|
أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه. |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#26
| ||
| ||
الفصل التاسع عشر وضع سعد فنجان القهوة من يده، ثم تناول الجريدة وراح يتصفح عناوينها شأنه كل صباح.. قرأ عناوين الصفحة الأولى، فلم يجد خبراً يستحق الاهتمام فتحول عنها إلى الصفحة الأخيرة حيث يحلو له أن يتأمل كل يوم الصورة ((الكاريكاتيرية)) التي تتصدرها دائماً... وبعد أن انتهى سعد من الصفحة الأخيرة، أخذ يقلب صفحات الجريدة، وما إن وصل إلى صفحة الحوادث حتى لفتت نظره صورة لحادث مروع وقد كتب فوقها عنوان كبير يقول: ((الطيش والغرور كانا وراء هذه المأساة)). وشدَّه الحادث فراح يتأمل الصورة في أسف وقد ظهر فيها منظر لسيارة مقلوبة كان من الواضح أنها انقلبت بعد أن اصطدمت بالجانب الأيمن لسيارة أجرة بدا بابها الأمامي الأيمن وقد انسحق بشدة، وكأن مقدمة السيارة الصادمة قد اخترقته بزاويتها الأمامية اليسرى فعجنته عجناً، وهمس سعد بلا شعور: - لا بد أن كارثة قد وقعت!.. واستحوذ الحادث المروع على اهتمامه، فراح يقرأ في إشفاق... (( في ساعة متأخرة من ليلة أمس وقع حادث مروع على طريق ((السلام)) حيث صدمت سيارة مسرعة من نوع ((داتسون)) سيارة أجرة من نوع ((تويوتا)) وذلك عندما خرجت الأولى فجأة من شارع فرعي بسرعة هائلة لترتطم بسيارة الأجرة التي كانت تمضي على الشارع الرئيسي بانتظام، وقد كانت المحصلة مقتل سائق ((الداتسون)) على الفور نتيجة لانقلاب السيارة بعد الاصطدام، وهو شاب صغير لا يتجاوز العشرين من العمر، بينما أصيبت الفتاة التي كانت تجلس بجانبه بجراح خطيرة، أما ركاب ((التكسي)) وعددهم ثلاثة بما فيهم السائق فقد أصيبوا بجراح مختلفة كان أخطرهم الراكب الذي يجلس بجانب السائق حيث تلقى الجزء الأكبر من الصدمة وقد علمت الجريدة من مصادر موثوقة أن الراكب الذي يجلس في الأمام طبيب شاب تخرج هذا العام وأنه قد حاز على أعلى معدل درجات في تاريخ كلية الطب، كما علمت أن الراكب الثاني طبيب أيضاً. إن الجريدة تهيب بالمواطنين الكرام أن يلتزموا بقواعد المرور وأن يتجنبوا السرعة العالية التي .. )) ولم يعد سعد يتبين الكلمات، فقد انفجرت الدموع من عينيه وتسمرت نظراته الهلعة المذعورة فوق السطور الدامية الحمراء وهتف في ذهول وهو يضرب جبهته في ذعر وجزع: ((- عصام وعرفان.. عصام.. آه، يا للكارثة.. إنه عصام.. ومن غيره الأول على كلية الطب؟.. والوقت.. لقد وقع لهما الحادث بعد أن خرجا من عندي.. آه.. يا للمأساة)).. وألقى الجريدة من يده، وهرع إلى الهاتف كالملسوع، فرفع السماعة بيد مرتعشة وقلب واجف، وأخذ يدير القرص في اضطراب وإصبعه لا تكاد تجد طريقها إلى الأرقام المطلوبة، وبينما هو كذلك، مرت به أمه وهي تمضي لبعض شأنها فرأته على هذه الصورة من الهلع والاضطراب فسألته في ريبة: - سعد.. لماذا أنت مضطرب هكذا؟.. والدموع؟!.. ما الذي يبكيك يا بني؟.. أخبرني بالذي جرى أرجوك؟... أجابها سعد بصوت متهدج ونبرات مرتعدة: - لقد وقعت كارثة.. كارثة يا أماه... سألته وهي تتهالك على كرسي قريب بأعصاب مهدودة خائرة: - عن أي كارثة تتحدث؟.. هل حدث لأبيك مكروه؟.. - عصام يا أماه... عصام وعرفان... لقد أصيبا في حادث سيارة.. عصام في خطر يا أماه. - ماذا؟.. كان الله في عون أمه.. الله يصبرها. وبمن تتصل؟!.. - اتصلت ببيت الدكتور إياد ولا أحد يرد.. سأتصل بالعيادة علني أجد من يجيب... وراح يدير القرص من جديد، بينما راحت أمه تذرف الدموع في صمت حزين. وردت الممرضة على سعد فصاح في عصبية واضطراب: - آلو.. آلو.. الدكتور إياد هنا؟ - الدكتور إياد مشغول اليوم ولا سبيل إلى.. - أعرف بالذي حدث.. فقد أخبريني إلى أي مستشفى نُقل عصام؟ - إلى المستشفى الوطني.. وألقى سعد السماعة في ضيق، وأراد أن يمضي لكنه فكر أن يتصل بمجدي، فعاد واتصل به، وما أن رد عليه حتى قال بدون مقدمات: - عصام في خطر يا مجدي.. إنه في المستشفى الوطني.. سنلتقي هناك.. أخبر بقية الأًصدقاء فقد نستطيع أن نفعل شيئاً.. ثم ألقى السماعة تاركاً مجدي فريسة لهول المفاجأة وصدمتها * * * أوقف سعد سائق السيارة التي أقلته إلى المستشفى، ورمى له بورقة نقدية كبيرة ومضى دون أن يسترجع منه البقية، وهرع مسرعاً إلى قسم الطوارئ يبحث عمن يخبره الخبر اليقين، وما إن وصل حتى صدمته الوجوه الباكية المغتمة واخترق سمعه صوت حزين واه فالتفت إليه في إشفاق وهو يشعر بالكآبة تشيع في صدره وتضغط على أنفاسه وما إن وقع بصره على صاحب الصورة حتى خفق قلبه بعنف وأحس فيه توجعاً يقرض شغافه الملتهبة وانبثقت الدموع من عينيه. لقد رأى الأم المسكينة وقد هدتها المأساة ولوعها المصاب فراحت تبكي في حرقة وصمت وتدعو الله في ضراعة لو مست الصخر الأصم لصدعته، وتتوسل إليه من بين الدموع في نبرات كبيرة حزينة مبحوحة: ((يا رب.. لقد وضعته عندك أمانة.. يا رب.. لقد سلمته لك فأعده لي سالماً.. رباه.. هو أملي ورجائي.. هو روحي وعمري.. يا لطيف.. يا قادر.. أنقذه بقدرتك، قد كان مؤمنا عابداً.. اللهم لا اعتراض على قدرك.. دائما تبتلي المؤمنين.. سبحانك لا اعتراض على حكمتك، لكني أتوسل إليك يا رب أن تنقذ لي وحيدي.. يا كريم..)). ولم يعد سعد يطيق الانتظار، فأشاح بوجهه الحزين عن الأم المحطمة وهو يشعر بالاختناق، وأخذ يبحث عمن يزوده بآخر الأخبار، ولمح طبيباً يعرفه فهرع إليه في سرعة ولهفة: - دكتور أحمد.. لحظة أرجوك... - أهلا دكتور سعد... - عصام.. ما هي أخبار عصام؟.. طمئنِّي أرجوك؟ قال الدكتور أحمد وهو يتنهد في أسف: - عصام يصارع الموت، والأمل ضعيف.. - ما إصابته بالضبط؟ - أخطر ما في إصابته الكسر الذي أصاب قاع الجمجمة.. هناك كسر في كتفه الأيمن، وكسر في يده اليمنى ورضوض مختلفة.. هذا غير النزيف.. إنه كتلة من الأشلاء. هتف سعد وهو يضرب وجهه بكلتا يديه: - يا للكارثة.. لا بد من معجزة لإنقاذه.. واأسفاه... قال الدكتور أحمد وهو يحملق في حزن: - في غرفة العمليات تحتدم الآن معركة ضارية بين الموت والحياة... ألا أستطيع أن أدخل لأساهم بشيء؟ - ماذا ستفعل أمام أساطين الطب والجراحة الذين اجتمعوا لإنقاذه؟ - يجب أن أفعل شيئاً.. أيّ شيء... - كلنا نتمنى أن نقدم شيئاً، ولكن... - ومن هم الأطباء الذين يشرفون عليه في الداخل؟ - هناك الدكتور جهاد مدير المستشفى وكبير الأطباء.. وهناك الدكتور إياد طبعاً.. - المسكين.. كان يتعهده كابنه.. - هناك أيضاً الدكتور عدنان والدكتور فايز إنه فريق ممتاز كما ترى، ويحوي كل الاختصاصات اللازمة.. هناك الدكتورة سامية أيضاً.. لقد أصرَّت على الدخول.. المسكينة.. لكم آلمني منظرها الحزين. - وأمه؟.. كيف تلقت النبأ؟.. أجابه الدكتور أحمد في شرود حزين: - لا أدري كيف تلقت النبأ، لكني رأيتها عندما أحضروها إلى هنا.. كان منظرها الكئيب يمزق القلب ويفتت الفؤاد... كانت منهارة تماماً وكانت تهذي كالمجنونة.. هل تصدق؟.. لقد أصبحت أتمنى أن أموت قبل أمي وأبي من هو المنظر الذي رأيتها فيه ليلة أمس، ألم ترها الآن؟... - أجل رأيتها.. مسكينة.. لقد كان الأمل الوحيد الباسم في حياتها. ثم هتف سعد وقد تذكر: - وعرفان؟.. لم أسألك عن عرفان؟.. أرجو أن تكون إصابته خفيفة. - إنها أخف بكثير من إصابة عصام، فقد كان جالساً في الخلف ولم يصب إلا ببعض الرضوض في رأسه وصدره.. يمكنك أن تراه.. إنه في الغرفة رقم سبعة. - هلم بنا إليه... أريد أن أعرف تفاصيل ما حدث. * * * مضى سعد مع الدكتور أحمد إلى غرفة عرفان، والحزن يلون قسماته، والأسى يثقل خطواته، والهم لوح في نظراته، فالمصاب في عصام أليم، وهو من الذي يشعرون أكثر من غيرهم بعمقه وإيلامه، فقد عرف عصاماً عن قرب، وسبر أغوار شخصيته الفريدة، وأحبه من الأعماق، فكان أعزَّ أصدقائه وأغلاهم وأقربهم إلى نفسه وفي الممر صادق سعد بقية الأصدقاء وقد حضروا ليستطلعوا جلية الأمر، وما إن رأوه حتى هرعوا إليه في ذعر ولهفة، فاستقبلهم بعينين دامعتين بعثت عبراتهما الذكريات القريبة الحبيبة، وسأله ((بهاء)) في توسل: - أخبرنا يا سعد.. ما هي أخبار عصام؟.. ما الذي حدث بربك؟ أجابه سعد وهو يغمض عينيه في ضيق وألم: - كسر في قاع الجمجمة يا بهاء، وكسور أخرى، ونزيف لا ندري كم استمر... صاح مجدي وهو يضرب جبهته في التياع: - هذه كارثة... أين وقع هذا؟، ومتى؟، وأين؟. - ليلة أمس... بعد أن خرج من عندي. همس عثمان وهو يلوح بيد مرتجفة: - أيحدث هذه بهذه السرعة.. بالأمس كنا معاُ .. أكلنا وضحكنا وتحدثنا. ثم وقد طفرت الدموع من عينيه: - المسكين... لكم حدثنا عن طموحاته وأحلامه!!. قال الدكتور أحمد وهو يحاول إخراجهم من هذا الجو الكئيب: - هدئوا من روعكم أيها الزملاء... هلموا إلى الدكتور عرفان فهو أفضل من يروي لنا القصة. هتف مجدي : - هل أصيب عرفان أيضاً؟.. أيحدث هذا بين عشية وضحاها؟ قال الدكتور أحمد مهدئاً: - لا تقلقوا إنه بخير.. تفضلوا معي.. * * * وصل الأصدقاء إلى غرفة عرفان فوجدوه ممدداً على سريره وقد أحاطت بوجهه هالة كثيفة من الشاش الأبيض، وما إن رآهم قادمين حتى اغرورقت عيناه، ففجرت دموعه مراجل الحزن المكتوم في صدورهم فأجهشوا بالبكاء والنحيب... قال الدكتور أحمد محاولاً تبديد حزنهم اللاهب: - تماسكوا يا شباب... أنتم أطباء، ولا يصح أن تبدوا أمام الناس هكذا... ثم سأل عرفان: - هل ذهب أهلك؟.. لقد شاهدتهم هنا منذ قليل! أجابه عرفان بصوت واهن خنقته العبرات: - لقد طلبت من أن يقفوا إلى جانب أم عصام، فـ.. فذهبوا إليها بعد أن اطمأنوا على حالتي.. ثم وهو يجهش بالبكاء من جديد: - عصام يصارع الموت يا سعد.. إنه يصارع الموت.. تقدم سعد من عرفان في هدوء وقال وهو يمسك بيده مواسيا: - ليكن أملنا في الله كبيراً، ولنتذرع بالصبر.. كيف تجد نفسك الآن؟ أجاب بنبرات لاهثة حزين، والدموع تنساب من وجنتيه اللتين خدشتهما الجروح الصغيرة: - ما يهمني هو عصام.. عصام يا سعد.. إنني أخشى.. آه.. لا أستطيع تصور ما حدث.. في لمحة بصر حدثت الكارثة.. كان عصام أخطرنا.. لقد تحول إلى أشلاء.. قال بهاء وهو يغالب دموعه: - كن واثقاً بالله، لندع له جميعاً... تابع عرفان في ألم: - أنتم لم تروا ما حدث.. كنّا.. كنّا نسير في هدوء... نتحادث مع السائق.. كان المسكين يحدثنا عن مشاكله وهمومه.. ينصحنا بأن نكون أطباء صالحين.. كان عصام يصغي إليه باحترام.. ثم أراد أن يقدم له عنوانه ليساعده.. وما.. وما كاد يخرج البطاقة من جيبه حتى حدثت الكارثة. وصمت قليلاً ريثما ارتاح، ثم تابع وسعد يجفف له دموعه: - كنا نسير في شارع ((السلام)).. بالقرب من المتحف.. وفجأة.. خرجت سيارة مسرعة من شارع فرعي على يميننا.. كانت تنهب الأرض بسرعة جنونية.. وتتلوى في مشيتها كحية رقطاء.. وما إن رأيتها حتى صرخت فزعاً مذعوراً وبأعلى صوتي.. لأحذر السائق كي يتفاداها.. لكن.. لكن قضاء الله كان أسرع... ثم أردف بعد أن ازدرد ريقه: - لقد صدمتنا السيارة المسرعة من الجانب الأيمن... حيث كان يجلس عصام... فاهتزت بنا السيارة هزة عنيفة.. ارتطم رأسي على إثرها بزجاج النافذة، فأغمي علي ولم.. ولم أغف إلا هنا. - الحمدلله على السلامة... قال الدكتور أحمد: - لقد قتل سائق السيارة التي صدمتهم على الفور، وقد علمت من المحقق أن رعونته وسرعته الطائشة اللا مسؤولة هي التي سببت الحادث، كما أن صديقته قد أصيبت بكسور مختلفة أخطرها الذي أصاب العمود الفقري فأودى بها إلى الشلل... علق عرفان محتداً حانقاً: - كان يتباهى بنفسه أمامها.. يريد أن يثبت لها أنه رجل. وهي هي الحصيلة.. والسائق؟.. كيف حاله الآن؟ - لقد أصيب بكسور مختلفة.. المسكين.. هتف سعد بلهجة غاضبة وهو يلوح بقبضته في الهواء: - يا للمأساة!!.. الانحراف والضياع والعبث يعصف دائماً بكل ما ينجزه العقلاء والمخلصون.. التربية الفاشلة الفاسدة تكمن دائماً وراء تخلفنا وانحطاطنا. عصام.. الطاقة النادرة في بلادنا.. الشاب الذكي الطموح الذي كان يحترق كشمعة ليصنع لأمته شيئا يفيدها ويطورها، يذهب ضحية للطيش والرعونة والجنون!!!... ثم وهو يهوي بقبضته على الجدار في أسف عميق: - إن عاش عصام، فسوف يعيش مشلولاً مقعداً.. مكبلاً بعجزه وآلامه وأحزانه. ثم هتف بصوت متهدج يفيض بالانفعال: - نحن لا تنقصنا التكنولوجيا المتطورة والخبرات الماهرة، بقدر ما تنقصنا التربية ويعوزنا الضمير... ثم همس عد أن مال إلى الهدوء: - اعذروني يا شباب، فالمأساة فضيعة كما ترون، والمصاب في عصام رهيب أليم. قال عثمان وهو يتحسس صدغيه من شدة الصداع: - لا أكاد أصدق ما حدث.. وأردف مجدي: - يا له من كابوس رهيب... بينما قال سعد وهو يتجه إلى جهاز الهاتف: - يجب أن نعرف آخر أخبار عصام... سأطلب غرفة العمليات.. وبعد أن تم الاتصال قال سعد للمرضة التي ردت عليه: - أريد الدكتور إياد من فضلك... - انتظر لحظة لأرى فيما إذا كان يستطيع التحدث معك ومضت لحضات قصيرة ريثما رد الدكتور إياد: - آلو، نعم.. الدكتور إياد يتحدث... قال سعد بصوت متهدج بعد أن اخترقت سمعه نبرات الدكتور إياد نابضة بالحزن والأسى: - دكتور أنا سعد.. نريد أن نطمئن على عصام.. أرجوك أن تصارحنا فنحن أطباء ونقدِّر الموقف. هيجت نبرات سعد المرتعشة الحزينة آلام الدكتور إياد وألهبت جراحه فاجتاحته موجة من الانفعال وكان أن يبكي، لكنه تمالك نفسه وقال بعد صمت أثار المخاوف في نفس سعد: - لا أكتمك يا بني.. الموقف عصيب جداً.. أنت طبيب وتعرف ماذا يعني كسر في قاع الجمجمة.. لقد فعلنا ما في وسعنا والباقي بيد الله... قال سعد وهو يبكي في لوعة وصمت: - دكتور نحن على استعداد لعمل أي شئ... نردي أن نفعل شيئاً.. أي شيء... - إني أقدر مشاعركم يا بني.. لست أنت أول من يطلب هذا.. الكل يعرض المساعدة، فقد كان محبوبا من الجميع... من أين تتحدث؟ - من غرفة عرفان... - وكيف هو الآن؟.. ونما إلى سمع سعد صوت إحدى الممرضات وهي تنادي في ذعر: - دكتور إياد... إنهم يريدونك في الداخل... فألقى السماعة من يده، وهرع ليعرف ماذا حدث؟ * * * الفصل العشرون في تمام الساعة العاشرة والدقيقة الثالثة والخمسين من صباح ذلك اليوم المشؤوم فرغت كنانة الأمل، وحانت لحظة رهيبة من لحضات القدر القاسية العصيبة، فجاءت مترعة بالألم، مفعمة بالأسى، مثقلة بالدموع... فطوت بمرورها حياة واحد من سكان هذه الأرض لينضم إلى قافلة الفناء... حدث ذلك عندما هوى الموت بقبضته على عصام، فخفق قلبه الخفقة الأخيرة وأسلم الروح... وقبيل الرحيل بلحظات فتح عصام عينيه الذابلتين وقد جاشت في صدره حشرجة متصاعدة وغمغم بنبرات واهنة متقطِّعة وهو يحملق بالمجهول: ((ما.. ما)). ((ما.. ما)). ((ما.. ما)). فهرعت إليه سامية ومن ورائها الجميع وحضنت رأسه بين ذراعيها في حنو وإشفاق، فتعلقت بها نظراته الكليلة المرهقة ولاحت على شفتيه شبه ابتسامة سرعان ما خبت، فانطفأت بأفولها شعلة الحياة اللاهبة العظيمة التي كانت تتوقد متلألئة في أعماقه تسطع وتتألق وتضيء... وأسبل جفنيه في هدوء، فكانا هما الدفة الأخيرة لكتاب عمره الحافل الذي يروي قصة طموح واعد لم تكتمل ورحلة مجد انتهت عند السفوح، وفاضت الروح فأفلتت من بين أمهر الأيادي لأساطين الطب والجراحة وتسللت من بين أحدث الأجهزة العلمية والطبية متحدية عجز الإنسان وضعفه أمام قدر الله، وانطلقت إلى بارئها متخففة من كل الجواذب والأماني والأحلام، يحدوها الشوق إلى الحبيب الأعظم الذي برأها أول مرة وقد أدت الأمانة وفارقت الدنيا على قيم الحق والإيمان والعطاء. وندت عن سامية صرخة هائلة، حمَّلتها كل حزنها وألمها المكبوت، وأكبَّت على وجهه المهشم تعانقه في حب ولوعة، وترويه بالقبلات والدموع، وراحت تصرخ وتنادي في صوت هادر مجنون: - عصام.. عصام.. لا تذهب أرجوك.. لن تفارقني بهذه السرعة.. عصام.. هل تسمعني؟.. أنا سامية يا عصام.. سامية التي تحبك.. زوجتك التي نسجت معها الأحلام.. لا تفارقني أرجوك.. لا تتركني وحدي فالحياة من بعدك سراب.. سراب.. سراب... ثم أجهشت في بكاء شديد... ومال الدكتور إياد على ابنته المحطمة في حزن، فشدها إليه، لكنها تشبثت بزوجها الراحل وكأنها تمسكه خشية أن يهرب، بيد أن أباها قاوم ضعفه وانهياره وجذبها إليه جذبة قوية فضمها إلى صدره في ألم، وقال بصوت دامع حزين: - ((إنا لله وإنا إليه راجعون)).. تماسكي واهدأي يا ابنتي، فهذا قدر الله ولا راد لأمره. وتعالى بكاؤها ونحيبها، فأردف الدكتور إياد وهو يربت على ظهرها مهدئاً ومواسيا: - تماسكي أرجوك.. من أجل أمه على الأقل.. يجب أن نقف إلى جانبها في هذا اليوم العصيب.. اللهم اجعلنا من الصابرين... يا رب. وتقدم الدكتور جهاد من جثة عصام، فسحب الغطاء الأبيض وأسدله على وجهه في هدوء حزين، ثم أمر بنقله إلى غرفة الوفيات وقال وهو يجول بنظراته الكئيبة بين وجوه الأطباء التي امتزج الحزن والأسف فيها بالتعب والإرهاق الشديد: - من سينقل النبأ لأمه؟ أجابه الدكتور إياد وملامحه الكئيبة تحتقن بالحسرة والألم: - ومن غيرك يا جهاد؟.. أنت مدير المستشفى وكبير الأطباء... تنهد الدكتور جهاد وهو يغمض عينيه في أسى ثم قال: - أخشى أني لا أستطيع.. أقولها لأول مرة منذ أمد بعيد.. لقد مرَّ عليَّ في هذا المستشفى عشرون عاماً أو تزيد، رأيت فيها الكثير من الكوارث والمآسي، فلم أتأثر بها كما تأثرت بهذه المأساة، ورأيت الكثير من الأمهات وهنَّ يبكين أولادهن، لكن منظر أمه المسكينة كسر قشرة الاعتياد التي غلفت قلبي عبر السنين لتخلف في فؤادي جرحاً غائراً لن أنساه!!... همس الدكتور إياد وقد علا نحيب سامية: - دكتور أرجوك أن تتصرف... يكفيني مصابي... أرسل الدكتور جهاد تنهيدة خائرة، ثم قال في رضوخ: - حسناً.. كما تريد... قال الدكتور علي: - لكنها ستطلب رؤيته.. إني أخشى عليها من الانهيار... علق الدكتور عدنان قائلاً: - رؤيتها له أمر لا مفر منه، وهو أدعى لتفريغ شحنات الحزن والأسى التي ترهق أعصابها. قال الدكتور جهاد وهو يمضي مطرقاً حزيناً: - لنستعد لكل الاحتمالات، والله معنا. * * * اكتضت قاعة الانتظار في قسم الطوارئ بالكثيرين ممن هزَّهم المصاب وآلمهم، فهرعوا إلى المستشفى في ذعر وذهول ليكونوا قرب الإنسان الذي أحبوه واحترموه وأعجبوا به، وليقفوا بجانبه في محنته الدامية الرهيبة.. حتى صفوان.. صفوان الذي عرف بحقده على عصام وكرهه له وهزئه بأفكاره ونبوغه وطموحه.. صفوان الذي لا يفكر إلاّ في نفسه وملذاته ورغباته... حتى صفوان اهتز للمأساة وتأثر بها بعد أن علم بها من أحد أفراد شلته الذي أيقضه من نومه ليسأله بالهاتف قائلاً: - هل قرأت جريدة الصباح؟... فأجابه منزعجاً غاضباً: - ما هذا السؤال التافه عند الصباح؟.. أنت تعرف أني لا أحب قراءة الصحف والمجلات... - إذن اقرأها اليوم وادعُ لي... - ماذا تقصد؟.. ماذا حدث؟! - صاحبك عصام... - ما شأنه؟... لعلك ستقول لي أنه نال مكافأة أو هدية أو وساما... سألعن صباحك إن كنت أيقظتني لتقول لي هذا. ضحك صاحبه وقال ساخراً: - أي مكافأة؟ وأي وسام؟.. عصام انتهى يا روحي.. إنه في المستشفى يحتضر... وصدمه الخبر بقوة، وهزَّ بعنف، فوجم في ذهول، وعبس في تفكر، وسأله في شك وهو لا يكاد يصدق: - ماذا تقول؟.. عصام يحتضر؟.. لعلك تمزح؟!.. - أبداً.. لقد أصيب ليلة أمس في حادث سير مروع والأمل في حياته ضعيف جداً... هكذا أخبرتين ((رندا)).. ((رندا)) صديقتي الممرضة في المستشفى الوطني.. إنه يعالج هناك وهو في حالة ميؤوس منها. ودك الخبر المثير قلاع القسوة والحقد والطغيان التي كانت تقوم في قلب صفوان، فتهاوت وتداعت في لحضات، وأحس في غمرة الصدمة بشيء سامٍ نبيل يتحرَّك في أعماقه السحيقة ويخرج من بين أنقاض التكبر والغطرسة والغرور، وينفض عنه ركام الفساد والخبث والانحراف، ويتسلَّق شرايينه بالرغم مما يعكرها من كراهية وأنانية وسوء، ثم يمضي إلى ضميره الغافي فيوقضه بعد طول سبات وينبهه من تخدير العبث واللهو واللامبالاة... وأفاق الضمير النائم في ذعر، وانتفض في ثورة، وراح يدق أبواب عقله المسجون وراء أسوار اللذة والرغبة والهوى بإلحاح، ويسأله عن لغز الوجود وأسرار الحياة، ويذكره بضعف الإنسان وعجزه أمام الموت المتربِّص القريب، وهمس وهو يضع السماعة في شرود: - (( عصام يحتضر؟.. يحتضر؟!!.. من يصدق؟!.. كنت أحسبه أسطورة!.. كنت أتصوره إنساناً خلق للنجاح!.. لم يخطر ببالي يوماً أن يكون الثاني على الكلية فكيف؟!.. أتنطفئ حياة شاب كهذا بهذه السرعة والسهولة.. لا أصدق.. هل هذه هي الحياة؟!!..)). وأغمض صفوان عينيه في إشفاق من النهاية المرتقبة في كل حين وتساءل في نفسه عن قيمة الحياة وفائدتها إذا كانت ستؤول إلى الفناء... _ ((الفناء؟!!)). لكأنه يتذكر لأول مرة أن الفناء هو النهاية الحتمية لكل حيّ على هذه الأرض!!، وتذكر صفوان موقف عصام عندما أتلف له دفتر محاضراته، وكيف واجه إساءته بالحلم والتسامح، فأشرق هذا الموقف في نفسه، وأينعت بذوره الطيبة... وأصغى لضميره المنتفض الثائر وهو يلحّ عليه بحماس لأن يزرع نبتة خضراء في صحراء حياته المقفرة.. لأن يخطّ سطراً مضيئا في صفحة حياته القاتمة السوداء... لأن يضئ شمعة في ظلام عمره الحالك المدلهم بالخطايا والآثام... فتناول ملابسه كيفما اتفق وهرع إلى المستشفى ليرقب أحداث هذه المأساة الفظيعة التي قلبت كيانه من الداخل... واندلعت المخاوف في قلوب المنتظرين وهم يشعرون بالدقائق تزحف بطيئة رهيبة ثقيلة، وبسهام الأمل وهي تتكسَّر على صخرة اليأس والانتظار، وكلما انكسر سهم الأمل أو طاش تجرأ هاجس الموت فأبرز مخلباً من مخالبه الوحشية الحادة وانقضَّ على الأعصاب الخائفة المرتعدة ليعريها من كل صبر ويتركها فريسة للقلق المؤلم الممض تئن وتتلوى، وفجأة... تلقفت بعض الأسماع صرخة سامية فأيقنت بالكارثة، وخفقت قلوب أصحابها بشدة، واتجهت أنظارهم الكئيبة الذاهلة إلى الأم المسكينة في إِشفاق بالغ، إلا أن حركتهم هذه أثارت الشكوك في نفسها، فاشرأبت بعنقها نحو الباب في خوف وهلع، وأخذت ترقب الموقف بذعر شديد... وخرج الدكتور جهاد من غرفة العمليات مطرق الرأس، واجم الوجه، ساهم النظرات لا يكاد يدري ماذا يقول... فحاصرته النظرات القلقة المتوجسة بينما هرعت إليه الأم هلعة مذعورة وقد تحركت في أعماقها غريزة تتنبأ بالفاجعة، وهتفت من بين الدموع في لهفة وتوسل وانكسار: - دكتور.. طمنِّي.. كيف حاله الآن؟.. أخبرني أرجوك.. أتوسل إليك.. أقبّل رجليك.. قل لي كلمة واحدة تريحني.. قل إنه سيعيش.. أرجوك.. حاول الدكتور جهاد أن يتكلم، لكن إرادته خانته فألجم الحزن والإشفاق لسانه، ووقف حائراً جامداً مكانه كتمثال، وقد لازمه الإطراق الحزين فأخفى وراءه دموعه الصامتة الغزيرة مما زاد في ذعر الأم وهلعها، فسألته وهي تعزه بعنف وقد طار صوابها: - ماذا جرى؟.. هل؟!.. هل؟!.. وأراد الدكتور جهاد أن يدلي بالحقيقة المرة، لكن نظراته الدامعة الكئيبة كانت أسرع إلى إعلانها، وقال بصوت متهدج ونرات تقطر حسرة وحزناً: - تذرعي بالصبر يا أختاه.. إنا لله وإنا إليه راجعون... وانفجر في أعماق الأم بركان هائل من الألم فقذف بحمم اللوعة والحسرة والأسى في أغوارها المظلمة، فأحرقت كل معاني الحياة، وانساحت إلى قلبها المفطور فأحالته إلى جمرة ملتهبة من الحزن.. وأرسلت صرخة محمومة تتلظّى بالحرقة والالتياع وكأنها زفير النار التي استعرت في داخلها، فصرخت بنبرات وجعة متفجعة وهي تضغط على صدغيها بيدين متشنجتين: - عصام.. ثم ولولت واندفعت تريد أن تقتحم الباب وهي تصرخ في صوت يتوهج بالحزن واللوعة والألم: - ابني.. حبيبي.. أروني إياه، أريد أن أراه.. لا تقولوا إنه مات.. إن مات فسألحق به.. فلا طعم للحياة دونه.. لا طعم للحياة بعده... وحاولت زوجة الدكتور إياد أن تحجزها لتهدئ من روعها، لكنها أفلتت منها وانطلقت لا تلوي على شئ وهي تنادي وتصيح: - عصام.. ولدي.. حبيبي.. أين هو يا ناس.. أريد أن أراه.. أريد أن أشمه.. أريد أن أضمه.. أريد أن أقبله.. لم تفرح بنجاحك يا ولدي.. لم تفرح بزواجك.. لا اعتراض على أمرك يا رب.. بالأمس زوجي واليوم ولدي... كانت كلمات الأم الملوعة تنفذ إلى القلوب المفجوعة وتنهال عليها بطعن عنيف أليم فتنزف بالحزن والحسرة والوجع حتى يفيض نزيفها من العيون دمعاً هتوناً يتدفق.. وأجهش الحاضرون وعلت صوت بعضهم، فضجت القاعة بالبكاء والنحيب... وهرعت سامية إلى حماتها المسكينة فارتمت في أحضانها وهي تبكي بمرارة وغمغمت في حرقة وأسى: - لقد تركنا دون وداع يا أماه... هتفت الأم في ضراعة وتوسل وهي تنتحب: - قوديني إليه يا ابنتي.. خذيني إليه.. أريد أن أراه.. أريد أن أراه... قالت سامية من بين الدموع وقد شعرت بواجبها في هذه اللحضات الدقيقة: - لا تحزني يا أماه فعصام في الجنة.. أجل في الجنة.. شاب بطهره وصفائه مكانه هناك... لا تحزني يا أماه فسوف يهبه ربنا خيراً مني.. سيزوجه من الحور العين.. من الحور العين يا أماه... وتعالى بكاؤهما ونحيبهما فصدع القلوب الجريحة، وأسرع الدكتور إياد، ففصل بين الاثنتين وقال للأم مواسياً وهو يقودها إلى ابنها الفقيد: - هوني عليك يا أختاه.. هذا قدر الله – سبحانه - ... تعالي فودعيه... وما إن وصلت الأم إلى جثمان ابنها الراحل حتى انكبت على جسده المسجى بالبكاء والعويل وراحت تلثم وجهه وجسده ويديه، وتغرقه بالقبلات والدموع، وأخذ الحزن منها كل مأخذ، فصرعتها اللوعة المريرة، وأغمي عليها فحملت إلى غرفة الإنعاش. ودخل الأصدقاء ليلقوا على صديقهم الراحل نظرة الوداع الأخير، فتقدم منه سعد في هدوء وحزن وتحسر، وكشف عن وجهه الغطاء في رهبة وما إن رأى الرأس المهشم المثخن بالجراح حتى نشج ببكاء مر أليم، ثم مال عليه في حب ولوعة وطبع على جبينه قبلة الوداع، ثم تنحى وهو يترنَّح من عمق الأسى ووقع المصاب فاستند بكتفه على الجدار وراح يتلو ((الفاتحة)) في صمتٍ دامعٍ حزين. ثم تقدم الأصدقاء مجهشين، فقبلوا صديقهم عصام في حب وأسف ووقفوا حول سريره محزونين محتسرين وهم يبكون... ودخل عرفان وهو يتكئ على كتف الدكتور أحمد الذي حمله ليرى جثة عصام بعد إلحاح شديد، وما إن وقع بصره على جسد لاصديق الفقيد حتى أسرع إليه وهو يعرج غير عابئ بجراحه وآلامه، وأكب عليه وهو يبكي وينادي في حرقة والتياع: - عصام.. لا تذهب يا صديقي فلا بهجة لنا بدونك.. سوف نحيا من بعدك كاليتامى الذين فقدوا أمهم وأباهم وأخاهم.. واحزناه.. واأسفاه.. أين الذكاء والنبوغ؟.. أين الأمل والطموح؟.. أين البسمة الراضية الودودة؟.. أين العزيمة الواثقة الجريئة؟.. أين الذكريات؟.. واحسرتاه... وفجّرت كلمة الذكريات جراح الأصدقاء، فانتفضت نازفة أليمة، فهم سيودعون مع عصام حياة جميلة عامرة بالذكريات الحبيبة السعيدة.. حياة رائعة فريدة.. سيفتقدون طعمها الحلو اللذيذ مهما امتدت بهم الأيام والسنون. وتعالى من خلفهم نحيب شديد فالتفتوا ليتعرَّفوا على صاحب الصوت الباكي، فأدهشهم أن يروا صفوان وقد غطى وجهه بكفيه وهو يجهش ببكاء شديد، فعجبوا لهذا التغير الذي طرأ عليه، وتأثَّروا أيّما تأثر، فغلت مراجل حزنهم وتأججت، وعلا نحيبهم من جديد... واشتدت عليهم وطأة الحزن والألم، فكابد الجميع لحضات قاسية رهيبة لا تنسى، وشعروا باللوعة المرة تعتصر قلوبهم وتضغط على أنفاسهم فتضطرب وتضيق، فانفلتوا من هذا الجو الكئيب لاهثين، ولجأوا إلى حديقة المستشفى ينشدون هواءً نقياً لم يلوثه الحزن بنفثاته السامة الخانقة، وما إن وصلوا إلى هناك حتى طرق سمعهم صوت سيارة إسعاف قادمة وهي تحمل مصاباً جديداً.. يصارع الموت ويتشبَّث بأهداب الحياة. * * *
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#27
| ||
| ||
الفصل الحادي والعشرون نالت المحنة الرهيبة من الدكتور إياد، وشغلته عن عيادته ومرضاه، فتفرغ ليواجه همومه وأحزانه ويقوم بواجبه نحو الأم الملوعة المسكينة التي فقدت ابنها وفلذة كبدها وأملها الوحيد في الحياة، ويقف إلى جانب ابنته الحزينة وقد سلبتها المأساة الأليمة كل مشاعر الأمل والسعادة والفرح التي احتشدت في نفسها لتستقبل مناسبة زفافها إلى الفتى العظيم الذي تولعت به، فجاءت هذه المناسبة دامية كئيبة، مفعمة بالآلام... واليوم.. قرر الدكتور إياد أن يخرج من عزلته ليواجه الحياة من جديد، وقد تبخَّر منها أحد آماله الكبيرة تحت وهج المأساة الدامية، فمضى إلى عيادته بغير حماس، وراح يهبط في السلم بخطوات متثاقلة، ونفس مهمومة، وذهن مكدود. ولدى الباب توقف لحظة وقد تهيَّب الدخول.. فالعيادة مزروعة بطيف الفتى الفريد الذي أحبه من أعماقه، فمنحه أبوته، وشعر ببنوته، وحفّه بالرعاية الاهتمام، ووجه خطاه إلى مستقبله الواعد فما لبث العقل العبقري أن تلمَّس دربه في أناة، وانطلق في سلم المجد كالنسيم.. يحقق النجاح إثر النجاح.. وضغط الدكتور إياد على آلامه، فاقتحم تردده، وتخطّى عتبة الباب، فاستقبلته الممرضة بابتسامة مرحِّبة، وشت بالمواساة فألقى عليها تحية السلام... - وعليكم السلام.. خاتمة الأحزان – إن شاء الله - ... - بارك الله في عمرك يا ابنتي، وجنبك الرزايا والأحزان... - كيف والدته الآن؟.. منظرها الكئيب لا يفارقني... - هي بين الموت والحياة... بين العقل والجنون... تقتات الحزن والأسى، وتروي جراحها بالدموع، أحياناً تبدو شاردة ذاهلة ساهمة وكأنها تمثال من الشمع، وأحيانا تبدو كتلة لاهبة من الأحزان.. لقد هدّها المصاب، وانطفأ في قلبها الأمل، فلم يبقَ لها من الحياة إلا أنفاس وانية تتردد في جسم يسعى نحو الذبول... - كان الله في عونها.. والدكتورة سامية؟.. ما أخبارها؟... أجابها وهو يمضي إلى غرفته ساهماً حزيناً: - أخبار فتاة مسكينة فقدت فتاها عشية زفافها، واكتشفت إن سفينة أحلامها تمضي وسط بحر من الأحزان. - شئ مؤسف حقاً. يا لقسوة الأقدار!.. قال الدكتور إياد وهو يتهالك على كرسيه في ملل وإرهاق: - لا.. لا تقولي هذا يا ابنتي، فالأقدار لا ذهب لها فيما حصل، وسواء كان قدرنا سعيداً أم حزيناً فإنما هو حلقة لا بد منها في سلسلة وجودنا الكبير، لو لم يمت عصام اليوم فسيموت غدا أو بعده، ولو لم يمت في حادث سيارة لمات بلا مقدمات توحي لنا بسبب الوفاة.. كلنا سنمضي يا ابنتي، فلنتأهب للرحيل. - بعد عمر طويل إن شاء الله.. ابتسم الدكتور وهمس في شرود: - عمر طويل!!.. لكم نضحك على أنفسنا بهذه الكلمات، فالعمر مهما طال، فإنه لقصير.. نحن لم نخلق لهذه الأرض يا ابنتي، بل خلقنا لنمر بها على عجل في طريقنا إلى الحياة الحقيقية... حياة الآخرة، لكن إغراء الدنيا وجاذبيتها القوية تستهوي صغار العقول والنفوس، فيبنون على ظهرها الفاني صرح سعادتهم المزيفة، فيأتي الموت ليعصف به في لحضات، أما أصحاب النفوس الكبيرة والأفق الرحيب فلا يخدعهم وهم الحياة أو يغريهم طول المكوث فيقضون العمر بطوله كالمسافر الذي يمر بغابة ليست مقصده، فيستمتع بمائها وثمرها، ويصمد لوحوشها وذئابها، ويصبر على ظروفها وأشواكها ويتزود منا بما يعينه على متابعة الطريق، ثم يمضي إلى غايته وهو في شوق إلى الوصول... قال الممرضة وقد بان على وجهها التأثر : - رحمه الله... لقد أدرك عصام هذا، فتزوَّد بأعظم الزاد، ومضى إلى ربه مؤمناً عابداً تقياً... دكتور تبدو متعباً.. هل أحضر لك فنجاناً من الشاي؟ - لا.. لا أشتهي شيئاً.. كيف تجري أمور العيادة؟ - كما أمرت.. لقد حوَّلت المرضى الذين راجعونا إلى عيادة الدكتور ناجي وأرسلت إليه بملفاتهم الخاصة. هناك مجموعة من الرسائل التي وردت في غيابك، هل أحضرها لك؟ - أحضريها لأراها... أحضرت الممرضة الرسائل فوضعتها أمام الدكتور إياد وانصرفت في هدوء، فألقى عليها نظرة تنطق بعدم الاكتراث، ثم تناول منها مغلفاً كبيراً كتب عليه ((صوت الجامعة- عدد خاص))، ففضَّ المغلف وأخرج العدد فطالعته صورة الغلاف وقد ظهر فيها عصام وهو يبتسم ابتسامة وادعة تفيض بالأمل والثقة والتفاؤل وقد كتب تحتها بخط أحمر فاقع ((من اغتال هذه الابتسامة؟)).. فرنا إلى صورة الفقيد بعينين دامعتين وقلب مكلوم، ثم أخذ يتصفَّح عناوين العدد في هدوء حزين.. ((كلية الطب تنعي علماً من أعلامها)).. ((الأمل الذي هوى)).. ((عصام.. لا تقل وداعاً، ولكن إلى اللقاء)). ((تأملات على ضفاف الموت)).. ((الدكتور إياد يتحدث عن مآثر الفقيد)).. ((الدكتور إياد يدعو إلى حملة وطنية لمكافحة حوادث الطرق)).. وتوقف الدكتور إياد عند هذا العنوان، فقد تذكر أن مجلة ((المجتمع الجديد)) قد طلبت منه مقالاً حول هذه الدعوة وأبعادها العملية، فأرجأ قراءة العدد حتى يتسنّى له إعداد المقال، ثم ألقى على بقية الرسائل نظرة سريعة فألفى معظمها رسائل مجاملة وتعزية فأجل قراءتها دون أن ينتبه لأهمية إحداها، وتناول ورقة وقلماً وشرع بإعداد المقال.. ((عزيزي القارئ: - إليك أخط هذه الكلمات المخلصة، بمداد من الدمع المدمّى..أخطها من قبل المأساة الدامية التي عشتها منذ أيام.. أخطها إليك بريشة الأسى، وأطياف الضحايا الذين دمرتهم المأساة إياها ترفرف حولي.. تهيب بي أن أفعل شيئا يوقف طوفان الدم الذي يغرض في كل يوم المزيد من القتلى والجرحى.. إليك عزيزي القارئ أبث هذه الكلمات راجياً منك أن تصغي، متوسلاً إليك أن تتفكَّر وتتأمل وتعتبر... في وطني أيها الإخوة والأخوات وحش مفترس.. وحش كاسر يقف كل يوم وسط الشارع، ويرابط عند مفارق الطرق، ويفغر فاه ليبتلع عددا من المواطنين الأعزاء... وحش رهيب اسمه السرعة المجنونة، وفي بلدي وباء... وباء جارف تنقله جرثومة مستعصية... جرثومة خطيرة باتت تستوطن في نفوس الكثيرين... جرثومة سامة اسمها الفوضى... اسمها اللامبالاة... اسمها الاستهانة بالنظام... اسمها الاستخفاف بالمنطق... اسمها عدم احترام الآخرين.. اسمها ((الأنا)).. ((فالأنا)) أصبحت تتحكم بعقولنا وأعصابنا وتسيطر على أعمالنا وتصرفاتنا، وأصبح لسان حال الواحد منا يقول : ((المهم ما أريده أنا.. المهم ما أفعله أنا، وليذهب العالم من حولي إلى الجحيم...)). ويستغرق وحش السرعة في طغيانه، ويزداد وباء ((الأنا)) انشاراً، فنقرأ كل يوم عن حادثة جديدة وكارثة جديدة ومأساة جديدة، وما إن تفتح ملفات التحقيق في هذه الحوادث المستمرة المتكررة حتى تتوجه أصابع الاتهام إلى السرعة والأنانية والفوضى، لكن أحداً لم يستطع حتى الآن قمع هذا الثالوث المجرم الذي يروع مجتمعنا... شئ واحد أيها السادة يمكن له أن يوقف هذه المأساة.. إنه التربية.. التربية الأخلاقية الحضارية التي تضبط تصرفات الإنسان وتزيد من شعور المواطن بالمسؤولية وتحيي عنده الضمير.. وعندما يصحو الضمير في أعماقنا، نتخلص من وحش السرعة الرهيب وينحسر الوباء... بالأمس أيها الأعزاء حدث حادث فضيع على طريق ((السلام)).. حادث مروع ذهب ضحيته شاب عظيم.. شاب..)). ويتذكر الدكتور إياد عصاماً فيرتعش القلم في يده وتجتاحه نوبة من الحزن وتتدفق في عينيه الدموع... وانتظر قليلا ريثما هدأ روعه ثم عاد ليتمَّ مقالته... وقبل أن يبدأ وقع بصره على رسالة معنونة باللغة الإنكليزية، فألقى القلم من يده وتناول الرسالة في عصبية، وفضَّها في ألم وأخذ يقرأ من بين الدموع: - (( عزيزي الدكتور إياد عزت المحترم: لقد اطلعت على كشف علامات الدكتور ((عصام السعيد)) وأعجبت بتفوقه ونبوغه أيما إعجاب، وبناءً على ذلك، وعلى ما حدّثتني به عن اهتمامه وتعمقه بأبحاث السرطان، فقد قررت أن أضمه إلى طاقم الأبحاث الذي يعمل معي في المركز ((الفدرالي)) للبحوث السرطانية، وقد اتفقنا هنا في إدارة المركز على تقديم منحة للدكتور عصام تسمح له بالاختصاص على حساب المركز شريط أن يعمل لصالحه مدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد حسب رغبة الدكتور عصام وذلك لقاء راتب شهري يتم تحديده بالاتفاق معه قبل توقيع عقد خاص ينص على بنود الاتفاق، أما بالنسبة للدكتورة سامية، فسوف يتسنَّى لها الاختصاص في نفس الجامعة التي سيتخصص فيها الدكتور عصام على أن يتم الاختصاص على نفقاتها الخاصة. ولعله من دواعي سرورنا جميعا أن تجتمع الطاقات العلمية في الشرق والغرب لإنقاذ البشرية من هذا المرض الرهيب. وفي الختام أرجو أن تقبل مني خالص الحب وفائق الاحترام، وأن تنقل تقديري وتشجيعي للدكتور عصام آملاً أن ألتقي به عما قريب للتعاون معا في إنجاز مهمتنا المقدسة)). المخلص ((فرانكلين جاكسون)) رئيس الجمعية الأمريكة للسرطان* * * الفصل الثاني والعشرون كلما جلس سعد في حديقة بيته، اجتاحته الذكريات العاصفة، وازدحمت في خاطره المشاعر والصور، وهفت نفسه للبكاء... ففي ظلالها الوارفة كان آخر العهد بعصام، وبين أزهارها الفواحة توهجت النجوى بأعذب الآمال والأحلام، وفي جوها العبق الخلاّب عاش الصديق الحبيب آخر لحضات الحياة، ولو كان سعد يعلم أنها اللحضات الأخيرة، لأمتع ناظريه برؤياه، وأطرب أذنيه بنجواه، وأترع روحه من رحيق الحب الخالص الذي سما وتألق بين الصديقين، فمزج في نفسيهما وألّف بين قلبيهما ووحَّد منهما الآمال والآلام والدروب... وفي هذا المساء، كان سعد يشعر بسآمة وضيق، فخرج إلى الحديقة ينشد الراحة والسلوى، وأرسل نظراته المتأملة تجوب أرجاء الحديقة الغناء، فأحسها كئيبة لم تستطع فتنتها الطاغية أن تمحي مسحة الحزن التي لاحت في أشجارها وورودها وأزهارها، وهب النسيم العذب، فراح يهمس له بأحاديث الماضي وذكريات الماضي، فتراجع في خضم الأيام يرقب صورها الحافلة عصاماً وانطلاقته المؤمنة... واستغرقته الذكرى، فانتزعته من وعيه، وحملته إلى تلك الأيام الآفلة السعيدة، فحلَّقت روحه في سمائها الحبيبة تحاول أن تتشبث بلحظاتها الباهرة علَّها تطفئ لهيب الأحزان المتأججة في قلبه وتسكب روعة السلام، لكن وعيه القاسي سرعان ما جذبه إليه، فارتد خائباً محزناً يكابد الحسرة واللوعة. واضطرمت في أغواره الأحاسيس، فشاعت كآبتها في صدره تروم لها متنفسا لم تجد غير الدموع.. واشتد عليه وطأة الأحزان فهرع إلى القرآن، وجلس في حجرته يتلو آيات منه.. ينشد بين سطوره الكريمة راحة النفس وهدوء الروح.. يبحث عن حوافز قوية تدفعه قدماً إلى الله.. ويترنَّم بالحقائق الخالدة لتنبت في أعماقه وتزهر وتثمر... ومس سمعه صوت جرس الباب، فطوى المصحف في هدوء، ووضعه في جلال، ومضى يتبين الطارق.. وفتح الباب في شرود، ففوجئ بالزائر، وهمس في دهشة: - صفوان؟.. - السلام عليكم. - وعليكم السلام... - أخشى أن لا يكون الوقت مناسباً للزيارة! - أبداً.. أبداً.. تفضل.. وقادة سعد إلى حجرته، والتساؤلات الحائرة تنثال على خاطره.. ((صفوان؟!.. ما الذي جاء به؟!.. أيزورني؟!.. صفوان يزورني؟!.. ما أعجب النفوس!.. أي تحول طرأ عليه؟!.. أي سر يكمن في تصرفاته الأخيرة؟!..)). قال سعد مرحِّباً بعد أن استقر به المجلس: - أهلا بك يا أخي.. كم أنا سعيد بهذه الزيارة!!. تساءل صفوان وهو يبتسم في مرارة: - أخوك؟!.. أحقاً تعتبرني أخاك!!. - ( إنما المؤمنون إخوة ). - أولئك المؤمنون.. أما أنا.. - أنت منهم بإذن الله. هتف صفوان في إنكار: - سعد.. لكأنك لا تعرف من أنا.. سأذكرك.. أنا صفوان.. صفوان المستهتر العابث.. صفوان المتكبر المغرور.. صفوان الفاسق الفاسد الذي لم يخطر بباله لون من الانحراف إلاّ مارسه.. هذا هو صفوان الذي تجامله الآن فتخلع عليه صفة الإيمان. ابتسم سعد في ثقة وقال: - أنا لا أجاملك، لو سألتني عن أعمالك السيئة لأدنت لك سوءها، لكن ذلك لا ينفي عنك صفة الإيمان.. لعلي أعرف الجانب القاتم في حياتك، لكني لم أعدم التفاؤل يوماً بالجانب المشرق منها. - أتؤمن بالإنسان ذي وجهين؟.. - بل أؤمن بالإنسان ذي طاقتين متنافستين.. طاقة للخير، وأخرى للشر.. إذا ما نمت إحداها ضمرت الأخرى، ولكنها لا تموت، بل تبقى كامنة متحفزة تنتظر من الأولى لحظة ضعف أو تراجع لتنطلق من جديد، والإرادة هي العنصر المرجّح لكفة هذا الصراع القديم داخل الإنسان. همس صفوان بلهجة تفيض بالحسرة والندم وقد اغرورقت عيناه بالدموع: - فكرت في أيامي السالفة فلم أجد فيها عملاً يرضي الله!!. - ليس المهم ما كان، المهم ما سيكون. - لكن ما كان كثير.. كثير.. - رحمة الله وسعت كل شئ. - وما الطريق إليها؟ - أراك قد خطوت فيه خطوات... - لا أفهمك؟ قال سعد وابتسامته الهادئة لا تزايله: - الشعور بالذنب والندم عليه نصف الطريق إلى الله. - والنصف الآخر؟ - أن تعمل بما يرضي الله.. - وكيف أرضي الله؟ - بأن يجدك حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك. تساءل صفوان في لهفة: - ويغفر الله لي كل ما سلف؟؟ - ويبدَّل سيئاتك حسنات إلاَّ.. - إلاَّ ماذا؟!! - إلاًّ ما كان منها في حق الآخرين، فلا يغفرها حتى يصفح عنها الآخرون. - الآخرون؟!.. - ((منى)) مثلا!.. - آه... ((منى)) .. المسكينة... ضحكت عليها... أوقعتها في شباكي، وحققت منها مآربي، ثم ركلتها بعيداً، ومرغت سمعتها بالتراب.. ولكن كيف السبيل إلى مغفرتها؟ - بأن تمسح جراحها، أن تتزوجها لتعيد لها كرامتها واعتبارها ثم تشدها معك إلى دائرة التوبة والإيمان والعمل، وأنا أعدك بأني سأبذل كل ما في وسعي لأجمع بين قلبين تائبين فرق بينهما الشيطان. قال صفوان ودموع التوبة تبلَّل وجهه الحزين: - إني أعاهد الله أمامك أن أسعى لإنصافها مني ورضائها عني.. سأتخذها زوجة كريمة.. سأنسيها كل خديعة أو إساءة. وسأفرش دروبها بالسعادة والسرور... وصمت صفوان وقد ألمَّت به ذكرى دامعة، ثم تساءل في حزن وأسف: - وعصام؟ - عصام! - لقد أسأت إليه كثيراً... - رحمه الله... مند دقائق فقط كنت أكابد ذكراه... - لقد هزني موته من الأعماق، وعلى أعتاب موته سألت نفسي.. من هو عصام؟.. إنه أنا وأنت وهو وهي.. إنه الإنسان وهو يحلم ويطمح ويبني قصور الأماني على أرض الفناء، ثم يمضي دونا وكأنها لا تعنيه، وكأنه لم يتعب ويعرق ويشقى من أجلها، وفكرت فيما بعد الموت فأشفقت من النهاية وخفت من سوء المصير فلجأت إلى الله.. أطرق أبوابه في ذلة وندم.. أطلب الصفح والغفران.. أنشد التطهر.. أغسل الذنوب بالدموع.. أبحث عن هدوء النفس وراحة الضمير، ولهذا جئت إليك... - أهلاً بك يا أخي في صفوف التائبين الصادقين.. كلنا يخطئ ويكبو.. من منا لا يخطئ؟.. المهم أن لا نصر على الخطأ.. أن لا نكابر.. أن لا ننتحل له المبررات والمعاذير، والتائب حبيب الرحمن... - لم تقل لي كيف السبيل إلى صفح عصام وقد مضى إلى ربه؟ تنهد سعد وقال: - اطمئن.. قد تحتاج لصفح الآخرين إلاًّ عصاماً.. فما كان الحقد ليجد طريقاً إلى نفسه.. لقد كانت الإساءات – مهما عظمت – تضيع في خضم قلبه الكبير، وتتلاشى... إنسان يحمل على كاهله هموم الناس وآلامهم لن يجد في قلبه متَّسعاً ليكره أحداً. - رحمه الله.. سمعت عن آماله الكبيرة فهزئت منها.. لقد كان فيما مضى هدفاً لسخريتي، واليوم أمسى مثلاً وضيئاً أتلمس خطاه. قال سعد في شرود حزين: - رحمه الله.. نسجنا الأحلام معاً، وهندسنا المطامح، ورسمنا الدروب.. ليلة الحادث كان عندي.. كنا نخطط لمشاريع المستقبل.. كان شعلة من الاندفاع والحماس.. اتفقنا على إنشاء صندوق لمكافحة السرطان ليكون في المستقبل رافداً قويا لكل المشاريع والمؤسسات التي تساهم في القضاء على هذا المرض الفتَّاك.. حلمنا بإنشاء جمعية وطنية لمكافحة السرطان، ومركزاً لأبحاث السرطان، ومستشفى لمعالجة السرطان و.. وفجأة.. اختفى رائد كل هاتيك الطموحات.. لقد كان خسارة فادحة لا تعوَّض. هتف صفوان في حماس: - سعد.. بودّي لو أقدِّم شيئاً.. إني مدين لعصام بصحوتي هذه وقد حقَّ الوفاء.. سوف أسعى لتحقيق كل آماله.. أنا أملك المال وأنت تملك الفكرة والطموح.. فلنكن يداً واحدة.. نحن وبقية الأصدقاء.. سننشئ الصندوق الذي كان يحلم به عصام.. وسنسعى لإنشاء الجمعية.. ومركز الأبحاث.. والمستشفى.. أجل... لا يوجد شئ مستحيل.. بودي لو أفعل شيئا يا سعد.. شيئاً عظيماً أكفر به عن ذنوبي، وأخدم به ديني وأمتي ووطني... كان سعد يصغي إلى صفوان في سرور عارم وقد تألقت على ثغره ابتسامة حب وإعجاب، ولمعت في عينيه فرحة طاغية، وأحس بروح عصام وهي تخفق من جديد. والقصة وخلصت
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#28
| ||
| ||
أين الردود الم تعجبكم القصة؟؟
__________________ اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق |
#29
| ||
| ||
قصه رائعه شكرا
__________________ |
#30
| ||
| ||
الف الف عافية
__________________ نــــــــــصـــــــــراويـــــــــــة وافــــــــــتـــــــــــخر والــــــــــــي مــــــــــو عـــــاجبوة يـــــــنــــــــــتـــــــــــحــــــــــر واكتــــــــــــب عــــــــلـــــــــى قـــــــــبــــــرة الـــــمــــــــنقــــهــر النصر عــــــــــز والــــباقــي طـــــــــز |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |