عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > ~¤¢§{(¯´°•. العيــون الساهره.•°`¯)}§¢¤~ > أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه

أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه.

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 07-09-2010, 04:45 PM
 
دموع على سفوح المجد


هذه القصة
لوحة حزينة من صميم الحياة ، التقطت أحداثها من بحر النسيان ، فحملتها إلى شطآن الذاكرة ، فجففتها بمدادي وغلفتها بكلماتي ، بعد أن أعدتُ إليها بعض معالمها الضائعة ، وعمقتُ فيها بعض الخطوط والألوان ، ثم وضعتها في متحف الأيام ، عبرة بالغة لمن أراد الإعتبار .
الدكتور عماد زكي
ونشب في أعماقها صراع عنيف بين اليأس والرجاء ، وتراوحت بين التماسك والإنهيار ....
فترددت طويلا ثم بدأت تستسلم للعجز والضعف ، فتناولت زجاجة السم التي أحضرتها خصيصا لهذا الغرض ، ووقفت على الحد الفاص بين الموت والحياة ، تقدم خطوة وتؤخر أخرى ... وازداد الصراع في أغوارها حدة وعنفا ، وأخذت مشاعرها المتباينة تتجاذب زجاجة السم من يدها ، فتشنجت أصابعها على الزجاجة القاتلة وجعلت تترنح على حافة الفناء
.





الـفـصــل الأول

(( يجب أن أطرق أبواب المجد بعزم وإصرار )).
هكذا قال عصام في نفسه، وهو يعبر الشارع إلى الطرف الآخر، في طريقه إلى شركة ((التجهيزات العلمية)) لشراء مجهر ومجموعة من الأدوات المخبرية التي قرر أن يجعلها نواة لمختبر متواضع أزمع على إقامته في غرفة خاصة اختارها لهذا الغرض.
وفي الطريق صادقته مكتبة فخمة تألقت واجهتها المضيئة بمجموعة من الكتب المنوعة وقد رتبت بذوق وإتقان، فوقف يتأمل عناوينها، ثم ما لبث أن دلف إلى داخلها . وراح يتجول في أرجائها ، وقد ملئت رفوفها بآلاف الكتب والمجلدات ، فأعجبته طائفة من الكتب العلمية التي شدته موضوعاتها الشيقة فحملها معه ، كما استهوته طبعة أنيقة (( لدائرة المعارف البريطانية )) فطلب من البائع أن يحضر له نسخة منها ثم دفع ثمن ما اشترى وحمل كتبه ومضى ...
* * *
كان عصام طموحا جدا ، وكان أهلا للطموح ...
فقد وهبه الله ذكاءً متوقدا ، وفضولاً ملحاً ، يبحث عن المجهول ، ويسعى نحو كل جديد ، أضف إلى ذلك إرادة صلبة وهمة عالية ، وعزيمة تهزأ بالصعاب ...
وكثيرا ما عبر أساتذة عصام –خلال تاريخة المدرسي الحافل- عن رأيهم فيه بقولهم ((إنه فلته من فلتات الزمان))حتى أن أستاذين من مدرسي مادة الرياضيات في المدرسة تراهنا ذات يوم على من يسأل عصاماً سؤالاً صعبا يعجز عن الإجابة عليه على أن يكون من ضمن المنهاج المقرر، فكان أن خسرا الرهان وازداد إعجابهما بذكاء عصام وتوفقه غير العادي، لدرجة أن أحدهما كان يستدعيه كلما صادفه طالب كسول من طلاب الشهادة الثانوية يتلكأ في حل التمارين الرياضية التي كان قد تعلم حلها في السنوات السابقة، فيحلها له عصام بسهولة تنم عن تمكنه وثقته بنفسه، فما يكون من ذلك الأستاذ إلا أن يأمر طلابه بالتصفيق ثناء عليه، ثم يتوجه إلى تلميذه المهمل بقوله : ((لعله يكفيك عقاباً أن يحل لك التمرين طالب يصغرك بثلاث سنوات دراسية... يعني مرحلة دراسية كاملة)) ثم يشكر الأستاذ عصاماُ على اجتهاده فيمضي مزهواً بنفسه، فخوراً بسمعته، تياها بما أنجز...
بيد أن تفوق عصام لم يكن يتقصر على مادة ((الرياضيات)) فحسب، بل تعداها إلى كل المواد الدراسية الأخرى، لا سيما مادة ((علم الحياة)) التي كانت تجذبه فيجد فيها متعة كبيرة. وقد دفع اهتمامه الزائد بهذه المادة الأستاذ ((عدنان)) مدرس (علم الحياة) إلى أن يطلق عليه لقب ((الدكتور عصام)) مداعبا ومشجعاً، فجاء هذا اللقب بغتة وذهب مثلا، فما لبث أن لصق باسمه، فكان ينادى به في المدرسة والبيت.
وعندما ظهرت نتائج الشهادة الثانوية، تحول لقب التشجيع والإطراء إلى لقب هو أقرب ما يكون من الحقيقة... فقد كان عصام الثالث على دفعة الشهادة الثانوية لذلك العام، مما أهَّلَه لدخول كلية الطب بجدارة.
وفرحت أم عصام يومها فرحاً عظيماً، عندما زفَّ عصام إليها النبأ، فضمته إلى صدرها في حب وحنان وراحت تلثم وجهه، وهي تهتف من بين الدموع ((مبروك يا حبيبي ... أنا اليوم أسعد أم في الدنيا ... مبروك يا ولدي)). واختلطت في عينيها دموع الفرح الكبير بدموع الحزن القديم على زوجها الفقيد، الذي اختطفته يد المنية قبل أن تقر عيناه بدخوله ابنه كلية الطب كما كان يحلم ويشتاق، إذ توفي قبل سنوات إثر نوبة قلبية مفاجئة.
وانتزعت الذكريات الحزينة الأم من فرحتها العارمة، لتنقلها إلى الوراء... فتمتد بها الذكرى إلى تلك الأمسية الجميلة، حيث كانت مع زوجها الراحل، تضمهما سهرة سمر في حديقة المنزل، بينما كان عصام – وله من العمر يومها ثلاث سنوات – يداعب قطته ((ياسمين)) التي كان يألفها وتألفه... إنها لا تزال تذكر كلمات زوجها الحبيب حينما قال لها ونظراته تعانق وجه ابنه الوسيم :
( - هذا الطفل يا هيفاء يملك ذكاءً عجيباً.. علينا أن نتعني به اعتناءً فائقا، حتى يشب رجلاً عظيماً، ويحمل العبئ عن كاهلنا في مستقبل الأيام.
أجابته يومها وهي تمازحه:
- أتمنى لو يصبح إبني مهندساً كبيراً، ليبني لنا ((فيلا)) جميلة تحف بها الحدائق والأشجار...
فاستجاب الأب لدعابتها وقال بلهجة ضاحكة:
- أنتن النساء دائماً هكذا لا يهمكنَّ إلا المظاهر والقشور، ولا تفكرن إلا بـ (( الفيلا )) الفخمة والثوب الجميل...
ثم اعتدل في جلسته وتابع بنبرات حالمة:
- أريده يا أم عصام أن يصبح طبيباً كبيراً... يساعد الناس ويداوي أمراضهم ويخفف آلامهم، والطبيب يا امرأة... يملك اليوم مكانة إجتماعية مرموقة، ويشير الناس إليه بالبنان، لا سيما إذا كان ناجحاً مشهوراً...
ثم أردف وقد عادت إليه روح الدعابة من جديد:
- ثم لا تنسي يا عزيزتي أن مهنة الطب تدر المال الكثير، وبذلك يحقق لك حلمك فيشتري لك ((الفيلا)) التي تتوقين إليها.
لقد التقطت يومها عصاماً، فضمته إلى صدرها في حنان وقالت وهي تغرقه بالقبلا:
- بل يشتريها لزوجته التي لا بد وأنها ستختطفه مني في يوم من الأيام... ).
وانتبه عصام لشرود أمه، وطالع في وجهها ملامح الحزن والكآبة فأدرك ما تفكر به لأنه كان يعاني من الخواطر ذاتها، لذا فهو يشعر اليوم أن فرحته عرجاء، موشحة بالحزن، منداة بالدموع، لأنه لا يجد أباه بقربه، يشاركه بهجته، ويبارك فوزه الكبير...
ورأى أن من واجبه أن ينتشل أمه من دوامة الذكريات فقال لها مواسياً:
- أماه.. سوف تجدين مني كل ما يرضيك ويقر عينيك، وسوف أنسيك عما قريب كل أحزانك القديمةز
ثم ضمها إليه ليخفي عنها الدموع التي ترقرقت في عينيه أسفاً على أبيه الذي مات عنه وهو ما زال طفلاً، فنشأ يتيماً محروما من حنان الأب وعطفه، وإن كانت أمه قد عوَّضته عنه الكثير.
إنه يشعر أن أمه هي كل شئ في حياته.. إنها الواحة الخضراء التي يلجأ إليها من قيظ الأحزان ليجد عندها الراحة والسلوى والعطف والإهتمام.. إنها المعلم الملهم الذي يتلقى عنه مبادئ الحكمة ودروس الحياة...
لقد لعبت أمه دوراً كبيراً في تكوين شخصيته، فقد ربته على الأخلاق الفاضلة، وغرست في نفسه حب العمل والصبر على التعب، وعوَّدته على احترام الوقت والنظام، ونأت به عن الدلال والميوعة والانحلال ، فنشأ فتى رشيداً... قوي النفس والإرادة... علي الهمة ... طاهر الوجدان... يسعى نحو رجولة مبكرة تبشر بالكثير. لقد كانت أمه دائما وراء تفوقه ونجاحه، تحفه بالدعوات الضارعة، والكلمات المشجعة التي كانت تدفعه قدماً إلى الأمام:
(( - أماه أنت صاحبة الفضل الأول في نجاحي، وإليك سوف أهدي كل منجزاتي)).
قالت الأم وهي تطبع على جبينه قبلة حانية:
- بل هو تعبك واجتهادك يا ولدي ، وقد أثمر الآن...
(( - أدامك الله يا أمي ذخراً لي، ووفقني لإرضائك... )).
* * *
ودخل عصام الجامعة... فاستهوته علوم الطب التي طالما عشقها، واستغرقت وقته وتفكيره وصارت شغله الشاغل ثم بدأت طموحاته تنمو وتتبلور مع الأيام... إنه لا يرضى أن يكون مجرد طالب في كلية الطب، بل لا بد أن يكون الطالب الأول فيها بلا منازع. ثم إنه لن يكتفي بشهادة (( البكالوريوس ))، بل لا بد له من متابعة دراسته العليا في إحدى الاختصاصات الطبية حتى يحوز على أعلى الشهادات والألقاب العلمية.
لقد أزمع أن يسك طريق البحث العلمي حتى يصبح عالماً من علماء الطب البارعين الذين يتحدث العالم عن إنجازاتهم وأبحاثهم...
(( - إن علماء الغرب ليسوا بأذكى منا، فلماذا نحجم عن الغوص في ميادين البحث والإختراع؟.. لا بد أن نقتحم أسوار المجد مهما كانت شاهقة، وأن نقطع الطريق إلى قمته السامقة مهما أدمت أقدمنا الأشواك... )).
وكثيرا ما داعبت خيال عصام تسميات لنضريات أو مكتشفات علمية بأسماء عربية أو باسمه هو بالذات، يتداولها العالم بأسره ويدرسها طلاب الطب في الشرق والغرب ، ويعتمدها علماء الطب وباحثوه.
وعندما كان عصام يعود من رحلة أحلامه إلى دنيا الواقع، يتذكر أنه ما زال على سفوح المجد الذي يحلم به، وأن قمته المنشودة ما زالت بعيدة، وأن الطريق إليه ما زال طويلا...
(( - ما علينا ... إن الطريق مهما كان طويلا، فإنه يبدأ بخطوة.. ))
وقد خطا عصام خطوته الأولى بدخوله كلية الطب، وعما قريب سيحقق الخطوة الثانية، بتخرج متفوق باهر، وبعد ذلك سوف يغذ السير إلى غده الواعد ليحقق المزيد من طموحاته فيمتلك العلم والشهرة والمال، وعندها سوف يسعد أمه الحبيبة وينسيها أيام العذاب والحرمان، ويزرع حياتها بالمسرات والأفراح. وفي كل مرة كان يستيقط فيها عصام من أحلامه كانت تنبثق في أعماقه طاقة هائلة من العزم، فينهمك في دراسته في شغف وانسجام وإلى جانبه دفتر صغير اعتاد أن يدون عليه ملاحظاته وتساؤلاته ليطرحها على أساتذته، ويناقشهم فيها. إنه لا يحب أن تمر على ذهنه فكرة دون أن يسبر أغوارها، لذلك فهو يقرأ دائما السطور ..

وما وراء السطور..
* * *




الـفـصــل الثاني
- (( كلمة أخيرة إذا سمحتم...
السرطان – كما رأينا من خلال المحاضرة – مرض خطير جدا، يقلق الحياة البشرية ويهدد الكثير من أفرادها على اختلاف أعمارهم وأجناسهم، وعلينا أن نعترف جميعاً بأن الطب ما زال عاجزا أمام هذا المرض اللغز الذي يرهب الجميع)).
بهذه الكلمات ختم الدكتور ((إياد عزت)) محاضرته، ولملم أوراقه معلنا بذلك انتهاءها..
وسرت في المدرج ضجة خفيفة، أحدثها الطلبة وهم يغلقون دفاترهم ويجمعون أشياءهم استعداداً للخروج إلا أن صوتاً انبعث من الأمام، أعاد الجميع إلى هدوئهم وصمتهم، واشرأبت الأعناق للتعرف على صاحب الصوت : وهمس طالب يجلس في الخلف:
- إنه ((عصام السعيد)) يسأل...
فأجابه جاره ((صفوان)) وهو شاب اشتهر في الكلية بالعبث واللامبالاة:
- إذا كان عصام هو السائل فعلى الاستراحة السلام.
أعاد الدكتور إياد أوراقه على المنضدة، وقال وهو يذرع منصة الإلقاء بخطىً بطيئة:
(( - زميلكم عصام يسأل عن صحة ما تردد حول اكتشاف معالجات حاسمة للسرطان بالأشعة في الوقت الذي أقول فيه بأن الطب ما زال عاجزاً أمام هذا المرض...
في الحقيقة أيها الأبناء: إن العجز الذي أعنيه ليس بالعجز المطلق، فقد استطاع الطب في حالات قليلة القضاء على السرطان سواء بالمعالجات الشعاعية، أو بالإستئصال الجراحي، أو بالأدوية السامة القاتلة للخلايا السرطانية لكن العام الأهم في شفاء تلك الحالات كان الاكتشاف المبكر للسرطان، بيد أننا إذا أخذنا الحالات السرطانية التي تأخر اكتشافها – وهي الحالات الأكثر مشاهدة– نجد بأن السرطان، قد أنشب فيها مخالبة واندفع بين الخلايا السليمة فخربها، ونما وتطور بشكل سريع فأثر على الوضائف الطبيعية للأعضاء المجاورة، ومهما حاولنا إزالته بالجراحة أو الأشعة أو الدواء، فأنه يعود للإندفاع من جديد، وهذا ما نسميه ((بالسرطان الناكس)).
إن علاج ككل مرض في الطب يعتمد – في المقام الأول- على إزالة السبب الذي أدى إليه. ولما كان السبب الرئيسي المباشر لمرض السرطان ما زال مجهولاً، فإن كل محاولة لعلاجه ستبقى مهددة بالفشل، قاصرة عن إحداث الشفاء المطلوب، لذلك فإنه لا مفر من الاعتراف بأن الطب ما زال عاجزاً عن القضاء على السرطان)).
ثم قال الدكتور إياد وهو يتجه بحديثه إلى عصام:
- هل هذا يكفي يا عصام؟..
لم تشبع هذه الكلمات القليلة فضول عصام التواق للمعرفة، إلا أنه أشفق على زملائه أن يذهب حقهم في الراحة بسببه، فقال بلهجة مؤدبة:
-دكتور... أنا لا أريد أن أطيل على زملائي فهذه الاستراحة من حقهم، فهل لكم أن توجهونا إلى أحدث المراجع الطبية التي توسعت في أبحاث السرطان؟
أعجب الدكتور بلباقة عصام، وقال موجهاً كلامه للجميع:
(( - أنا أشكر عصاماً على اهتمامه العلمي الملفت للنظر، ومراعاته لشعور زملائه وظروفهم، لذلك فإني أترك المجال مفتوحاً لمن أراد الخروج، وسوف أبقى مع من أراد البقاء، وسمحت ظروفه بذلك، من أجل الإجابة عن جميع الأسئلة)).
ومضت فترة من الجلبة والضوضاء، أحدثها خروج عدد من الطلاب الذي ملوا من المحاضرة أو اظطروا للخروج، وآلمت عصاماً كلمات وصلت إلى سمعه وقد صدرت عن ((صفوان)) إذ كان يقول لإحداهن بسخرية واضحة:
(( - لا أشبعه الله أسئلة ومناقشات.. في نهاية كل محاضرة يفتح لنا ملف أسئلته التي لا تنتهي..)).
لكم ينزعج عصام من هذا الشاب المستهتر المغرور الذي يظن الجامعة نادياً للهو والمرح ومرتعا للميوعة والعبث.. إنه يكره فيه تلك الأنانية المفرطة التي تطغى على شخصيته وذلك الاستعلاء الفارغ الذي يطل من عينيه، وتحت مظهره ((الأرستقراطي)) الجذاب كان يملح عصام نفسية دنيئة لا يراها أولئك الذين أعمى بريق المال والثروة أبصارهم، فلم تقوً نظراتهم الكليلة على اختراق القشرة الخادعة إلى الداخل لتسبر الأعماق.
وانتبه عصام من شروده على الدكتور إياد وهو يقول بعد أن هدأ المدرج:
(( - قبل أن أوجهكم إلى الكتب الحديثة التي تتحدث عن السرطان أود أن أخبركم بأني سعيد جداً بهذه المناقشات العلمية التي يضطرنا إليها زميلكم عصام أحيانا، وأنا حقيقة متفائل جدا به وبأمثاله، وأتمنى من كل قلبي أن يكون شبابنا جميعاً بمثل هذا الاهتمام المشرف)).
وندت عن عصام كلمة شكر سريعة، فرد عليها الدكتور ثم أردف قائلاً ويداه تستندان على المنضدة ونظراته تتنقل بين الوجوه:
(( - الطب يا أعزائي ليس مجرد مهنة مرحبة ومركز اجتماعي رفيع... إنه قبل كل شئ رسالة إنسانسية حملناها من أجل سعادة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام...
يجب أن ندرس العلم أيها الأبناء حباً بالعلم وخدمة للإنسان، لا من أجل المادة والشهرة. أنا مؤمن بأن مجتمعنا يملك نخبة فذَّة من النوابغ الذين يؤمنون بالعلم من أجل العلم والإنسان، لكن هذه النخبة تحتاج لمن يكتشفها... لمن يرعاها ويوجه خطاها... لمن يزرع في داخلها الثقة بالنفس، ويوقد في أعماقها جذوة الطموح...)).
ثم بعد صمت قصير:
(( خذوا مثلا قضية السرطان التي كنا بصددها، إننا جميعا نتلهف لأن يجد الطب لها حلاً، وننتظر جميعا – حتى نحن المختصين في هذا المجال – أن يقدم لنا الغرب علاجاً حاسماً لهذا المرض، لكن أحدنا لم يفكر يوماً أن يكون هو المكتشف لذلك العلاج المنشود، أو أن يكون أحد المساهمين في اكتشافه. لماذا؟.. لأننا لا نثق بأنفسنا الثقة الكافية، ولا نملك الطموح إلى ذلك!!)).
وانتبه الدكتور إياد إلى عصام وقد رفع يده طالباً الإذن ليتكلم، فسمح له بإيماءة فقال:
(( - دكتور... بالإضافة لما تفضلتم به من ضرورة توفر الثقة بالنفس والطموح، لا بد أن تتوفر لدينا الإمكانات المادية، فنحن كما تعلم ينقصنا المال و((التكنولوجيا)) المتطورة والضروف المعيشية والاجتماعية التي تسمح للباحث أن يتفرغ لأبحاثه دون أن تستهلكه مشاكله وهمومه الخاصة... )).
علق الدكتور إياد مؤكداً كلامه:
(( - هذا حق... فالمشكلة المادية و((التكنولوجية)) قائمة فعلاً، لكنها ليست مستحيلة الحل. فمعاهد الأبحاث الدولية المهتمة بأبحاث السرطان، تفتح أبوابها لكل باحث بغض النظر عن لونه أو عرقه أو انتمائه، لأن مشكلة السرطان مشكلة إنسانية وليست مشكلة إقليلمة.. إنها تهم البشرية جمعاء)).
رفع ((سعد)) يده مستأذنا الاشتراك بالمناقشة، وهو طالب متفوق يُعرف في الكلية بحث النقاش الجاد والحوار الهادف، فأجابه الدكتور إياد إلى طلبه قائلا:
- تفضل يا ((سعد)).. يسرني أن تشاركنا النقاش...
قال سعاد بنرات قوية وهو يشير بيده إلى شئ ما:
- على الحكومات في بلادنا أن تتبنى المواهب العلمية، وتدعمها بلا حدود بغض النظر عن اتجاهاتها ومذاهبها، وعوضاً عن صف المبالغ الطائل من أجل ترفيه المواطن وتسليته، يجب أن يبذل الجزء الأكبر منها لبنائه وتطوير قدراته ومواهبة.
أكد الدكتور كلامه بلهجة أكثر قوةً وحزماً:
- الحكومات والهيئات العلمية والاجتماعية، والشخصيات المقتدرة الغنية.. كل أولئك يتوجب عليهم ذلك.
ثم ابتسم ابتسامة فيها شئ من الامتعاض، وقال بلهجة آسفة:
- خطأ كبير أن لا نأخذ من حضارة اليوم إلا القشور!!!..
هتف شاب اسمه ((عرفان)) وقد أنساه التفاعل مع النقاش نفسه فلم يطلب الإذن بالكلام:
- والحل؟؟؟...
أجاب الدكتور إياد، وقد تفهم سبب هذا التجاوز لقواعد النقاش التي يصر عليها دائما:
- الحل يا عرفان أن نحاول.. أن نبدأ، والطريق مهما طال يبدأ بخطوة. أنا لا أملك إلا الكلمات، وشئ آخر استطيعه...
وجم الجميع بانتظار ما سيقوله الدكتور إياد الذي تقدم من عصام ووضع يده على كتفه في ود وقال:
أنا مستعد لتقديم الدعم المادي والعلمي والأدبي لكل طالب يريد أن يشق طريق البحث الطبي لا سيما في أبحاث السرطان. عليه فقط أن يعلمني باستعداده لذلك، وأنا سأتصرف...
وضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وسرت فيه همسات الإعجاب والتقدير لهذه المبادرة السخية.
كانت كل العيون ترمق الدكتور إياد بحب وإكبار، لأنه يجسد مثالاً وضيئاً لرجال الأمة المؤهلين لصنع غدها المأمول، إلا عينين واسعتين لفتاة جميلة هي ((سامية)) ابنة الدكتور ((إياد)) إذ كانت ترقب عصاماً وقد فهمت مغزى هذه المبادرة التي أعلنها أبوها، فقد حدثها فيما مضى كثيراً عن إعجابه بهذا الشاب الذكي الطموح... أما عصام فقد أدرك من كلام الدكتور إياد ونظراته أنه يقصده بهذا التبني العلمي الكريم، فانفعلت نفسه لهذا الاهتمام ولمعت عيناه بدموع التأثر والوفاء..
لا يدري عصام لماذا تذكر في تلك اللحضات أباه؟!..
لعل الدكتور إياد استطاع أن يحتل في أعماقه مكان والده الراحل!!..
* * *


اتمنى تنبسطون .....




__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #7  
قديم 07-09-2010, 04:48 PM
 
رواية دموع على سفوح المجد

الفصل الرابع
الليل ساج.. والهدوء يرمي بثقله على كل شئ، لا يقطعه إلا حفيف أوراق الشجر اليابسة، تحركها نسائم الخريف التي بدأت تتسلل إلى غرفة عصام، وقد فتح نافذتها، ليطرد رائحة المواد الكيماوية التي تراكمت في جوها، والتي كان يستعملها في تلوين بعض المحضرات الطبية حتى يتمكن من تمييز معالمها التشريحية الدقيقة تحت المجهر.
وجذبته رائحة الخريف، فتقدم من النافذة وراح يتأمل منظر الحديقة الكئيب، وقد تعرت أشجارها إلا شجرة من الورد ظلّت محتفظة بخضرتها الزاهية تتيه ببضع براعم جميلة قد انتصبت في خيلاء تتحدى البرد والريح، وتعطر الجو بأريجها الطيب...
وأغراه قربها بقطف أحد براعمها، فتطاول بجسمه، ومدّه إلى أقصى ما يستطيع، فالتقطت أنامله ساق البرعم، فعالجه محاولا قطفه، فانفصل عن أمه بصعوبة، بعد أن أدمت إحدى أشواكه إبهامه الأيمن.
ارتد عصام إلى الخلف، وراح يستنشق راحة البرعم الزكية.. لكم يفتنه منظر الورد.. إنه يبعث في نفسه سعادة غامرة ويحرك في صدره أشواقاً لا يدري كنهها.. أحياناً يحس وكأن الوجود قد
طوي في يمينه، لكن هذه اللحظات الجميلة سرعان ما تتسرب من نفسه، لتلح عليه همومه الكبرى.
وندت عن الجرح ومضة ألم خفيفة، فنظر إلى قطرة الدم التي تجمدت على فوهته، وقد مرّ بخاطره شريط سريع تخيل فيه كل التفاعلات الحيوية التي حدثت داخل هذه القطرة الصغيرة من الدم حتى تخثرت لتشكل سدادة دموية تمنع استمرار النزيف.
- ((سبحان الله))...
قالها عصام وهو يتجه إلى صيدليته ليعالج جرحه الصغير، ثم مضى إلى الغرفة المجاورة فصب كأساً من الماء وغرس فيه ساق البرعم، ووضعه على منضدته، ثم استرخى على كرسيه وراح يتأمل برعم الورد الذي تألق مزهوا بين أكداس من الكتب والأوراق.
وبعد لحظات من التأمل تناول عصام كراسة أنيقة تضم محاضرات الدكتور إياد، ليراجع محاضرة اليوم قبل أن ينام. لقد كانت محاضرة ممتعة حقاً، وأمتع ما فيها كلام الدكتور الذي في نفسه ينابيع الطموح، وفتح أمامه آفاقاً جديدة بلور من خلالها تطلعاته إلى المستقبل. إن الاهتمام بمرض السرطان يسيطر عليه... هذا المرض اللغز الذي يتحدى فضوله، ويدفعه لمنازلته بكل ما
أوتي من علم وعزم وتصميم. لقد استقرت في فكره قناعة ثابتة بأن طريقه إلى مجده الذي يحلم به، لا بد أن يمر على أشلاء هذا المرض الفتّاك!.
إن كلمات الدكتور إياد لا تزال تدوي في أعماقه...
- ((حقاً لماذا لا يفكر شبابنا وأطباؤنا أن يشاركوا في صنع حضارة اليوم بدلاً من استيرادها من الشرق والغرب. صحيح أنه يجب علينا تقبل كل جديد مفيد، لأن المعرفة ليست مقيدة بجنس أو قوم أو مذهب ولأنها تراث إنساني لكل البشر، لكننا في الوقت نفسه يجب ألا نلغي عقولنا ونجمدها ليفكر لنا الآخرون..)).
إن عصاماً يشعر الآن بأن اكتشاف علاج هذا المرض العضال بات أمانة في عنقه حملته إياها البشرية بأكملها:
(( - آه.. المشهد المأساوي الباكي يتكرر كل يوم.. مريض مصاب بالسرطان.. والسرطان ينمو ويكبر.. الآلام تشتد، والحياة تذوي في جسد المريض المسكين رويداً رويداً.. أما أعين أهله وأحبائه وأطبائه الذين لا يملكون له أكثر من المهدئات والمسكنات، وكلمات التبرير والمواساة التي تنضح بالعجز عن الإنقاذ.. كلمة هذه لكم أكرهها على الرغم من أنها أوضح من كل الحقائق التي توصل إليها الطب الحديث لكنها أقسى الحقائق
على الإطلاق!.. يجب أن نحاول.. لا بد من المحاولة حتى تتم السيطرة على هذا الداء))...
وأفاق عصام من خواطره مستجيباً لشحنة من النشاط التي دبت في عروقه فراح يقرأ المحاضرة بإمعان..
وانتبه على طرق خفيف على الباب:
- أمّاه!.. أما زلت ساهرة بعد؟!..
ثم ابتسم لأمه، التي أطلت بوجهها السمح وسمتها الهادئ، وهي تحمل فنجان الشاي وقد تصاعد منه بخار كثيف استثار شهيته.
قال عصام وهو يتناول فنجانه:
- أماه أنت دائماً تزعجين نفسك من أجلي. شكراً لك يا أحلى أم في الدنيا.. ما أريد إلا راحتك ورضاك..
هتفت الأم وهي ترفع إلى السماء كفَّين ضارعين:
- الله يرضى عليك يا ابني عدد أوراق الشجر وحبات المطر...
- ما أحلاه من دعاء.. سترين مني إن شاء الله كل ما يسرك...
- إن سروري لا يتم إلا بسرورك، وشئ آخر ستكتمل به
فرحتي..
هتف عصام وكأنه يجيب على ((حزُّورة)) طريفة:
- لقد حزرت.. التخرُّج؟... أليس كذلك؟..
قالت الأم وهي تلملم الكتب التي كانت مبعثرة فوق السرير:
- لستَ بالذي يحلم بالتخرج يا بني، فهو شئ مضمون إن شاء الله وما هي الَّا أشهر حتى تدخل تزف إليَّ البشرى بتخرجك، لكن ما أقصده هو بنت الحلال، هل فهمت الآن؟..
(( بنت الحلال.. آه.. لقد وضعت يدك على الجرح يا ماما!!)).
بذلك حدّث عصام نفسه بعد أن هزت أمه بكلماته أدق وتر في وجدانه ليعزف لحن الحرمان، وقفز إلى خياله طيف ((سامية)) فاضطرب فؤاده.. لكم تشده هذه الفتاة إليها بجمالها الوادع وشخصيتها القوية، وهي فوق ذلك ابنة الأستاذ الذي يحبه ويحترمه، ولا بد أن البنت قد ورثت عن أبيها الكثير من طباعه وأخلاقه النبيلة، غير أن ((سامية)) كانت قد دخلت قلبه منذ زمن بعيد..
حدث ذلك حين سمع طرفاً من حديثها مع صديقتها ((منى))
بعد إحدى الجلسات، فبعد أن خرج الطلبة من الجلسة العملية، اضطر عصام للعودة، ليتفقد قلمه، فاسترعى انتباهه حديث يدور بين فتاتين ولم تكن كلتاهما قد شعرتا بدخوله لوجود حواجز من الزجاج الأبيض الشفاف تفصل بين المناضد التي تُجرى عليها التجارب. وبعد أن يئس عصام من العثور على قلمه الضاع همّ بالخروج إلاَّ أن طرافة الحديث استوقفته، فأصاخ السمح بانتباه شديد...
كانت سامية تقول لصديقتها ((منى)) في حزم أوحى له بقوة شخصيتها:
- منى.. هل تريدين رأيي؟.. إن صفوان هذا يخدعك.. إن يستغل براءتك وطيبة قلبك ليغرر بك.. إنه يلعب بعواطفك يا عزيزتي، وستجدين أن كلماته زيف وعواطفه سراب في صحراء من الغش والنفاق..
قالت ((منى)) تدافع عن ((صفوان)) الذي استحوذ على قلبها وعقلها:
- سامية.. إنّك تظلمينه بهذا الكلا..
- أبداً لست بالتي تظلم الآخرين.
- لكنك تبالغين...
- بل هي الحقيقة بمرارتها أضعها بين يديك ما أريد بها إلا النصيحة أبذلها لك كصديقة...
- لكني أحبه...
- وما قيمة الحب إذا لم يوجهه العقل ويكبح جماحه؟!...
- وأثق به...
- ما الذي أوحى لك بهذه الثقة؟!..
- كلماته... نظراته... كل شئ ... كل شئ...
قالت سامية وقد نفذ صبرها:
- منى؟ هل أنت إلى هذا الحد من السذاجة بحيث تثقين بشاب لا تعرفين عنه أكثر من اسمه ولون بدلته و ((موديل)) سيارته... هل تصدقين؟.. لقد سمعت عنه كل ما يعيب.. فكيف ترضين بالذهاب إلى ((شقة)) شاب تدور حول سلوكه الشبهات بحجة الدراسة والمذاكرة؟
أجابت ((منى)) متهربة:
- الجو في بيتنا لا يساعدني على الدراسة.
- تعالي فذاكري عندي.. سأفتح لك بيتي وقلبي..
- لكني وعدته..
- اعتذري له..
- سيؤلمه اعتذاري..
قالت سامية في ثقة وهي تضغط على مخارج الحروف:
- بل سيتضاهر بالتألم لاعتذارك إمعاناً في استدراجك.
- هذا رأيك..
- لقد جردك هذا الفتى من إرادتك!..
- أنا واثقة بنفسي.
- أنت واثقة بعواطفك وأهوائك.. أما نفسك فسوف تخونك تحت إغراء الخلوة حيث تستيقظ الغرائز ويعربد الشيطان..
- أنا أقوى من الشيطان..
قالت سامية وقد أحس عصام أنها تتأهب للفراق:
- أتمنى ذلك من كل قلبي، ولكني أخشى أن يهزأ بمشاعرك ويستغل عواطفك ليحقق عن طريقها مآرب مريضة تسئ لسمعتك وتهدد مستقبلك.. وثمة حقيقة أخرى أود أن ألفت انتباهك إليها..
سألت ((منى)) في فتور ساخر:
- وهي ؟..
- هي أن والده من الأغنياء أصحاب النفوذ في البلد، وسوف يخرج ابنه من أي ورطة كانت كما تخرج الشعرة من العجين إن لم يكن من أجل ابنه فمن أجل سمعته ومركزه. لقد حذرتك يا عزيزتي فاحترسي من عواطفك أن تقودك إلى ما لا تحمد عقباه.. والآن وداعا...
عندما خرجت سامية رآها عصام فطبعت صورتها في قلبه.. لقد أعجب بمنطقها الواعي، وأخلاقها الرفيعه، وحرصها على الآخرين، ولما رآها ازداد إعجابه بهذه الفتاة التي جمعت في شخصيتها الكثير من الصفات الرائعة العظيمة..
وألح عليه الفضول فسأل عنها –ولم يكن يعرفها آنذاك- فأجيب: (( أن هذه الفتاة تدعى ((سامية إياد عزت)) وهي ابنة الدكتور ((إياد عزت)) رئيس قسم ((التشريح المرضي)) في الكلية وعندما تعرف على الدكتور ((إياد)) من خلال محاضراته الشيقة وأحاديثه العميقة أعجب بشخصيته الفذة، ورأى فيه مثالاً يحتذى، فاندفع للاهتمام بسامية أكثر، والتفكير بها كزوجة وشريكة حياة.
إن حبه الطاهر ينمو ويكبر مع الأيام، لكنه يكتمه عن الآخرين لأنه يؤمن بأن المكان الطبيعي لهذه العاطفة الفطرية النبيلة لا يكون إلا في ظلال الزواج وهو لا يفكر بالإقدام على هذه الخطوة قبل التخرج، وتندّ عن القلب آهات فيخفيها عن أمه، وهي المسكينة التي قسم لها القدر من الهموم ما يكفيها منذ أن فجعت بزوجها الفقيد.
وأيقظ عصاماً من شروده صوت كتاب سقط على الأرض من بين مجموعة الكتب، كانت تحملها أمه لتعيدها إلى مكانها في المكتبة..
- أماه.. أرجوك لا تتعبي نفسك بترتيب المكتبة، بودي لو تنامين.
قالت الأم مازحة وهي ترمي ابنها بنظرات تصنعت فيها العتاب:
- هل مللت مني؟
هتف عصام وقد تملكه شعور بالذنب:
- معاذ الله.. ما أريد إلا راحتك، فأنت لا تفترين عن الحركة طوال النهار.
- هل سمعت بإنسان ينام وعيناه ساهرتان؟!.. أنت عيناي اللتان أبصر بهما فلا أستطيع النوم حتى أطمئن عليك، ولن أترك هذه العادى حتى أزفك إلى عروسك.
قال عصام وهو يستسلم أمام عناد أمه:
- من أجل عينيك يا ((ماما)) سأترك كل شئ بين يديّ لأنام.
- خذ راحتك يا بني، وأنهِ عملك كما تراه مناسباً ريثما أغسل بعض الأواني ثم أنام. تصبح على خير..
- وأنت من أهله.
عندما نام عصام كان طيف أمه وطيف سامية آخر ما ودع من أطياف الحياة.


* *
*



الفصل الخامس



عندما وصل عصام إلى مكتب الدكتور إياد في الطابق الثالث من مبنى كلية الطب، توقف لحظة ريثما تأكد من سلامة هندامه، ثم طرق الباب طرقاً خفيفاً، وقف ينتظر الإذن بالدخول..
وأطل من وراء الباب وجه جميل اضطرب له فؤاده، وأطاح بهدوئه فراحت الكلمات تتلعثم على شفتيه:
- ((صـ .. صباح الخير)).. الدكتور إياد موجود؟..
لم تكن سامية أكثر تماسكا، فقد احمرت وجنتاها، ورمشت عيناها، وقالت هي تغض طرفها في حياء:
- (( صباح النور )) .. لحضات ويأتي ...
- أعتقد أن لديه ساعة فراغ...
- هذا صحيح.. إنه على وشك الوصول.
- حسناً.. سأعود بعد دقائق.
واستدار عصام يريد أن يمضي لكنه رأى الدكتور إياد قادماً فتوقف بانتظاره.. ومضت لحضات قليلة ريثما وصل الدكتور إلى مكتبه قاطعاً الممر الطويل، فصافح عصاماً بحرارة ثم قال مرحباً وهو يجلس وراء مكتبه:
- أهلا بك يا بني.. خطوة عزيزة...
قال عصام وهو يتقدم بخطىً أثقلها الإحترام:
- أرجو أن يكون لديكَ متسع من الوقت للحديث..
- الوقت جدّ مناسب.. فلدي الآن ساعة من الفراغ.
- من حسن حظي أن لا أجد لديك مشاغل أخرى...
قال الدكتور إياد وهو يشير إلى عصام وسامية بالجلوس:
- ((في الحقيقة يا عصام المشاغل لا تنتهي.. فالواجبات أكثر من الأوقات كما يقولون، لكن هناك أولويات.. أريد أن أقول لك شيئاً: أنا ضد هذه الهوة التي تفصل بين الطالب والأستاذ في بلادنا، فالأستاذ - في رأيي – يجب أن يكون أكثر من مدرس لاختصاص ما.. يجب أن يكون أباً لطلابه، وصديقاً وتلميذاً في بعض الأحيان)).
رفع عصام حاجبيه دهشة، فسارع الدكتور إياد إلى تبديد دهشته:
- (( لا تستغرب كلامي.. هذا ليس تواضعاً، ولكنه حقيقة.. أنا مثلاً أخصائي في ((علم التشريح المرضي)) ولكنك –أنت أو غيرك- أعلم مني في مجالات أخرى خارج اختصاصي. وعليّ أن أتقبل منك معارفك بنفسيه التلميذ الذي يطلب العلم ويسعى إليه.. إننا –في الحقيقة- جميعاً تلاميذ نغرف من بحر المعرفة الزاخر الذي لا ينتهي، وسنظل عطشى مهما ابتغينا الإرتواء، ومهما أوغلنا فيه فسنجد أنفسنا ما زلنا على الشطآن..
ثم قال وهو يهز رأسه في أسف:
- يؤسفني أن لا يوجد في بلادنا ذلك التفاعل الاجتماعي والثقافي بين الطالب والأستاذ.. الجامعة يا عصام مؤسسة علمية وثقافية وسياسية في آن واحد.. مؤسسة خطيرة، لها دورها الكبير، وأثرها الفاعل في المجتمع.. وعن طريقها تتقدم الأمة ويقوم بناؤها الحضاري المنشود، لكنك في جامعاتنا تقرأ معالم تخلفنا البغيض. إننا لا ننظر إلى الجامعة أكثر من أنها مرحلة زمنية.. مرحلة ما بعد الشهادة الثانوية وما قبل العمل والاستقرار. للأسف الشديد نحن نشكون من عقد كثيرة تحبط كل محاولات النهوض، لا تؤاخذني يا بني إذا أطلت..
- أبداً.. أبداً.. بودّي لو أسمع المزيد...
- إنها همومنا اليومية التي لا مناص لنا من تداولها، والطب علّمنا أن العلاج الصحيح يجب أن يسبقه تشخيص دقيق، لذلك فأنا أحاول دائماً أن أشخص أمراضنا الإجتماعية. والآن ماذا وراءك يا عصام.. كنت أتوقع مجيئك.
أجاب عصام وهو يرنو إلى أستاذه بعينين تشعّان حباً وإعجاباً:
- أستاذ.. لا أدري ماذا أقول لك، ولا من أين أبدأ.. إنني في صراحة شديدة معجب بآرائك ومواقفك، وكلما استمعت إلى محاضراتك أو جلست إليك، تحركت في أعماقي طاقة هائلة من الهمة والتحفز والنشاط والطموح لا أعرف كيف أوجهها!.
لقد كانت محاضراتك الماضيةمحل تفكير عميق مني، وكان لمبادرتك الكريمة بتبني الطاقات العلمية أكبر الأثر في نفسي، وها أناذا أطلب أبوتك العلمية، راجيا منك أن تصنعني كما تريد، فإني نذرت نفسي للطب، وبالتحديد لمشكلة السرطان.
اهتز الدكتور إياد لكلمات عصام ورأى فيه بارقة أمل تبشر
بولادة فجر جديد.. فجر عظيم لطالما انتظره وحلم به..
- لو كان شبابنا كلهم من هذا الطراز، إذا لطوينا حياة التخلف والتمزق والانهيار التي نحياها، وحرقنا المراحل في طريقنا إلى المستقبل الذي نتطلق إليه واستعدنا مكانتنا المرموقة تحت الشمس، ولكن .. آه ...
فكر الدكتور إياد في هذا وقد شبك يديه تحت ذقنه وعيناه تسبحان في تأمل عميق...
أما عصام فقد كانت يده المبسوطة على المنضدة تعاني من اضطراب حركة أصابعها وكأنها تداري بذلك ارتباكه بينما راحت اليد الثانية تشد على حافة الكرسي الجلدية، وقد رطبتها بالعرق من فرط الإنفعال.
وكانت سامية تتأمل هذا المنظر المؤثر بإكبار، وترمق عصاماً بإعجاب.. هذا هو الشاب الذي تحلم به.. هذا هو فارس أحلامها المنشود.. لقد تهاوت أمامه الآن أسوار الحيرة والتردد التي كانت قائمة في قلبها إزاءه ليقتحمه فيحتله إلى الأبد...
قال الدكتور إياد بنبرات قوية معبرة بعد أن مضت لحضات من الصمت الحافل بالانفعال:
- اسمع يا بني.. قد لا أتقن صناعة الرجال، لكنّي أملك أن أضع قدميك على أول الطريق، وأوجه خطاك نحو القمة ..
سأعطيك أول الخيط، وسأدعمك بكل ما أستطيع لتصنع نفسك بنفسك.. بالعزيمة والتصميم.. بالصبر والتعب.. بالعمل المضني الدؤوب...
ثم بعد صمت قصير:
- هل لي أن أعرف نبذة عن وضعك الاجتماعي؟.. إذا سمحت طبعا؟..
أجاب عصام وقد فاجأه السؤال:
- بكل سرور، ولكن اسمح لي أن أوضح لك بأنني إنما أريد الدعم العلمي والأدبي فحسب، أما المادة فهي متوفرة والحمدلله...
قال الدكتور إياد وهو يحرك يده حركة من يطلب التريث:
- لحظة من فضلك.. لنكن صرحاء.. إن الطريق الذي سوف تسلكه طريق صعب طويل يحتاج لكل شئ. ونحن جميعاً إنما نعمل لغاية عظيمة تتطلب منّا أن نتجاوز الكثير من اعتباراتنا الشخصية حتى نحققها على الوجه المطلوب. وأنا عندما سألتك عن وضعك الاجتماعي لم أقصد الوضع المادي فحسب، بل طلبت بصورة عامة تشمل كل شئ في حياتك الاجتماعية يمكنك أن تصارحني به. لننسَ أنني أستاذك في الجامعة... اعتبرني بمثابة والدك إذا سمحت؟
وشعرت سامية بأن وجودها قد يربكه فنهضت وقالت:
- ((بابا)) هل تسمح لي بالإنصراف؟
لكن عصاماً قال بلهجة دلت على تمسكه ببقائها:
- لعلك تريدين الإنصراف لأجلي.. أرجو أن تجلسي إن كان الأمر كذلك..
استسلمت سامية لإرادة عصام وقد نفذت كلماته إلى أعماقها، ففهمت مراده بحاسة الأنثى.. إنه يريدها بقربه.. يريدها أن تسمع كلامه... أن تعرف عنه كل شئ.. وجلست دون أن تنبس، وعلى شفتيها ابتسامة امتنان.
قال الدكتور إياد:
- اجلسي يا سامية.. إن عصاماً لديه من الجرأة الأدبية ما يجعله يقول ما يريد دون حرج. لقد سبرت أغواره منذ زمن.
قال عصام:
- أشكرك على هذه الثقة. في الحقيقة أنا أعيش وحيداً مع والدتي في بيت نملكه ... مات أبي منذ فترة طويلة.. كان تاجراً ميسوراً، وقد ترك لنا بعض الأموال والعقارات التي ما زلنا نعيش منها حتى الآن، دون أن نحتاج أحداً.. لي أخت متزوجة وهي تقيم مع زوجها الذي يعمل في السعودية.. ولي أيضاً عم مغترب في الأرجنتين منذ زمن بعيد.. هذا كل شئ..
وقف الدكتور إياد، وراح يذرع المكتب جيئة وذهاباً، وهو غارق في التفكير، أما سامية فقد فهمت الآن مصدر الحزن الصامت الذي يوشح دائماً وجه عصام ويطل من نظراته.. لقد عانى بلا شك من
الحرمان إلى حنان أبيه، وتفتح وعيه على مأساة باكية تسربت كآبتها إلى طبعه وترسبت في وجدانه. وراحت تسترق إليه نظرات تنطق بالرثاء...
توقف الدكتور إياد فجأة وقال:
- دعنا نشرح الأمر كما يلي..
لديك منهاجك الدراسي الواسع، لا سيما وأنت الآن على أبواب التخرج، ولديك اهتمامك بالخاص بأبحاث السرطان، والذي يتطلب منك رؤية الحالات السرطانية المختلفة، ودراسة تشريحها المرضي، وملاحقة كل جديد يصدر في المجلات الطبية حول هذا المرض. وهذا يتطلب منك أن تكون قريبا من عيادتي ومختبر أبحاتي لأطلعك باستمرار على الحالات التي تأتيني. وبذلك تتعمق خبرتك بهذا المرض، فإذا ما ذهبت للإختصاص برعت فيه. وتفوقت على زملائك ونلت أعلى الشهادات وحزت على إعجاب أساتذتك وتقديرهم.. بالمناسبة أنا أعرف عدداً من العلماء المهتمين بأبحاث السرطان في أمريكا بصفتي زميلاً في (( الجمعية الأمريكية للسرطان)) بما فيهم الدكتور ((فرانكلين جاكسون)) رئيس الجمعية وأنا على صلة مستمرة به، حيث نتبادل الآراء حول آخر ما يجدُّ من أبحاث ونظريات ومعالجات لهذا المرض، وسوف أحدثه عن طموحك، وأطلب منه أن يتدخل من أجل قبولك في إحدى الجامعات الأمريكية، وهو لن يتأخر، لاسيما عندما يرى وثيقة درجاتك المشرفة والتي ستتوجها هذا العام بتخرج متفوق إن شاء الله.. بالمناسبة.. حاول أن تحضر لي صورة وثائق تخرجك بمجرد صدورها حتى أتمكن من إرسالها إلى أمريكا في أقرب وقت..
- قال عصام والفرحة تغمره:
- دكتور.. لا أدري كيف أشكرك على هذا الاهتمام.. إن اندفاعي للتعاون معك يزداد يوماً بعد يوم!.
قال الدكتور إياد وهو يرمق عصاماً في عتاب:
- إنما أقوم بواجبي يا بني، أم أن الواجب أمسى في نظرك تطوعاً نبيلاً يستوجب الشكر والثناء؟
قال عصام وهو يداري ارتباكه أمام عتاب أستاذه الرفيق:
- إذا لم يشكرك لساني فيشكرك قلبي.. إن لم يكن لأنك تقوم بواجبك فلأنك تعلمني ما هو الواجب.
ابتسمت سامية لهذا الرّد اللبق بينما سأله الدكتور إياد:
- كيف لغتك الإنكليزية؟
- جيدة والحمدلله.. إنني أقرأ المراجع المكتوبة بالإنجليزية بطلاقة.
- حسن جداً.. فلتكثر من ذلك حتى توفر على نفسك سنة اللغة التي يحتاجها الطلبة عادة لتقوية لغتهم وهذه مكتبتي تحت تصرفك لك أن تستعير منها المرجع الذي تريد.
- شكرا لك، ولكن.. كيف سنتعاون؟.. أقصد كيف سيكون برنامجنا معاً؟..
قطّب الدكتور إياد وجهه مفكراً ثم همس بنبرة حائرة/
- في الحقيقة هذا ما أفكر فيه..
- أنا مستعد للتوفيق بين دراستي وتعاوني معك مهما كانت أعباؤه، وما هي إلا أشهر وتمضي.. سأتحمل تبعها وأمري إلى الله.
قال الدكتور إياد في حماس وقد أضاء وجهه بابتسـامة مشرقة:
- في الحقيقة لديّ فكرة.. فكرة علمية جداً.. تحلّ لنا الكثير من المشاكل وتوفر لنا المزيد من الوقت مما يساعدك على إنجاز مشروعك بنجاح.. لكنها فكرة غريبة بعض الشئ وقد تتشنج إزاءها!...
- أقبلها مهما كانت.
- لا تتسرع... اسمعها ثم اعطني رأيك بصراحة.. لعلك لا تعلم أني أملك عمارة كبيرة مؤلفة من ثلاثة طوابق وكل طابق مؤلف من شقتين، خصصت الطابق الأرضي للعيادة والمختبر، وأشغل أنا وأسرتي الطابق الثاني بشقتيه، بينما الطابق الثالث فارغ، ولا أنوي استعماله أو تأجيره حالياً، فما رأيك لو انتقلت أنت والوالدة إلى إحدى الشقتين الخاليتين، وبذلك نستطيع تنسيق أوقاتنا بما يناسب ظروفك ويحقق طموحك.. فما رأيك؟
استغرب عصام لهذا العرض، وأدهشه هذا التحمس من الدكتور إياد، واهتزت نفسه لهذه الأريحية، فأطل التردد من عينيه، وقال:
- لقد فاجأتني بهذا العرض، ولا أدري ماذا أقول؟
- ألم أقل لك لا تتسرع بالجواب.. فكر بالموضوع مع الوالدة.
- بالنسبة لي لا توجد مشكلة، فأنا مستعد لكل ما يخدم مشروعنا، ولكن الوالدة قد تمانع في ذلك، كما أنني أريد أن أعرف طريقة السكن عندك. هل هو سكن بالأجرة؟.. أم أنك ستبيعنا البيت؟.. ثم لا بد من دراسة ظروفنا المادية على أساس هذه الطريقة!..
قال الدكتور إياد وهو يبتسم في هدوء:
- سامحك الله يا بني.. اعتبرها ضيافة، أم أنك لا ترغب في جواري؟
- معاذ الله، ولكن الوالدة حساسة جداً في مثل هذه القضايا.. إنني أعرفها جيداً.
أرسل الدكتور إياد تنهيدةً وقال:
- بالنسبة للقضايا المادية سنسويها كما ترتاح أنت ووالدتك، أم بالنسبة لموقف والدتك، فمهما كان صعباً فلن يصعب على ابنها الغالي.. أنا أب يا عصام وزوجتي أم، وأعرف ضعف الأم أمام رغبات أبنائها، لا سيما أمثالك.. هذه سامية أمامك، اسألها كيف تقنع أمها بما لا تريد...
ابتسمت سامية ولاذت بالصمت، بينما قال عصام:
- أعدك بأني سأدرس معها الفكرة، وأحاول إقناعها..
- وإن لم تقتنع فسأتدخل شخصياً لتحقيق ذلك. والآن أرجو أن تسمح لي فقد اقترب وقت المحاضرة ولا بد من التحضير لها.
قالت سامية وهي تهم بالنهوض/
- أترى يا عصام إن والدي يهتم بك أكثر من اهتمامه بابنته.
تساءل عصام متجاوبا مع دعابتها:
- لعلها الغيرة؟!.
- بل هي الغبطة با بني.
هكذا قال الدكتور إياد وهو يضحك ضحكته المميزة، وقد أضمر في نفسه شيئاً!.
* * *


انتها الفصل الخامس ....
واتمنى تستمتعون ....





بدي ردودكم

__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق

التعديل الأخير تم بواسطة فراشة مضيئة ; 07-09-2010 الساعة 04:53 PM سبب آخر: اكمال الفصل و تحسين العنوان
  #8  
قديم 07-09-2010, 04:56 PM
 
الفصل السادس
إن فرحة عصام اليوم بلا حدود.. فها هي الأقدار تبتسم له وتدفعه إلى آماله دفعاً.. إنه يحس الآن بالحياة من حوله حلوة نضرة لأنه صاحب هدف كبير بات يعرف الطريق إليه...
وكلما تذكر وعد الدكتور إياد له بتأمين قبوله في أمريكا، وفي الفرع الذي يصبو إليه، غمرته السعادة، وتملَّكله السرور، وطغى عليه الإبتسام...
وفي غمرة الأحاسيس المتدفقة بالبهجة والفرح كان طيف سامية لا يفارقه.. فقد أضحت روحه التي يحيا بها، وقلبه الذي يخفق بين جوانحه.. لقد شعر اليوم أنها قريبة منه أكثر من أي وقت مضى، وفهم من كلماتها ونظراتها ومشاعرها نحوه، وتأكد من ميلها إليه.
ولاح إليه المنزل من بعيد فأوسع الخطوَ إليه.. يحدوه الشوق لأن يبث أفراحه الجديدة إلى أمه الحنون.. ووصل إلى البيت فقرع الجرس كعادته ليشعر أمه بقدومه، ثم أدار المفتاح في القفل ودلف إلى الداخل وهو ينادي في لهفةٍ عارمة:
-((ماما)) .. ((ماما)).. أين أنت يا ((ماما))؟
وأجابه صوت عميق من وراء الجدران:
- أنا هنا في المطبخ.. ماذا هناك؟..
ألقى عصام كتبه على طاولة الصالون، واتجه إلى المطبخ في خفة ومرح، وما إن رآها حتى هتف:
- ((ماما)).. أنا فرحان.. أنا سعيد.. لو تعلمين كم أنا سعيد...
تساءلت الأم في دهشة وابتسام:
- أسعد الله أيامك كلها، ولكن أخبرني ما الذي حدث؟
- ماذا أخبرك يا أماه؟.. عما قريب ستتحقق كل أحلامي وآمالي. إن الأفراح تأتي على ما يبدو دفعة واحدة.
- ما الذي تتحدث عنه بالله عليك؟.. أشركني في فرحتك؟
- أماه... أنا جائع... جائع جداً.. أريد أن آكل.. أن أستمتع بطعامك الطيب اللذيد.. على فكرة.. ماذا طبخت لنا اليوم؟
- أكلة لذيذة ستأكل أصابعك بعدها.. إنَّها ملفوف ورق العنب التي تحبها جداً.
- ((ممم)).. شئ لذيذ حقاً.. هيا نحضر الطعام معاً، ثم أقص عليك ما جرى..
كانت الأم تسكب الطعام في الصحاف في خفة وسرور مبعثه هذا التغير الطارئ الذي بدا فيه ابنها فرحاً سعيداً بينما كان عصام ينقل تلك الصحائف إلى طاولة الطعام في همة ونشاط. وما هي إلا دقائق قليلة حتى التأم شملهما حول المائدة وشرعا في تناول الغداء...
قال عصام وهو يلتهم إصبعاً من أصابع الملفوف الطازج:
- أماه.. تعرفين مدى حبي للطب، وطموحي للإختصاص في أحد فروعه، وبالتحديد مرض السرطان...
صاحت الأم في فزع وقد تقلصت ملامحها:
- أعوذ بالله... لعنه الله ولعن سيرته!!!.
ضحك عصام وقال:
- ((ماما)).. السرطان لا يذهب باللعنات، ولو كان الأمر كذلك لنذرت عمري في لعنه.. لا بد من العمل.. من البحث والتجريب.. إنه داء فتاك يحير العلماء.. ويحتاج لمن يسبر أسراره ويكتشف علاجه الشافي.
- لعنه الله ألف مرة.. واللّه كلما ذكر اسمه المشؤوم أمامي شعرت بالقشعريرة تسري في جسدي.
قال عصام وهو يتحول إلى الجد:
- لعنه الله مليون مرة.. المهم في الحديث أنّ الدكتور إياد.. لقد حدثتك عنه مراراً...
- أجل أذكره، إنك تحبه كثيرا على ما يبدو...
- هذا صحيح.. إنّه إنسان نادر.. تصوري أنه تطوع لدعم أي طالب يريد أن يختص في هذا المرض ويتعمق في أبحاثه، فما كان مني إلا أن ذهبت إليه اليوم، وقلت له أنني أتطلع للإختصاص في هذا المجال وأنني مندفع جداً لهذا الأمر فتجاوب معي إلى أبعد الحدود، ووعدني أن يرمن لي القبول في إحدى جامعات أمريكا.. إنه على صداقة حميمة برئيس الجمعية الأمريكية للسرطان ووعدني أن يحدثه عن تفوقي وطموحي.
توقفت الأم عن الأكل ثم قالت والهمّ يلوح في نظراتها:
- فكرة السفر هذه كم أكرهها!.. ألا يكفيك أن تتخرج وتفتح لك عيادة جيدة في مكان مرموق؟.. اسمع مني يا بني.. سوف أبيع قطعة من أرضنا التي في الريف وأفتح لك أفضل عيادة في البلد، وأحدثَها.
- قال عصام وهو يصب كأساً من الماء:
- سامحك الله يا أمي!. هذا الكلام كان على أيامكم، أما اليوم فإن الطبّ بلا اختصاص لم يعد عليه ذلك الإقبال، لأن علومه توسعت كثيراً، والإختصاص يؤمن للطبيب خبرة عالية وشهرة فائقة ودخل ممتاز.. ثم إنني أطمح إلى أكثر من العيادة والشهرة والمال.. أتمنى لو أصبح عالماً في الطب يا أماه، أم أنك لا تريدين لابنك أن يصبح عالماً مشهوراً؟
قالت الأم وهي تشير إلى نفسها متسائلة:
- أنا؟.. إنني أتمنى أن تصبح أفضل طبيب في الدنيا، ولكني أكره أن تبتعد عني.
- ولماذا أبتعد عنك؟ سآخذك معي..
- إلى أمريكا؟!..
- وإلى آخر الدنيا...
ضحكت الأم وقالت وهي تلملم حبات من الرز كانت منثورة على المائدة:
- لا أدري ماذا أفعل بلسانك.. دائماً تغلبني بمنطقك الجميل.
- كلامك يشجعني لأن أطرح عليك فكرة جديدة اقترحها عليَّ الدكتور إياد.
- ما هي هذه الفكرة؟
- انتهى عصام من طعامه فحمد الله، ثم قال:
- إن تعاوني مع الدكتور إياد سيشغل جزءاً كبيرا جداً من وقتي، فبالإضافة إلى الوقت الذي يستهلكه مني التحضير لامتحانات التخرج، سأضطر إلى ملازمة الدكتور إياد في عيادته لمشاهدة حالات السرطان المختلفة والتمرس في طرق تشخصيها وعلاجها، عدا الوقت الذي سأقضيه في مطالعة المراجع الأجنبية والمجلات الطبية، ولا تنسي الدوام في الكلية...
وكيف ستوفق بين كل هذه الأمور؟ على هذا لن تجد وقتاً حتى لتأكل؟!.
لا تخافي عليّ يا أماه،سأنظم وقتي تنظيماً دقيقاً، واقتراح الدكتور إياد سوف يساعدني كثيراً، فقد عرض عليّ بعد أن حدثته عن أوضاعنا وحياتنا الخاصة أن أنتقل أنا وأنت لنقيم في شقة ضمن عمارته التي تضم منزله وعيادته، وذلك حتى يتسنى لنا استغلال الوقت وتنظيمه بما يناسب ظروفي وظروفه ويحقق طموحي في أفضل صورة ممكنة.
- ضربت الأم صدرها في جزع وهتفت كالملسوعة:
- ماذا؟.. نترك بيتنا؟!.. نترك هذا البيت العامر بالذكريات؟؟!...
ثم أردفت وقد تهدج صوتها ولمعت عيناها بالدموع:
- أنترك البيت الذي عشت فيه أحلى ايام عمري مع أبيك؟.. أأنرك الحديقة التي غرس أشجارها بيديه الطاهرتين؟...
إنه ليصعب عليّ أن أفارق هذا البيت العزيز على نفسي فلا تحرجني يا بني.. بالله عليك؟
خفق قلب عصام إكباراً لهذا الوفاء وقال وقد أحسّ بغصة في حلقة:
- لم أكن أتصور أنك تتعلقين بهذا البيت إلى هذا الحد!.
ثم قال بعد أن مالت نفسه إلى الهدوء:
- أماه.. إنني أكنّ في نفسي المشاعر ذاتها، ولكن يجب أن لا تكبلنا الذكريات فالحياة تمضي بسرعة عجيبة، وإن لم نواكب حركتها ركلتنا إلى عالم النسيان.
- فلتواكبها في هذا البيت وتريحني.
- لكن الدكتور إياد مصر على الفكرة، وإذا لم توافقي فسيتدخل بنفسه ليرجوك أن تسمحي بذلك.. هكذا قال لي فلا تحرجيني معه.
قالت الأم وقد حارت في أمرها:
- لقد أوقعني في حيرة شديدة، فلست بقادرة على ترك البيت ، ولا أرضى أن أكون عقبة في طريق مستقبلك، ثم لا يمكن أن أسكن في بيت دون أن يكون ملكي أو أدفع أجره ، هذا أمر لا أتنازل عنه بحال ...
- لقد وضحت للدكتور إياد ووعدني بتسوية الأمور المادية بما يناسب الضروف، المهم عندي أن تقتنعي بأن هذا الحال سيساعدني على تحقيق المستقبل الذي أبغيه... أرجوك...
قالت الأم وقد بدأت تستسلم لإرادته:
- أنت الرجل هنا فقرر ما شئت...
- ما كنت لأقرر أمراً ما لم يكن ممهوراً برضائك، وإذا كنت أنا الرجل في هذا البيت فأنت أمه الغالية التي لن أخالف لها في النهاية أمراً أو رغبة.
- الله يرضى عليك...
- هذه الكلمة تسحرني ... هه، ماذا قلت؟
- ماذا أقول؟.. لقد حاصرتني بأسلوبك العذب الجميل... مثل كلمة مرة.
- ما ذنبي إذا كنت تملكين قلباً كبيراً يتسع لكل مشاكلي، ويستجيب لكل رغباتي... هل أفهم أنك موافقة؟
قالت الأم وقد أسقط في يدها:
- موافقة، ولكن... ماذا سنفعل بهذا البيت؟
- فكّر عصام ملياً ثم قال:
- سنتركه إلى حين.. ثم نعود إليه ما دام يهمك إلى هذا الحد. أماه.. لن أحرمك من موطن ذكرياتك الغالية.. أعدك بأنني سوف أستقر معك بعد أن أعود من دراستي في الخارج وسترين فيه أحفادك الذين سيملؤونه عليك أنساً وسعادة...
ضحكت الأم وقالت:
- على رسلك يا عصام.. لا تسرف يا بني في الوعود، فلا تعرف ماذا سيحمل لنا الغد. المهم أني واثقة بتصرفاتك ورجاحة عقلك، فافعل ما بدا لك.. الآن، وفي المستقبل.
- سأكون عند حسن ظنك بي.. إن شاء الله.
- إن شاء الله.. سأحضر الشاي..
* * *
استرخى عصام على كرسيه بانتظار الشاي. بيد أن ذكرى والده حطت فجأة في ساحة خواطره فعصفت بكل سعادته:
- (( رحمك الله يا والدي.. ماذا لو كنت معنا الآن؟..
كنت أود لو رافقتني في رحلة الحياة، لأنعم بقربك الحبيب وأستظل بعطفك وحنانك.. أستمد منك التشجيع.. وأستلهم من تجاربك الثرية خطواتي إلى المستقبل... ))
وانتبه عصام على خطوات أمه حين عادت، فأرسل ابتسامة عريضة أخفى تحتها ملامح الحزن التي كانت تغضن وجهه ثم قال وهو يتناول فنجانه:
- أماه.. هناك.. هناك سرّ أود أن أبوح به إليك.
- سر؟!.. عساه خيراً...
قال عصام بنبرة هامسة:
- لقد وجدتها.
- من ؟
- بنت الحلال...
هتفت الأم في لهفة:
- بنت الحلال؟.. أصحيح ما تقول؟ لعلك تمزح!.
ثم تابعت وهي تجلس قربه في فرح عارم:
- قل لي من هي؟ خبرني بالله عليك.. ما أوصافها؟ وكيف تعرفت عليها؟ من هم أهلها؟ هل هي جميلة؟؟ ما لك صامت لا تتكلم؟!...
ضحك عصام من أعماقه واستغرق في الضحك حتى دب الألم في خاصرته بينما تابعت الأم في توسل باسم:
- هيا خبرني أرجوك، فقلبي يشتاق إلى هذه اللحظة منذ أمد بعيد.
قال عصام وهو يحاول أن يتمالك نفسه:
- رويدك يا أماه... رويدك..
- هيا تكلم؟ فأنا في لهفة لمعرفتها، هيا ...
- لقد أغرقتني بأسئلتك، فلم أعد أدري على أيها أجيب، ولكنّ الأهم من كل ذلك أنها دخلت قلبي منذ زمن، فارتاحت لها نفسي، واقتنعت بها شريكة حياتي.
لكزته الأم في صدره وهمست في عتاب:
- أيها الماكر!.. منذ متى تكتم أسرارك عني؟! يبدو أن بنت الحلال هذه قد خطفتك مني دون أن أشعر.
- ((ماما أنت الأصل)).. ((أنت الكل بالكل)).. تأكدي أن قلبي يتسع لكما معاً دون أن تزاحم إحداكن الأخرى.. بل إن لك فيه المكانة الأكبر والأقدس...
- كل الشباب يقولون هذا قبل الزواج، ثم لا يلبثون أن يتغيروا!.
- إلا أنا.. صدقيني يا أماه...
- لنرَ.. والآن حدثني عنها لأختبر ذوقك؟
- إنها سامية بنت الدكتور إياد.
- بنت الدكتور إياد!!.. الآن فهمت سر هذا الحب الذي تكنه لهذا الدكتور، وسر ذلك الشرود الذي يغشاك بعد أن تحدثني عنه.. يا لسذاجتي وغبائي!!... كيف لم أفطن لهذا؟!..
ابتسم عصام ولم ينبس فألحت الأم من جديد:
- لم تصفها لي بعد؟...
- أهم صفاتها أخلاقها... حشمتها... تربيتها... وعيها...
- أريد شكلها.. كيف شكلها؟
- إنها بيضاء البشرة.. شقراء الشعر.. هيفاء القد.. متناسقطة التقاطيع.. عيناها عسليتان واسعتان تطل منهما براءة وادعة كبراءة الأطفال، وفي وجهها الأبيض المورد صفاء ساحر يأسر القلوب، لكن هدوءها الوادع يا أمّاه أجمل ما فيها.. لكأنها ملاك في صورة أنثى من البشر!..
ابتسمت الأم وهي تصغي لابنها يتحدث بلغة العاشقين فقالت تستفزّه:
- لقد علمت منك ذات مرّة أنها في صفك بالكلية.. هذا يعني أنها في مثل سنّك.. إنها كبيرة بالنسبة لك يا بني، فالنساء يهرمن قبل الرجال...
هتف عصام محتجاً:
- ((ماما)).. إنك تطلبين الكمال، الفتاة تعجبني وأنا مرتاح إليها كل الإرتياح، وسوف تشاركيني رأيي عندما ترينها!..
ضحكت الأم وقالت وهي ترنو إليه في حنان:
- إنك تدافع عنها بحماس!..
ثم تابعت في مرح وهي تربت على كتفه في ود رفيق:
- لا عليك يا بني... الأمهات كلهن هكذا... يردن لأبنائهن أجمل الفتيات وأكملهن، هل أخطبها لك؟
- ليس الآن.. انتظري حتى أسوي أموري مع الدكتور إياد.
- إذن لتسوها بسرعة، حتى أمسي قريبة من ((كنتي)).
رفع عصام حاجبية في دهشة وقال:
- لو كنت أعلم أن موضوع الخطبة يستولي على اهتمامك بهذا القدر لكنت حدثتك به قبل أن أطرح عليك اقتراح الدكتور إياد، ولوفرت على نفسي عناء إقناعك به.
ضحكت الأم قليلاً، ثم ما لبثت أن مالت إلى الهدواء وقد اجتاحها حزن جارف بعد أن حرك موضوع زواج عصام جذور ذاكرتها، ونكأ جرحا قديماً يأبى أن يندمل فأرسلت تنهيدة عميقة وشت بما يعتمل في أغوارها وقالت في هدوء حزين:
- (( كنت أتمنى لو كان أبوك ما زال على قيد الحياة.. إذن لكانت فرحتي بلا حدود...)).
أحس عصام بما تكابده أمه من أحاسيس الحسرة والمرارة فاقترب منها مواسياً وطبع على جبينها قبلة حانية، ثم همس بنبرات متوسلة:
- ((ماما)).. أرجوك ألاّ تسرفي في تذكر الماضي... إنك ترهقين نفسك بالأحزان.. ابتسمي.. ابتسمي أرجوك...
رفعت الأم إلى ابنها نظرات مثقلة بالهم والأسى، وقد بانت في عينها كآبة عميقة. حاولت أن تبتسم، لكنها راحت في بكاء شديد...
* * *
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #9  
قديم 07-09-2010, 04:58 PM
 
بكرة بكمل الرواية بوعدكم ما أتأخر
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق
  #10  
قديم 07-09-2010, 05:16 PM
 
انا قرات القصة قبل هيك وهي كتيير حلوة وبتحززززن
انا بشجعك تكمليها للاعضاء الي ما قرؤها
تقبلي مروري
:88::88:
__________________



شكرا يا صديقتي "Ṡĸỷ Ṡṫάṙ »● " العزيزة
على هذا الاهداء الذي سوف يبقى معي الى ما شاء الله^^




 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 05:45 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011