أخي كمثال - عيون العرب

**ŖανëŇ** · #1 08-23-2010, 10:39 AM

مراجعة كتاب

يوميات، بضع رسائل من الجبهة، مشط، أنبوبة معجون للأسنان، علبة تبغ صغيرة والصليب الحديدي - هذا كل ما كان في متناول اوفا تيم عن أخيه كارل هاينز الذي يكبره بست عشرة سنة. هذه الأشياء البسيطة تشكل نقطة الإنطلاق للكاتب الناجح والقاص الشغوف بعمله تيم للتوثيق عن أخيه الفقيد.

تطوع شقيق تيم في كانون الأول 1942 في سرب الحماية – توتنكوبف Totenkopfdivision. شارك في الهجوم الألماني قرب كورسك في اوكرانيا و بعد أن قطعت ساقاه، مات هناك في تشرين الأول 1943 وهو في سن التاسعة عشرة. يروي تيم في آخر كتاب له "أخي كمثال" عن حياة أخيه القصيرة وعن بقائه حياً في ذاكرة أسرته لفترة طويلة، إنه يتساءل عن دوافع الأخ للتطوع في هذه الوحدة الخاصة للنازيين وعن القيم والبنى العائلية التي إن لم تكن قد شجعت هذه الخطوة فإنها قد جعلتها ممكنة.

يتعقب تيم بهذا، متخذا أخاه مثلاً، أسئلة أصبحت منذ الحرب العالمية الثانية محورية بالنسبة لأسر ألمانية عديدة، وإن كانت هذه الأسر إما قد أحاطت ماضيها بالصمت المطبق أو - وهذا ما يكشف عنه تيم وهو محق في اعتباره استراتيجية مضادة - أخذت في اجترار أحداث الماضي التي لا يتسنى للعقل إدراكها وفي ترديد كيف أن أفراد العائلة قد تورطوا في تلك الأعمال وهو ما"يهون من هول أحداث الماضي شيئاًً فشئاً، ويجعل ما شهده المرء قابلا للإدراك، بل إنه يصبح مسليا في آخر الأمر".

يُعتبر الماضي الألماني بالنسبة لتيم ليس بالموضوع المُجرد، وإنما جزء من التاريخ الشخصي، تاريخ العائلة، وبهذا يكون أيضا جزءاً من الحاضر: "الاقتراب منه عن طريق الكتابة هو محاولة بعث ما احتفظ به في الذاكرة بصورة مجردة، والعثور على الذات من جديد"، التوثيق العائلي ومواجهة الذات يذوبان على هذا النحو في إعادة البناء التشريحية الدقيقة لشخصية الأخ التي يقدمها تيم.

حاول تيم أكثر من مرة أن يكتب عن أخيه، بدأ أكثر من مرة بقراءة رسائله وملاحظاته المكتوبة كيوميات، ولكنه اضطر أن يتوقف عن القراءة في كل مرة. "تراجعٌ خائف" كما فعل وهو طفل مع حكاية الملك بلاوبارت (الملك ذو اللحية الزرقاء) التي لم يتمكن من أن يُتم قراءتها إلا بعدما كبر. لم يصبح هذا الاقتراب بالكتابة من البقعة المعتمة في تاريخ العائلة ممكنا إلا بعد موت الأبوين والأخت. عند هذا فقط صار "حرا في أن يكتب عنه (أخيه). وكلمة حر تعني أنه يستطيع طرح جميع الأسئلة ولا يتوجب عليه أن يراعي شيئا أو أحداً."

لم يكن الأخ الأكبر حاضراً أبداً "ولكنه كان رغم غيابه دائما حاضراً" وكان يُقدَّم لاوفا الصغير دائماً على أنه "القدوة"، اكتسب هذا الأخ من خلال عملية الكتابة ملامحاً. يشكل تيم شيئا فشيئا خارطة نفسية لأخيه الأكبر منطلقاً من الرسائل القليلة التي حصل عليها واليوميات، أي المواضع القليلة التي يتحدث كارل هاينز بنفسه فيها بشكل موجز وبغير عاطفة. لا بد أنه كان شاباً حساساً وحالماً، ذهب إلى الحرب تملؤه المثالية. وهو في نفس الوقت مؤلف تلك الملاحظة المتكررة في اليوميات و التي تبدو غير إنسانية تماماً: "رأس جسر على دونيس. على بعد 75 متراً يدخن ايفان السجائر، علف لمدفعي."

إن ما يمنح هذا النص النثري للكاتب تيم هذه الجودة العالية هو كونه لا يلغي التناقضات وما لا يمكن تصديقه أو يدعي لها تجانساً لم تكن عليه من قبل. على العكس يشمل النص الذي يُشبه اللوحة المُجمَّعة صوراً من الذاكرة ومن أحلام وطرائف الطفولة وما سمعه وما عاشه الكاتب وكذلك أيضاً ردود فعله على عملية التذكر والكتابة عن معاناة القاص مع مادته. على هذا النحو تكشف بنية كتاب الذكريات منذ البداية تناقضات وعدم استمرارية هذه الكتابة المؤلمة عن موضوع الرواية الذي هو بالرغم من كونه بعيداً زمنياً إلا أنه قريباً جداً من الناحية العاطفية. فوراء كل شيء يكمن السؤال الذي لم يطرح، ما هى علاقة المروي بالراوي نفسه.

لذلك فإن الأب الذي قاتل في الحرب العالمية الأولى والذي بقى حتى موته المبكر مطبوعاً بتفكير الجندي يظهر في مركز التوثيق بصورة متزايدة. لا يتعلق الأمر بتصفية الحساب مع جيل الآباء، وإنما بالإقتراب من شخصية الأب هذه التي بقيت في نقاط كثيرة غريبة، إقتراب خال من أي حكم مسبق ما أمكن. وبدلاً من مجرد الشكوى يسعى تيم إلى الفهم، وهو ما لا يعني أنه لن يتعرض لمسألة الذنب والمسؤولية. بل على العكس يوجه نظرة غير متهاونة إلى آليات التناسي داخل عائلته. ويهدم بهذه الطريقة أسطورة العائلة التي حافظت عليها بعناية. إلا أن الإنجاز الكبير لهذا الكتاب ـ الذي يتزايد طابعه الإنساني شيئاً فشيئاً ـ هو أنه لا يتحول إلى تصفية حساب لا ترحم مع جيل الآباء. لا يسوق تيم الأعذار لشئ، لكنه لا يدين الأب ولا الأخ أيضاً. إنه يحاول في المقام الأول أن يظهر كيف تطور عندهما "ما هو مخيف [...] مما هو يومي".

تجر وجهة نظر تيم الشخصية جداً القارىء معه إلى هذا الجدل الفردي حول المسؤولية التاريخية. ولا يصبح تيم بذلك مسجلاً لمأساة عائلته الخاصة فقط، وإنما تقدم اللقطات الآنية الكثيرة في تقريره الوثائقي التاريخ الوجداني للقرن العشرين الألماني بأكمله. "أخي كمثال" وثيقة مؤثرة توصلنا بمنطقية شديدة إلى حقيقة أن المرء لا يستطيع أن يهرب من تاريخه، وإنما عليه أن يقبله.

لا يزال تناول مسألة تورط أحد أفراد العائلة في النازية هو الموضوع الألماني الأكثر حساسية. إنه موضوع شخصي جداً ولكنه سري، مقتضب جداً وفي نفس الوقت عُولج بشكل مؤثر. إن ما يدعو إلى الإعجاب في هذا الكتاب هو استغناء القاص عن كل ما هو إعلاني أو مثير وكذلك شجاعته في أن يتناول مواضيعاً سكت عنها الجميع و يُخرجها إلى حيز الضوء، مُتخذاً في ذلك موقفاً لا يتهم فيه ولا يُجمِّل. "أخي كمثال" هو نموذج للكيفية التي يمكن أن يخرج بها التعاطي مع الماضي عن الأنماط الجاهزة ويصبح شكلاً فنياً أدبياً.