عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > قصص قصيرة

قصص قصيرة قصص قصيرة,قصه واقعيه قصيره,قصص رومانسية قصيرة.

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 05-08-2007, 06:12 PM
 
( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير

دعني أحبك

هبت رياح شباط ( فبراير ) القارسة من الشمال ، تصفر فوق المقبرة التابعة للمعبد الموجود في قرية غلينكريغ ، ما جعل شجرتي الصنوبر العملاقتين القائمتين على جانبي بوابة المدخل تلوحان بفروعهما محتجبتين .
وقف ستروم غالبريث وحده ، وقد تصلبت قامته الفارعة ، أمام حجر صغير من الصوان ، ولم يكد يشعر بتلاعب الريح بشعره وهو يحدق في تلك الكلمات المحفورة على الحجر .
هازيل دنبار زوجة هوغ دنبار الحبيبة ...
لقد رأى أنها توفيت منذ عام . و كان عمرها ثلاثة وثلاثين عاماً فقط . ودفع بيديه في جيبي معطفه الكشميري وقد لوى شفتيه ساخراً . لقد كانت هازيل في الثامنة عشرة من عمرها فقط عندما أمضت معه وقتاً ممتعاً قبل زواجها . ثمانية عشر عاماً فقط حين منحته من حياتها ثلاثة أسابيع ... واحداً وعشرين يوماً ولكن هذه الفترة القصيرة قد غيرت حياته بأكملها . غيرت حياته ، محولة إياه من رجل منح قلبه بكل زخم عواطفه وبدون تحفظ ، إلى الرجل الذي أصبح الآن بلا قلب .
وعندما علم ، مؤخراً ، بمبلغ خيانتها وقسوتها ، تجدد غضبه القديم من تحت الرماد حاملاً معه ذكريات كان يعتقد أنه دفنها منذ سنوات ، ذكريات كانت ما تزال حية مؤلمة . وأخذ يتمتم ، يا للسافلة . ليعود فيرفع صوته مرة أخرى بنفس الكلمة ، يا للسافلة ، مصحوبة بتأوه نابع من أعماق نفسه وهو يمسح عينيه بأصابع مرتجفة . ما الذي جعله يحضر إلى المقبرة؟ طبعاً ليس لتقديم احترامه ، فهذه الكلمة الاحترام ، لا تتفق مع شعوره نحو هازيل دنبار . فما الذي جره بكل هذا العناد والتصميم إلى ....؟
وجاءه صوت من خلفه يقول :" هل أنت بخير ؟"
فجمد في مكانه لدى سماعه هذا الصوت الناعم الموسيقي النبرات . لا بد أن مخيلته تعبث به ، إذ خيل له ، في لحظه جنونية لا شعورية ، أن هذا الصوت قد جاءه من أعماق الضريح .. واستدار فجأة ، وهو مازال تحت تأثير الصدمة ، ليعود إليه رشده بشيء من الارتياح وهو يرى أن مصدر الصوت لم يكن شبحاً وإنما شخصا ً من لحم ودم كان واقفاً خلفه .
إمرأة شابة ممشوقة القوام ترتدي معطفاً لونه بيج من الصوف الطبيعي ، وحذاء بنياً عالي الكعب . و كان شعرها مغطى بعصابة عريضة مربوطة تحت ذقنها ، تحيط حواشيها الحريرية بوجه بيضاوي رقيق الملامح ذي لون عاجي شفاف تقريباً. وكان التعب يبدو منهما وهي تنظر إليه بقلق .
وعادت تقول وهي تحني كتفيها توقياً للريح :" هل أنت بخير ؟ كنت أتساءل عما ...."
فقال بشيء من العنف سببه ظهورها المفاجئ و شعوره بالمرارة :" طبعاً أنا بخير ." وشعر بالأسف للهجته تلك وهو يخاطبها ، فعاد يقول ملطفاً من لهجته : " ولم لا أكون كذلك ؟"
فنظرت إليه بعينيها تلك الكثيفتين الأهداب ، وهي تقول بهدوء :" لقد رأيتك تنظر إلى ضريح هازيل . هل كنت تعرفها ؟"
هل كان يعرفها حقاً ؟ فكر بذلك بهزء . كلا لم يكن يعرفها بل أنه لم يعرفها قط . وهز كتفيه متجنباً الإجابة عن هذا السؤال الصريح ، بقوله :" إنني مهتم بالمقابر القديمة ."
وقبل أن تستمر في توجيه الأسئلة ، غير من الموضوع بقوله :" إنني أفكر في البقاء في هذه المنطقة عدة أيام ، فهل بإمكانك أن ترشديني إلى فندق جيد ؟"
فقطبت حاجبيها قليلاً ، ورآها تلقي نظرة متفحصة سريعة على معطفه الثمين وبنطلونه الأنيق المفصل على احدث طراز ، وعلى حذائه الإيطالي اليدوي الصنع ، ثم تقول :" انك لن تجد فندقاً مناسباً في غلينكريغ ، ولكن هنالك فندقاً صغيراً ممتازاً يطل على الوادي على بعد أربعين ميلاً من هنا اسمه هيذرفيو لا يمكن للنظر أن يخطئه . وهو يقع في آخر الأرض المخضرة ."
فقال :" أشكرك " وعندما استدار ليبتعد ، لاحظ بشيء من الفضول ، أنها كانت تحتضن بإحدى ذراعيها شيئاً كانت تحاول أن تحميه من الريح ورأته ينظر إلى ما تحمل ، فلاحت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تقول :" أنها أزهار النرجس ، أحملها إلى ضريح زوجي ... فقد كانت أزهار روري المفضلة ." ورفعت عينيها إلى عينيه وهي تتابع قائلة :" لقد قتل ، هو و هازيل في نفس حادث الاصطدام ... إذ اندفعت شاحنة كبيرة وسط مجموعة من الناس في الشارع العام فمات اثنان منهم على الفور ، وجرح ستة آخرون ... كان بينهم زوج هازيل الذي أصيب برأسه وأمضى عدة اشهر غائباً عن الوعي قبل أن يموت ، لقد استرد وعيه قبل النهاية مباشرة ، حيث رجونا جميعاً أن يكون قد شفي أخيراً وذلك لأجل كيلتي ، ولكن ..."
فقال يسألها :" كيلتي ؟"
فأجابت :" أنه في الرابعة عشرة من عمره ويقترب من عامه الخامس عشر ، وهو الآن يعاني من صعوبة الحياة فقد كان فقده لوالديه معاً شيئاً مؤلماً للغاية ، كما أن .."
وسكتت فجأة ثم تجهم وجهها وهي تتابع قائلة :" إنني آسفة ، فهذا شيء لا يهمك ما دمت لا تعرف هازيل . وأنا استمر هكذا في الثرثرة بينما أنت تقف في هذا البرد .أنه يوم غير مناسب لكي يخرج المرء من بيته . أرجو أن يعجبك الفندق ."
وعندما استدارت لتتابع طريقها ، حركت الريح العصابة التي تغطي شعرها ، لتكشف عنه قليلاً ، ما جعله يلمح لون شعرها البني الفاتح المائل للحمرة ، قبل أن تعيد العصابة عليه وبحركتها تلك ، عبقت رائحة خفيفة لعطر ذكي الرائحة ، للحظة واحدة ، قبل أن تبددها الريح . ورفعت يدها تلوح له بها ببساطة ، وهي تبتسم بمودة ، ثم تستدير مبتعدة سائرة في ذلك الممر الضيق بخطوات رشيقة مليئة بالحيوية . وبعد لحظات كانت قد استدارت حول منعطف حيث اختفت عن الأنظار خلف سياج عال من الأشجار المشذبة . رفع ستروم غالبريث ياقة معطفه ، ثم ودون مبالاة بالمطر المصحوب بالثلج يتساقط على وجهه ، عاد يحدق في الحجر الصواني المتواضع دون أن يراه هذه المرة وقد نسي تلك المرأة الغريبة إنما كلماتها مازالت تتردد في ذهنه ...
كيلتي ... أذن فقد منح البعض ذلك الصبي اسماً وربماً كان ذلك أثناء طفولته ، ليلتصق به بعد ذلك .. كعادة الألقاب في هذا الجزء من العالم . وبانت الرقة في ملامحه وهو يحاول أن يبتسم ، ولكن قبل أن تصل الابتسامة تلك إلى عينيه ضغط شفتيه بقوة . لقد جاء إلى هنا ليرى الصبي و هذا هو كل شيء .. لتحقق من أن الصبي هو ابنه حقاًً . فإذا هو اقتنع بذلك ، فسيرى محاميه عند عودته إلى لندن ، ومن ثم يغير وصيته جاعلاً من هذا الغلام ، كيلتي ، وريثاً له فهذا ما يتوجب عليه عمله . ولكن هذا كان الشيء الوحيد الذي سيقوم به . فهو لن يكشف الأمر للغلام فيعلمه بأنه أبوه . لم يكن هناك مقام في حياته لأسره .. لأناس أخريين أو لتكوين مشاعر دافئة ، وبالتالي لتحمل الأحزان والآلام .
وأدار ظهره إلى ضريح المرأة التي احبها مرة ، وهو يفكر بمرارة ، في أن الحمقى هم وحدهم الذين يعرضون قلوبهم للأحزان والآلام .... أما هو ، فلم يعد أحمق .
لقد أحضرت لك أزهار النرجس يا روري .
وجثت على الأرض ، ثم أخرجت قبضة من الأزهار تنثرها على ضريح زوجها وهي تتابع قولها : " أنها أول ظهورها هذه السنة " ووضعت راحتيها فوقها تمنع الريح من أن تعصف بها وهي تشعر بغصة في حلقها . لقد كانا ، هي و روري ، قد تزوجا في شهر شباط ( فبراير ) . وأثناء السبع سنوات التي أمضياها معاً ، كان يحضر إليها في هذا الشهر من كل عام ، هذه الأزهار من حديقة منزلهما برواش . وكانت هذه الأزهار الجميلة ، التي يبدأ بها الربيع ، قد أصبحت رمزاً لطهارة ووفاء حبهما ، وشعرت بالألم يلوي قلبها . من كان يفكر في أنها هي التي ستحضرها إليه يوماً ما ... وبهذه السرعة؟؟ .
وعادت تقول : " لقد ذهب الفتيان في رحلة بحرية بعيدة ، يا عزيزي . " وكان صوتها الآن قد أصبح مجرد همس خافت تكاد الريح أن تبدده حتى قبل أن تتلفظ به بينما كانت تتابع قائلة : " وقد تدبرت هذه السنة أن يأخذ كيلتي عطلة من مدرسته ليتمكن من الذهاب معهم هو أيضاً . وقد جاءت الحافلة لنقلهم هذا الصباح وكان الجو ما يزال معتماً . وستكون برواش هادئة من دونهم أثناء الأسابيع الثلاثة القادمة ... إذ لن يبقى سواي والكلب شادو . "
وعقدت ذراعيها أمام صدرها بشدة ، وهي ترتجف وتبتلع الغصة في حلقها ، لتتابع هامسة : " أواه ، يا روري ، لقد كانت السنة الماضية شديدة علي من دونك .. "
وخاطبت نفسها ، مغالبة دموعها ، كلا ، يجب أن لا أبكي . علي أن أكون شجاعة وسأتابع طريقي .
واستقامت في وقفتها ببطء وهي تمسح دموعها التي كانت تهدد بالتدفق ، وتابعت تخاطبه قائلة بصوت أبح : " إن هناك أموراً علي أن أبت فيها يا روري . وقد نويت القيام بها في غياب الفتيان ، ولكنني لن أتحدث عن ذلك اليوم . عندما أفكر بها ملياً ، سأعود إليك لأخبارك بكل شيء . أما الآن ، فعلي أن أذهب إذ أن شقيقتي كيلا وزوجها آدم سيحضران للغداء ، ولدي عمل كثير ... إلى اللقاء في المرة القادمة ."
ومرت بأطراف أناملها المثلجة على حجارة الضريح بكل رقة وكأن الحجارة تشعر لتقف بعد ذلك عدة لحظات مغمضة العينين . وأخيراً استدارت مبتعدة لتعود في نفس الطريق الضيق الذي جاءت منه .
وعندما استدارت حول السياج ، سمعت صوت محرك سيارة خارج بوابات المقبرة وبعد ذلك بلحظات سمعت صوت انسحاق الحصى تحت عجلات السيارة التي كانت تبتعد . وفكرت هي بأنها لا بد أن تكون سيارة ذلك الرجل الأسمر ....
كم كان يبدو غريباً عن مكان كهذا في ملابس المدينة البالغة الأناقة . وكانت قد توقعت أن تجد المقبرة خالية لنفسها ، ما جعلها تجفل لرؤيته ... فقد كان أسمر اللون مطيلاً التفكير والتأمل وكأنه أحد أبطال الروايات ، إن من الغريب أن يختار يوماً عاصفاً كهذا اليوم ، لكي يأتي متفحصاً مقبرة قديمة .
ومع هذا ، فقد كان يبدو عليه الضياع ... والوحدة ... وتمنت لو أمكنها معرفة سبب الخطوط الممتلئة مرارة والتي تلوي ملامحه الهضيمة ، وتسأله عما سبب له الألم في الماضي ، ومن الذي تسبب له في أن ينظر إلى الحياة بمثل تلك العينين الفارغتين الكئيبتين .
ولكنها ما لبثت أن تنهدت بيأس ساخر وهي تردع نفسها قائلة ، أواه يا نيرن ، ألا تكفيك همومك ومشكلاتك ، لكي تحاولي التدخل في هموم الآخرين ومشكلاتهم؟ .
وحنت رأسها مقابل المطر المصحوب بحبوب البرد ، ثم اتجهت إلى كلبها الأسود الذي كان ينتظرها بصبر ، وهي تخاطبه قائلة : " هيا بنا الآن ، يا شادو . "
وسرعان ما اتجهت إلى منزلها ، موسعة من خطواتها لكي تلحق برفيقها الذي كان يقفز مسرعاً أمامها .
كانت كيلا ( أختها ) تغسل آخر كوب بلوري ، ثم تنشفه بعناية وهي تخاطبها قائلة :" إن الروستو الذي صنعته يا نير رائع ، كعادتك على الدوام ." ثم وضعت الكوب في مكانه من خزانة المطبخ ، لتستدير نحو شقيقتها نيرن التي كانت تضع صينية صغيرة في مكانها ، فأمسكتها من كتفيها موجهة إياها نحو الباب وهي تقول : " والآن اذهبي وابقي مع آدم فأنكما لم تتحدثا معاً منذ أجيال ... أما أنا فسأضع القهوة . هل علي أن أضع معها شيئاً من البسكويت؟ . "
فأجابت نيرن : " لقد صنعت أمس نوعاً من الكعك ستجدينه في ..... "
فقاطعتها كيلا : " كعك؟ آه سيسر ذلك كاتريونا كثيراً . فهي تحب الكعك الذي تصنعينه ، إنها ستكون هنا بعد قليل .... "
فقاطعتها نيرن قائلة : " هل هي آتية إلى هنا؟ لما لم تخبريني بذلك يا كيلا؟ كنت أظن أن الأولاد سيبقون في المنزل بحراسة مولي؟ ."
فحدقت كيلا بشقيقتها قائلة : " ولكنني سبق وأخبرتك بذلك . ألم تتلقي رسالتي عن ذلك في جهاز حفظ الرسائل في هاتفك؟ لقد اتصلت بك بعد الظهر ، ولكنني لم أجدك .. "
فقالت نيرن : " لقد ذهبت إلى المقبرة . "
فقالت كيلا : " نعم ، هذا ما ظننته عندما لم أجدك . وهكذا تركت لك رسالة قلت لك فيها إن أمي وأبي سيأخذان كيفين و كاتريونا إلى الحديقة العامة لكي يحضرا حفلة الأحد ، ثم تحضرهما معلمتهما بعد ذلك إلى هنا . "
فقطبت نيرن جبينها قائلة : " ولكنني لم أتلق أي رسالة . هذا غريب ، لقد تفقدت آلة الهاتف طبعاً ، بعد عودتي من المقبرة ولكنني لا بد نسيت أن أفتحها على الهاتف قبل خروجي وهكذا لم تسجل أي ....... "
فقاطعتها شقيقتها : " كلا يا نيرن . انكِ لم تنسي ِ ذلك .. لقد تركت لكِ رسالة ... "
فقالت نيرن : " ولكن ، صدقيني ، لم تكن هنا لك أية رسالة ... "
فقالت كيلا : " ربما محوتها خطأ . "
فهزت نيرن رأسها قائلة : " كلا ، لم افعل ذلك . "
فقالت كيلا : " لا بد أنها انمحت من تلقاء نفسها إذن! "
فقهقهت نيرن ضاحكة وقد تذكرت كيف خدشت بالسكين وهي طفلة لوحة زيتية كانت أمها تقوم برسمها ، وعندما سألت أمها عمن قام بذلك ، همست هي قائلة أنها أنخدشت من تلقاء نفسها .
وعادت كيلا تقول بحزم : " انك لم تنسي فتح الجهاز ، فأنا تركت لك رسالة حتماً ."
فقالت نيرن : " لماذا إذن لم أستلم .... "
وقطع كلامها صوت جرس الباب ، فحدقت في شقيقتها قائلة : " من يمكن أن يكون الطارق؟ " فألقت كيلا نظرة على ساعتها وهي تقول : " ربما هما ، كاتريونا و كيفين ، مع أن الوقت ما زال مبكراً لحضورهما ، سأذهب لأرى وأعود حالاً . "
وبينما ذهبت أختها متجهة نحو الباب ، اتجهت نيرن بدورها إلى حيث الهاتف على مكتبها . كانت قد فتحت جهاز حفظ الرسائل بعد رجوعها من المقبرة ، وكان النور الأحمر مضاء الآن ، ما يدل على أن الآلة لم تتلق رسائل منذ ذلك الحين ، فأقفلتها ثم أدارت الشريط تعيد سماعه . ولكن ، لم يكن هناك شيء مسجل على الشريط .. فما الذي حدث لرسالة كيلا إذن؟ .
على كل حال ، لم يحدث أي ضرر من وراء ذلك ، فآدم وكيلا هنا ، والولدان سيصلان في أية لحظة داخلين إلى المطبخ ، كاتريونا ذات الأربع سنوات تركض بانفعال وشعرها الأجعد يتطاير حول وجهها ، و كيفين ذو الاثني عشر عاماً يتبعها برزانته المعهودة وعلى فمه ابتسامة هادئة .
وضعت نيرن الفناجين على صينية وفكرت . الأقارب ... كم هي محظوظة لأن لها أقارب محبين كثيري العواطف .. أبوها وأمها ، شقيقتها كيلا وزوجها آدم ، وولديهما كيفين و كاتريونا ... ولم تكن تعرف ماذا كانت ستفعل ، لولاهم ، بعد موت روري زوجها ، وطبعاً ، ساعدها على ذلك أيضاً الفتيان الذين يعملون حول المنزل والذين لا يفتأون داخلين خارجين .
دخلت كيلا عائدة إلى المطبخ وهي تقول ، بينما شعرها الطويل الأسود يتأرجح حول كتفيها : " لم يكن الطفلان من في الباب . كان رجلاً يبحث عن مكان يبيت فيه كان قد رأى اللافتة على بابك عن تأجيرك غرفاً في نزلك . وأظن أن الرياح قلبتها بعد الظهر ، إلى الوجه المكتوب عليه أن ثمة غرفاً خالية ، بدلاً من مقفل ، من حسن الحظ ، أن الرياح هدأت الآن ... ولا أظن الليلة ستكون سيئة . "
كان قميصها القرمزي اللون يتألق تحت ضوء الفلورسنت وهي تفتح الخزانة تتناول العلبة التي كانت تحتوي الكعك الذي قالت نيرن أنها صنعته ، وهي تتابع : " قلت له انه لن يجد مكاناً في غلينكريغ وطلبت منه أن يتجه نحو الوادي حيث فندق هيذرفيو ولكنه رد علي قائلاً انه ذهب وتناول عشاءه هناك ، ولكن كان ثمة حفلة زفاف والغرف كلها مشغولة .... "
تجمدت يد نيرن على إناء السكر وهي تعض شفتها ، ثم قالت : " آه ، أليس هو رجلاً اسمر طويل القامة ، حسن الشكل؟ وذا لهجة إنكليزية ... "
فأجابت كيلا وهي تحدق في أختها : " آه إن له لهجة إذاعية رائعة وصوتاً جذاباً ولكن كيف عرفت ذلك؟ "
فأغمضت نيرن عينيها لحظة ، متجاهلة سؤال أختها ، ان هذا الرجل لن يجد مكاناً يبيت فيه ليلته في هذه المنطقة ، في هذه السنة . و عليه أن يمضي الساعات على الطريق ، وطريق كئيب موحش لا بد أن ....
وكانت كيلا تقول : " إن قولك حسن الشكل لا يوفي الرجل حقه . فهو رائع الوسامة ." وأطلقت آهة تكلفت فيها اليأس وهي تتابع : " إنني أفكر أحياناً في أنني أجد في نفسي كل حصة أسرتنا من العواطف المحمومة ، حتى لم يبق شيء لك أنتِ منها ماعدا حصة زائدة من الجمال والعذوبة والرزانة لكي يكون هناك توازن ..."
ولكن نيرن لم تكن تستمع إلى هذه الكلمات التي كانت تتدفق حولها ، ذلك أنها كانت توصلت إلى قرار ، فقالت : " هيا كيلا ، خذي هذا . " ودفعت بإناء السكر إلى أختها المذهولة ، ثم استدارت على عقبيها خارجة من المطبخ . ربما كان الوقت قد تأخر بها عن أن تجده ، كانت تعلم ذلك ولكن الأراضي كانت مستديرة ، وطريق السيارة يحيط بها ، فإذا هي قطعت المسافة القصيرة مخترقة شجرات الصنوبر التي تقوم بين منزلها برواش والبوابة الأمامية ، فربما أمكنها الوصول قبله .
ودون أن تهتم بإحضار سترة من الخزانة في القاعة ، فتحت الباب الخارجي بعنف ثم صفقته خلفها لتقفز فوق الدرجات المخفضة من الحجر الرملي . وفكرت وهي تجتاز الباحة الواسعة أمام البيت ، لتنطلق في الممر بين الأشجار ، في أن الحق مع كيلا ، فالليلة لن تكون سيئة . لقد همدت الريح ، ومع أن قطرات المطر كانت تتناثر فوقها وهي تحتك بفروع الأشجار ، فقد كانت السماء صافية وكان هناك أيضاً القمر وقد بدا جزء منه .
وعندما وصلت إلى طريق السيارات ، كانت تلهث بينما ضربات قلبها تعلو بعنف ولكن ، عندما رأت السيارة القوية تقف قرب البوابات ، وقد سكن محركها ، ضاعفت من سرعتها فوصلت إليها وقد أوشكت على التحرك ، فأخذت تقرع النافذة بقبضتيها وعندما توقفت السيارة ، تراجعت هي إلى الخلف . وقد شبكت ذراعيها فوق صدرها ونزل زجاج السيارة بحركة آلية ، ومال السائق نحو النافذة ليراها . ولم تكد ترى في تلك الظلمة أكثر من لمعان عينيه .
وجاءها صوته قائلاً : " ما الذي .... "
فأجابت وهي ترتجف من برودة الهواء الذي كان يتخلل قميصها الحريري :" آسفة إذ جعلتك تجفل . لقد جئت إلى بابي تسأل عن مكان تبيت فيه الليلة ، ولكن كيلا شقيقتي لم تشأ إدخالك ، ذلك أن المكان ، كما قالت هو مقفل الآن . ولكني أرحب بعودتك ، إذا شئت ، انك لن تجد مكاناً آخر في هذه الأنحاء على بعد أميال كثيرة ."
وانتبهت نيرن أثناء فترة الصمت التي تلت كلامها ذاك ، إلى أن راديو السيارة كان مسموعاً ليس على الموسيقى و إنما على نشرة مالية . لقد سمعت المذيع يقول :" أما المخزون من السندات التي يمكننا النصح بها إلى أجل قصير فهو .... " فأطفأ الراديو بعنف وهو يقول لها : " لا أريد أن السبب لكِ أي إزعاج . "
فأجابت : " انك لا تسبب لي ذلك ، كما أنني أشعر بالذنب إذ أرسلتك إلى ذلك الفندق بعد الظهر ، مما أضاع من وقتك ، إذ كنت نسيت أن هناك حفلة زفاف في الفندق ."
فقال :" آه ، انكِ ، إذن ، المرأة التي كنت قابلتها في المقبرة ...."
أجابت :" نعم . وأنا أدير نزلاً للمبيت وأقدم وجبة الفطور أيضاً أثناء فصل الصيف ولكن ليس ثمة مشكلة بالنسبة ألي إذا أنا جهزت لك غرفة لهذه الليلة . إنها ليست بجمال غرف فندق هيذرفيو بالطبع إنما ... "
وسمعت صوتاً آلياً مكتوماً وقبل أن تدرك ما هنالك ، كان هو قد فتح باب السيارة قائلاً : " اصعدي ، سأعيدك إلى المنزل . "
فقالت وقد أدركت أن ذلك الصوت الآلي ما هو إلا صوت انفتاح باب السيارة آلياً ، فقالت :" آه لا ضرورة لإزعاجك . "
فقال بصوت حوى شيئاً من فروغ الصبر : " ولكن إذا أنتِ عدتِ سيراً على الأقدام فان علي أن انتظرك في منزلك إلى حين وصولك أليس كذلك؟ "
فقالت وقد اتضحت لها شخصيته القوية : " لا بأس إذن وشكراً لك . "
كانت السيارة من نوع المرسيدس ذات الطراز الأول . كما بدا أنها ابتيعت حديثاً وذلك أنها لاحظت وهي تغوص في المقعد إلى جانب قائد السيارة ، أنها تفوح منها رائحة الجلود الجديدة المستحبة ، هذا إضافة إلى رائحة خفيفة جداً لعطر رجالي ليس من النوع الذي إعتادته عند روري ، و إنما عطر ثمين متفوق قد يكون ابتاعه من متجر هارودز العالمي ، ولكن ليس في وقت التخفيضات السنوية المعتادة في ذلك المحل ، بالتأكيد . فالرجل لم يكن من ذلك النوع الذي يقف في الصف لكي يوفر عدة جنيهات . إنها متأكد من ذلك رغم أنها لم تعرف سوى القليل عنه .
وسألته وهو يوقف سيارته بين سيارة آدم الروفر وبين سيارتها هي الفان ، قائلة :" هل لديك أمتعة؟ "
فأجاب : " حقيبة واحدة فقط موضوعة في صندوق السيارة . "
وأضاء مصباح السقف ، ثم مد يده يتناول معطفه من المقعد الخلفي . وعندما استدار عائداً ، احتك كتفه بكتف نيرن ، تراجعت إلى الخلف بسرعة وكأنما لدغت وقد اشتبكت عيناها بعينيه بحركة لا إرادية .
وتوترت عضلات فكها بشكل غريب ، وفكرت في أن كيلا كانت مخطئة إذ حتى كلمة رائع لم تكن كافية لوصف هذا الرجل . كان خلاباً ... أنيقاً وقاسياً وغشت الأوصاف ذهنها بالضباب ، وقد توقفت أنفاسها بعد نظرة واحدة ألقتها عليه استوعبت بها وجهه الهضيم بقسماته القوية وعينيه الزرقاوين النفاذتين تحت حاجبين طويلين أسودين ، وكان شعره أسود كالليل الفاحم لم تلمع فيه شعرة واحدة بيضاء رغم الخطوط التي كانت حول فمه وعينيه ، كانت تنبئ بأنه في حوالي الأربعين من عمره .
لماذا لم تلحظ كل هذه الأشياء حين تقابلا في المقبرة؟ هل كان السبب تأثرها البالغ بمظاهر الوحدة والكآبة التي كانت تلوح في عينيه؟ عينيه هاتين اللتين كانتا تنظران الآن في عينيها بطريقة غريبة؟ .
وسمعته يتمتم : " عفواً . " وبحركة سريعة فرك كتفه ، فتابعت بنظراتها حركته تلك وقلبها يخفق . وكان ذهنها موزعاً بين كنزته الكشمير الفخمة وبين ارتباكها لهذه المشاعر التي أحستها نحوه .
وعندما توقفت السيارة أمام الباب ، فتحت باب السيارة وخرجت حيث وقفت تنتظره على أعلى الدرجات . وبينما كان يحضر حقيبته من صندوق السيارة ، كانت هي ترغم نفسها على تمالك مشاعرها . وعندما واجهت الحقيقة شعرت بالذنب يصفعها على وجهها.
وارتجفت وهي تعض شفتها بينما كان ذلك الرجل الفارع القامة يصعد الدرجات ليقف بجانبها . واستدارت تفتح الباب وتدخله إلى الصالة . و بينما عادت تغلق الباب ، كانت أختها كيلا وزوجها آدم يبرزان من باب غرفة الجلوس وهما ينظران إليهما بأعين متسائلة .
و قهقهت كيلا ضاحكة وهي تقول : " آه لقد ذهبت وراءه لقد قلت لآدم انكِ لا بد خرجت لهذا السبب . "
تناولت نيرن من الغريب معطفه ، متجنبة النظر في عينيه ، ثم ابتعدت لتعلقه في الخزانة مستغلة هذه الفرصة لتتمالك مشاعرها . وعندما عادت ، قالت وهي تبتسم ببساطة وقد بان الصفاء في عينيها : " نعم . كان ذلك سبب خروجي .. وقد وجدته عند البوابة متأهباً للتحول نحو الطريق . "
ولاحظت أن الغريب كان قد وضع حقيبته قرب الباب ، فتابعت تقول : " هيا بنا نجلس قرب المدفأة ، فأنا أكاد أتجمد من البرد . إن الحق معك يا كيلا ، فهذه الليلة بديعة تماماً ، لكنها ما زالت شديدة البرودة ."
وبينما اتجهوا جميعاً نحو غرفة الجلوس الفسيحة ، قال آدم : " هل تعارفتما يا نيرن أنتِ والنزيل الجديد؟ "
فأجابت : " كلا ، مع أن هذه هي المرة الثانية التي نتقابل فيها . فقد جمعتنا المصادفة في المقبرة عصر هذا اليوم . "
ونظرت إلى الغريب قائلة وهي تمد يدها : " إنني نيرن كامبل . "
وبعد لحظة تردد قصيرة ، تمتم قائلاً : " ستروم غالبريث ." ومد يده الدافئة وضغط على يدها المثلجة ، وتملك نيرن الهلع وهي تشعر لدى ضغطه على يدها ، بنفس الشعور الذي تملكها عندما احتكت كتفه بكتفها في السيارة . لكنها الآن كانت أكثر ضبطاً لنفسها ، كما استطاعت سحب يدها من يده وهي تقدم إليه كيلا وآدم بصوت ثابت .
وعندما حول انتباهه نحو الآخرين ، نظرت هي إلى وجهه متأملة . واعترفت لنفسها بأنها لم تر رجلاً مثله قط من قبل في بلدة غلينكريغ .. ليس فقط من ناحية ملابسه الثمينة غير العادية فقد كان مظهره ينطق بكل معاني السلطة والسيطرة ابتداء من كتفيه القويتين إلى ملامحه الخشنة . كان طويلاً ضامراً قوي العضل كان من ذلك النوع من الرجال الذين يجربون كل شيء إلى أقصى حدوده والذين لا يطيقون استغفال الآخرين لهم .
كان من نوع الرجال الذين تصعب معرفتهم . من أين أتتها هذه الفكرة الأخيرة ؟ أخذت تتساءل عن هذا مع أنها كانت متأكدة من صحة حكمها ذاك ، لقد تحدث منظره بصراحة من خلال الجدار غير المرئي الذي أقامه لنفسه ... فهو يقول يمكنك أن تقترب مني بهذا القدر إنما لن أسمح لك بأكثر من هذا ، وربما لم يكن منتبهاً كما لمحت نيرن إلى أنه عندما نظرت هي إلى عينيه أثناء وجودهما في المقبرة ، لمحت لحظة واحدة ، من خلال شق في جدار نفسه ذاك ، مكاناً موحشاً كئيباً جعلتها تدرك أن لا مكان فيه لأحد .
واخترق صوت شقيقتها ، أفكارها وهي تقول : " سأحضر القهوة يا ينرن ."
فالتوت شفتاها بابتسامة وهي تجيب : " شكراً ، يا كيلا . "
ونظرت إلى الآخرين وهي تشير إلى المدفأة قائلة ببساطة :" تفضلوا بالجلوس ."
فقال آدم : " إنني أستأذن في الذهاب لتفقد الوالدين ، سأحضرهما معي ."
وتبع زوجته خارجين من الغرفة . وعندما أغلق الباب خلفهما وجدت نيرن نفسها تعبث بعصبية بخاتم زواجها ، شاعرة بالصمت الذي ساد الغرفة بعد أن أصبحت بمفردها مع ستروم غالبريث . ومن الغريب أنها كانت تعتقد دوماً أن غرفة استقبالها كبيرة المساحة ...... ولكنها تراها الليلة قد تقلص حجمها ، لوجود هذا الرجل فيها . وخامرها عدم الارتياح وهي تفكر في أنها لم يمر بها مثل هذا الموقف الغريب غير العادي ، منذ مدة طويلة . تنفست بعمق وهي تشير إلى مقعد مريح بذراعين ، قائلة : " تفضل بالجلوس ."
ولكنه بقي واقفا ً حيث كان ، على بعد عدة أقدام منها ، وهو يقول : " إنني أفضل الصعود إلى غرفتي رأساً ، إذ من الواضح أنني أبدو متطفلاً على اجتماع عائلي .."
وحك رقبته من الخلف ، وقد بدا في ملاحظته هذه ضعف لم تفصح عنه لهجته الحازمة .
فأجابت : " آه ، أرجوك أن لا تقلق لهذا الأمر ، فأنت لست ... "
وفتح الباب قبل أن تنهي كلامها ، لتدخل كيلا حاملة صينية القهوة ، وهي تقول :" لقد صعد آدم بالحقيبة إلى الطابق الأعلى ، يا نيرن لقد أخبرته أن يضعها في غرفة النوم التي تعلو المطبخ ثم يشعل نار المدفأة ."
ووضعت الصينية القهوة وهي تتابع قائلة : " إنها أكثر الغرف دفئاً ، في هذا الوقت من السنة أليس كذلك؟ "
فأجابت نيرن وهي تبتسم بأسى : " نعم إنها كذلك فمكان السرير هو فوق الموقد مباشرة . شكراً لكِ يا كيلا والآن يا سيد غالبريث ، انك ستتناول القهوة معنا قبل الصعود إلى غرفتك ، أليس كذلك؟ "
فقالت كيلا وهي تخلع حذاءها وتثني ساقيها تحتها في زاوية الأريكة : " لا يمكنك الصعود الآن إلى غرفتك . لا بد أن تجرب الكعك الذي صنعته نيرن بيديها . لقد حاز على الجائزة الأولى منذ ثلاث سنوات في معرض المنتجات الغذائية في بلدة غلينكريغ ... آه ها قد أقبل الأطفال . "
وسرعان ما فتح الباب بعنف ليدخل آدم ، كيفين و كاتريونا ذات الشعر الأسود التي شقت طريقها مجتازة أباها وأخاها وقد احمرت وجنتاها انفعالاً ، ثم وقفت أمام والدتها ووضعت يديها الصغيرتين على ركبتيها وهي تقول وقد لمعت عيناها :" قال أبى أن خالتي نيرن قد صنعت كعكاً . هل بإمكاني أن أحصل على قطعة منه؟ " فقال لها أخوها كيفين الذي كان قد تبعها ليقف خلفها يشدها بخصلة من شعرها يغيظها : " ماذا جرى لسلوكك؟ وأين تجدين موضعاً للكعك بعد أن أكلتِ كل أنواع الحلوى التي أعطاكِ إياه العجوز . "
فاستدارت كاتريونا وهي تزم شفتها السفلى باستياء ، قائلة : " لقد أكلت أنت معظمها انك تعرف هذا . "
فقال : " ولكنك كنت سبق وانتقيت كل القطع الحمراء بينما تعرفين أنني كنت أريدها ."
وضحك آدم وكيلا ولكن ابتسامة نيرن تلاشت بعد نظرة عابرة منها على وجه ستروم غالبريث ، ليعود إليها ذلك الشعور بعدم الارتياح بعد أن رأت التعبير الذي بدا على ملامحه . كان يقف متفرجاً على بعد قليل من هذا المشهد العائلي السعيد وقد تقلصت شفتاه متجهماً ، كما بدا جلده مشدوداً على عظام وجنتيه ، ما جعله يبدو مرهقاً وهذا ما لم تلحظه من قبل . وساورها إحساس عميق بمبلغ التناقض البالغ بين مظهره هذا ، وذلك الجو السعيد الضاحك المفعم بالحيوية والذي يدور على مقربة منه في هذه الغرفة التي هي نفسها توحي بالانشراح بسجادتها الوردية وجدرانها البيضاء وأغطية الأثاث القطنية الزاهية الألوان ، يقابلها هذا الغريب المتجهم العابس بملابسه القاتمة ، كنزته السوداء بنطلونه القاتم وحذائه الأسود ... ممثلاً التناقض التام لكل ما حوله .
وما أن تقدمت نيرن منه لتطلب إليه مرة أخرى ، مشاركتهم القهوة حتى التفت إليها فتشابكت نظراتهما ورأت في عينيه الزرقاوين من الكآبة ما استدعى منها جهداً خارقاً لكي تمنع نفسها عن التأوه .
وما أن فتح فمه للكلام حتى أدركت هي بغريزتها ، ما سيقوله ، فبادرته قائلة وهي تهز رأسها بصوت لا يكاد يسمع : " كلا يجب أن لا تذهب . لقد تأخر بك الوقت بالنسبة إلى الطرقات ولن يمكنك العثور على مكان تبيت فيه . "
ولما لاحظت الآخرين ما زالوا يضحكون ويلهون قرب المدفأة ، وقد نسوا كل شيء عن هذا الغريب ... اقتربت منه بدافع لم تستطع مقاومته وقالت له : " تعال معي لأريك غرفتك . "
وظنت للحظة أنه سيرفض عرضها ذاك وهي تراه ينظر متردداً إلى يدها الرقيقة الشاحبة ذات الجلد المرقط بنمش قليل والأظافر البيضاوية الخالية من أي طلاء ولكنه ما لبث أن أومأ برأسه موافقاً وهو يقول : " لا بأس ، وأشكرك . "
وخرجا معاً إلى الصالة دون أن يلحظهما أحد ، وأغلقت نيرن الباب خلفهما لتتجه معه نحو السلم . ولم يكن السلم ليسعهما ، هما الاثنين جنباً إلى جنب ، ما جعلها تتقدمه قليلاً وقد بدأت تشعر بالعصبية . ربما لم يكن ينظر إليها كما أخذت تحدث نفسها ، ولكنها هي التي كانت تشعر بالتوتر لوجوده خلفها .
وعندما وصلت إلى قمة السلم حاولت أن تتمالك نفسها . لقد كانت مخيلتها هي التي تصور لها كل ذلك ولا شيء غيره . فهذا الرجل له من مشكلاته التعسة في عالمه الخاص ، ما لا يسمح له بالالتفات إليها كامرأة . فلماذا تشعر بمثل هذه الحماقة؟
واغتصبت ابتسامة أرادتها أن تبدو عفوية ، وهي تستدير إليه لتشير إلى ناحية اليسار حيث غرفته . ولكنه كان قد افترض أنهما سيتحولان إلى ناحية اليمين . وتجمدت الابتسامة على شفتيها وهي تصطدم بكتفه العريض .
تراجعت إلى الوراء وهي تشهق محتجة ثم قالت : " إني آسفة . " آه ... من أين أتى ذلك الصوت الأبح المنفعل؟ لا يمكن أن يكون صوتها هي ؟ ولكن لا بد أنه صوتها فعلاً وإلا ما الذي جعل هذا الرجل الغريب يقطب حاجبيه وهو يقول وقد بدت في عينيه الزرقاوين نظرة ساخرة : " غرفة لأجل المبيت هذه الليلة هي كل ما أريد يا سيدة كامبل ، ولا شيء غير ذلك . " وكان في لهجته وهو يقول ذلك نوع من التحذير لا يمكن أن تخطئه .
فرفعت نيرن بصرها إليه وهي لا تكاد تصدق أذنيها ، أتراه قد ظن أنها تعمدت الاصطدام به؟ وهل كان يعني هذا بكلامه؟
كانت نيرن بطيئة الغضب بالرغم من لون شعرها البني الضارب إلى الاحمرار ولكنها تشعر الآن بثورة من الغضب تشتعل في أعماقها .. غضب مصحوب بعد التصديق . ذلك أن هذا الغريب يبدو انه أساء تفسير الأسباب التي دفعتها إلى تقديم المأوى له . حسناً ، من الأفضل إذن أن تبدد شكوكه من هذه الناحية . ونظرت إليه وقد بان في ملامحها مزيج من الذهول والرقة والبراءة وهي تقول : " ولكن كل ما عرضته عليك يا سيد غالبريث هو غرفة لليلة واحدة . "
وبخطوات واسعة رشيقة ، تجاوزته لتعبر الصالة نحو غرفة صغيرة قائمة فوق المطبخ ، حيث فتحت الباب ووقفت جانباً تشير إليه بالدخول ، راجية أن لا يلاحظ الاحمرار الذي علا وجنتيها . وقالت له وهي تقاوم رغبة تملكتها في أن تضربه أثناء مروره من أمامها : " هذه هي الغرفة . إنها صغيرة ولكنها دافئة ومريحة . أما الفطور فسيكون في الساعة الثامنة إذا كان هذا يناسبك . "
فأجاب : " الساعة الثامنة وقت مناسب تماماً . " وأجال ببصره في الغرفة ، لحظة قبل أن يخطو على السجادة ذات اللون البيج متوجهاً نحو المدفأة حيث وقف أمامها ويداه في جيبيه ، مركزاً بصره على النار المضطرمة خلف الحاجز الأثري المصنوع من القرميد . كان حول الرجل جو من الوحدة والتعاسة أحال غضب نيرن إلى سيل من الشفقة والرحمة .
وترددت لحظة ، شاعرة بالندم لتصرفها ، المتكلف ذاك .. هذا إلى دافع لقول شيء أي شيء قد يفتح الطريق إلى إحداث صلة نزيهة بينهما .
ولكنها رأت من التعبير الذي بدا على وجهه ، والذي ازداد جهامة وتفكيراً ، رأت انه لا بد قد نسي كل شيء عنها . لقد كان مستغرقاً في مشكلات هي اكثر أهمية من الواقع الذي يدور حوله. وتركت نيرن الغرفة وهي تتأوه بأسى ثم أغلقت الباب خلفها بهدوء .

الفصل الثاني

كان المنزل برواش البالغ ثلاثمائة عاماً من العمر ، مبنياً من الحجر الرملي ، وكان السقف مائلاً وإطارات النوافذ الخشبية مدهونة باللون الأبيض . كما كانت الجدران تبلغ القدمين سماكة . وكان روري و نيرن قد جهزا في الطابق الأسفل منه تدفئة مركزية ولكن لم يكن باستطاعتهما وضع نفس الشيء في الطابق الأعلى . ولهذا كانت غرف النوم باردة على الدوام في ما عدا فصل الصيف ، وكان هناك مدافىء ولكنهم كانوا يشعلونها في حالة المرض فقط لكي يشعر المريض بالدفء .
أو في مثل ظرف هذه الليلة . إذ جاءهم ضيف هو ستروم غالبريث والذي لا بد أنه يرقد الآن في فراشه بكل راحة ودفء ذلك أن غرفته تقع فوق المطبخ مباشرة كما أن النار تضطرم في المدفأة عنده .
كانت نيرن تفكر في كل ذلك وهي متكومة تحت الأغطية لم يسبق أن شعرت بالبرد قط في ما مضى . ولكن الأمر قد أصبح مختلفاً هذه السنة . وكانت صممت منذ أسابيع على أن تبتاع لنفسها بطانية كهربائية ، ولكنها ما زالت ترجئ الأمر إذ كانت دوماً تعتبر أن هناك ما هو أهم في الوقت الحاضر .

ولكنها هذه الليلة ، تأكدت من أنه لا يوجد على ظهر الأرض ما هي بحاجة إليه أكثر من تلك البطانية الدافئة ، فقد جعلها الركض بين الأشجار هذا المساء تشعر بالبرد في كل جسمها . ومع أنها جلست أمام المدفأة في غرفة الجلوس لمدة نصف ساعة تقريباً ، بعد أن خرجت كيلا و أسرتها فما زال البرد ينخر عظامها ، ورفعت ركبتيها إلى صدرها لتغطي بقميص نومها ، جسمها حتى قدميها المثلجتين ، وهي تلقي ببصرها إلى المنبه الموضوع بجانب صورة روري على المنضدة الملاصقة للفراش ...
كان الليل يقترب من منتصفه ..
ما هذا؟
وأمسكت أنفاسها . ما هذه الضجة فوقها؟ انه صوت ارتطام بالأرض ، وكأن شخصاً اصطدم بشيء ليقعا معاً على الأرض .
ودون أن تقف لتفكر في الأمر ، أنارت المصباح الموضوع على المنضدة ، ثم أزاحت الأغطية جانباً ، ومن ثم قفزت من السرير . ذلك أنه لم يكن هناك أحد في المنزل ما عداها و ذلك الضيف ستروم غالبريث ، فماذا يمكن أن يكون حدث؟ هل تراه وقع أرضاً؟ هل أصابه ضرر ما؟ أم أنه أصيب بنوبة قلبية؟
وكانت قبل دخولها الفراش قد نشرت فوق الأغطية معطفها المنزلي طلباً لمزيد من الدفء فأسرعت ترتديه وهي تسرع خارجة من الغرفة على ضوء مصباح صغير كانت قد تركته مضاءه ، قبل دخولها إلى غرفتها . وعلى ضوئه توجهت نحو غرفة ستروم .
كانت قد صممت على أن تقرع باب غرفته بعنف ، منادية إياه باسمه ولكنها ترددت عند وصولها إلى الباب . ماذا لو لم تكن الضجة آتية من غرفته . ماذا لو كان نائماً؟ انه لن يكون شاكراً لها إيقاظه من نومه في منتصف الليل.
بدلاً من ذلك ، قررت أن تفتح الباب بهدوء ثم تتسلل إلى الداخل ، دون الحاجة إلى إنارة المصباح لأن الضوء المتوهج من نار الموقد كان كافياًَ لتعرف منه ما إذا كان الضيف بخير أم لا . وهكذا ، أمسكت بمقبض الباب الخشبي ، ثم أدارته بكل حذر وصدر لذلك صوت ضئيل جعلها تعبس وهي تهمس لنفسها متجاهلة البرد الذي تشعر به في قدميها الحافيتين ، بينما ابتدأت تدفع الباب إلى الداخل بكل هدوء وأنفاسها ترتجف .
ولكنها لم تكد تفتح الباب عدة سنتمترات حتى جذب الباب من الداخل بعنف ، فشهقت ولكن قبل أن تستطيع الرجوع إلى الخلف ظهر ستروم غالبريث في العتبة مشرفاً عليها بقامته التي بدت كشبح مظلم .
لم يحاول أن يشعل المصباح , لأن المكان كما سبق وتكهنت كان مناراً بالضوء المتوهج من نار المدفأة . فاستطاعت أن ترى شعره الأسود مشعثاً.
وسألها بعنف ويداه على وركيه : " ماذا تريدين؟ "
وسرعان ما تبدد شعور نيرن بالارتياح لدى رؤيتها له واقفاً بدلاً من أن يكون مسطحاً على الأرض ، تبدد إزاء لهجته العدائية تلك بما تتضمنه من اتهام .
وعندما جالت ببصرها في أنحاء الغرفة رأت أن لا شيء في المكان قد اختل نظامه ، فقد كانت حقيبته موضوعة بجانب الخزانة ، كما كانت حافظة نقود من الجلد موضوعة على منضدة الزينة بجانب الباب ، وعدا عن ذلك وعن بعثرة أغطية الفراش ، لم يكن في الغرفة ما يدل على أنها مسكونة ، ما جعل نيرن تفكر في أن السيد ستروم غالبريث هو رجل منظم حقاً .
ولكنه كان أيضاً في هذه اللحظة رجلاً في غاية الغضب .
وقالت له بسرعة : " ظننت أنني سمعت ضجة ما ... كلا ، بل سمعتها بالتأكيد . سمعت صوت تحطم شيء ثم شيئاً ثقيلاً يرتطم بالأرض وكأنه جسد ... فظننت أنه ربما حدث لك مكروه .... "
فقال : " ما أغرب هذا ، فأنا لم أسمع شيئاً . "
ولاحظت تغير التعبير الذي كان على ملامحه ، وقد تلاشى التوتر الذي كان يضغط شفتيه ، لتظهر بدلاً من ذلك على شفتيه ابتسامة باهتة .
فقالت بعناد : " ولكن لا بد أنك سمعت إلا إذا كنت نائماً . "
فقال : " إن نومي خفيف جداً ، يا سيدة كامبل ، وأنا أؤكد لكِ أنه لو كان هناك ضجة من أي نوع كان لأيقظتني حتماً . "
فقالت : " إذن ..... " وقطع كلامها صوت قرقعة النار في المدفأة أشبه بسلسلة من المتفجرات . إن هذا طبعاً يفسر عدم سماعه أي ضجة أخرى .
وتابعت قائلة : " لا بد أن صوت قرقعة النار قد غطت على أي صوت آخر ...."
فاستند إلى جانب الباب بتراخ وهو يقول : " أو ربما لم يكن هناك أي ضجة . ربما ...... "
لقد علمت بالطبع ما سيقوله قبل ثانية واحدة من قوله هذا . علمت بالضبط ما يظنه سبب حضورها إليه في منتصف الليل.
لقد قال بلطف : " ربما يبدو المكان هنا موحشاً في ليالي الشتاء الطويلة ، ربما كنتِ تريدين رفيقاً ... " وقبل أن تدرك ما الذي يفعله ، كان يتأملها بنظرات تنم عن السخرية أكثر منها استفزازية وهو يتابع قائلاً : " ربما تشعر الأرملة الجميلة بالوحدة ... "
فتراجعت نيرن إلى الخلف ، ثم قالت بصوت حاولت أن يبدو هادئاً : " يا سيد غالبريث أن الرجل الذي يتكلم عن الأشياء البغيضة ، تلميحاً لا يعجبني ، فأنا أفضل الحديث المباشر مهماً كان فظاً . فإذا كنت تظن أنني جئت إلى غرفتك بغية التحرش بك ، فلماذا لا تقول هذا بشكل مباشر؟ "
وأدركت فجأة أنها كانت تقبض يديها بعنف ما جعل أظافرها تنغرز في راحتيها ففتحت قبضتيها ثم وضعت يديها في جيبي معطفها ، وهي تتابع قائلة :" إن هذا هو عندي أفضل كثيراً من ذلك التلميح المهين . ولكنني سأجيبك على ذلك على كل حال . نعم إنني أرملة ، ونعم يبدو البيت موحشاً ، موحشاً جداً من دون زوجي ولكنني لا أبحث عن بديل يحتل مكانه ... ولكن إذا كنت أبحث فأنا لا أظنك تصل حتى إلى التصفية النهائية بين المرشحين . فأنت رجل يبدو خالياً من أي دفء إنساني ."
هاهي قد قالت كل ما ينبغي أن يقال ، فإذا كانت قد بالغت في ذلك فهذا ما لم يكن بمقدورها تجنبه. وشعرت بقدميها كتلتين من الثلج ، حتى أنها بذلت جهداً كبيراً لتحركهما . فاستدارت عائدة إلى غرفتها وكانت طيلة الوقت تحبس أنفاسها متوقعه أن يتبعها ليعتذر إليها ، ولكنه لم يفعل .
وبعد ذلك بلحظات ، كانت قد عادت إلى فراشها وقد تأكدت بأنها لن تتمكن الآن من النوم . ليس لأنها كانت تشعر ببرد أكثر مما كانت تشعر به قبل أن تقوم بهذه الرحلة التعسة إلى غرفة ضيفها ذاك ، وإنما لتأثيره الغريب ذاك عليها والذي تعذر عليها تفسيره .
غرفة لهذه الليلة ، هذا ما قاله . حسناً إن هذا يعني ليلة واحدة فقط وهذا معناه أنه سيرحل بعد تناوله طعام الفطور . ومن الواضح الجلي أن لهذا الرجل مشكلات ، مشكلات هامة . أما هي فان لديها ما يكفي من المشكلات ، فهي تحاول أن تتدبر أمور نزلها برواش من دون زوجها ، كما أنها قلقة بالنسبة لإيجاد أعمال للفتية المراهقين الذين يعملون لديها لكي تشغلهم بها في خارج الموسم دون الحاجة إلى استخدام غيرهم . فلو كان عندها ما يكفي من الوقت لكان بإمكانها بطبيعة الحال أن تساعد هذا الرجل الغريب .... أو على الأقل ، وضعه في الطريق حيث يتابع بنفسه الوصول . ذلك أنه من المؤكد تقريباً أن هنالك شيئاً في ماضيه يعذبه .. وما لم يخرجه إلى العلن ليواجهه مباشرة ، فلن يكون في إمكانه أبداً أن يتعامل مع مستقبله . وتنهدت نيرن وهي تدعك قدميها الواحدة بالأخرى مرة بعد مرة ، مرغمة نفسها على إبعاد التفكير بهذا الرجل لتوجه أفكارها إلى أنها في بلد دافئ الآن مثل شاطئ استوائي والجو خانق الحرارة والشمس ترسل أشعتها اللاهبة على الأرض ....
وأخيراً ، ابتدأت تشعر بالدفء ولكن ما أن ابتدأت تستسلم للنوم ، حتى طرأ على ذهنها خاطر أيقظها تماماً ، وهو إذا لم يكن ما سمعته من خبط وارتطام بالأرض قد قام به ستروم غالبريث ، وليس لديها ما يدفعها إلى الاعتقاد بأنه كاذب فمن هو الفاعل إذن ؟
أترى هذه الضجة جاءت من الغرفة الصغيرة على السطح؟ ربما هي الريح قد هبت من إحدى النوافذ مما تسبب بسقوط شيء على الأرض ، فيكون هذا هو الصوت الذي سمعته والمصحوب بالارتطام بالأرض . لا بد لها من تفحص الأمر ....
وأغمضت نيرن عينيها وهي تجر الغطاء إلى ما فوق رأسها . إنها طبعاً لن تفتش عن مصباح لتصعد ذلك السلم الضيق المكشوف وحدها إلى تلك الغرفة الصغيرة لكي تطوف هناك بين الظلال متحسسة الأشياء غير عالمة بما قد تجد . كما أنه ليس بإمكانها أن تطلب من السيد ستروم غالبريث مرافقتها بعد ذلك الاستقبال الذي تلقته منه آنفاً . إنها ستؤجل تفحص تلك الغرفة إلى الصباح بعد أن يكون هو قد غادر المنزل .
كان الجو دافئاً تعبق فيه رائحة البيض المقلي والقهوة ، عندما صدر عن الكلب شادو زمجرة منخفضة عرفت هي منها أن الضيف في طريقه إليها قادماً من غرفته . فاغتصبت ابتسامة وهي تستدير إليه حاملة المقلاة في يدها ،
وفي اليد الأخرى ملعقة طويلة ، لتراه واقفاً على العتبة تشع منه رجولة فياضة بكنزته وبنطلونه الأسودين وشعره الأسود المسرح إلى الخلف بدون اهتمام . وتسارعت خفاقات قلبها قليلاً وهي ترى النظرة غير العادية التي بدت في عينيه الزرقاوين وذلك باستدارتها المفاجئة إليه على غير انتباه منه . فقد خيل إليها أنها رأت في عينيه ومضة غريبة سرعان ما أخمدها بنظراته السريعة .
وحدثت نفسها وهي تحييه بخفة ، بأنها لا بد كانت تتخيل ذلك فما الذي يجذبه فيها؟ فهي ليست من نوع نساء المدن الرشيقات الأنيقات اللاتي قد اعتاد عليهن . إنها لا تعدو أن تكون امرأة ريفية طويلة القامة ذات شعر كثيف أحمر جلب الشقاء إلى حياتها! فلماذا يجعلها وجوده تشعر بمثل هذا الضيق؟ لماذا أصبحت فجأة تهتم بمظهرها؟ وحدثت نفسها تأمرها بالهدوء . فهو سرعان ما سيرحل إنها ستقدم إليه الفطور ثم ترسله في طريقه وعندما تنتهي من تغيير ملاءات سريره وتنظيف الغرفة ستنسى كل شيء عنه وكأنه لم يكن .
وقالت له : " إنني أقدم الطعام للمستأجرين ، عادة في غرفة الطعام ولكن بما أنك بمفردك لا أظنك تمانع في تناول الفطور في المطبخ ، فهو أكثر دفئاً في فصل الشتاء ."
وأشارت بالملعقة التي في يدها إلى المائدة الخشبية المستديرة وهي تتابع قائلة : " يمكنك أن تسكب لنفسك القهوة وسأكون معك بعد لحظة . "
ورغبة منها في التظاهر بالعفوية وعدم الاهتمام ، أخذت تهمهم بأغنية خفيفة وهي تعد شرائح اللحم والبيض المقلي ، والفطر والطماطم المشوية ، ذلك أنها قررت بحزم أن أفضل ما يمكنها عمله هو أن تتظاهر بأنه لم يحدث بينهما شيء قط الليلة الماضية .
واستدارت متوقعة أن تراه جالساً إلى المائدة ولكنه كان واقفاً ينظر من خلال النافذة وظهره إليها ، فتنحنحت وهي تتقدم من المائدة تضع عليها طبقه وتقول : " لقد تغير الجو هذا الصباح فهو يبدو كأيام الربيع . كنت ارتديت سترتي السميكة عندما خرجت للتمشي من فترة ، ولكنني عند عودتي خلعتها بعد أن شعرت من حرارة الجو بأن كنزتي هذه تكفي تماماً . "
فاستدار إليها ، لترى أن بشرته كانت أشد اسمراراً مما كانت تظن . وبدا أن لونه القاتم قد أظهر زرقة عينيه الحادتين أكثر جلاء وسألها : " هل سبق لكِ الخروج هذا الصباح؟ "
فأجابت : " نعم فأنا آخذ شادو كل صباح في نزهة قصيرة . "
فقال وهو يلوي شفتيه : " نزهة قصيرة؟ كم من الوقت تبلغ هذه النزهة القصيرة يا سيدة كامبل؟ "
فألقت نيرن نظرة على الكلب الذي كان يضرب الأرض بذيله بعد إذ سمعهم يذكرون اسمه وقالت : " إننا نسير إلى الطرف الآخر من غلينكريغ ثم على امتداد البحيرة إنها تأخذ قرابة الساعة .... فهي على بعد أميال تقريباً . "
فقال ساخراً : " آه ، أهذه هي النزهة القصيرة؟ " وعاد ينظر من النافذة نحو مشاتل النباتات الممتدة إلى اليمين وهو يقول : " هل لديك مزرعة لتزويد السوق بالخضراوات ؟ "
فهمهمت وهي تشكر حظها على أنه يبدو على خلق مهذب هذا الصباح ويبدو أنه قرر هو الآخر أن يضع ما حدث الليلة الماضية خلف ظهره .
أدنت كرسياً نحو المائدة لأجله وكتمت ابتسامتها وهي ترى ومضة دهشة على ملامحه إذ رآها تجلس هي أيضاً . هل كان يتوقع منها أن تتصرف كخادمة فتنتظره إلى أن يفرغ من طعامه لتجلس وتتناول طعامها؟ وسكبت فنجانين من القهوة وانتظرت إلى أن جلس فمدت إليه يدها بفنجانه .
قالت وهي تدهن قطعة من الخبز المحمص بالمربى : " كنت تسألني عن المزرعة وسأشرح لك الأمر الآن . إنها عملية مزدوجة في الحقيقة ذلك أن المنزل مؤلف من قسمين ، المزرعة والمنزل ، فقسمي أنا هو المنزل .. وأثناء الصيف كما أخبرتك أدير نزل برواش الذي يقدم غرفة وفطوراً . أما روري والفتيان فقد كانوا يعتنون بالمزرعة فيستنبتون الخضر والفواكه لبيعها في الجنوب غالباً ولكن ..... "
فسألها مقطب الحاجبين وهو يرفع لقمة إلى فمه : " الفتيان؟ "
فأجابت : " لقد كنا أنا وزوجي ، مشتركين في مؤسسة اجتماعية تخص المنطقة قبل أن أرث نزل برواش وقد اهتممنا بعمل المؤسسة تلك بشكل خاص ، فكنا نوظف الأحداث الذين يرتكبون الأخطاء لأول مرة والذين توصينا بهم المحاكم ، فنعطيهم عملاً وتدريباً وتفهماً ، وعندما يصبح لديهم الاستعداد الكافي ، يتركوننا إلى العمل في الأسواق تاركين مكانهم لآخرين هم أكثر حاجة منهم إليه . "
سألها قائلاً : " وكم لديك الآن منهم؟ "
فأخذت رشفة من قهوتها قبل أن تجيب : " انهم ثمانية حالياً بما فيهم كيلتي ، بالرغم من أن وضعه مختلف ولكنهم ليسوا هنا حالياً . "
ولسبب ما لم تفهمه نيرن ، توتر الجو في الغرفة فوضعت الفنجان من يدها وهي تتفرس بفضول في وجه الرجل الجالس أمامها . كان قد وضع لتوه لقمة في فمه بدا أنه سيظل يمضغها دون نهاية ، إلى أن ازدردها أخيراً ،
فوضع الشوكة والسكين في طبقه ، وقال وهو يستند إلى الخلف : " الفتيان ليسوا هنا؟ "
كان في صوته بساطة متكلفة كذبها التوتر الذي بدا على ملامحه وهو يتابع : " وأين هم؟ "
فأجابت : " انهم في مكان ما في الشاطئ الغربي ... إنني لا أعرف مكانهم بالضبط حيث انهم يبحرون في سفينة ، إنها رحلة بحرية خارج البلاد وسيتغيبون لمدة ثلاثة أسابيع وهي من تخطيط المركز الإقليمي وسيثير عجبك عندما تراهم يعودون وقد امتلئوا ثقة بأنفسهم وشعوراً بالكرامة ، وحسن تهذيب ، وبالنسبة إلى البعض منهم فهي المرة الأولى ... "
وتلاشى صوتها وهي تراه منصرفاً عنها كلياً وذلك في نظراته الشاردة وتملكتها موجة انفعال ،
ليس بسببه فقط وإنما بسبب كل الآخرين الذين يتضايقون من الحديث عن المراهقين ومشكلاتهم . ألا يعلمون أنهم بإهمالهم هذه المشكلات وبعدم معالجتها من جذورها سيواجه المجتمع في السنوات القادمة مشكلات أكثر خطورة؟
ودفعت نيرن بشكل مفاجئ كرسيها إلى الوراء وجمعت جدائل شعرها الأحمر إلى ظهرها وهي تتنهد بضعف فان هذا الجهد القليل الذي تبذله في سبيل حل هذه المشكلات سينتهي وقريباً جداً حيث أن روري لم يعد هنا ليشاركها هذا العبء لقد استطاعت بمساعدة الفتيان ، أن تتدبر الأمر بدونه ، على نحو ما ، في الصيف الماضي ولكن هاهو ذا الربيع يقترب بينما هي تعلم أنه لم يعد بإمكانها أن تؤجل قرارها بعد الآن وهو أن الحالة الاقتصادية لم تعد تسمح لها بأن تتابع العمل في برواش من دونه . واستئجار شخص لمعاونتها قد أثبت استحالته لقد سبق وأجرت مقابلات لبعض طالبي العمل في الشؤون الاجتماعية ، ولكنها لم تجد الشخص الذي يجمع إلى اختصاصه ذاك ، مهارة في الزراعة والتسويق والميكانيكا وكل المهارات الأخرى التي كان روري يحسنها . المهارات التي كانت توفر عليهما الكثير من التكاليف ،
وعادت تتنهد تاركة المائدة وهي تقول : " أرجو المعذرة ، بإمكانك أن تتابع فطورك بمزيد من القهوة والخبز المحمص إذا شئت . "
فأجاب : " كلا ، علي أن أذهب الآن ، لقد كانت وجبة ممتازة . "
وأضاف الجملة الأخيرة بإيجاز وكأنه يعرف الكلمات الصحيحة ولكنه لا يعرف الطريقة الصحيحة لألقائها ،
و أزاح كرسيه إلى الخلف ، ثم هب واقفاً وهو يقول : " أريد منك الفاتورة من فضلك ."
كانت نيرن قد أعدت الفاتورة مسبقاً فناولته إياها وأخذت تنظر إليه وهو يضع يده في جيب بنطلونه الخلفي ، ثم رأته يعقد حاجبيه وهو يقول : " لقد نسيت المحفظة في غرفة النوم . "
فقالت : " لماذا لا تصعد وتحضر أشياءك انك ستجدني هنا في المطبخ حين تعود ."
أخلت نيرن المائدة ومسحتها بعد أن وضعت الأطباق في حوض الغسيل الذي سبق وملأته بالماء الساخن ومسحوق التنظيف ، ثم أسرعت تغسل الفناجين والصحون بعد أن ارتدت قفازي العمل المطاطين وكانت على وشك أن تعلق فنجاناً على العلاقة الخاصة بالفناجين عندما سمعت صوت خطوات ستروم في القاعة كانت خطواته عنيفة توحي بالغضب وزمجر الكلب وهو يخرج من مكانه الدافئ تحت الموقد قادماً نحو نيرن وقطبت هي جبينها بينما كانت تخلع قفازيها ثم ربتت على رأس الكلب وهي تهمس له : " لا بأس اهدأ ..."
" إنها غير موجودة " وكانت عينا ستروم غالبريث تقدحان شرراً وهو يقول : " كانت محفظتي موضوعة على طاولة الزينة حين نزلت ولكنها الآن غير موجودة ..... "
فقالت : " ولكن هذا مستحيل فليس هنا غيرنا نحن الاثنين ربما تراها انزلقت خلف المنضدة أو .... "
فقال مزمجراً : " ألا تفكرين في أنني لا بد وفتشت عنها في هذه الأمكنة؟ "
وحاولت نيرن أن تلتزم الهدوء فان لهذا الرجل سلوكاً خشناً يكاد يخرجها عن طورها ، وبسهولة تامة . وقالت بصوت هادئ قدر الإمكان : " دعني أصعد بنفسي وأعاود التفتيش . "
وعندما كانت تجتاز الصالة ، كانت تشعر بخطواته خلفها إلى حد كادت تحس معه بحرارة أنفاسه الغاضبة ، وأخذت تتساءل بقلق أين عسى أن تكون محفظته تلك؟ ما الذي جعلها تركض خلفه تلك الليلة؟ لماذا لم تتركه يذهب وحده؟ لقد سبق وأخبرته كيلا أن النزل يفتح أبوابه أثناء الصيف فقط .. فما الذي جعلها تركض خلفه بهذا الشكل؟ لقد سبب لها هذا الرجل من المشكلات أكثر مما سببه لها كل نزلائها معاً .
كان باب غرفة نومه مفتوحاً ، فدخلها ستروم على الفور ، بينما تحولت عيناها نحو المنضدة التي كانت رأت فوقها المحفظة في الليلة الفائتة و ......
وهتفت بحدة : " تلك هي محفظتك ، أمام عينيك! كيف لم ترها؟ "
واستدارت تحدق فيه بعينين تنطقان بالاتهام وهي تتابع قائلة : " ما الذي جعلك تقوم بهذه اللعبة؟ "
ولكنها اعترفت في داخلها بأنه فوجئ هو الآخر بل أكثر من هذا كان مصعوقاً تماماً فإذا كان يمثل عليها دوراً فهو ممثل قدير .
وقال وهو يتخلل شعره بأصابعه مذهولاً : " ولكنني أقسم .... "
فقالت بحزم وهي تأخذ المحفظة ثم تلقيها إليه : " حسناً يا سيد غالبريث فأنت لا تبدو من ذلك النوع من الرجال الذين يتهربون من دفع الفاتورة ، هل لك أن تفتح المحفظة لتتأكد من أنه لم ينقص منها شيء من فضلك؟ " وأخذت تحملق فيه وقد رفعت وجهها .
واشتد التوتر بينهما ، وهو يتحقق من محتويات المحفظة من الأوراق المالية ثم مجموعته من بطاقات البنوك .
وأخيراً قال بفتور : " لا شيء مفقود . "
وودت نيرن لو تسأله عما كان يتوقع ، ولكنها قالت بدلاً من ذلك : " هذا حسن ." ثم مدت يدها وهي تتابع ببرود : " والآن إذا شئت أن تدفع لي الحساب ثم تحمل معطفك وحقيبتك وتذهب ، فسننسى كل ما حدث . "
بدا عليه الذهول وهو يتناول الأوراق المالية من محفظته دون أن ينطق بكلمة ثم يناولها إياها ، ويستدير ليحمل حقيبته . وعندما فتح فمه ليقول شيئاً ، عاد فأطبقه بعد أن رأى نظرة اللوم في عينيها كان واضحاً أنه لم يجد من الكلام فائدة .
وبعد دقائق كانت توصله إلى الباب الأمامي وبعد تحية مختصرة جداً ألقتها عليه أغلقت الباب خلفه جيداً وهي تحدث نفسها قائلة ها قد انتهيت من السيد ستروم غالبريث و تابعت وهي تستند بظهرها إلى الباب مغمضة العينين تستمع إلى صوت هدير سيارته وهي تبتعد ، تابعت تفكر في أنه من ذلك النوع من الرجال الذين يتسببون بالمشكلات أينما يحلون . كان في نفسيته نوع من القلق كان ينتقل منه إلى نفوس المحيطين به ، كما انتقل إليها هي نفسها على الأقل . اعترفت بذلك شاعرة بالاستياء . كان كل ما تريده بعد رحيل روري هو السلام وأن تبقى وحدها مع ذكرياتها . صعدت السلالم بخطوات يملؤها التصميم وابتدأت تجمع ملاءات سرير ستروم وبعد أن ألقت بها في الغسالة ، عادت تنظف الغرفة والمدفأة وعندما عاد كل شيء كما تريد ، وغسلت يديها من الرماد وسواد الفحم ، تنفست بارتياح بعد أن أنهت هذه المهمة التي كانت تنتظرها طيلة الصباح .
الفصل الثالث

كانت الغرفة التي تلي السقف مباشرة في المنزل ، تمتد على طول السطح ويصعد إليها بواسطة سلم خشبي حلزوني ضيق يبدأ من فجوة في الطابق الثاني .
وبينما كانت نيرن تصعد السلم المظلم ، أخذت تصفر بصوت عال . ولم تكن تشعر بالعصبية عادة ولكنها كانت تتساءل عما إذا كانت فكرة أقفالها الباب الأمامي والخلفي هي فكرة حسنة حقاً رغم أنها فكرة عديمة الذوق . ذلك أن نزل برواش كان دوماً منزلاً مفتوحاً للمراهقين العاملين في هذا المكان فهو الملجأ لهم ليلاً ونهاراً ، عندما لا يتمكنون من التصرف في منازلهم . ولم يكن من غير المعتاد أن تنزل نيرن صباحاً إلى المطبخ لتجد غلاماً مستغرقاً في النوم وقد تكوم على نفسه بجانب الكلب شادو على سجادة قرب الموقد ، ولكن روري لم يعد معها الآن لقد أصبحت امرأة تعيش بمفردها وربما من الحكمة أن تكون أكثر حذراً في المستقبل وفي نفس الوقت ذكرت نفسها عابسة بتلك الضجة التي سمعتها البارحة بينما الفتيان كانوا بعيدين عنها مئات الأميال ، فلا يمكن إذن أن يكونوا مسؤولين عن ذلك ولكنها كانت تعلم أنه لن يقر لها قرار قبل أن تعرف سبب تلك الضجة والذي قد لا يعدو كما حدثت نفسها ، أن يكون مجرد فأرة قد أوقعت المصباح النحاسي القديم .
وابتدأت تطوف في المكان عاقدة ذراعيها فوق صدرها ، ومرت عدة دقائق اقتنعت بعدها أنه لا يوجد من هو مختبئ في أحد الصناديق أو الأكياس المتراكمة تحت رفارف القرميد . لم يبق سوى مكان واحد عليها أن تبحث فيه وشعرت بنبضات قلبها تتسارع . إنها الغرفة الصغيرة في آخر السطح والتي لا تحوي شيئاً سوى سرير نحاسي أثري يبدو أن خادماً كان ينام فيه في الأيام الخوالي .
دفعت الباب بحذر بأطراف أصابعها وصدر عن مفاصله أزيز عال شق الصمت ولكنها ما أن جالت بنظراتها في أنحاء الغرفة حتى تنهدت بارتياح ، طبعاً لا يوجد هنا أحد . لقد سبق وتوقعت أن تكون الغرفة خالية ، ولكن .......
وصدرت عن نيرن شهقة وهي ترفع يدها إلى عنقها ... آه ... صحيح أن الغرفة كانت خالية تماماً ، حالياً ولكن شخصاً كان فيها ، ومنذ وقت قصير جداً وحدقت في مجموعة المفارش الواقعة على الأرض ، ويظهر أن سقوطها كان سبب تلك الضجة التي كانت سمعتها واستدارت عيناها وهي تحملق في تلك البطانية العسكرية التي كانت ملقاة على تلك الكومة في الوسط ما جعلها لا تكاد تلاحظ علبة السجائر الفارغة التي كانت على الأرض قرب رأس السرير وإلى جانبها كان غطاء علبة صفيح يحتوي على رماد السجائر و أعقابها . لقد كان هنا شخص ما ، الليلة الفائتة بينما كانت هي نائمة . شخص قد أشعل خمس سجائر كما كانت عدتها ودخنها في منزلها.
وداخلها الغضب . كان غضباً جامحاً اكتسح كل شعور بالخوف ولكنها أدركت أن الشخص الذي كان هنا ، قد رحل عن المنزل لقد أحست بذلك وإحساسها لم يسبق أن خذلها من قبل.
تنفست بعمق ، ثم تراجعت خارجة من الغرفة مغلقة الباب خلفها وحدثت نفسها بأن لا تستعظم هذا الأمر ، وأن تفسير ذلك قد يكون غاية في البساطة . انها على الأقل قد أدركت السبب في أن ستروم لم يسمع الضجة ذلك أن غرفته واقعة في الطرف الآخر من .......
وتعالى صوت عجلات سيارة على الحصى تبعها صوت الكابح بصورة عنيفة مفاجئة ما شعرت معه بالفزع لقد بدا لها وكأن شخصاً ما قد قذف بنفسه أمام السيارة فوقفت هذه بهذا الشكل أمام منزلها بالضبط ... ومهماً يكن صاحب السيارة فهو يبدو على عجلة كبيرة من أمره أتراها حالة ما مستعجلة؟
وهبطت السلم الحلزوني بأسرع ما أمكنها ، وقلبها يخفق عالياً لتتحول بعده إلى السلم الرئيسي حيث أمكنها أن تزيد من سرعتها . وما أن وصلت إلى الدرجة الأخيرة حتى تصاعد رنين جرس الباب وكان الصوت مفاجئاً لها ، ما جعلها تطلق صرخة صغيرة هتفت بعدها : " إنني قادمة . " واجتازت الصالة إلى الباب وهي تكاد تتعثر في ركضها ، ومن ثم فتحته بعنف : " ما هذا........؟ "
ولم يعد بإمكانها أن تطلق أي كلمة أخرى ... لم تستطع حتى ولو دفعت لها ثروة بأكملها .. ذلك أن المشهد الذي بدا أمامها ما كان ليطرأ على مخيلتها ولو بعد ألف عام !
كان ستروم غالبريث واقفاً أمامها وقد أوشكت ملامحه على التفجر وكأنه ابتلع لتوه شحنة من الديناميت .
كان ممسكاً برقبة غلام يكاد يبلغه طولاً ... ذا وجه شاحب قذر يبدو عليه الغضب والتوعد . غلام تعرفه هي جيداً ، غلام بإمكانها أن تميزه في أي مكان ، إذ من غيره يملك هذه القامة الشامخة ذات الأطراف الطويلة النحيلة ، وهذا الشعر ذا اللون الفاحم اللامع الميال إلى الاحمرار؟ من غيره يضع في شحمة أذنه اليسرى دبوساً ... ومن غيره يمكنه أن يختال زهواً بمثل هذا القميص القديم المقفل وهذه التنورة الجبلية السوداء الباليه المعلقة على وركيه النحيلين ، متأرجحة حول ساقيه القويتين البارزتين العضلات؟ انه كيلتي دنبار ..... آه وحدثت نيرن نفسها بهلع عما كان يفعله هنا وقد سبق ورأته بنفسها يستقل الحافلة ، صباح أمس؟ ومن المفروض أن يكون الآن في البحر في السفينة كوينز بونتي .....
وما الذي اقترفه يا ترى ليستحق هذه المعاملة التي يعامله بها ستروم غالبريث؟
فتحت نيرن الباب على مصراعيه وهي تشير إليهما بيدها بالدخول قائلة بصوت يخالطه الارتباك : " أدخلا ، لكي توضحا الأمر . "
فدفع ستروم الغلام أمامه لاوياً ذراعيه بغلظة وهو يقول له : " أدخل . " ورأت نيرن شفتيه تنطبقان بصرامة عندما أفلت كيلتي من يده ، ليتراجع متعثراً نحو القنطرة المصنوعة من خشب السنديان ، والتي تسند سقف الصالة .
التفت إليها ستروم بصوت يفور بالغضب : " نوضح الأمر؟ اسأليه هو أن يوضح ذلك هيا ، أذكر اسمك يا فتى وإياك وأن تجرب علي ألاعيبك وإلا استدعيت الشرطة . "
وكانت عينا الغلام الرماديتان خاليتين من التعبير وهو يتجنب النظر إلى وجه سائله بينما أخذ يتمتم بشيء غير مفهوم .
فصرخ به ستروم بحدة : " تكلم بصوت عال . "
فرد عليه الغلام بحدة : " دنبار . " ولم تعد عيناه الآن تتجنبان وجه ستروم فقد كانتا على العكس ، مثبتتين على وجهه وقد بان فيهما التمرد وهو يتابع بوقاحة : " سومرليد دنبار وأصدقائي يدعونني كيلتي أما أنت فيمكنك أن دعوني سومرليد ."
وحملقت نيرن في الاثنين وهي تتساءل عمن يبدو لها غريباً منهما . كانت تعرف كيلتي منذ ولادته إذ كانت أمه من أعز صديقاتها وعندما فقد والديه فاض قلبها بالحزن لأجله ولكنها لم تره أبداً من قبل بمثل هذه الوقاحة . أما ستروم غالبريث فقد عرفته منذ حوالي أربع وعشرين ساعة ومع هذا تراه وهي تنظر إليه الآن بوجهه الذي يعلوه الشحوب في هذه المواجهة المربكة بين الاثنين ما جعلها تشعر بشيء من العطف نحوه كان يبدو كما لو كان مريضاً ، مريضاً حقاً .
فقالت : " هل لأحد منكما أن يخبرني عما حدث؟ ما الذي تفعله هنا يا كيلتي؟ لماذا لست مع رفاقك؟ "
فأجابها بصوت خلا من الوقاحة : " كنت قد أخبرت السيد وبستر أنني أشعر بوعكة صحية وسألته إن كان بإمكاني العودة ، فاتصل بكِ هاتفياً ليخبرك .... "
فقاطعته قائلة : " ولكنني لم أتلق أي مكالمة هاتفية ولم تكن هناك رسالة محفوظة في آلة تسجيل المكالمات . "
فرأت الدم يتصاعد إلى وجهه وهو يقول : " لقد محوتها من آلة تسجيل هاتفك ."
فهتفت به : " ماذا؟ ومتى؟ ."
فأجاب : " لقد رأيتك تذهبين إلى المقبرة أمس عند ذلك دخلت إلى المنزل ولم أكن أريد أن يعلم أحد بعودتي . "
ومضت لحظة طويلة كانت نيرن أثناءها تحدق فيه صامتة وبعد أن استوعبت الأمر ملياً قالت له : " إذن فهو أنت الذي كان ... في الغرفة الصغيرة التي على السطح الليلة الفائتة؟ "
فنظر كيلتي إلى الأرض وهو يقول : " نعم . "
هزت نيرن رأسها ، ما الذي يحدث هنا؟ وحولت انتباهها إلى ستروم غالبريث ولكنها عندما رأت التعبير الذي بدا على ملامحه تلاشى السؤال من بين شفتيها فقد جعلتها الطريقة التي كان ينظر فيها إلى كيلتي تهتز بعنف ... ليس لأنه كان فقط ينظر إليه وإنما لأن نظرته تلك كانت تتفحصه بلهفة قريبة من الوحشية كانت تتفحص وجهه ، تتفحصه بدقة وتركيز جعلت شعرها يقف .
كان يبدو وكأنه يبحث عن شيء ما ... شيء هو وراء ملامح كيلتي الظاهرة ولكن مهما كان ذلك الشيء الذي يبحث عنه فقد كان واضحاً من الغضب الذي كان يعلو وجهه ، انه لم يكن يريد رؤية ذلك الشيء ... آه لا بد أن هذا من تصوراتها ليس إلا أم أنها قد خرجت عن عقلها؟
وأخيراً ، أخذت نفساً عميقاً لتقول بعد ذلك بحزم : " سأكون شاكرة لك يا سيد غالبريث ، إن أخبرتني بدورك بهذا الأمر بأجمعه . "
ظنت في البداية أنه لم يسمعها وأوشكت أن تعيد السؤال عندما حول نظراته بجهد واضح من الصبي إليها ودبت للحظة على وجهه مظاهر الحرج وكأنه نسي ما يدور حوله ، ليتلاشى بعد ذلك ، هذا التعبير تدريجياً وتبدو في عينيه نظرة باردة قاسية وقد عاد مرة أخرى مسيطراً على نفسه ودفع يديه في جيبي بنطلونه بعنف وهو يقول بإيجاز : " عندما تركت هذا المنزل وجدت نفسي أفكر في ما حدث الليلة الماضية بالنسبة إلى تلك الضجة التي سمعتها أنتِ وفي اختفاء محفظتي هذا الصباح واستنتجت من ذلك أنه قد يكون هناك شخص ثالث في المنزل ففكرت في أنه من الأفضل أن أعود لأعلمك بالأمر ....."
فقالت : " وهكذا صممت على العودة . "
فقال : " بالضبط وما أن دخلت البوابة حتى رأيت ..... "
فتجهم وجه كيلتي وقاطعه ناظراً إلى نيرن : " رآني أتسلل خارجاً من الباب الأمامي . "
وأخذ يعبث بقدميه وهو يتابع قائلاً : " إنني آسف يا نيرن . "
فأخذت نيرن تتخلل شعرها بأصابعها دافعة إياه من على جبينها وهي تقول : " ولكنني ما زلت لا أفهم . هل كنت أنت من أخذ تلك المحفظة يا كيلتي؟ "
فقال : " لقد أخذتها ، ولكن فقط لكي ......" وسكت مقفلاً فمه بعناد وقد بدا عليه بجلاء أنه لن يفصح عن السبب الذي جعله يأخذ المحفظة .
فعادت تسأله : " ولكنك أعدتها دون أن يفقد منها شيء مما فيها من نقود أو بطاقات مصرفية....؟ "
هز رأسه ، وكان كل جوابه هو هزة من كتفيه .
ها قد وصلت إلى طريق مسدود . وتنهدت وهي تلتفت إلى ستروم تسأله : " هل تريد أن تتصل بالشرطة؟ "
فأجاب : " لا أدري ما الذي علي فعله ولكن من الواضح أنه ليس بمقدوركِ الأشراف على تنشئة هذا الغلام . لماذا تظنين أن بمقدوركِ التعامل مع الفتيان الثمانية .. وإدارة مزرعة خضراوات للتسويق هذا عدا عن إدارة نزل يمنح السرير والفطور للنزلاء في الصيف . إذا كنتِ تريدين نصيحتي .. " وبانت في لهجته السخرية وهو يتابع قائلاً : " بيعي هذا المكان الكبير وابحثي لنفسك عن شاب لطيف تتزوجينه ثم تستقرين وتنشئين أسرة .. راجية أن يكون لك بنات صغيرات لا يسببن لك المشكلات . "
وهنا تلاشى من نفس نيرن كل العطف الذي كانت شعرت به نحو هذا الرجل منذ لحظات ، وكأنه لم يكن وازدحمت على شفتيها كلمات الغضب والامتعاض ولكن لأمر لم تستطع فهمه ، استطاعت أن تكظم كل هذا . من الأفضل لها أن لا تتكلم مطلقاً كي لا تمنح هذا الرجل الشعور بالرضى للاستياء الذي سببه لها ، مفضلة على ذلك ، النظر إليه بثبات منتظرة منه أن يخرج من المنزل ولكنه لم يتحرك ، وبدلاً من ذلك رأت لوناً خفيفاً جداً يتصاعد إلى وجنتيه وسمعته يتنحنح مرة بعد مرة ثم ولحيرتها البالغة ، قال بصوت يشوبه شيء من الحرج : " إنني أتساءل يا سيدة كامبل عما إذا كنتِ ترضين باستضافتي عدة أيام أخرى . "
ورأت نيرن نفسها تكاد تجن . هل هذا ما كان شعور ( أليس ) بطلة كتاب ، أليس في بلاد العجائب؟ الفضول ثم الفضول؟؟
لو لم يكن قد أخذها ، بسؤاله هذا على حين غرة ولو لم تكن في أشد الحاجة للانفراد بكيلتي للتحدث إليه ، لولا ذلك ، لالتفتت إليه ببرود تخبره بأن من الأفضل نظراً لظروفها الحاضرة ، أن يرحل عن المنزل ولكنها لم تفعل ، آه نعم ... لقد ابتسمت له ببرود فعلاً ،
ولكنها عندما نظرت في عينيه الزرقاوين الكحيلتين اللتين أصبح لونهما قاتماً لشدة الانفعال ، وجدت نفسها تقول وكأنها منومة مغناطيسياً : " لا بأس ." هل تراها قالت ذلك حقاً؟ وحدثها صوت خفي في داخلها بأنها تقترف غلطة كبرى ولكنها تجاهلت هذا الصوت ، لماذا؟ لم يكن لديها فكرة مطلقاً عن السبب وحولت بصرها عنه وهي تزدرد ريقها ، إلى الباب خلفه وهي تتابع قائلة : " إذا شئت ، يمكنك أن تحضر أمتعتك من السيارة وتصعد بها إلى الغرفة بينما أكون أنا قد جهزت القهوة إنما امنحني عشر دقائق من فضلك . "
هل تراه تنفس بارتياح فعلاً ، أم هي مخيلتها صورت لها ذلك؟ لماذا أصبح بقاؤه هنا مهماً بالنسبة إليه ، بهذه الصورة المفاجئة؟ وما لبثت نيرن أن أرغمت أفكارها على الابتعاد عنه . مهما كانت مشكلاته ، فهي لا تخص أحداً سواه . ذلك أن ثمة ما يجب أن تقوم به الآن وأول شيء هو أن تتحدث إلى كيلتي في أمر خاص .
أشاحت بوجهها عن ستروم ، لتضع يدها على ذراع الغلام قائلة : " تعال معي إلى المطبخ يا كيلتي . "
إنها لم تمنح نفسها سوى عشر دقائق فقط ، ولكن بإمكانها أن تتحدث إليه أثناءها وتحاول أن تعلم ما الذي حدث . فهي لم تصدق أنه عاد بسبب وعكة أصابته ، إنما تعتقد أن ثمة سبباً جعله يرفض الإبحار على السفينة لقد أراد أن يعود إلى البيت .
ولكن لماذا؟ وهل تراه سيخبرها؟
وأخذت تملأ إبريق القهوة بالماء البارد وهي تميل برأسها نحو الغلام ، تسأله : " هل تناولت شيئاً من الطعام هذا النهار؟ "
فأجاب : " كلا ، لم آكل شيئاً ."
فسألته : " هل أنت جائع؟ "
فأجاب : " نعم "
فقالت : " إذن فأنا اقترح بأن تقوم بأمرين ، وذلك حالما تخبرني بالضبط ماذا جرى . أما الأمران فهما ، أولاً : اذهب إلى بيتك وأطلب من عمتك آني أن تقدم لك الإفطار . ثانياً : ما أن تنتهي من ذلك عليك أن تهذب إلى المستوصف وتطلب من الدكتور كوغيل أن يفحصك ......"
فقاطعها قائلاً : " إن عمتي آني ليست في البيت لقد ذهبت إلى بلدة انفرنيس لتمكث مع صديقتها روبي . "
فتأوهت بفروغ صبر وهي تفكر ، طبعاً لا بد أن آني قد خططت لتأخذ عطلة أثناء ذهاب كيلتي في رحلته على تلك السفينة .
فتمتمت قائلة : " وأظن أن بيتها مقفل ولكن حتى لو استطعت الدخول ، فليس في إمكانك أن تبقى في البيت بمفردك على كل حال ...."
فسألها : " هل أستطيع البقاء هنا إلى حين عودتها ؟ "
فأجابت رافعة حاجبيها وهي تحمل بيدها إبريق القهوة : " هنا؟ ولم لا؟ يمكنك أن تستعمل إحدى غرف النزل . "
فقال : " هل يمكنني أن أنام في غرفة السطح؟ "
أجابت : " غرفة السطح؟ كلا انك ستموت من البرد فيها. "
فقال : " ولكنني لم أمت من البرد البارحة . "
وبدت في عينيه نظرة هزل ماكرة ، فلم تتمالك نفسها من الضحك وأجابت وهي تهز كتفيها : " كلا . انك لم تمت من البرد أليس كذلك؟ حسناً لم لا؟ ولكن عليك أن تتدبر أمر الفراش وسأعطيك مصباحاً وبعض الأغطية إنما هنالك شرط واحد ..."
فسألها : " وما هو؟ "
أجابت : " لا أريدك أن تدخن يا كيلتي وإذا شئت أن تدخن فعليك أن تقوم بذلك خارج البيت . فأنا لا أسمح بذلك داخل المنزل . "
فقال : " كما تشائين . لا مشكلة في هذا . " ورفع تنورته ولكن ما أن تركها حتى انحدرت مرة أخرى إلى وركيه وقال : " علي أن أعود إلى المدرسة ما دمت قد عدت من الرحلة . "
فحاولت أن تخفي ابتسامتها وهي تجيبه قائلة : " أظن هذا هو المفروض ولكن عليك أن تأكل شيئاً قبل ذلك هاك .." ووضعت على المائدة طبقاً عميقاً وملعقة وهي تقول : " ضع لنفسك بعض الحبوب الموجودة في الخزانة مع الحليب وهو في الثلاجة . "
والآن ، حان الوقت لكي تسأله عن سبب عودته فقالت بصورة عفوية وهو يسكب الحليب : " والآن ، اخبرني ، ما الذي جعلك تلغي رحلتك على متن السفينة بونتي؟ كنت أظنك متشوقاً إلى هذه الرحلة . "
فدفع إناء الحليب إلى وسط المائدة ، ثم حنى رأسه فوق طبقه وهو يجيبها قائلاً : " إنني لا أريد أن أتحدث عن هذا الأمر يا نيرن انه ... شأني الخاص . "
فاستندت إلى منضدة خلفها وهي تنظر إلى الغلام بمزيج من العطف والخيبة ، لقد عانى أكثر مما عانى أي غلام في سنه وإذا كان لديه بعض المشكلات الآن فهو لا يريد أن يشاركه أحد في أمرها وقد يكون هذا بالنسبة إليها هي على الأقل .
ومن خبرتها ، كانت تعرف الأوقات التي يمكنها بها الإلحاح أو عدم الإلحاح وهي الآن تعرف أن الإلحاح لن يأتي بفائدة .
وهكذا قالت برقة : " لا بأس ولكن تذكر عندما تقرر في أي وقت أن تتحدث بالأمر فتذكر أنني هنا . وأي شيء تخبرني به سيبقى سراً إذا كان هذا ما تريده . "
فتمتم : " شكراً يا نيرن . "
كان قد التهم الطعام وكأنه لم يأكل منذ أسبوع ونهض واقفاً وهو يقول : " أتريدين أن أضع هذه في ماكينة غسل الأطباق؟ "
فأجابت : " كلا ، بل ضعها في الحوض من فضلك . إنما اسمع يا كيلتي ..."
فقال : " نعم ."
فقالت : " بالنسبة إلى محوك للمكالمة في آلة التسجيل في الهاتف ....."
فتنهد قائلاً : " سأشتغل مقابل ذلك في عطلة الأسبوع القادمة من دون أجر . "
فقالت : " حسناً . "
استقام في وقفته وهو يقول : " حسناً سأذهب الآن . "
سألته قائلة : " هل آخذ لك موعداً من الدكتور كوغيل؟ "
ورفعت حاجبيها ساخرة ، فاحمر وجهه وهو يجيب : " كلا لن أذهب إلى الطبيب وأنا آسف لأنني كذبت على السيد وبستر بالنسبة لهذا . إن صحتي حسنة جداً سأذهب إلى المدرسة الآن وسأراك فيما بعد . "
وما أن وصل كيلتي إلى الباب ، حتى ظهر ستروم غالبريث على العتبة وما أن تجاوز أحدهما الآخر حتى ألقى كيلتي على الرجل الغريب الأسمر نظرة جامدة بينما أظلمت ملامح ستروم وظنت نيرن أنه سيقول شيئاً ولكنه فقط أطبق فمه بقوة وهو يرمق الغلام المبتعد بعينين حادتين .
وبعد ذلك بلحظات ، سمعا صوت الباب الخارجي يصفق ولم تكن نيرن قد شعرت بأنها تمسك أنفاسها إلى أن رأت نفسها تتنفس ببطء ، ذلك أن الجو سرعان ما يشحن بالتوتر كلما جمعتهما غرفة معاً . كان توتراً قلقاً بقدر ما هو غامض محير ماذا يمكن أن يكون السبب يا ترى؟
وسألت ستروم ببشاشة بينما كان يدخل المطبخ : " هل استقر بك المكان؟ "
فأجاب : " نعم أشكرك . "
فقالت : " دعني اسكب لك فنجاناً من القهوة . " وبينما كانت تقوم بذلك أخذ هو يذرع المطبخ بخطوات قلقة ومرة أخرى داخلها الضيق ما أشد الاختلاف بينه وبين روري لقد كان زوجها رجلاً سهل المعشر هادئ الطبع . كان دوماً ينجز العمل الذي يبدأ به ، وكان ينهيه دوماً دون أن يزعج أحداً كانت هذه موهبة فيه كما كانت تخبره على الدوام .
كانت موهبة يبدو بجلاء أن ستروم غالبريث هذا لا يملكها . لقد عرفت من الطريقة التي عامل بها كيلتي أنه يواجه المشكلات رأساً ويعامل أي شخص يعترض طريقه بكل غلظة وفظاظة .
ناولته فنجان القهوة ، ولكنها لم تتكلف عناء دعوته إلى الجلوس , لقد أحست بأنه اكثر قلقاً من أن يستجيب لهذا . كما أنها أحست أيضاً بأنه يريد أن يتحدث إليها ولكن في أي موضوع؟
قال فجأة : " أخبريني عن ذلك الغلام . ما هو تاريخه؟ "
حسناً ، لقد تملكتها الدهشة في الواقع ، ذلك أنها منذ وقت قصير كانت تشعر بالأسى عندما رأته يفقد اهتمامه وهي تتحدث عن الفتيان الذين يعملون لديها وهاهو ذا الآن يوجه إليها أسئلة عن واحد منهم .
فسكبت لنفسها فنجاناً من القهوة أضافت إليه السكر والحليب وأخذت تحركه قبل أن تتجه إلى المائدة حيث جلست واضعة يديها حول الفنجان وهي تقول : " كيلتي؟ انه صبي لطيف ....."
فارتسمت على شفتيه ابتسامة عدم تصديق وهو يقاطعها قائلاً : " لطيف؟ لقد كنت استنتجت مما أخبرتني به أن الفتيان الذين يعملون معك هم خارجين عن القانون ومن القليل الذي رأيته من سومرليد هذا أو كليتي أو مهما كان اسمه ...."
فقاطعته وهي ترغم نفسها على الهدوء : " قبل كل شيء نعم الفتيان الذين يعملون معي في برواش كان لهم جميعاً مشكلات مع القانون .. ولكن ما عدا كيلتي فالأمر معه مختلف . "
فسألها : " من أي ناحية؟ "
فأجابت : " إن كيلتي هو أصغر سناً من أكثرهم وهو يعمل هنا منذ وفاة والديه فقط . "
وحدقت نيرن من النافذة وهي تفكر بذهن شارد في أن كيلتي لا بد قد أطلق شادو إلى خارج المنزل . فقد كان الكلب الأسود متمدداً في الشمس على الطريق قرب سيارتها الفان وتابعت تقول : " كان دوماً بمفرده . لم ينخرط قط مع المجموعة انه غير عادي ..."
وأطلقت ضحكة أسى قصيرة وهي تقول : " لا بد انك استنتجت هذا بنفسك من الطريقة التي يرتدي بها ثيابه . "
فقال : " معك حق بالنسبة إلى ذلك . فأنا لا يمكنني أن أتصور أن كثيرين من الغلمان الذين في سنه يشعرون بالارتياح لارتداء التنورة . "
فقالت : " عندما كان في الثالثة من عمره تقريباً ، ابتدأت أمه هازيل تلبسه تنورة يوم الأحد وقد اعتاد الأطفال الذين يكبرونه سناً ، إغاظته فأطلقوا عليه لقب كيلتي ومعناها ذو التنورة ، وعندما ابتدأ بالذهاب إلى مدرسة غلينكريغ الابتدائية لم يعد يلبس التنورة مطلقاً ولكن اللقب التصق به . "
ووضعت نيرن فنجانها على المائدة ثم أخذت تمر بإصبعها على حافته وهي تتابع مفكرة : " عندما أصبح في الحادية عشرة ذهب إلى مهرجان للكشافة في أدنبرة وعندما ذهب والداه ، هازيل و هوغ ليستقبلاه في محطة القطار ، لم يعرفاه فقد استبدل بنطلونه الجينز بتلك التنورة الاسكتلندية السوداء .. وكانت في ذلك الحين تنزل إلى ما تحت ركبتيه .. كما كان صابغاً شعره بلون ارجواني كعادة سكان الجبال ومنذ ذلك الحين أصبحت التنورة دلالة عليه . "
وساد صمت في المطبخ صمت طويل ، لم يخترقه سوى صوت دقات ساعة ساحة غلينكريغ تدق الواحدة . وعندما تلاشى الصدى ، وضع ستروم فنجانه من يده ثم مشى نحو النافذة ، فاستند بكتفه على الجدار ، ثم نظر إلى نيرن وهو يعقد ذراعيه فوق صدره قائلاً : " لقد قلت إن والديه قد توفيا من يعتني بالغلام الآن؟ "
استغربت شدة اهتمامه بهذا الغلام الذي سبق وعامله بعنف وبطريقة خاطئة فقالت تجيبه : " إن القريبة الوحيدة لكيلتي هي آني لو . وهي عمة أبيه ، وقد أصبحت قانونياً الوصية على الصبي بعد موت أبيه . "
وهزت رأسها متابعة : " مسكينة آني فقد بقيت عازبة طيلة حياتها ما جعلها غير قادرة على التعامل مع كيلتي وهذا ما جعلني شريكة في الموضوع إذ طلبت مني أن أعطيه عملاً بعد الخروج من المدرسة وبهذا أتمكن من مراقبته . "
فقال وهو ينظر إليها بثبات : " يبدو أن علاقتك طيبة مع الغلام . "
فأجابت : " إنني أحبه فهو كما سبق و أخبرتك غلام لطيف ولكنني قلقة عليه فهو بسكنه مع آني وعمله معي لا يجد في حياته رجلاً يسير على منواله . "
سألها : " وماذا عنه في المدرسة؟ "
فأجابت : " انه ذكي جداً ولكنه لا ينكب على دروسه ذلك أن له هواية و حيدة في حياته وهي ....."
وقطع عليها حديثها رنين جرس الهاتف ، فاستأذنت منه وهي تهرع لترفع السماعة وجاءها صوت كيلا يقول : " نيرن لقد نسيت أن انسخ من عندك تلك الوصفة التي كنا نتحدث عنها تلك الليلة هل عندك وقت لتعطيني إياها الآن؟ "
فأجابت : " طبعاً ، انتظري برهة لكي أحضر الدفتر . "
ووضعت السماعة وهي تقول ناظرة إلى ستروم : " إنني آسفة فسأتأخر في المكالمة الهاتفية عدة دقائق هل ستخرج هذا الصباح؟ ."
فأجاب : " لقد فكرت في ذلك ، لأستكشف المكان . "
لماذا يريد رجل قادم من المدينة أن يطوف حول قرية إسكتلندية صغيرة في أكثر أيام شهر شباط ( فبراير ) كآبة ، بينما بإمكانه أن يطير إلى الريفييرا أو فلوريدا أو جزر الباهاما؟ وجدت نيرن نفسها تتساءل عن ذلك ولكنها ما لبثت أن تخلت عن هذه الأفكار فهذا شأنه .
أخرجت دفترها ومضت تقلب صفحاته وهي تقول : " إنني في العادة ، أقدم لنزلائي السرير والفطور ولكن بما أنك بمفردك وأكثر أمكنة السواح مقفلة في هذا الوقت من السنة ، فإنني أرحب بأن تتناول طعامك معي فقط دعني أعرف مقدماً ما إذا كنت لن تتناول وجبتك هنا . "
فقال : " شكراً ولكنني اليوم بالذات سأغيب حتى الساعة الخامسة . "
ارتاحت نيرن في سرها ، لكنها ما لبثت أن أجفلت وهي تتساءل عن سبب ردة الفعل هذه نحوه ، وما لبثت أن أدركت الجواب ، ذلك أنها لم تقابل قط ، رجلاً سبب لها مثل هذا القلق وذلك بمجرد وجوده ، كما أنها لم يسبق لها أن شعرت قبله قط ، بالاهتمام والانجذاب برجل ما ، ولم يكن ذلك بسبب قامته الفارعة وشعره الأسود وعينيه الزرقاوين ذات المشاعر القوية كان الذي يضايقها حقاً هو شيء أقل ظهوراً .
وفجأة ، أنهت أفكار الطائشة لتقول : " هذا حسن . "
ومشت نحو الهاتف ، بينما رفع أنامله إلى جبهته يحييها مودعاً وعلى شفتيه ابتسامة ملتوية جعلت نبض نيرن يرتفع بطريقة غريبة ما دفعها إلى التفكير بأن هذا الرجل يجب أن يسجن في الطابق الأعلى ، ثم يلقى بالمفتاح بعيداً ... فقد كان رجلاً محطماً للقلوب لم تر له من قبل مثيلاً .
وحبست أنفاسها حتى سمعت الباب الخارجي يصفق خلفه لتتنهد عند ذاك وهي تلتقط السماعة قائلة : " هل ما زالت على الخط يا كيلا؟ "
فأجابت شقيقتها قائلة : " هل أنتِ بخير يا نيرن؟ إن صوتك ليس كالمعتاد هذا الصباح ."
وكذلك نيرن لم تشعر بنفسها كالمعتاد أيضاً ، فقالت : " لا بد أن الخط ليس على ما يرام إنني بخير تماماً . "
ولكن ضربات قلبها كانت تقرع كالمطارق ما الذي حدث لها يا ترى؟ كان جواب ذلك هناك في مكان ما من رأسها ... ولكنها بدلاً من أن تفكر في جذور المسألة نقلت ذهنها بسرعة من تلك المهمة إلى الأمر الذي بين يديها فقالت : " هل بيدك قلم يا كيلا؟ حسناً هاك الوصفة . "

الفصل الرابع

عاد كيلتي من المدرسة في الساعة الرابعة ، فكلفته نيرن على الفور بتنظيم الغرفة الصغيرة على السطح . وبعد ذلك بفترة قصيرة نزل مطمئناً نيرن أنه لم يعد هناك خطر من انهيار الفراش بعد الآن .
قال : " لقد وضعت لوحين من الخشب تحت الفراش ما أصبح سقوطه بعد ذلك مستحيلاً ، وهو في الواقع مريح أكثر من ذلك الذي أنام فوقه عند العمة آني . "
فقالت نيرن : " هذا حسن . " وكانت تقف عند الحوض تقشر البطاطس . ثم توقفت لحظة ، لتستدير إليه قائلة : " بالمناسبة ، ذهبت في الأسبوع الماضي لزيارة آني فأرتني الصور الفوتوغرافية التي ألصقتها أنت على جدار غرفة نومك إنها رائعة تماماً . "
فقال : " شكراً يا نيرن . "
لم يكن في صوته تواضع زائف ، كما لاحظت وعدا عن لون خفيف ظهر على وجنتيه ، لم يكن هناك دليل على أن إطراءها ترك أي تأثير عليه . وكان إطراؤها صادقاً فقد كانت الصور الفوتوغرافية تمثل مناظر من قرية غلينكريغ . البحيرة والمناظر التي تحيط بالجبال . وكان كل ذلك من الجمال بحيث احتبست أنفاسها وهي تنظر إليها وتابعت تقول : " ولكن آني تقول انك تركت التصوير منذ أقمت معها لماذا يا كيلتي؟ "
فهز كتفيه وهو يحول عينيه عنها ويقول : " لقد فقدت اهتمامي فقط كما أظن ومن ناحية أخرى ، أنتِ تعلمين كم هو صغير منزل آني حتى أنني لا أجد فيه زاوية يمكنني استعمالها كغرفة مظلمة أظهر فيها أفلامي لهذا حزمت كل أمتعتي ووضعتها جانباً ."
فسألته : " بما في ذلك آلة التصوير أيضاً؟ "
فعبس وهو يعبث بقدميه قائلاً : " لقد بعتها "
فلم تتمكن نيرن من منع شهقة أفلتت منها وهي تقول : " بعتها؟ أوه يا كيلتي ... كيف أمكنك هذا؟ كانت والدتك قد أخبرتني كم تعب والدك في توفير ثمن تلك الآلة لقد ضحى بأشياء كثيرة ...."
وذهلت وهي ترى الدموع تتفجر من عيني كيلتي الذي رفع يده يمسحها بكمه بخشونة وهو يمر بها أثناء ذلك دون أن يراها متابعاً قوله : " لا أريد أن أتحدث عن هذا الموضوع يا نيرن . " وتابع يقول بصوت مرتجف : " لقد فقدت اهتمامي بالتصوير .. ألا تفهمين؟ كان ذلك عملاً صبيانياً قد انتهيت منه . "
ودفع باب المطبخ وفي لحظات كانت تسمع خطواته صاعداً السلم نحو غرفته الصغيرة ليكون بمفرده وشعرت بقلبها يتمزق لأجله . ما زال في نفسه أشياء لم يفصح عنها ، أشياء جعلته يتخلى عن هوايته في التصوير . أشياء شخصية عميقة لا بد أنها تركت في نفسه ألماً عميقاً ماذا يمكن أن تكون هذه يا ترى؟ إنها طبعاً ليست عدم وجود مكان في بيت آني يجعله غرفة مظلمة لتظهير الأفلام لقد كانت أحلامه أقوى كثيراً من أن يسمح لها بالتبدد بهذه السرعة .
وأجفلت حين سمعت صوت الباب الخارجي يغلق لا بد أنه ستروم غالبريث جاء ليتناول عشاءه وأسرعت بإنهاء تقشير البطاطس وكانت تمسك بآخر حبة منها عندما سمعت خطواته في الصالة .
بعد لحظة ، كان يدخل من الباب الذي كادت كتفاه العريضتان تملأنه وما أن تقدم مقترباً منها ، حتى شعرت برغمها ، بالجو حولها يمتلئ بالحيوية والنشاط اللذين يشعان منه .
وقال يخاطبها : " إنها رائحة شهية . "
فأجابت : " انه حساء العدس . " وأسقطت البطاطس في إناء على النار تغلي فيه المياه وهي تتابع قائلة ببساطة : " ألي أين ذهبت هذا العصر؟ "
فأجاب وهو يقف في وسط المطبخ دون هدف : " آه ، هنا وهناك . "
ولاحظت نيرن أن هناك دلائل على مشاعر الرجل في نفسه ، هي فوق مستوى إدراكه وذلك في ما يتعلق بميدان المرأة ، فحاولت أن تعامله كما تعامل أي فتى من أولئك الذين ترعاهم ، فقالت وهي تناوله ملعقة طويلة اليد : " هيا تقدم واجعل من نفسك شخصاً ذا فائدة وحرك هذا الحساء . "
لم يكن الحساء بحاجة إلى تحريك .... ولكنه لن يعرف ذلك أبداً لقد عرفت ذلك عندما دخل في إحدى المرات أحد الفتيان المطبخ ليقف دون هدف لقد أراد أن يكون بقرب امرأة ولكنه لم يكن يدرك ذلك في أعماقه وسرعان ما اكتشفت هي أن في إعطائه عملاً يقوم به يجعله أكثر راحة فهل يمكن أن يفيد هذا رجلاً منعزلاً كئيباً مثل هذا الرجل؟
وعندما أخذ الملعقة منها اشتمت منه رائحة تبغ خفيفة فقالت بفتور : " آه لقد كنت إذن في مقهى رويال تتحدث إلى المواطنين . "
فانحدرت نظراته إليها ولأول مرة شاهدت عينيه تبتسمان وهو يقول لها : " هل هي خطيئة يا سيدتي؟ "
كان يقف أكثر قرباً منها مما أرادته أن يكون حين ناولته الملعقة وشعرت بالضيق لهذا ، وهذا جعلها تتراجع قليلاً إلى الخلف وهي تحول الحديث قائلة : " لقد اعتاد روري أن يقوم بذلك أحياناً فيجلس قليلاً في مقهى رويال وهو في طريقه إلى المنزل حين يذهب إلى المحطة ليرسل الخضر إلى لندن في قطار بعد الظهر . "
وساورها الآن شعور بالارتياح وهي تضع روري بينهما ، وذلك لتقطع الطريق على تلك الأحاسيس التي تتفاعل بينها وبين هذا الرجل الغريب وتابعت تقول بمرح وهي تتابع تقشير حبة البطاطس : " إن يدك رشيقة في تحريك الحساء ولا بد أن لك بعض الخبرة في ذلك هل أنت متزوج؟ "
وشعرت بالغضب من نفسها هل بعد كل تلميحاته وتعريضه بها الليلة الماضية ، تأتي الآن لتضع نفسها موضع الريبة مرة أخرى وذلك بإلقائها سؤالاً كهذا يمكنه أن يفسره برغبتها في أن تعرف ما إذا كان حراً في حياته؟
ولكنها ما لبثت أن شعرت بالارتياح وهي تراه يأخذ سؤالها هذا بنفس البراءة التي ألقتها بها ، فيجيب قائلاً وهو يتابع تحريك الحساء : " كلا لست متزوجاً ولم أتزوج قط .. وليس من المحتمل أن أتزوج وأخشى أنني مرشح ضعيف لمؤسسة الزواج المقدسة تلك .. "
فسألته : " ولماذا تظن ذلك؟ "
فأجاب بحدة : " لأنني في كل مرة تبتعد فيها تلك المرأة المسكينة عن أنظاري سأظن أنها ذهبت لملاقاة صديق أي أساس يمكن أن يكون لهذا الزواج؟ "
فقالت له بعدم تصديق واضح : " هل أنت من النوع الغيور؟ آسفة لعدم تصديقي هذا . "
فأجاب : " لا لست من النوع الغيور وإنما من النوع الساخر! . "
فقالت : " الساخر؟ و كأنك .... "
فقاطعها قائلاً : " وكأنني لم أقابل بعد امرأة تستحق ثقتي . "
إذن هذا يفسر كل شيء لا بد أن هذا الرجل كانت له خبرة سيئة مع إحدى النساء وربما مع أكثر من واحدة ، هذا إذا اعتبرنا سخريته القاسية تلك . فهل يمكن أن يكون هذا هو سبب تجهمه ذاك وهو يتفرج على المشهد السعيد الذي كان يدور بين كيلا وأسرتها في غرفة الجلوس مساء أمس؟
وقال بسخرية رقيقة : " لا أراك أسرعت إلى الدفاع عن بنات جنسك؟ "
فنظرت إليه بهدوء وهي تجيبه قائلة : " كلا فأنا لا يمكنني أن أتحدث عن أي امرأة أخرى غير نفسي ولكنني آسفة لما نالك من سوء الحظ في ....."
فضحك هازئاً وهو يقاطعها قائلاً : " سوء الحظ؟ ليس للحظ شأن في هذا الأمر لقد كانت المرأة التي عرفتها قاسية متحايلة تعرف اثنين في وقت واحد الخلاصة أنها كانت فتاة سافلة . "
استدارت نيرن وهي تسمع صوت كيلتي خلفها ، كان واقفاً عند الباب وعندما لاحظت الشحوب الذي يعلو وجهه وتوتر ملامحه شعرت بالفزع يتملكها .
لم يكن ينظر إليها بل إلى ستروم محدقاً فيه وقد بان في عينيه مزيج من الغضب والتعاسة والفوضى . وبحركة لا إرادية اقتربت نيرن منه عدة خطوات ولكنه تراجع إلى الخلف ليصبح في الصالة مرة أخرى ثم قال بصوت مرتجف : " سأخرج الآن لقد أنهيت فروض المدرسة وسأعود في العاشرة . "
فهتفت : " كيلتي ...." ولكنه كان قد خرج قبل أن تستطيع إيقافه ليصفق الباب الخارجي خلفه بعنف تجاوبت معه أرجاء المنزل . وتساءلت بخوف عما قد يكون حدث للغلام . لم تره من قبل يتصرف بمثل هذه الغرابة كانت متأكدة من أن الأمر لا يتعلق بها هي ، إذن فلا بد من أن يكون الأمر متعلقاً بستروم غالبريث.
ولكنه لم يسبق له أن قابل هذا الرجل قبل الآن فهل يمكن أن يكون هذا الغريب قد قام بعمل جعل الغلام يستاء إلى هذا الحد؟
لقد رآه طبعاً وهو يتسلل من البيت هذا الصباح ولكن كيلتي علم تماماً أنه كان هو المخطئ في تصرفه ذلك الحين كما أنها كانت تعرف أنه ليس من الأشخاص الذين يحقدون كلا لا بد أن هناك شيئاً آخر يحمله على هذا التصرف .
وبطبيعة الحال ، كان أسهل شيء هو أن تسأل ستروم مباشرة عما فعله ليسبب عند الغلام ردة الفعل هذه ولكن غريزتها أوحت إليها بأنه مهما كان يوجد بين الاثنين فلا بد أنه شيء لا يريد أي منهما أن يخبرها عنه .
وتنهدت وهي تعود إلى المطبخ ذلك أنها طيلة الثمانية أعوام الماضية قد تمكنت من إقامة علاقات طيبة مع الفتيان الذين كانت ترعاهم ، ولكن الأمر مع كيلتي كان مختلفاً فقد كانت متعلقة جداً بالغلام وربما بطبيعة الحال ، لأنها كانت صديقة حميمة لوالدته ولأنها كانت تعرف كيلتي منذ يوم ولادته ....
سألها ستروم فجأة : " بماذا تفكرين؟ "
فأجابت وهي تسير نحو الموقد : " آه لقد كنت أفكر في اليوم الذي ولد فيه كيلتي ." وجذبت إناء البطاطس جانباً فخمد صوت غليان الماء وهي تتابع قائلة : " لقد ولد قبل أوانه بشهر ولكن وزنه مع هذا كان أكثر من أربعة كيلو غرامات كما كان طفلاً نهماً يزمجر على الدوام إنني أذكر قول والده ( حسناً لقد أقبل علينا كالأسد أليس كذلك؟ ) لقد كانت ولادته أول يوم في آذار ( مارس ) وذكرى مولده أصبح قريباً جداً .... "
فسألها : " كم سيصبح عمره؟ "
فأجابت : " خمسة عشر عاماً ، انه يبدو أكبر من سنه لطول قامته ومتانة بنيته . "
فعاد يسألها : " هل قلت انه ولد قبل الأوان؟ "
فأجابت : " لقد كان هوغ غائباً في رحلة صيد لمدة شهرين أو نحو ذلك وقد تزوجا هو و هازيل بعد رجوعه بفترة قصيرة لقد كانت آني هي القابلة التي استقبلته إنني أذكر إصرارها على أنه طفل كامل النمو ولكنها كانت قد تقدمت في السن وفي الواقع كان كيلتي هو آخر طفل استقبلته قبل أن تتقاعد وكانت مخطئة في تقديرها بطبيعة الحال ، إذ لا يمكن أن يكون طفلاً كامل النمو لأن هوغ كان في رحلة الصيد طوال شهر أيار ( مايو ) ومعظم شهر حزيران ( يونيو) ....
فقال ستروم وهو يلوي شفتيه تهكماً : " أتعنين أن الطفل إذا كان قد جاء في أوانه فان هوغ لا يمكن أن يكون والده حقاً؟ "
فأجابت بذهن شارد وهي تخرج من الدرج بعض أدوات المائدة : " بالضبط وبالطبع لا يمكن لهذا أن يكون صحيحاً . "
فقال : " ولم لا؟ "
كان في صوت ستروم شيء ما ، برود هادئ أرسل قشعريرة في جسد نيرن فنظرت إليه متسائلة وقد أدهشتها أن ترى تلك النظرة القاسية الهازئة في عينيه .
وسألته بصوت يحتوي على نوع من الدفاع : " لم لا؟ لأن هازيل لم تكن من ذلك النوع من الفتيات! وكانت تخرج مع هوغ منذ أيام الدراسة فقد كانت موعودة به."
فسألها : " موعودة به؟ "
فأجابت : " نعم . "
قال : " انهما لم يكونا خطيبين إذن . "
فأجابت : " كلا لم يكونا خطيبين لم يكن لدى هازيل خاتم خطبة ولكن كل شخص كان يعلم أن زواجهما ما هو إلا مسألة وقت فقط . "
وتساءلت عما يجعله يهتم بكيلتي ولماذا يهتم بهازيل وتبادرت إلى ذاكرتها ذكرى أول مرة رأته فيها وكان واقفاً يحدق في قبر هازيل لقد ظنت حينذاك أنه يقول شيئاً وعندما اقتربت منه كانت الكآبة والمرارة تكسوان ملامحه ، هذا إلى شيء آخر لم تستطع إدراكه حينذاك ولكنها أدركته الآن وهي ترى نفس النظرة في عينيه كانت نظرة احتقار . ولكنها عندما سألته عند ذلك عما إذا كان يعرف هازيل أنكر الأمر . على أنها عادت تصحح لنفسها قائلة ، كلا انه لم ينكر الأمر إنما غير الموضوع فقط وبدقة فائقة إذ أنه هز كتفيه قائلاً انه مهتم بالمقابر القديمة.
واهتز قلب نيرن والحقيقة تنبلج أمام بصيرتها فجأة ... هذا الرجل كان يعرف هازيل! أو أنه على الأقل كان يعلم عنها أمراً ما ولسبب ما كان يكرهها .
وشعرت نيرن وكأن شخصاً ضربها على رأسها ، فاصعقها . أي ذكرى من الماضي يراود هذا الغريب الغامض ، ولماذا؟ وإذا كان هذا يسبب له كل هذا الألم فما الذي جعله يعود ليعرض نفسه لذلك؟
وأخرجت شوكة من الدرج تختبر بها نضج البطاطس ، دون أن تعي ما تفعل وكانت هذه ناضجة تماماً فتمتمت تقول : " العفو . " وهي تمر من أمامه إلى حوض الغسيل لتصفي الخضر من مائها.
لم تعرف سبب مجيئه إلى غلينكريغ حتى أنه لا يمكنها التكهن به ولكن مجيئه قد سبب إزعاجاً ، كان كالحجر يلقى وسط مياه بحيرة هادئة ، وبصرف النظر عن نعومة الحجر وهدوء البحيرة فان التموج سيحدث ولن تعود إلى البحيرة هدوءها مرة أخرى إلى أن تتلاشى آخر موجة .
أو في هذه الحالة حتى يعود ستروم غالبريث إلى بلده .
وسألته : " من أين أقبلت يا سيد غالبريث؟ "
فأجاب : " من لندن عندي شقة هناك . "
فعادت تسأله وهي تملأ إبريق القهوة بالماء : " أي نوع من العمل تقوم به؟ "
فأجاب : " البناء . "
فسألته وهي تمد يدها تتناول مناشف قطنية ملونة من على منضدة بجانبها : " هل تبني بيوتاً أم تقيم إنشاءات تجارية؟ "
فأجاب : " إنني أشيد مساكن في أنحاء العالم .. لأجل أنصار الرياضة مثلاً وخاصة متسلقي الجبال وشركتي تدعى أكواخ قمم الجبال . "
فجمدت يد نيرن وهي تحمل المناشف ثم سألته : " أكواخ قمم الجبال؟ إن لهذه الشركة أملاكاً مجاورة لمنزلي هذا ... تبلغ حوالي المائة فدان ."
وحدقت فيه وهي تتابع قائلة : " هل أنت صاحبها؟ هل أنت صاحب أكواخ قمم الجبال؟ "
فأجاب : " نعم يا سيدة كامبل . "
فقالت : " آه أتمنى أن تكف من مناداتي سيدة كامبل إن كل إنسان يدعوني نيرن يا سيد غالبريث ..."
فقاطعها مازحاً : " ستروم . "
فقالت : " ستروم ... لماذا كنت متمسكاً بتلك الأملاك؟ إن الأرض مهملة لا تستغل منذ ... آه لا بد أن ذلك منذ خمسة عشر عاماً . "
فرفع حاجبيه ساخراً وهو يسألها : " وما الذي يهمك من هذا؟ "
فتنفست نيرن بعمق ثم قالت : " لأنني أنا و روري حاولنا أن نشتري منها خمسة فدادين منذ عدة أعوام من خلال المحامي الذي نتعامل معه ، ولكن المحامي المسؤول عن أكواخ قمم الجبال ، محاميك ، أخبرنا أن الأرض ليست للبيع . "
فسألها : " هل كنتِ تريدين أن تشتري قسماً من كريجند؟ طبعاً ليس لأجل بناء بيت ريفي لأن هذه الأرض عبارة عن صخور متراكمة وسقوف متآكلة . "
فقالت : " كلا ، ليس لأجل بناء بيت ريفي فهي قذى للعين ينبغي أن تجرف وتسوى ولكن موقعها رائع .... إذ أنها تشرف على الوادي والبحيرة ، كلا كنا نريد الأرض فقط . "
فسألها : " وماذا كنتما تريدان أن تفعلا بها؟ "
فأجابت : " كنا نريد أن نخصص قسماً منها قرب الطريق كمركز للمراهقين ، أما البقية فقد كنا نريد أن نزرعها بشجر التوت . "
قال : " آه ."
فسألته بهدوء : " وأنت؟ ماذا كانت خططك بشأنها عندما اشتريتها؟ لأنني متأكدة من أن رجل أعمال ناجح مثلك كما هو ظاهر ما كان ليشتري أملاكاً دون هدف . "
فأجاب : " كنت قد خططت في ذلك الوقت لبناء مساكن لمتسلقي الجبال . "
فقطبت نيرن حاجبيها قليلاً وهي تفكر في قوله ذاك ثم سألته : " مساكن لمتسلقي الجبال قرب نزل برواش مباشرة؟ "
فقطع عليها أفكارها قائلاً : " هل أرى من ردة فعلك عدم استحسانك لهذا؟ "
فسكتت عدة لحظات قبل أن تجيب و عندما تكلمت قالت مفكرة بصوت هادئ : " كلا أظن هذا سيكون في مصلحة غلينكريغ من نواح كثيرة فسيكون هناك أعمالاً كثيرة في هذا الوقت الذي أصبح العمل فيه شيئاً نادراً .. كما هو الآن ولكن ..."
فقال : " آه نعم . دائماً هناك ( ولكن ) هذه .... "
فقالت : " حسناً إنني اكره أن أرى منشآت عصرية في هذا المكان إنني سأتألم عندما أرى ما يفسد جمال قرية غلينكريغ الطبيعي . "
فقال : " إنني لا أفسد الأشياء الجميلة يا نيرن . "
نطق بهذه الكلمات ببساطة وإنما بحزم وهذا جعلها تنظر في عينيه . كان ينظر إليها ولأول مرة ترى عينيه صافيتين صريحتين وهو يكرر قوله : " إنني لا افسد الأشياء . " كانت لهجته هذه المرة أكثر رقة وشعرت بأنفاسها تحتبس وهي ترى تحديقه في وجهها بينما عاد هو يتمتم قائلاً : " خصوصاً الأشياء الجميلة . "
لم تتحرك في مكانها وقد أدركت ماذا يعني . وعندما نهض من مكانه متقدماً نحوها رن جرس الباب فقفزت من مكانها قائلة : " دعني أرى من في الباب . " واستطاعت بشكل ما أن تفلت من نظراته ، لم تنظر إلى الخلف وهي هاربة كان كل ما تريده هو أن تبتعد عنه قبل أن تدفعها الحماقة إلى ارتكاب ما تندم عليه .
وقفت أمام الباب لحظات تسوي من شعرها و تحاول التقاط أنفاسها . وأطلقت آهة قصيرة سرعان ما أخمدها رنين جرس الباب مرة ثانية . وازدردت ريقها بصعوبة وهي تتظاهر بالهدوء ثم فتحت الباب .
كان القادم رجلاً نحيلاً أشقر الشعر وكان يبتسم لها محيياً وهو يقول : " آه نيرن إنني مسرور لوجودك في المنزل . "
فقالت بدهشة : " أهلاً بك يا دكتور كوغيل تفضل بالدخول . "
وأشارت إلى القاعة . ما الذي يريده يا ترى؟ فهي لم تطلب إليه الحضور .. وأطلقت ضحكة عصبية وهي تسأله قائلة : " أتريدني أن آخذ معطفك؟ "
فخلع سترته المصنوعة من فروة الخروف ، وناولها إياها شاكراً منتظراً ريثما علقتها في الخزانة ثم التفتت إليه قائلة : " فلنذهب إلى غرفة الجلوس . "
ومشت أمامه وهي تغتنم هذه الفرصة لتعيد تنفسها إلى طبيعته ... وتبعد أفكارها عن ذلك الرجل المزعج في المطبخ .
وبعد أن جلسا إلى جانب المدفأة المضطرمة قالت له : " والآن أي خدمة تطلبها مني؟ "
فأجاب : " لقد تلقيت للتو مكالمة من انفرنيس من آني لو . لقد أصيبت بأزمة صحية وقد أخذت إلى مستشفى ريغمور . "
فهتفت نيرن وهي تنحني إلى الأمام بقلق : " أوه ، إنني جداً آسفة هل ستكون بخير؟"
فأجاب : " نعم ستصبح بخير ولكنني لا أظنها ستعود إلى منزلها في غلينكريغ لقد تحدثت مع الطبيب الذي عالجها فقال إنها لن تستطيع العناية بنفسها بعد الآن وهو سيبقيها في المستشفى عدة أيام ، لكي تنال قسطاً كاملاً من الراحة ثم بعد ذلك يرسلها إلى دار المسنين . انكِ تعرفين طبعاً انه كان عليها أن تدخل الدار منذ سنوات فهي قد قاربت التسعين من عمرها . "
فقالت : " ألم تقدم طلباً لحجز غرفة لها في الدار منذ سنة؟ أذكر أنهم أعطوها غرفة؟"
فأجاب : " نعم ولكن بعد وفاة هوغ و هازيل ، كان عليها أن تعتني بكيلتي فألغت الحجز وقد حاولت أنا في ذلك الحين أن أجنبها تلك الوصاية على الصبي ولكن كان البديل لذلك أن يرسل كيلتي إلى دار رعاية الأطفال فلم تقبل هي بذلك وطبعاً العناية بغلام مراهق لامرأة في سنها هو أكثر مما يمكنها احتماله . "
فقالت : " طبعاً إن دار المسنين سيكون أفضل مكان لها ولكن ماذا سيحدث لكيلتي الآن؟ فهو ليس لديه من يرعاه ؟ آه كم أتمنى لو أستطيع مد يد العون له بطريقة ما.."
فتنحنح الطبيب ثم قال : " إن لدي فكرة يا نيرن ... وأنا لا أريد منك أن تعطيني جواباً الآن لأنني أعلم أن هذا الأمر يتطلب منك تفكيراً طويلاً ... ولكن ..."
وتردد..... وتساءلت هي عما يمكن أن يطلبه منها ....... فقالت تستحثه أن يتابع كلامه : " انك تعلم أنني أفعل أي شيء لأجل كيلتي فهو فتى رائع ومن أفضل الفتيان ."
فوقف الطبيب ووضع يديه في جيبي بنطلونه محدقاً في نيرن بنظرة ثابتة طويلة من خلف نظارتيه ثم رأت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يقول برقة : " عزيزتي نيرن إنني أدرك تماماً مقدار الوحدة التي تعانيها منذ وفاة روري ومع أنني أعلم كم شغلت نفسك بالعمل ، ومقدار حب والديك وأختك وزوجها لك .. فهذا كله ليس كما لو كان لديك شخص يخصك أما ما أريد أن أقول دون أن أعرف كيف أتطرق إلى الأمر بلباقة هو .... هلا فكرت في حضانة الغلام؟ "
وأخذت نيرن تذرع غرفة الجلوس في الساعة العاشرة إلا خمس دقائق في انتظار عودة كيلتي ونظرت إلى الساعة الموضوعة على رف المدفأة للمرة العشرين كان الدكتور كوغيل قد تركها لتخبر الغلام بما حدث لعمته آني وعندما أخبرته بأن الغلام كان قد أقبل ليقيم عندها ، اتفقا على أن أفضل شيء يقومان به هو أن يتركاه حيث هو إلى أن يتقرر كل شيء .
ولكن ، ماذا كانت ستقرر هي؟ كانت تتساءل بقلق عن ذلك وهي تسير نحو النافذة العريضة تنظر منها وأزاحت الستارة الوردية الثقيلة حيث أخذت تنظر إلى الظلام في الخارج .
منذ أدلى الدكتور كوغيل باقتراحه هذا لم تستطع نيرن أن تفكر في أي شيء آخر لقد عادت إلى المطبخ حيث تبادلت أحاديث عادية مع ستروم وهما يتناولان العشاء كانت أثناءها شاردة الذهن ومن حسن حظها أنه وقف بعد تناوله الفنجان الثاني من القهوة قائلاً بأنه سيخرج ليتمشى قليلاً .
أما الأسئلة التي كانت تلح عليها قبل فترة عن سبب وجود هذا الرجل في قرية غلينكريغ هذه ونوع صلته بهازيل ، ولماذا لم يشأ أن يبيع كريجند ... كل هذه الأسئلة قد أصبحت تافهة أمام تركيز أفكارها على اقتراح الدكتور ذاك .
وتصاعدت خفاقات قلبها وهي تسمع صوت الباب الخارجي يفتح ثم يغلق فأسرعت إلى باب غرفة الجلوس وفتحته لترى أن القادم كان كيلتي كما توقعت .
قالت له باسمة : " أدخل إلى هنا لقد كنت بانتظارك. "
فقال : " إنني لم أتأخر يا نيرن أليس كذلك؟ "
ولم يكن يرتدي سترة فوق تنورته السوداء وقميصه المقفل ومع ذلك لم يكن يبدو عليه أنه يشعر بالبرد فانحنى يخلع حذاءه ، وعندما دخل إلى غرفة الجلوس لم تحدث قدماه المرتدتين جورباً ، صوتاً على السجادة وعبقت في أنفها رائحة تبغ تفوح منه.
وقالت تسأله : " أتريد كوباً من الحليب؟ "
فقال لها : " كلا أشكرك لقد تناولت لتوي كوباً من الكاكاو. "
وبينما جلست نيرن على ذراع الأريكة ، جلس هو على كرسي ذي ذراعين وقد مد ساقيه أمامه و تنورته على ركبتيه واضعاً يديه على فخذيه ثم سألها : " هل أردتِ أن تتحدثي إلى عن شيء ما؟ "
فأجابت : " نعم . "
ذلك أنها عندما التقت عيناها بعينيه الصريحتين الذكيتين ، فكرت بأن لا فائدة من المداورة حول الموضوع ولأفضل أن تبدأ بإخباره بالأسوأ ومن ثم تنتهي من الأمر وتابعت تقول : " لقد جاء إلى هنا الدكتور كوغيل عند العشاء . لقد أصيبت عمتك آني بنوبة وأخذوها إلى مستشفى ريغمور . "
فقفز كيلتي واقفاً وهو يقول : " أتراها ستشفى؟ "
كان يزدرد ريقه بصعوبة بينما تصاعد الاحمرار إلى وجنتيه وتابع يقول : " أيمكننا الذهاب لرؤيتها؟ "
فأجابت : " إنها ستشفى . "
وكان صوتها مطمئناً قدر استطاعتها وتابعت تقول : " ولكن ليس بإمكاننا رؤيتها قبل بضعة أيام إذ أنه من المفروض أن تنال راحة كاملة ثم يعيدونها بعد ذلك بسيارة الإسعاف ... "
فقال : " إذن ، علي أن أذهب قبل ذلك إلى بيتها ، إنني أريد أن أطمئن إلى أن كل شيء في البيت على ما يرام قبل عودتها . علي أن اشتري شيئاً من الخبز والحليب وال .... "
فقاطعته قائلة : " انك لن تعتني بها يا كيلتي ، فهم سيأخذونها إلى دار المسنين . "
وساد صمت ، أخذ الغلام أثناءه يستوعب هذه المعلومات وما أن أوشكت على الكلام مرة أخرى ، حتى رأت كتفيه المتصلبتين تسترخيان قليلاً ، ثم يقول بهدوء : " إن هذا حسن . أعني أن تجد مكاناً في دار المسنين . "
ونظر إلى نار المدفأة . ورأت نيرن الدموع تتألق في عينيه وهو يتابع قائلاً : " لقد كان من الكثير عليها أن تعتني بي ولكنها لم تكن تستمع ألي والآن ستجد هي من يعتني بها. "
وتدفقت مشاعر نيرن . كان واضحاً أنه لم يفكر مقدار ذرة في مأزقه هو في أن تغيير وضع عمته يعني تغيير وضعه هو أيضاً وهو تغير قد يؤدي إلى انقلاب عنيف آخر في حياته .
وعندما نظرت إليه ، وإلى الشجاعة التي أراد أن يظهرها في طريقته الشاذة في ملابسه وإلى الضعف الصبياني في وجه الفتي الذي كان يظهر عليه الآن بجلاء مظاهر الألم الذي عاناه في حياته عند ذلك عرفت ما عليها أن تفعل عرفت ماذا تريد أن تفعل .
وما أن قررت أمرها ، حتى شعرت بعبء ثقيل ينزاح عن قلبها وشعرت بارتياح لم تشعر به منذ شهور كثيرة . وقفت تنظر إليه وهي تشبك يديها معاً بشدة ودهشت وهي ترى راحتيها تنضحان عرقاً ولكنها تساءلت عن الغرابة في ذلك ... وهل في كل يوم تتخذ المرأة قراراً خطيراً مثل هذا؟ ولكن ماذا سيكون رأي كيلتي في ذلك؟
رفع كيلتي تنورته إلى خصره وهو يقول : " أظن من الأفضل أن أذهب إلى سريري يا نيرن . "
ولكن التنورة سرعان ما انزلقت إلى وركيه مرة أخرى وتابع يقول : " بالمناسبة لقد قررت الكف عن التدخين إنني أعرف أنكِ لا تحبينه وأنا لا أريدك أن تقلقي خوفاً من أن أشعل النار في برواش وقد رميت آخر سيكارة خارجاً قبل دخولي ."
فقالت : " ما رأيك في البقاء هنا يا كيلتي؟ "
وحالما انطلقت الكلمات من فمها شعرت نيرن بأن الغلام قد انتابه التوتر مرة أخرى فتابعت تقول : " وأنا لا أعني أن تبقى في الغرفة الصغيرة على السطح ولو أن لا بأس بها مؤقتاً ما دمت تريد ذلك ، كلا بل أعني أن تعيش هنا في برواش ما دامت عمتك آني ستدخل دار المسنين . "
فسألها قائلاً وقد بدا الحذر في عينيه : " هل تعنين بصفة دائمة؟ مثل ... أحد المستأجرين عندك؟ "
فضحكت بصوت مرتجف وهي تقول : " كلا ، آه .... "
ما كان لها أن تضحك فقد تجمدت عينا الغلام كما تصلب جسمه فقد ظن أنه نطق بحماقة ما أو بدا وقحاً وبسرعة تابعت تقول : " إن دكتور كوغيل يرى أن فكرة الحضانة هي فكرة حسنة وهذا أفضل من إرسالك إلى دار العناية إن بإمكانك أن تعيش معي وسيكون ذلك بإجراء قانوني ، فيكون كل شيء شرعياً ..."
فانحنى وأخذ يسوي ثنية جوربيه ومع سرعته في الحركة فقد تمكنت نيرن من أن ترى اللمعان في عينيه فلم تدهش وهي تراه يقف منتصباً وهو يقول : " هل فكرتِ في الأمر يا نيرن؟ هل هذا ما تريدينه أنتِ حقاً؟ "
فأجابت باسمة : " نعم ."
كانت تعلم بأنها قد صنعت القرار الصحيح وتابعت تقول : " هل تظن أن بإمكاننا القيام بالتجربة؟ "
وقبل أن يجيب تناهى إلى مسامعهما صوت فتح الباب الخارجي يقتحم فيض المشاعر التي شملتهما ورأت عينيه تغيمان ويتصلب ظهره . ما أسوأ هذا التوقيت وداخلت نيرن الخيبة . لماذا لم يبق ستروم غالبريث في الخارج عشر دقائق أخرى؟ ربما سيصعد إلى غرفته مباشرة ...
ولكنه لم يفعل وبينما كانت وكيلتي واقفين يستمعان ، فتح باب غرفة الجلوس ودخل منه ستروم وبدا عليه عدم الانتباه إلى التوتر الذي كان يسود الجو وهو يسير مباشرة نحو المدفأة قائلاً : " إنها ليلة باردة حتى بالنسبة إلى شهر شباط ( فبراير)"
قال كيلتي : " إنني صاعد إلى غرفتي يا نيرن وشكراً لإخباري عن عمتي . " وألقى نظرة قصيرة على ستروم قبل أن يستدير مرة أخرى إلى نيرن قائلاً : " وبالنسبة إلى ما كنا نتحدث عنه ، أظنها فكرة عظيمة وليس عندي خيار آخر ، أليس كذلك؟ وبعد أن مات أمي و أبي ودخلت عمتي الدار لم يبق لي أقرباء ليعتنوا بي وسأشعر بالفخر إذا اعتبرتني بمثابة ولدك . "
ولأول مرة في حياته عانق نيرن كان عناقاً سريعاً غريباً وكانت رائحة التبغ تفوح من قميصه المقفل ثم ذهب ولكن حداثته وضعفه مسا قلبها .
كانت تعرف أن هذا الأمر سينجح لأنهما كانا يودانه هما الاثنان . ولم تستطع أن تصبر عن إخبار كيلا . وفي نفس الوقت قررت بعد أن اغلق باب غرفة الجلوس وبقيت بمفردها مع ستروم غالبريث شعرت بأنها تريد أن تشارك أحداً بأخبارها وتحتفل بالمناسبة فليس في كل يوم يتيسر لامرأة أن تصبح أماً ....
واستدارت نحوه تقول ببشاشة : " هل تريد أن تتناول معي فنجان قهوة؟ فقد حدثت هذه الليلة أشياء كثيرة . "
فقال بصوت أجش وكانت عيناه قاتمتين غامضتين بعثتا قشعريرة في جسد نيرن : " لقد سمعت ، انكِ سترعين الغلام أتظنين أنه قرار حكيم؟ "
أذهلها قوله وما لبثت أن قالت بحزم : " نعم إنني متأكدة من أنه قرار حكيم ، إن كيلتي بحاجة آلي ... وأنا بحاجة إليه .. ونحن الاثنين من القوة بحيث نعترف بذلك فليس ثمة من يرغب في العيش منعزلاً يا ستروم وأنا متأكدة من أنك تعرف هذا. "
وتنفست بعمق . لقد سبق وحدثت نفسها مراراً أنه مهماً كانت مشكلات ستروم غالبريث فهي ليست من شأنها وليس لها أن تدس أنفها في مالا يخصها ولكن شيئاً في أعماقها ، شيئاً لا تستطيع السيطرة عليه كان يدفعه إلى أن تحاول مساعدة هذا الرجل فتقدمت من المدفأة تضع مزيداً من الخشب ثم نفضت يديها على قفا بنطلونها الجينز لتقف بعد ذلك وتواجهه مرة أخرى ، قائلة : " ألم تعرف في حياتك قط ما معنى أن يحتاج أحد الآخرين؟ " وأضافت برقة قائلة : " أم أنك مصنوع من الصخر؟ "
الفصل الخامس

إذا كانت نيرن قد ظنت أن هجومها المباشر هذا على ستروم سيسبب له الارتباك فهي إذن مخطئة وربما كانت توقعت منه أن ينسحب أو أن يرد مهاجماً ... ولكنه لم يقم بأي من هذين الأمرين ، لقد ضحك عليها وكانت ضحكة مشوبة بالسخرية ولكنها كانت ضحكة على كل حال ، كما كان في عينيه الزرقاوين شيء من الهزل .
وقال : " آه ، إن لي احتياجاتي أنا أيضاً يا نيرن تماماً كأي رجل آخر إنها الاحتياجات الأساسية في الحياة ... الجوع ، العطش والمحافظة على الذات ..."
فقاطعته : " وأنا متأكدة أيضاً من أنك بحاجة إلى الانتماء وإلى الحب ولو أنه يبدو أنك تنكر هذه الحاجات بالذات ."
واتجهت نحو المطبخ وفتحت البراد حيث وضعت عدة أنواع من العصير ، اختارت واحداً منها وأحضرت كوبين . مشى نحوها ثم أخذ كوباً وعاد إلى قرب النار في الصالة حيث وضعه على رف المدفأة ثم اتكأ على الجدار بجانبه وهو يقول : " هكذا إذن . الانتماء والحب . فلنتحدث عن الانتماء إلى مكان معين أم الانتماء إلى شخص؟ "
أغلقت نيرن باب البراد وتبعته إلى الصالة ثم أجابته قائلة : " أظن الاثنين معاً . عندما أقول ، أنا أنتمي إلى غلينكريغ فأنا أعي أنني أعيش هنا وأنني دوماً عشت هنا ، فأنا إذن جزء من المكان وهو جزء مني . "
وعادت إلى الأريكة حيث غاصت على الوسادة في وسطها وهي ترفع بصرها إلى ستروم متابعة قولها : " وأنت .... هل أنت تنتمي إلى لندن بنفس هذه الطريقة؟ "
فهز كتفيه بعدم اهتمام وهو يقول : " كلا ، أنا لا انتمي إلى لندن بالشكل الذي ذكرته فقد ولدت في مانشستر وقد سافرت إلى جميع أنحاء العالم وأنا أعيش في لندن لأن مكتبي في لندن .... ولكن موطني بالنسبة إلي هو المكان الذي أعيش فيه حالياً ."
فقالت : " ولكن هذا ليس موطناً أنك ستمكث هنا عدة أيام فهو إذن ليس موطنك فكيف تقول انه كذلك. "
أجاب : " إن ما أريد قوله هو أن ليس لي موطناً ، فأنا لا أنتمي إلى أي مكان وهذا لا يشكل ( حاجة ) بالنسبة إلي . "
فقالت : " ولكن مكانك في لندن ...."
فقال : " انه الأساس انه المكان الذي أعلق عليه قبعتي ."
فقالت : " حدثتني عنه . "
فقال : " ماذا تريدين أن تعرفي؟ انه شقة مائلة السقف تشرف على المدينة ... تحتوي على ثلاث غرف نوم وغرفة جلوس وغرفة طعام ومطبخ إلكتروني يبدو وكأنه سفينة فضاء وهناك أيضاً حمامان وغرفة مظلمة لتحضير الأفلام . "
فقالت : " غرفة مظلمة؟ هل أنت مغرم بالتصوير الفوتوغرافي؟ "
أجاب : " فلنقل انه كان أفضل هواياتي . "
سألته : " وهل كنت ناجحاً فيه؟ "
فأجاب : " كنت ناجحاً إلى حد أنني أستطيع أن أصنع منه مهنة . "
فقالت : " آه إن هذا ممتع جداً إنني اعجب كثيراً بالأشخاص الذين يملكون موهبة النظر خلال عدسة التصوير ويرون أكثر مما يستطيع الشخص العادي أن يرى. "
وتابعت وهي تضحك بأسى : " إن مهارتي في التصوير لا تعدو أن تكون جيدة على أن لا تقطع أرجل الأشخاص في الصورة وفي اكثر الأوقات ..."
فقاطعها قائلاً : " إنني متأكد من أن لكِ مواهب أخرى ."
فابتسمت له قائلة : " كلا ليس لدي شيء من ذلك إنني امرأة عادية تماماً مع أن أسرتي موهوبة جداً فأمي كيت هي رسامة وأبي ماك مخترع وأختي كيلا التي قابلتها أنت ، أليست هي جميلة؟ لقد ورثت موهبة والدتنا الفنية وهي التي رسمت تلك الألوان المائية المعلقة على جدران غرفتك هل لاحظتها؟ "
فأجاب بذهن شارد : " نعم وهي حسنة جداً . "
بدا وكأن أفكاره تهيم في مجال آخر وما لبث أن قال : " عادية . " وهز رأسه وهو يرمقها بنظرة غريبة ، ثم تابع قائلاً : " ما الذي يجعلك تعتبرين نفسك عادية؟ إنني لم أر امرأة مثلك قط . "
فنظرت إليه بعينين ضاحكتين وهي تقول : " آه إنني لا أتحدث عن المظهر إنني اعرف أن مظهري غير عادي . "
و أمسكت بخصلة كثيفة من شعرها اللامع الكث الذي ينسدل على كتفيها وهي تقول : " كيف يمكن أن يوصف شخص له شعر بهذا اللون المفزع ، انه عادي؟ إياك أن تخبرني أن من المستطاع تميزي به بين الجموع فهذا شيء اعرفه منذ ابتدأت انظر إلى نفسي في المرآة . من حسن حظي أن أحداً لم يطلق علي لقباً بهذا الشأن لقد أمضيت سنوات المدرسة يتملكني رعب من أن يخطر لشخص ما أن يطلق علي لقباً ساخراً يلتصق بي على الدوام مثل الحمراء أو الجزرة . "
فقال : " إنني لا أستطيع تصديق ذلك . " وترك مكانه متقدماً نحوها قائلاً : " انهضي أريد أن أريك شيئاً . "
فترددت نيرن وهي تحدق في أصابعه ثم تسأله : " ماذا؟ "
فقال بلهجة آمرة : " انهضي . "
ولسبب لم تفهمه ، لم تستطع عصيانه .
فوقفت وهي تهتز قليلاً شاعرة بالوهن ولكنه شدد من لهجته وهو يقول : " تعالي هنا ."
سألته بضعف : " إلى أين؟ ." ولكنه لم يجب بل قادها بثبات إلى المرآة وعندما رأت انعكاس صورته في المرآة أدركت قصده وهو يقف خلفها يدير كتفيها بيديه القويتين لتواجه المرآة مباشرة وهو يقول : " انظري إلى هذا الشعر . تقولين انه مفزع! هل أنتِ عمياء يا امرأة؟ هل عندك عمى الألوان؟ إن نساء لندن يدفعن الغالي والنفيس لكي يجدن مزيناً يمكنه أن يصبغ شعرهن بلون شعرك هذا ....."
فقاطعته بحدة : " ولكن لون شعري ليس صناعياً . "
فهي ربما لم تكن تحب لون شعرها ولكنه لون شعرها على كل حال .
فقال يعاتبها برقة : " انه ليس صناعياً طبعاً ، انكِ غبية حقاً إذ تعترفين بأن مظهرك غير عادي ولكنك لا تتصورين إلى أي مدى هو غير عادي أليس كذلك؟ "
وهز كتفيها قليلاً وهو يتابع قائلاً : " هل لكِ أن تنظري إلى نفسك ثم تخبريني ماذا ترين؟ "
وما الذي رأته هي؟ لقد رأت امرأة لم تكن تعرفها فمنذ وقت طويل لم تر عينيها بهذا التألق و وجنتيها الشاحبتين بهذا التوهج.
تنفست بعمق وهي تقول : " ماذا أرى؟ إنني أرى امرأة تكبر في السن يوماً بعد يوم امرأة ذات شعر أحمر وبشرة شاحبة وعينين زرقاوين . "
وحركت كتفيها محاولة تخليصها من قبضتيه ففعل .
وتمتم قائلاً : " هذا غريب . يبدو أننا نحن الاثنين نرى امرأتين مختلفتين في وقت واحد فأنا أرى امرأة ذات وجه بيضاوي مكتمل وبشرة كالقشدة وأنفاً حلواً تنتشر عليه ... دعيني أعدها ... خمس نمشات بالضبط ، وعينين بنعومة المخمل ولون البنفسج وشعراً يبدو وكأنه ليرات ذهبية تتساقط في شلال من أشعة الشمس ، شعراً له عبير الأزهار البرية التي تتمايل مع نسائم الصيف . "
وحاولت نيرن أن تبتعد عنه ولكنها لم تجد لها طاقة على ذلك .
وتمتمت بضعف : " من كان يظن أن خلف هاتين العينين الساخرتين يكمن شاعر؟ أنك الآن ستجد صعوبة كبرى في إقناعي بأنك رجل قد من الصخر ...."
هل من الممكن أنه إنما كان ينومها مغناطيسياً حين كان يشيد بما يدعوه جمالها الرائع؟ أتراه سرق عقلها وأسر قلبها بهذه السهولة؟
وفجأة شعرت بما يشبه طعنة السكين في فؤادها كان شعوراً بالذنب مزقها تمزيقاً ما الذي حدث لها؟
وتحولت مبتعدة عنه لتستدير حول منضدة القهوة وكأنها تحتمي بها منه ليصبح ظهرها إلى نار المدفأة حيث لفحتها الحرارة ، بينما كانت عاقدة ذراعيها فوق صدرها وقد انحدرت نظراتها إلى الأرض .
كانت تنتظر منه أن يقول شيئاً يبدد الصمت ...... ولكن عندما لم يتكلم رفعت بصرها تنظر إليه .
وذهلت عندما رأته جالساً على كرسيه واضعاً ساقاً على أخرى بكل راحة وقد بدا عليه من الهدوء والبرود .
وعاودها الشعور بالذنب ما جعلها تشعر وكأن قلبها قد أصبح كتلة من رصاص داخل صدرها كل هذا بسبب هذا الرجل وأحست من الطريقة التي كان ينظر بها إليها رافعاً حاجبه بأنه يتوقع أن تكون هي البادئة بالحديث .
وتنحنحت قائلة : " حسناً ..."
كان صوتها منخفضاً وتنحنحت مرة أخرى بصوت أقوى هذه المرة قبل أن تقول بصوت أعلى قليلاً من الهمس : " حسناً لقد كان هذا شيئاً غير متوقع . "
فارتفع حاجب ستروم الثاني وهو يقهقه ضاحكاً ويقول : " غير متوقع؟ آه يا نيرن من تراك تحاولين استغفاله؟ نفسك؟ قد يكون هناك أشياء كثيرة لكن ليس بينها كلمة غير متوقع هذه . "
فقالت رافعة ذقنها بعناد : " حسناً أنا أقول انه كان كذلك . "
فعاد يضحك وكأنه وجد في إنكارها هذا تسلية بالغة وهو يقول : " يمكنك أن تقولي ما تشائين ولكن هذا لا يعني أن الأمر كما تقولين حقاً انكِ تعرفين كما أعرف أنا ، أن الوصول إلى بعضنا البعض هو مجرد وقت . "
وكانت تعرف في أعماقها بأن ما يقوله صحيح ، إنها لم تسمح قط لنفسها بأن تفكر في هذا فقد أثار فزعها ......
وشعرت للمرة الثالثة بالشعور بالذنب يجتاحها وكان من القوة بحيث جعلها تقابل صراحة ستروم بصراحة منها هي أيضاً فتقول : " انك في غاية الوقاحة . "
وردت شعرها إلى الخلف ولكنه كان يرتد لكثافته تحت راحتيها فتمتمت بضيق ومن ثم أخذت تعبث بعصبية ، بخاتم زواجها الذهبي .
هز رأسه قائلاً : " كلا لا أظن ذلك مع أنني اعترف بأنني أخطأت في أمر واحد.."
فسألته ببرود : " أحقاً؟ وما هو هذا الأمر؟ "
فأجاب : " في أول ليلة لي هنا عندما صعدت إلى غرفتي . "
فعادت نيرن ترد شعرها إلى الخلف قائلة : " لقد اتهمتني عند ذاك بأنني كنت أحاول التحرش بك وهذا لم يكن صحيحاً . "
فقال وقد بدت في عينيه هزل : " كلا لم تكوني تريدين ذلك ليس في ذلك الحين .."
وشعرت بأنفاسها تتوقف . ما الذي كان يحدث لها؟ وجاهدت لكي تهدئ من الذعر الذي كان يسرع بضربات قلبها . عليها أن تضع حداً لتصرفات هذا الرجل معها عليها أن تضع حداً لتصرفاته الآن ، في هذه اللحظة وقالت : " إنني لست كما تعتقد ... إنني لا أنكر أن هناك .... شيئاً معيناً بيني وبينك ...."
فقاطعها قائلاً : " وهو أنكِ ترينني جذاباً ، بقدر ما أراك . واجهي هذا يا نيرن ..."
ولم تكن هي قد اعتادت مثل هذا الكلام المكشوف ... ولكنها لم تشأ أن تدعه يعلم بذلك ... وبأن كلامه هذا قد سبب لها الضيق ....
فقالت : " نعم أظن ذلك . لا بد أنه ..... ماذا قلت ."
فسألها قائلاً : " هل أنتِ خائفة مني؟ ."
فضغطت شفتيها وهي تنظر إليه ، كان مستنداً إلى الخلف على الوسادة ، مشبكاً يديه خلف رأسه ما بدا معه وكأنه يشعر أنه في بيته تماماً وليس في بيتها هي وأن الأوضاع كلها في يده وجعلها هذا لسبب ما تشعر بالغضب فردت عليه بحدة : " إنني لست خائفة منك . أما هذا الحديث الذي يدور بيننا فقد أصبح غاية في السخافة وإذا أردت الحقيقة فأنا أشعر بالخجل من هذا الكلام . "
فقاطعها : " انكِ لم تقولي ما تخجلين منه! ."
كانت تعلم أن غضبها هذا ليس منه وإنما من نفسها وأجابته قائلة : " إنني أنا التي تقرر ذلك . إن علي أن أعيش في هذه الحياة بمفردي وإذا حدث بيننا شيء فهذا يعتبر بالنسبة لي خيانة! .."
فحدق فيها لحظة طويلة ثم قال بهدوء دون أن يبدو في صوته أثر للسخرية : " وكيف تكون الخيانة لرجل ميت؟ "
فأجفلت لصراحته هذه ولكنها أجابت وهي تغالب الغصة التي شعرت بها في حلقها : " إن روري ما زال حياً ...... وهو سيبقى كذلك في قلبي على الدوام . "
في البداية لم يظهر أي تجاوب نحو ما قالت وبدا أن السكون الذي لفه أوجد لديها سكوناً نفسياً مماثلاً فشعرت بالهدوء والثبات .
وأخيراً قال : " آه القلب . "
وتنفس بعمق ثم ابتسم كانت ابتسامة بطيئة كسولة ارتسمت على شفتيه دون أن تصل إلى عينيه ... عينيه اللتين كانتا تحدقان في عينيها بسخرية وهو يقول : " لقد ابتدأنا بالحديث عن الانتماء والحاجة .. ولكنك تنهينه بالحديث عن الحب . إن هذه عادة النساء ، أليس كذلك؟ "
كان في صوته من السخرية ما ذكر نيرن باجتماعهما الأول في المقبرة عندما رأت في عينيه الفراغ والكآبة ، فأرادت أن تتقدم لترفه عنه و ها هي ذي الآن يتملكها نفس الشعور نحوه فأجابته قائلة : " إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار . "
ما أسخف جوابها هذا ، هل هذا كل ما أمكنها قوله؟ إن أمامها رجلاً يتألم ... رجلاً يبدو أنه قد عانى طويلاً ولكن كل ما استطاعت قوله له هو ( إن هذا يدفع الكون إلى الاستمرار .....)
أجابها : " آه كلا يا عزيزتي نيرن في هذا أنتِ مخطئة ليس الحب الذي يدفع الكون إلى الاستمرار وإنما العلاقة والمعاملة التي تقوم بين الناس حتى لو لم يعد الإنسان يشعر بالحب فان الكون سيستمر سائراً في طريقه ...."
فقاطعته قائلة : " من الواضح تماماً أن ليس في نفسك ذرة من الشاعرية . "
فقهقه ستروم ضاحكاً وهو يقول : " شاعرية؟ هل تريدين شاعرية؟ صدقيني انه حتى من دون هذه المقومات ، النتيجة هي واحدة ، توالد الأجناس سيبقى مضموناً وستضل الأرض تدور ...."
فسألته بهدوء : " هل هذا هو عالمك يا ستروم؟ هل هذا هو نوع العالم الذي تريد أن تعيش فيه؟ عالم من دون عهود ولا التزامات ....."
سألها : " هل تؤمنين بالحرية يا نيرن؟ "
فأجابت : " طبعاً أؤمن بالحرية ولكن ...."
فقال : " عندما تتحدثين عن الالتزام فان ما تتحدثين عنه هو تقيد للحرية في الواقع ألا يمكن لأثنين أن يستمتعا معاً دون الحاجة إلى نوع من التعهدات؟ "
وبينما كانت تقف تحدق فيه ، شاعرة بالدوار سمعت الكلب شادو ينبح . كانت تعلم أنه كان غافياً في مكانه الدافئ تحت الموقد ولكنها لاحظت في نباحه القصير ذاك حاجته إلى الخروج .
وبحركة مفاجئة ، وقالت وهي تتراجع إلى الخلف : " أرجو المعذرة فان علي أن أخرج الكلب لأتمشى معه قليلاً قبل أن آوي إلى فراشي . "
ودون أن تلقي عليه نظرة تحولت متجهة إلى الباب رافعة الرأس بشموخ .
كان عليها أن تهرب منه ، لكي تتخلص من هذه المشاعر المضطربة التي تعتريها المشاعر التي كانت تدفعها في اتجاهات لا ترضاها وسمعته يقول لها : " إذن فأنا أتمنى لك ليلة سعيدة يا سيدة كامبل ...."
وعندما استدارت مجفلة رأته وراءها مباشرة وكان قريباً منها إلى حد استطاعت معه أن ترى الخطوط التي كانت تحيط بفمه الساخر وأجابت متوترة : " ليلة سعيدة ." ومن ثم فتحت الباب ، شاعرة بالسرور لابتعادها عنه . ولم يتبعها هو ولكنها ما أن اجتازت الصالة بخطوات نافرة متعجرفة حتى سمعته يقول من حيث كان واقفاً عند الباب ، سمعته يقول كلمة واحدة ولكنها كلمة نفذت مباشرة إلى أعماق قلبها .
تلك الكلمة كانت ( جبانة )



الفصل السادس
وعادت نيرن تهبط جالسة على مقعدها في سيارتها الفان لحظة طويلة دون أن تهتم بدفء أشعة الشمس وهي تحاول التفكير في وضعها هذا ثم سحبت المفتاح من المحرك وهي تتأوه بخيبة أمل ، لتعيده إلى جيبها ثم جذبت الباب بعنف تفتحه وكانت قد قفزت لتوها إلى الأرض المغطاة بالحصى مغلقة باب السيارة بعنف لا ضرورة له إذ لم ينفع في تهدئة انفعالها ، عندما رأت ستروم غالبريث يخرج من المنزل بقامته الفارعة وسترته الجلدية السوداء وبنطلونه القاتم .
قال يخاطبها وهو يعيد بيده إلى الخلف شعره الأسود الذي كان يتلاعب به النسيم : " ظننتك خارجة بسيارتك هل غيرت رأيك؟ أم أنكِ نسيتِ شيئاً في المنزل؟ "
فأجابت وقد تجهم وجهها : " بالضبط لقد نسيت أن أملاً الخزان بالوقود ولا أدري كيف حدث هذا الإهمال مني . كما أن محطة البنزين لن تفتح قبل نصف ساعة ."
فقال : " لا بأس سأوصلك أنا إلى المكان الذي تبغين. "
ترددت وهي تنظر إليه مفكرة وقد ظللت عينيها بيدها تحميها من أشعة الشمس لقد شعرت بالسرور حين جاءها الدكتور كوغيل بمفتاح منزل آني يسألها إن كان بإمكانها أن تحزم بعض حاجات آني وتأخذها لها إلى دار المسنين ذلك أن هذا منحها فرصة رائعة لكي تتجنب البقاء في المنزل بصحبة ستروم . أما الآن فعليها إما أن تضيع نصف ساعة من وقتها في هذا الصباح الذي يتراكم فيه شغلها أو أن تجلس بجانبه عدة دقائق فقط في السيارة .....
وأخيراً قالت : " أشكرك لعرضك هذا . " ومشت إلى سيارتها تفتحها من الخلف .
فسألها قائلاً : " إلى أين نحن ذاهبان؟ إلى انفرنيس؟ أم إلى الجين؟ أم ترانا ذاهبين إلى سكاي؟ إنني لم أذهب مطلقاً إلى سكاي . "
فقهقهت نيرن ضاحكة بالرغم منها وهي تجيبه قائلة : " كلا إننا لسنا ذاهبين إلى سكاي وإنما إلى شارع ساوث ستريت الذي لا يبعد عنا أكثر من نصف ميل والسبب الوحيد الذي يجعلني أقبل بمرافقتك لي ، هو أنني أريد أخذ هذه إلى منزل آني ."
وأشارت إلى كومة من صناديق الكرتون الفارغة . فساعدها في نقل الصناديق إلى صندوق سيارته المرسيدس ، قبل أن يشير إليها بالصعود إلى سيارته الفارهة ولم ينطق بشيء إلا بعد أن تحركت بهما السيارة فقال يسألها : " هل تحزمين أمتعة عمة كيلتي؟ "
فأجابت : " نعم ويظهر أنها قلقة على أشيائها ، فقد سألني الدكتور كوغيل إذا كان بإمكاني أخذ ملابسها وأشيائها الخاصة إلى الدار لتجدها في انتظارها عندما تنقلها سيارة الإسعاف من المستشفى إلى هناك آخر هذا الأسبوع . "
وبينما كانت نيرن تتحدث ، نفذت إلى خياشيمها الرائحة العطرية الرجالية التي كانت اشتمتها ليلة وصول ستروم إلى منزلها وكانت ظنت ذلك الحين أن هذه الرائحة الغالية هي رائحة ماء الكولونيا ولكنها أدركت الآن أنها ليست كذلك و إنما هي محلول بعد الحلاقة فقد كانت في ذلك الصباح تنظف حمام غرفته أثناء تناوله الفطور عندما لاحظت الزجاجة الثمينة ببطاقتها السوداء والبيضاء ورأت نفسها ترفعها إلى انفها وأغمضت عينيها حينذاك وقد أعادت هذه الرائحة إلى ذهنها صورة الرجل الأنيق في هذه الغرفة الصغيرة وأعادت الزجاجة إلى مكانها بسرعة ولكنها لمحت وجهها في المرآة وهي تغادر الغرفة لترى شعور الذنب في عينيها واللون الذي صعد إلى وجنتيها ....
وأجفلت وهي تسمع الرجل الذي تفكر فيه يحدثها ، فقالت : " عفواً . "
فقال هازلاً : " إنني فقط أسألك عن الطريق ، فأنا لست قارئ أفكار . "
" من حسن حظي! "
فقال لها ضاحكاً : " ولماذا هذا التمني؟ هل كنتِ تفكرين في شيء لا تريدينني أن أعرفه ؟ "
قالت : " عليك أن تتحول من هنا ، نعم ، إلى اليمين ثم إلى شارع ساوث ستريت هنا تسكن العمة آني . ذلك المنزل الصغير ذو الباب البني اللامع بجانب عمود النور . "
و أمسكت بحقيبة يدها وما أن أوقف السيارة حتى أمسكت بمقبض الباب قائلة : " شكراً . "
لتسرع بعد ذلك نازلة إلى الرصيف وقبل أن تغلق الباب تابعت تقول : " إنني شاكرة لك حقاُ إحضاري إلى هنا وإذا كنت تريد العودة إلى المنزل لتناول الغداء سأراك هناك حوالي الساعة الواحدة ."
وما أن أغلقت الباب واستدارت لتبتعد حتى قال لها : " ألم تنسي شيء؟ "
وكان قد نزل بدوره واتجه إلى صندوق السيارة . فقد نسيت الصناديق الكرتونية وذلك في إسراعها للابتعاد عنه ولكن يبدو أن هذا لن يكون ممكناً وانتظرت حتى أخرج الصناديق ووضعها على الرصيف .
فقالت : " أشكرك مرة أخرى ، إن بإمكاني تدبيرها الآن . "
ولكنها عندما استدارت نحو باب البيت تفتحه لاحظت أن ستروم لم يذهب فقد كان واقفاً خلفهاً مباشرة .
ورفعت رأسها تنظر إليه عندما أمسك بمعصمها بأصابعه الباردة الحازمة وهو يقول : " كلا ، أنكِ لن تفعلي هذا . "
فسألته : " أفعل ماذا؟ "
فأجاب : " لن تبتعدي هكذا بسهولة ، إن الفضول يضغط علي لكي أعرف لماذا قلتِ من حسن حظي. "
وخاطبت نيرن نفسها آه انه ملحاح يا له من مأزق .
وقالت تجيبه : " قلت من حسن حظي لأنك قلت انك لست قارئ أفكار لأنني في تلك اللحظة كنت أفكر فيك هل رضيت الآن؟ . "
فأجاب : " آه يا سيدة كامبل إنني أحتاج إلى أكثر بكثير من مجرد كلمات لكي أرضى . "
وارتسمت على فمه ابتسامة عريضة جذابة تورد لرؤيتها وجه نيرن وهو يتابع قائلاً : " ولكنني أريدك أن تخبريني ما الذي كنتِ تفكرين فيه بشأني؟ "
فقالت كاذبة بلباقة : " إذا كنت تريد حقاً أن تعرف ، فقد كنت أتساءل من أين اشتريت محلول بعد الحلاقة الغالي الثمن هذا الذي تضعه. "
فعاد يبتسم لها ببطء : " آه ، محلول بعد الحلاقة إن اسمه ابن المدينة ولكنني لم اشتره انه هدية من شخص ما . "
وعرفت أن هذا الشخص ما هو إلا امرأة ما . لقد تضمنت لهجته هذه الحقيقة وشعرت بالحيرة والغضب من ردة الفعل عندها لما قاله ، إذ شعرت بقلبها يهبط بسرعة وهي تتصور امرأة شقراء ناعسة العينين تبتسم له وهي تقدم إليه هذه الهدية .
كان ستروم يراقبها بعينين يلمع فيهما الهزل . لقد قال لها انه ليس قارئ أفكار ولكنها الآن تتساءل عما إذا كان فعلاً كذلك .... يا للسخافة .
ولكنها قالت بمرح : " حسناً ، ألست رجلاً محظوظاً؟ والآن هل لك أن تترك يدي؟ إن ورائي أعمالاً كثيرة . "
ذلك أنها لاحظت لتوها أنه ما زال ممسكاً بمعصمها.
" صباح الخير يا نيرن "
نادها شخص ما من الرصيف المقابل ، فالتفتت فجأة بسرعة إذا كان الصوت مألوفاً لديها وعندما رأت شخصية المنادي صدرت عنها آهة خافتة . ذلك أنها لم تشأ لهذه المرأة من بين كل الناس أن تراها في هذا الوضع ، ( فاني وبستر) هذه موظفة البريد المتقاعدة ، إن بإمكانها هي نيرن أن ترى الفضول يتألق في عيني تلك المرأة رغم بعد المسافة و زجاج نظارتيها السميكتين .
فأرغمت نيرن نفسها على الابتسام وهي تحاول تخليص معصمها من يد ستروم دون نجاح بينما كانت ترد قائلة : " صباح الخير يا فاني ."
والآن سينتشر كل ما يحدث بينها هذه اللحظة وبين ستروم في كل أنحاء قرية غلينكريغ قبل أن ينتهي هذا النهار وهو أنها كانت واقفة في ساوث ستريت قبل الساعة التاسعة صباحاً مع رجل غريب متماسكي الأيدي ....
وقال لها : " هل أنتِ مضطربة لهذا يا نيرن؟ "
وكان جلياً من ابتسامته العريضة انه مستمتع جداً بارتباكها هذا . فرفعت بصرها إليه وقد توترت ملامحها وردت عليه بحدة : " كلا طبعاً وما الذي يجعلني أضطرب؟ "
فأجاب : " لأنها ستتحدث عنك أليس كذلك؟ "
فأجابت : " إنها ثرثارة كثيرة الكلام وإذا كنت تعيش في قرية صغيرة مثل غلينكريغ فان كل إنسان سيعرف عملك قبل أن تعرفه أنت تقريباً . "
فنظر بطرف عينه إلى تلك المرأة على الرصيف المقابل وهو يقول : " ها هي ذي قد وقفت ، إنها تتظاهر بالتفرج على واجهة المقهى ذاك ولكنها تراقبنا نحن بطبيعة الحال إنها تنظر إلى انعكاس صورتنا في زجاج الواجهة . أظن أنها تشعر بخيبة الأمل لأننا لا نفعل شيئاً سوى الإمساك بأيدي بعضنا البعض . "
فقالت : " إننا لا نمسك أيدي بعضنا البعض وإنما أنت الذي تحتجز معصمي بيديك ."
وتنفست الصعداء حين قاطعها قائلاً : " أريد أن اعترف لكِ بشيء وهو أنني لم ألمسك لكي أعطي فاني موضوعاً تتحدث عنه وإنما لأنني لم استطع مقاومة جمالك ."
تساءلت نيرن عن السبب الذي يجعله يردد على الدوام أنها جميلة ولماذا لا يجعل الأمور اقل تعقيداً وذلك بأن يقول الحقيقة وهو أنه إنما يشعر بالإعجاب نحوها ولا شيء آخر .
تأوهت بخيبة أمل وهي تفلت من ستروم ، محاولة أن تبدو بشكل طبيعي وهي تقول : " يجب أن أذهب الآن . "
ولكنها شهقت مستنكرة عندما تبعها إلى الداخل ، ثم أغلق الباب خلفهما وهو يقول : " سأساعدكِ ."
فقالت : " كلا . "
من أين أتاها هذا الرجل؟ وعادت تكرر للمرة الثانية والثالثة : " كلا ، كلا أشكرك أنا أعرف العمة آني لو ، واعلم أنها ستستاء جداً إذا علمت أن شخصاً غريباً خاصة إذا كان رجلاً قد عبث بخصوصياتها . "
وعندما أضاء الصالة ، أخذت تتساءل عن الطريقة التي تتخلص فيها منه . والتفتت لتنظر إليه فوجدته خلفها مباشرة يشرف عليها بقامته الفارعة رغم أن طول قامتها هي كان فوق المعدل، فقالت له بسرعة : " إذا كنت تريد أن تساعدني حقاً فما رأيك في أن تعود آلي حوالي الساعة الثانية عشرة لنأخذ هذه الصناديق قبل موعد الغداء وفي الطريق يمكننا أن نتوقف لنأخذ معنا بنزين لسيارتي ...."
وفجأة أدركت أنه لا يستمع إليها فقد كان ينظر من فوق كتفها إلى غرفة صغيرة من خلال بابها المفتوح فالتفتت ، لترى أنها غرفة كيلتي . كانت غرفة صغيرة جداً ذات نافذة عريضة وكان ستروم يحدق في جدار الغرفة الذي علق كيلتي عليه الصور الفوتوغرافية .
وبدا عليه أنه نسي تماماً نيرن وهو يتخطاها داخلاً إلى تلك الغرفة الصغيرة وهو يقول بشيء من الدهشة : " من الذي التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " إنها غرفة كيلتي . "
فقال : " نعم غرفة كيلتي ولكن من التقط هذه الصور؟ "
فأجابت : " انه كيلتي أليست رائعة الجمال؟ "
فبقى وقتاً طويلاً لا يتحرك وهو يحدق في الصور .
تنحنحت وهي تقول : " انك تراها جميلة أليس كذلك؟ "
وأخيراً أنهى تفحص الصور ، فالتفت إليها قائلاً : " ماذا قلتي؟ "
فأجابت : " انه موهوب .. أليس كذلك؟ "
وكانت تنظر إلى نسر ينطلق طائراً من على أعلى شجرة صنوبر
وتابعت تقول : " لقد شعرت بخيبة أمل كبيرة لأنه ترك هذه الهواية . "
فسألها بحدة : " ترك هذه الهواية؟ "
فأجابت : " نعم منذ وقت قصير ، لقد اخبرني بأنه فعل ذلك لأنه لا يوجد هنا مكان ليقيم غرفة التحضير المظلمة ولكنني أظن أن هنالك سبباً آخر لا أدري ماذا يمكن أن يكون والأسوأ من ذلك انه باع آلة التصوير الغالية والتي كان أبوه قد قدمها إليه منذ ثلاث سنوات في أحد الأعياد وقد كلفته ثمناً باهظاً ولكن هوغ دنبار ما كان ليضن بقطعة من كبده يقدمها إلى ذلك الصبي . "
فابتعد ستروم عنها فجأة ليسير نحو النافذة وقد توتر جسده حيث بقي مدة طويلة وظهره إلى الغرفة حتى أخذت هي تتساءل عما دهاه هل عليها أن تتقدم منه وتسأله عما به؟ ولكنها هزت رأسها شاعرة بأن ستروم يريدها أن تقترب منه فقد بدا عليه تماما أنه في عالم آخر مستغرقاً في أفكاره وأن هذه الأفكار لابد تتعلق بكيلتي . وبدا لها هذا وهي تخرج من الغرفة ، لغزاً كبيراً ، لغزاً لا يعرفه سوى ستروم وكيلتي .. وأغلقت الباب خلفها بهدوء ثم سارت نحو غرفة آني وأفكارها ما زالت تعمل . وأخذت تتساءل عما يدور حولها لقد تعقدت الأمور منذ جاء ستروم غالبريث إلى غلينكريغ . وكلما أسرع بالرحيل كان ذلك أفضل إذ يمكن عند ذاك للاستقرار أن يعود إلى حياتها .. هذه الحياة التي ستصبح اكثر غنى وبهجة بوجود كيلتي معها الآن ولكن ما أن فتحت أول درج لتخرج منه أشياء آني حتى أدركت وقد تملكها الذعر أن فكرة توديعها لستروم ثم لا تراه بعد ذلك أبداً لم تجد في نفسها أي نوع من السرور كما كانت تظن.
وعندما سمعت بعد لحظات صوت الباب الخارجي يغلق خلفه ، أخذت تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان .
وعندما أنهت نيرن حزم حاجيات آني بالكامل وقفت تنظر حولها إلى الغرفة الخالية ويداها على وركيها . وأجفلت وهي تسمع طرقاً عالياً على الباب الخارجي وألقت نظرة على ساعتها لتجدها الثانية عشر إلا ربعاً ، ولكن ربما الطارق هو ستروم قد عاد مبكراً.
وتساءلت وهي تذهب لتفتح الباب عما عسى أن يكون عليه مزاجه الآن . هل تراه ما زال ذاهلاً متوتراً كما كان عندما رأى عرض صور كيلتي الفوتوغرافية؟
ولكن توترها ما لبث أن تلاشى حين رأت أن القادم لم يكن ستروم بل فلورا ماكدونلد زوجة رجل الدين .
وهتفت نيرن تحيي المرأة المسنة بابتسامة صادقة : " فلورا ما أجمل أن أراك ، إن آني ليست هنا مع الأسف ...."
فأجابت المرأة : " إنني أعلم أنها في المستشفى ولكنني رأيت فاني منذ ساعة فأخبرتني أنكِ هنا . وأنا أريد أن أتحدث إليك أنتِ . "
وعضت على شفتيها وهي تنظر إلى حقيبة صغيرة كانت في يدها وعندما رفعت عينيها إلى نيرن لاحظت هذه أنها قلقة فسألتها : " ألا تدخلين؟ "
فأجابت : " ليس لدي وقت يا نيرن فان علي أن أعود لأصنع الشطائر لاجتماع الرابطة عصراً . "
فهتفت نيرن : " آه الاجتماع .. لقد كدت أنسى ذلك ."
وسمعت صوت سيارة تقف على بعد أمتار منهما ومن زاوية عينها رأت ستروم قادماً نحوهما ولمست ذراع فلورا برقة وهي تسألها : " أي خدمة تريدينها مني؟ "
فأجابت المرأة : " إنني أكره أن أضايقك ولكن الدكتور كوغيل قال لزوجي إن كيلتي يسكن معك الآن ففكرت في أنني ينبغي أن أراك بشأن ...."
فقاطعتها : " كيلتي ."
فأجابت المرأة : " لقد باع كيلتي آلة التصوير إلى ابني دنكان وهو سيذهب إلى الجامعة السنة القادمة وقد دفع له ثمنها من نقوده الخاصة وهي النقود التي وضعت جانباً لأجل تكاليف تعليمه في الجامعة ، لقد تحدثنا طويلاً الليلة الماضية .. أنا وزوجي بيتر ودنكان الذي اعترف بأنها كانت مجرد نزوة طارئة منه وقد غير رأيه فلم يعد يرغب في آلة التصوير هذه ."
وبدا التوسل في عينيها وهي تتابع قائلة : " أيمكنك أن تقنعي كيلتي لكي يعيد النقود إلى دنكان؟ انه فعلاً بحاجة إليها . "
كان ستروم قد وقف بجانبهما الآن ما لم يدع لنيرن أي شك في أنه قد سمع حديثهما كاملاً ولكنها كانت مشغولة عنه بالحديث إلى المرأة قائلة : " إنني متأكدة من أن كيلتي لم يرغب في بيع آلة التصوير ولكن ليس لدي فكرة عما فعل بالنقود ربما قد احتاجها لأمر ما . "
وكادت الدموع تطفر من عيني المرأة وهي تقول : " آه، إنني لم أفكر في ذلك في انه قد يكون أنفق النقود. "
وفجأة قال ستروم : " وهل آلة التصوير معك هنا؟ "
فقالت نيرن للمرأة : " أقدم إليك ستروم غالبريث وهو نزيل عندي في برواش .. وهذه السيدة ماكدونلد."
فصافحته فلورا ثم أخرجت آلة التصوير من الحقيبة وهي تقول : " هذه هي لقد اشتراها ابني من ......."
فقاطعها قائلاً : " إنني أتعاطف معك في ورطتك هذه ."
وتناول منها آلة التصوير يتفحصها قائلاً :" ما هو الثمن الذي دفعته فيها؟ "
وتمتمت فلورا تذكر الثمن بصوت لا يكاد يسمع وكادت نيرن تصرخ ذعراً لقد كانت هازيل ذكرت لها أن زوجها دفع الكثير ثمناً للآلة هذه ولكنها لم تكن تتصور أن يصل إلى هذا الحد .
سحب ستروم دفتر الشيكات من جيبه وحرر لها شيكاً مصرفياً في لحظات ثم ناوله للمرأة وهو يقول باسماً : " هاكه ، واخبري ابنك أن لا يكون متسرعاً بعد الآن للحصول على ما يشتهيه وسأسوي أنا الأمر مع كيلتي . "
وسرعان ما كانت فلورا تنطلق في الشارع وقد بان الارتياح في عينيها .
نظرت نيرن إلى ستروم ، إلى قامته الفارعة والجاذبية الأخاذة التي تشع منه ثم قالت مظهرة غضباً اكثر مما تشعر به حقاً : " ألا تظن أن في عملك ذاك شيئاً من الجسارة؟ إنني لا أنكر كرمك فقد رفعت عن كاهل المرأة حملاً ثقيلاً فقد كانت في غاية القلق لأجل النقود ولكن الحقيقة أن هذا الأمر كله لا دخل لك فيه وليس هكذا يكون التصرف بشأنه . "
فنظر إليها قائلاً : " معكِ حق ولكنها كانت طريقه مناسبة وأنا سأسوي الأمر مع كيلتي فلا تقلقي ."
فسألته : " أتعني أنك ستطلب منه أن يعيد إليك النقود التي دفعتها إلى فلورا . "
فأجاب : " نعم ."
فقالت : " وماذا لو لم يكن يملك هذه النقود؟ "
فقال : " إنني مدرك أنه ربما سبق وأنفقها كلها أو بعضها ولكنني متأكد من أننا سنصل إلى نتيجة . "
فقالت : " هل نسيت ما سبق وأخبرتك به من أن كيلتي ترك التصوير؟ ربما ما عاد بحاجة إلى آلة التصوير هذه ."
فقال بحدة : " إن هذا الصبي موهوب ، لديه موهبة كبيرة فعليه أن لا يهملها فهو مسؤول عن استخدامها بالكامل . "
أرادت أن تصيح به أنها معه في قوله هذا ولكن ستروم لم ير مبلغ ذهول واضطراب كيلتي وهو يخبرها أنه لم يعد يهتم بالتصوير الفوتوغرافي فما هو موقف الغلام الآن عندما يقدم ستروم آلة التصوير أليه طالباً ثمنها؟
دقت الساعة الواحدة بعد الظهر وتنهدت هي باضطراب . لا فائدة من الوقوف في الشارع والجدل مع هذا الرجل .
وقالت له : " تفضل بالدخول فكل الصناديق جاهزة وشكراً لرجوعك ."
فأجاب : " لا بأس والآن في أي وقت يعود كيلتي من المدرسة؟ "
فأجابت : " في الرابعة ."
فقال : " أرني مكان المدرسة ونحن في الطريق فإنني أريد أن انتظره خارج المدرسة لاتحدث إليه . "
فهزت رأسها قائلة : " ليس اليوم فقد ذهب في رحلة مدرسية إلى مدينة أباردين لحضور مسرحية هاملت وسيعودون متأخرين في الليل وسيكون هو متعباً ، الأفضل أن تدع الأمر إلى الغد ."
كان غريباً أن ترى التوتر يمتلك ستروم كلما نظر إلى كيلتي . وإذا كان ما افترضته من أنه ربما كان يعرف هازيل ... إذا كان هذا صحيحاً فهذا هو سر ذلك التوتر إذن ولهذا استعاد آلة التصوير! لأنه رأى أن الغلام ذو موهبة فهل لذلك سبب آخر يا ترى؟
هل هنالك شيء آخر؟ شيء لا تستطيع هي رؤيته؟ لم تستطع أن تجيب عن هذه الأسئلة التي تقلقها .
قال ستروم مقاطعاً أفكارها : " إلى الغد إذن واليوم بعد أن نأخذ هذه الصناديق إلى دار المسنين سآخذك لتناول الغداء . "
وفكرت هي أن هذا ليس صواباً إذ من الأفضل أن تقلل من فترات صحبتها لهذا الرجل قدر استطاعتها . فأجابته قائلة : " هذا لطف منك وإنما علي أن أحضر اجتماع الرابطة في منزل فلورا بعد الظهر . "
فأجاب وعيناه تبتسمان لها : " إذن ، فستأتين معي للعشاء هذا إذا كنتِ لم تضعي خطة مسبقة بشأن عشائك ."
ولم تستطع أن تكذب فأجابت : " كلا ، ليس لدي خطة مسبقة للعشاء ."
فقال : " سأحجز إذن مائدة في مطعم فندق هيذرفيو ."
فقالت : " آه .... ولكن ......" وعضت شفتها فقد اعتادت أن تذهب مع روري إلى ذلك المطعم دوماً في المناسبات وكانا عادة يحجزان إحدى الموائد المسؤولة عنها هازيل والتي كانت تشتغل نادلة هناك منذ دخل كيلتي المدرسة . ومنذ وفاة زوجها لم تذهب نيرن إلى ذلك المطعم وذلك تجنباً لفيض الذكريات المؤلمة .
وقال : " لقد استقر الرأي إذن؟ في هيذرفيو؟ "
فتنهدت وهي تجيب : " لا بأس في هيذرفيو . "

الفصل السابع

كانت الليلة مظلمة عندما أوقف ستروم غالبريث سيارته المرسيدس ثم تخطى مع نيرن السيارات المتوقفة هناك . وفي الردهة ، ساعدها على خلع معطفها وعيناه لا تخفيان نظرة الاستحسان التي شمل بها قميصها الحريري الذهبي اللون و تنورتها الواسعة .
وتمتم وهو ينظر إلى شعرها : " يا للجمال الرائع ."
وشعرت بوجهها يتوهج.
قال لها : " انكِ تبدين وكأنك بفتنتك وعذوبتك خارجة من إحدى لوحات الرسام رامبراندت الرائعة . "
وتورد وجهها لإطرائه ذاك إلى حد لم يحلم رامبراندت بمثله . وقالت تخفي ارتباكها : " إنكم يا أبناء المدن تحسنون الكلام ."
وسمعته يضحك وهو يناول المستخدم معطفها ثم يقودها إلى الصالة وهو يقول :" لم لا تتقبلين الإطراء بسهولة؟ "
فقالت : " لا أدري . ربما لأن أمهاتنا علمتنا أثناء طفولتنا أن لا نكون مغرورات."
فسألها : " وهل كن يعلمن الأطفال الذكور أن لا يكونوا مغرورين هم أيضاً؟ "
فأجابت : " لا ادري لأنه لم يكن لدي اخوة ذكور . لا بد انك تعرف هذا بنفسك هل كانت أمك تعلمك في طفولتك عدم الغرور؟ أم انك لم تكن طفلاً قط؟ "
وكان الآن قد وصلا إلى مدخل غرفة الطعام فوقفا عند العتبة ورفعت هي بصرها إليه بهذا السؤال ولدهشتها رأت مسحة من الألم تكسو ملامحه لحظة ، سرعان ما تلاشت لتحل محلها ابتسامة وهو يقول : " ربما معك حق . ربما ما كنت أنا طفلاً قط "
فقالت : " ربما أنت تتقبل الإطراء بسهولة ."
فسألها : " لماذا لا تجربينني؟ "
فأجابت تسأله : " أجربك؟ "
فقال : " نعم وجهي ألي إطراء يا سيدة كامبل وانظري ردة الفعل عندي لذلك ."
فقالت : " آه .. لا أظن ."
فقاطعها رافعاً حاجبه بسخرية : " لا تظنين أن في شخصي ما يعجبك؟ لا أظنني من البشاعة بحيث ......"
فقاطعته : " بشاعة؟ آه انك غير بشع ...." وسكتت وهي تفكر يا لصراحتي .. إن هذا قد أوقعني حقاً .
قال : " آسف فالإطراء الذي يوجه بشكل نفي لا يعتد به قولي ذلك بأسلوب آخر."
فأخذت تفكر بمقدار حماقتها وهي ترى نفسها قد انخرطت برغمها في هذه اللعبة .. كيف تقول شيئاً لا يدخل في الخصوصيات؟ هل تقول له أن لك عينين جميلتين؟ نعم هذا حسن لأن عينيه هما جميلتان حقاً .
وتنحنحت وهي تقول : " إن عينيك عندما تنظران ألي .... أشعر وكأنهما ينومانني مغناطيسياً ......." وسكتت ذاهلة .....
وهتف بها وعيناه تلمعان : " هذا عظيم انه أعظم إطراء تلقيته منذ سنوات إنني سأستغل طبعاً هذه المعلومات عندما تحين اللحظة المناسبة شكراً يا سيدة كامبل ..."
وفجأة كان رئيس المضيفين الفرنسي واقفاً أمامهما يقول موجهاً كلامه لنيرن :" نيرن يا عزيزتي ما أجمل أن أراك مرة أخرى تتألقين بكل هذه الفتنة . انكِ ستنيرين المكان وسيخطف جمالك الأنظار ."
وكان يتكلم بلغة هي خليط من الفرنسية والإنكليزية .
أوشكت أن ترد عليه قائلة كعادتها من قبل ، آه يا ( آلان ) ... انك تبالغ في المديح .. عندما وكزها ستروم ما جعلها تغير كلامها فتقول : " أشكرك يا آلان . "
وعاد آلان يقول بعطف : " كم أنا آسف يا عزيزتي لما سمعته عن وفاة زوجك فهل هذا سبب عدم حضورك إلى هنا؟ هل بسبب الذكريات المؤلمة؟ "
فأجابت نيرن بصوت أجش : " نعم إن الذكريات مؤلمة حقاً . "
فقال : " آه .... ولكن مرور الزمن يخفف من ذلك والآن؟ "
ولأول مرة ينقل بصره إلى ستروم قائلاً : " آه .. السيد غالبريث أهلاً بعودتك إلى مؤسستنا هذه . "
وأدركت نيرن أن الإكرامية السخية التي لابد منحها ستروم لرئيس الندل عند حضوره سابقاً إلى هذا المكان ، لا بد أنها كانت شيئاً لا ينسى .
و أشار إليهما آلان قائلاً : " اتبعاني ، وستكون لكما أحسن مائدة في هذا المكان ."
وعندما جلسا نظرت هي إليه باسمة وقالت : " إن القاعة مزدحمة كالعادة أليس كذلك؟ "
فأجاب : " نعم ، كالعادة ولو أنني أفتقد تلك المرأة السمراء التي لا يمكن أن تعوض كم كانت عاملة مجدة ، كما أنها طيبة ... طيبة ... "
وهز رأسه بأسى ثم ابتعد .
ونظرت إلى ألسنة اللهب المتصاعدة من المدفأة ... وفاضت ذكرياتها .. ما أكثر ما ترددت إلى هذا المكان مع روري ...
وقال ستروم فجأة : " هل ترين صوراً في تلك النيران؟ "
فأجفلت وهي تلتفت إليه قائلة : " آسفة ... كنت فقط ..."
فقاطعها قائلاً : " تفكرين في الماضي أليس كذلك؟ لقد فهمت من كلام آلان أنكِ وزوجك ، كنتما تترددان إلى هذا المكان ، و أن هذه أول مرة تحضرين إلى هنا بعد ... وفاته؟ "
فأجابت : " نعم، لقد كنت أتجنب ذلك ...."
فقال : " ولماذا لم تقولي شيئاً عندما دعوتك للحضور إلى هنا؟ آه لقد ترددتِ فعلاً وكان علي أن أدرك ..."
فقالت : " وكيف كان لك أن تعلم؟ كما أنني مسرورة لحضورنا وأول مرة هي صعبة طبعاً بالنسبة ألي ."
كان العشاء رائعاً مؤلفاً من سمك السلمون المشوي كطبق رئيسي ودهشت هي إذ لاحظت أن حديثهما معاً طوال الوقت لم يتوقف ، رغم أنها لاحظت في النهاية أن ستروم كان يشجعها على الدوام على أن تكون هي المتكلمة وكان يبدو مستمتعاً حقاً بحديثها عن عملها وعن قريتها بشكل عام .
ولكنه لم يتطرق مرة واحدة إلى الكلام عن كيلتي وعن أمه هازيل .
ولكنه ما لبث أن قال وهو يستند إلى ظهر كرسيه بكل راحة وعلى شفتيه ابتسامة هازلة : " وماذا عن تلك المرأة السمراء؟ و الطيبة؟ من هي هذه الطيبة التي جرؤت على أن تترك عملها لتترك رئيس الندل في هذا الموقف الحرج؟ "
فأجابت : " انه كان يتحدث عن هازيل والدة كيلتي وأنت مخطئ فهي لم تترك عملها ، لقد ماتت ."
وسرعان ما شعرت نيرن بغصة في حلقها فلم تستطع متابعة كلامها بينما طفرت الدموع من عينيها . بحثت في حقيبتها عن منديل تمسح به دموعها تلك . كانت تعلم أن الذكريات ستؤلمها في هذا المكان وكان عليها أن تتمالك نفسها .
سألها : " هل أنتِ بخير؟ "
فأومأت برأسها قائلة : " نعم إنني بخير الآن افني آسفة إذ أثار شجوني الحديث عن هازيل. "
فسألها : " هل كانت صداقتكما متينة؟ "
فأجابت : " نعم جداً "
فسألها ثانياً :" وهل كانت تثق بكِ "
فأجابت : " تثق بي؟ "
فقال : " أعني أنها تطلعك على كل أسرارها ."
كان صوته يبدو متحدياًَ بشكل غريب . ما الذي كان يرمي إليه؟ و أجابته قائلة :" أسرارها؟ لم تكن هازيل من النوع الذي يحتوي على أسرار لقد كانت ...."
فقاطعها : " طيبة ....." وأطلق ضحكة استخفاف وهو يتابع : " امرأة طيبة؟ الطيّبة تعني شخصاً بالغ الطهارة وليس هناك امرأة حية تستحق هذا الوصف ."
دفعت نيرن كرسيها إلى الخلف بعنف ووقفت تتناول حقيبتها بيديها الاثنتين وهي تنظر إلى ستروم قائلة : " افني لن أدعوك حيواناً متعصباً لأن أمي علمتني بجانب أن لا أكون مغرورة ، علمتني أيضاً أن لا أشتم أحداً وان كان يستحق ذلك وعلى كل حال فأنا أقول لك انك قد أفسدت أجمل أمسية مرت بي منذ أشهر أما الآن فأنا ذاهبة . "
وشقت طريقها دون اهتمام به بين الموائد متجهة إلى الصالة حيث مركز المعاطف وبينما كانت تطلب معطفها كانت تتمتم ، فظ متغطرس لا يحتمل ...
وجاءها صوته من خلفها : " انه فعلاً يستحق هذه الصفات الثلاث ."
واستدارت على عقبيها شاعرة بيده تقبض على كتفيها بقوة وهو يقول : " إنني مذنب يا سيدتي فهل تصفحين؟ "
و أوشكت أن تقول بحدة كلا وأي امرأة ترضى بأن تحشر بين النساء اللاتي لا يمكن الوثوق بهن؟ ولكنها كانت تعلم أنه لم يكن يوجه كلامه إليها هي بالذات ولا بد أن تجربة مرت به في حياته جعلته يفقد ثقته بالجنس الآخر .
وبينما أخذ ستروم يساعدها في ارتداء المعطف قالت له : " سأصفح عن إفسادك لأمسيتنا هذه أما ما قلته عن النساء فليس الصفح أو عدمه بيدي إذ من الواضح أن تجربة سيئة مرت بك تركت تأثيرها على حكمك عليهن . ربما ستقابل يوماً ما امرأة تحوي على ما يرضيك في المرأة وما أرجوه هو أن تجد هي فيك أيضاً كل ما يرضيها في الرجل . "
فقال باسماً : " آه إنها ضربة قوية . "
فأجابت : " وأنت تستحقها . "
فقال : " أسلم بهذا هل عدنا صديقين؟ "
فسارت أمامه وهي تقول ساخرة : " وهل كنا صديقين من قبل؟ "
فمشى بجانبها وهو يجيب : " نعم يا نيرن لقد كنا صديقين من قبل ومن الغريب أنني أشعر وكأننا سنكون صديقين على الدوام . "
وأخبرتها دقات قلبها وهي تتوجه معه نحو سيارته بأنهما لن يكونا مجرد صديقين ذلك أن مشاعرها نحوه أقوى وأكثر تعقيداً من أن تكون مجرد مشاعر صداقة عادية كان يساورها إحساس عميق بأنها إذا هي أفسحت المجال لهذا الرجل فسيقلب حياتها رأساً على عقب مبدداً السلام الذي سبق وجاهدت للحصول عليه منذ وفاة زوجها روري ذلك أن قلبها ما زال جريحاً وهي لن تكرر التجربة مرة أخرى ومن الأفضل لها أن تبقى في زاويتها الهادئة .
إنها حلما يصلان إلى بيتها ستستأذن ثم تصعد إلى غرفتها انه لم يقل كم يوماً سيمضي في غلينكريغ .. ولكنها ستسأله عن ذلك غداً آملة أن يسرع بالرحيل .
ولكنها ستنتظر إلى أن يتحدث مع كيلتي بشأن آلة التصوير .
ولم يتحدث ستروم في الأمر في الصباح التالي حتى انهوا هم الثلاثة تناول الفطور كانت نيرن تغسل إناء القهوة في الحوض بينما وقف كيلتي قائلاً انه سيتوجه إلى المدرسة عندما وقف ستروم مسنداً ظهره إلى النافذة وهو يقول : " انتظر لحظة .. إن لي كلمة معك . "
فاستدار الغلام يواجهه قائلاً بأدب : " ليس عندي وقت كاف ما هي؟ "
فقال ستروم عابساً : " لقد جاءت والدة دنكان ماكدونالد إلى نيرن أمس لتخبرها أن أبنها اشترى منك آلة التصوير بالنقود المدخرة لتعليمه . "
ولم يبد على كيلتي أي ردة فعل لهذا الكلام سوى اضطراب خفيف في نظراته .. وعندما لم يتكلم ، تابع ستروم : " إن والدة دنكان تريد استرداد النقود . "
فبدا الشحوب على وجه الغلام وهو يقول : " إنها كانت معاملة بيع وشراء بيني وبين دنكان ولا يمكنني إعادة النقود إليه .. إن عليه أن يحتفظ بآلة التصوير . "
ولاحظت نيرن في صوته ألماً دفيناً وهو يقول ذلك .
قال ستروم : " إن آلة التصوير هي معي . "
فبدا الذهول في عيني الغلام ولكنه هز كتفيه قائلاً بصوت مرتجف قليلاً : " احتفظ بها لنفسك إذن فأنا لا أريدها . "
فانفجر ستروم قائلاً بحدة : " إنني لا أريدها أنني أريدك أن تستردها فقد كنت رأيت تصويرك الفوتوغرافي .. وهو حسن جداً ، طبعاً ما زال أمامك الكثير لتتعلمه ولكن عندك الموهبة لقد أعدت أنا ثمن آلة التصوير وسنصل إلى نتيجة بيننا يمكنك أن تعيد إلى النقود على أقساط ولا يهمني كم سيأخذ ذلك من الوقت ولا أظنك أنفقت النقود كلها . كم بقي معك؟ "
فتورد وجه كيلتي وهو يقول : " لا شيء ."
فقال ستروم بحدة : " هل ذهبت كلها؟ وعلى ماذا أنفقتها؟ "
ولجزء من الثانية ، تجمد المشهد أمام عيني نيرن ، لترى أن الرجل والغلام متماثلان تقريباً وكأنهما صنعا من معدن واحد . نفس لفتة الرأس ونفس تكوين الوجه ونفس الفك ونفس العنق القوي ونفس الكتفين العريضين ونفس الأصابع الطويلة ...
ثم تحرك المشهد لتدرك أن ستروم ما زال يتحدث وبسرعة بلهجة يشوبها شيء من الذعر : " أي نوع من الفتيان أنت؟ كيف تتخلى بسهولة عن شيء مثل هذا كان عليك أن تحتفظ به؟ إن أباك حسب قول نيرن قد ضحى بالكثير لكي تحصل على آلة التصوير تلك .... ما الذي كنت تريده بثمنها؟ "
فازدرد كيلتي ريقه ثم تنحنح قائلاً بصوت متردد : " كان شيئاً أنا بحاجة إليه ...."
كان في صوته توجس مما عسى أن تكون ردة فعل ستروم لهذا ما جعل نيرن تشعر بالألم لأجله وأرادت أن تقول شيئاً ولكن راعها أن انفجر ستروم يقول بخشونة : " شيء أنت بحاجة إليه؟ انك غير مدمن على المخدرات أليس كذلك يا فتى؟ "
فاتسعت عينا الغلام وحملق في ستروم لحظات وكأنه لم يفهم ، ليصرخ بعدها بصوت يختنق بالألم وكأن ستروم وجه إليه ضربة : " كلا ... هذا غير صحيح طبعاً لا ... هذا غير ممكن .. كيف أمكنك أن تفكر ...."
وانطلق خارجاً وتنورته تموج حول ركبتيه متجهاً نحو الباب وعندما مر بنيرن لمحت هذه التعاسة على ملامحه ولكن قبل أن تتحرك كان قد خرج صافقاً باب المطبخ خلفه .
واستدارت إلى ستروم وعلى شفتيها كلمات اللوم ولكن الكلمات لم تنطلق وهي ترى وجهه الشاحب . كان واقفاً يحدق في الباب المغلق وكأن الحياة سلبت منه ليرفع بعد ذلك قبضته يضرب الجدار بجانبه وهو يقول بمرارة وخيبة : " لقد أفسدت كل شيء أليس كذلك؟ "
وكانت لهجته تنطق بالازدراء لنفسه وتابع يقول : " الأفضل أن أتبعه لأصلح الأمر قبل أن يخرج ...."
ولكنها أمسكت بذراعه وهو يتجه نحو الباب وهي تقول : " كلا أنه لن يشكر لك اللحاق به خاصة أثناء الشعور الذي يتملكه الآن . انك آذيت شعوره إلى درجة بالغة ذلك أنه كان دوماً غلاماً مستقيماً ، انتظر إلى الليل وهو سيراجع نفسه وعندها سيدرك أن تدخلك في أمره هو شيء طبيعي تبعاً لهذه الظروف . "
فقال : " ربما أنتِ على حق ولكن إذا لم يكن ثمة مخدرات في الموضوع فما الذي دعاه إلى إنفاق كل ذلك المبلغ؟ "
فنظرت إليه ، إلى الحيرة البالغة في ملامحه ولكن لتلمح شيئاً آخر .. شيئاً لم تستطع فهمه .. وفجأة شعرت بأنها نالت الكفاية . إنها لن تستطيع الاحتمال أكثر من ذلك وهي ترى هذا التفاعل الغريب بين هذين الشخصين دون أن تفقه السبب ثم إن البيت بيتها وكيلتي أصبح في وصايتها فهذا الأمر يهمها الآن سواء شاءت أم أبت .
وعقدت ذراعيها أمام صدرها ثم تنفست بعمق قبل أن تقول : " ستروم إنني عادة لا أتدخل في شؤون الآخرين ولكنني أريد أن أعلم سبب حضورك إلى هذه القرية ولا أدري ما هي العلاقة التي بينك وبين كيلتي ، أتراك تكرهه؟ "
وسكتت وهي تراه يتحول نحو النافذة يحدق منها صامتاً كما سبق وفعل في منزل آني في غرفة كيلتي ولكنها هذه المرة وقفت تنتظر جوابه .
وكأنه أحس بعنادها فالتفت إليها وقد بان الإرهاق على وجهه وقال : " انكِ مخطئة فأنا لا أكره الغلام ........"
فقالت : " ولكن هنالك شيء ما وفي اليوم الذي التقينا فيه لأول مرة وكان ذلك في المقبرة وكنت أنت واقفاً أمام قبر هازيل ، لقد سألتك عندها إن كان سبق لك معرفة هاز ...... "
فقاطعها قائلاً : " وأجبتك بأنني مهتم بالمقابر القديمة . "
فقالت : " نعم ولكنك لم تجب عن سؤالي ذاك . "
فأجاب : " هذا صحيح فأنا لم أجب عنه . "
فقالت : " وإذا سألتك الآن فهل ستعلمني بالحقيقة؟ "
فأغمض عينيه لحظة طويلة ثم فتحهما ليحدق فيها بثبات ثم قال : " نعم إذا سألتني"
فسألته بلطف : " هل سبق لك معرفة هازيل دنبار؟ "
فأجاب : " كلا ، أنا لم أعرف هازيل دنبار . "
كان يبدو عليه أنه يقول الحقيقة ولكنها أحست أن الأمر لم ينته هنا ، ذلك أن الكآبة احتلت عينيه إلى حد اهتز له قلبها وأدركت أنه على وشك إخبارها بالحقيقة فانتظرت وعاد هو يكرر قوله : " إنني لم أعرف هازيل دنبار لأنني عرفتها قبل أن تتزوج وكان اسمها هو هازيل ليندساي ..."
فقالت : " نعم كان اسمها كذلك ولكن لماذا لم تخبرني في المقبرة بسابق معرفتك بها؟ ولماذا تجعله سراً؟ إنني لا أفهم . "
فأجاب : " وكيف لكِ أن تفهمي؟ أنه سر أردت أن أحتفظ به ولكن بما أنكِ ستكونين الوصية على كيلتي فسأكاشفك به على أن تقسمي بكتمانه . "
فأجابت بفتور : " إنني أقسم ..... ولكن ...."
فقال : " لقد كنا أنا و هازيل ليندساي متحابين قبل أن تتزوج . "
وتابع متجاهلاً شهقة عدم تصديق صدرت عن نيرن : " أما سومرليد دنبار فهو ابني ."
سومرليد دنبار هو ابني.
بقيت هذه الكلمات تتردد في أذني نيرن بقية الصباح وهي تقوم بأعمالها المنزلية دون أن تستطيع التخلص منها وهذا أصابها بصداع جعلها تشعر بضرورة الخروج للتمشي قليلاً عسى أن تتحسن حالها.
كان الجو صحواً ، إلى إنذار بسقوط قريب للثلج فخرجت من منزلها بعد أن صفرت للكلب شادو ومن ثم اتخذت الطريق العام للتمشي.
مشت بسرعة علها تتخلص بذلك من كلمات ستروم التي لم تستطع التخلص منها ما منعها من التملي من جمال ما يحيط بها من مناظر طبيعية.
لقد كان ستروم معها في كل خطوة تخطوها رغم أنه سبق وخرج في سيارته المرسيدس إلى حيث لا تعلم . وشعرت بالندم لعدم إلحاحها عليه قبل خروجه لاطلاعها على المزيد . لقد كانت بحاجة إلى إيضاح ما سمعت والذي لم تكد تصدقه فقد كانت هازيل صديقتها لسنوات طويلة كانت تظن أنها تعرف هازيل تماماً ولكن تلك المرأة السمراء الجميلة كانت تعيش طوال أربعة عشر عاماً ، هذا إذا كان ما قاله ستروم صحيحاً ، كانت تعيش في الكذب ذلك أن هوغ لم يكن والد كيلتي .
كما أن والد كيلتي الحقيقي قد عاد الآن ....
ولكن لماذا الآن؟ ولماذا لم يساند هازيل أثناء حملها؟ لماذا لم يتزوجها؟ لماذا؟
وتنهدت نيرن .. ما أكثرها من أسئلة ولكن الماضي هو الماضي و ها أن ستروم قد عاد ... ولعل السبب الوحيد لذلك هو أنه ... أنه يريد الغلام ....
وهي أيضاً تريد رعاية الغلام وقد علمت الليلة الماضية دون أدنى شك أن كيلتي كان سعيداً لهذه الفكرة ولكنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الغريب هو أبوه فما الذي سيقوم به عندما يعلم؟
وخامرها شعور بأنه مهما كان الحل لهذه المشكلة فان هناك شخصاً سيتألم في النهاية .
وأجفلت عندما شعرت بالصداع عندها يتزايد بدلاً من أن يخف وأنه كان من الأفضل لها لو أنها تناولت قرصين من الأسبيرين ولجأت ساعة إلى الفراش .
وهكذا ، نادت الكلب ومن ثم استدارت عائدة إلى البيت وعندما وصلت إلى البوابة الخارجية لمحت ساعي البريد ماراً على دراجته فابتسمت له محيية وهي تقول : " انه يوم جميل . "
فأجاب : " نعم يا نيرن ، رغم سقوط الثلج فوق جبل سلاغمهور . "
وتباطأ وهو يقترب منها ليقول : " ليس ثمة شيء في البريد لأجلك إنني دوماًً أقول ان ليس هناك خبراً جيداً ."
وضحك مبتعداً وهو يرفع يده بالتحية .
ورفعت نيرن بصرها إلى قمة جبل سلاغمهور المشرف على نزل برواش نعم لقد كان ساعي البريد على حق فقد كان الثلج يكسو التلال كما أن قمة هذا الجبل بدت من الجمال بحيث لم تلحظ مثله من قبل.
وعندما دخلت المنزل لاحظت أن صداعها قد خف الآن وفكرت بأن ما تحتاج إليه هو كوب من شاي .
ولكنها ما أن اتجهت إلى المطبخ حتى تعالى رنين جرس الهاتف فأسرعت إليه . وما أن أمسكت بالسماعة حتى سمعت حركة عند الباب لا بد أنه ستروم أو كيلتي وتناهى إلى مسامعها صوت كيلا في الهاتف : " نيرن هل كيلتي عندكِ؟ "
فأجابت : " لحظة واحدة ." ذلك أنها سمعت مقبض الباب يدور ليظهر ستروم من الباب . فهزت رأسها له بالتحية وعادت تجيب كيلا : " آسفة يا كيلا لتأخري بالجواب لأن ستروم دخل الآن ولكن لماذا تسألينني عن كيلتي؟ "
فأجابت هذه : " لأنه لم يكن في المدرسة هذا النهار . "
فهتفت نيرن : " لم يكن في المدرسة هذا النهار؟ "
أجابت كيلا : " لقد جاء ابني كيفين الآن لتناول الغداء وقال انه عندما ذهب إلى المدرسة هذا الصباح تقابل مع كيلتي الذي قال له إن الحياة لم تعد تحتمل هذه الأيام وانه يشعر بالغثيان من هذه البلدة فهو سيغادرها . "
فقالت نيرن بضعف : " يغادرها؟ أتعنين انه هرب؟ "
ونظرت بحركة آلية إلى ستروم الذي كان يعلق سترته الجلدية في الخزانة والذي تجمد للحظة لدى سماعه كلماتها ثم أدار رأسه ينظر إليها ذاهلاً.
وقالت تكلم كيلا : " هل ذكر شيئاً عن مكان ذهابه؟ "
فأجابت : " كلا ، ولكن كيفين تبع كيلتي مسافة قليلة . انه لم يتبع الطريق الرئيسي الذي يقود إلى المدينة ..... لقد ذهب إلى الطريق المؤدي إلى جبل سلاغمهور . "
فهتفت نيرن شاعرة بالجليد يغلف قلبها : " سلاغمهور؟ أتعنين انه ذهب متسلقاً الجبل؟ "
فأجابت : " أظن ذلك . آه كم أتمنى لو كان آدم زوجي هنا، فهو يعرف طرقات الجبل تماماً وبإمكانه أن يلحق به ... ولكنه لن يعود من ادنبره قبل الغد . "
فقالت نيرن شاعرة بالشحوب يسود وجهها : " آه إن البرد سيشتد هناك مع كل ذلك الثلج .. وأنتِ تعرفين أنه لا يرتدي شيئاً عدا تلك التنورة ما الذي أستطيع فعله؟ . "
ولم تكمل كلامها لأن ستروم عبر الصالة مسرعاً ليأخذ السماعة من يدها ويتحدث فيها قائلاً : " ليس عليكِ أن تقلقي بشأن الغلام يا سيدة كارفي ستتصل بك نيرن تطمئنك في اللحظة التي أجده أنا فيها. "
وعندما أعاد السماعة إلى موضعها ، أدركت نيرن أنها كانت ترتجف . وكان السبب عدا هرب كيلتي هو شخصية ستروم المسيطرة وغلى الغضب في داخلها فوقفت تحدق به وهي تسأله بكلمات تغلي بالغضب والاتهام : " ما الذي تقوم به؟ بأي حق تنتزع من يدي الهاتف فتقطع علينا هذه المحادثة الخاصة عن ....."
ولكنها سرعان ما سكتت وهي تدرك أنه ربما يملك من الحق بالنسبة إلى كيلتي أكثر مما تتصور ..... فقد كان والد الغلام ..
وكانت في فورة غضبها قد نسيت هذه الحقيقة ذلك أنه الوحيد الذي له الحق في الاهتمام والتصرف بشأن كيلتي .
وقالت : " إنني آسفة لم أكن أعني أن ..."
فقاطعها : " لا بأس ... أتظنينه ذهب متسلقاً ذلك الجبل؟ حدثيني عنه؟ "
فأجابت : " انه الجبل الذي تراه من نافذة غرفة نومك وتسلقه حسن جداً أثناء فصل الصيف وكيلتي يحبه وقد اعتاد أن يحمل آلة التصوير وزاداً من الطعام ليمضي أياماً في الجبل يأخذ الصور الفوتوغرافية . "
فقاطعها بخشونة : " ولكن الآن ليس وقت الصيف انه منتصف الشتاء ، سألحق به."
فقالت : " ولكنك لا تعرف الطريق ..... "
فقال : " إن هنالك الإشارات على الطريق أليس كذلك؟ إنني سأجده . "
فقالت : " سآتي معك . "
فأجاب : " كلا . "
فقالت : " لن تستطيع منعي . "
لقد فارقها الذعر الذي كانت تشعر به منذ لحظات وتابعت تقول : " إنني سأساعدك لأنني أعرف الجبل جيداً منذ كنت طفلة . وإذا كان هناك فأنا أعرف أين يكون . إن هنالك أكواخاً تبنى عادة لمتسلقي الجبال ليلجئوا إليها .... "
فقاطعها : " إنني أعرف تلك الأكواخ . صحيح أنني ربيب المدن ولكن هذا لا يجعلني طفلاً هشاً . "
وسكت لحظة ، ثم عاد يقول : " آسف ربما كنتِ أنتِ على حق إن أحداً لن يستفيد بشيء إذا أنا ضيعت طريقي . "
فقالت : " إننا بحاجة إلى أخذ بعض الأشياء معنا ، مثل ملابس دافئة لكيلتي وبعض الإسعافات الأولية وأكياس للنوم فيما لو لم نستطع العودة قبل هبوط الظلام ، إنني سأجهز كيسين نحملهما . "
ونظرت إلى حذاء ستروم الأنيق اللامع قائلة : " لا يمكن أن تتسلق الجبل بهذا الحذاء فإذا شئت هنالك أحذية الفتيان العالية يمكنك أن تنتعل واحداً منها . "
فسألها : " كم سيأخذ تجهيز كل ذلك من الوقت؟ "
فأجابت : " ربع ساعة ، سأتصل بالشرطة أولاً لأعلمها بما حدث إذ ربما اتصلوا إذا لزم الأمر بغرفة الإنقاذ المختصة بالجبل في قرية غلينكريغ مهما كان ، فعليهم أن يعرفوا أننا سنتسلق الجبل بحثاً عن كيلتي . "
فقال : " سأتصل أنا ، ما هو الرقم؟ "
فأجابت : " يوجد في المطبخ قائمة بالأرقام قرب الهاتف . "
وقبل أن تنهي كلامها كان هو قد أصبح في المطبخ ، واندفعت هي صاعدة السلم . لو أن زوج أختها كان هنا وهو الذي سبق له تسلق الجبل عدة مرات ، إذن لشعرت بثقة أكبر في الذهاب معه . أما ستروم صحيح أنه بالغ التصميم والقلق إلا أنه ربيب المدينة على كل حال وقد يكون إعاقة لها بدلاً من أن يكون مصدر عون .
وفي غرفتها ، ارتدت أكثر ثيابها دفئاً وبينما كانت تفعل ذلك ، تمثلت أمام مخيلتها صورة كيلتي يرتجف برداً بتنورته وقميصه المقفول وساقيه العاريتين ...
وأخذت تخرج ثيابها الصوفية وهي ترتجف من الانفعال ، إن عليهما أن يعثرا على كيلتي قبل حلول الظلام . فالجبال قاسية جداً نحو أولئك الذين لا يقدرونها حق قدرها ..
الفصل الثامن
وضعت نيرن حملها على جانب من الطريق وهي تقول : " فلنقف هنا لحظة نأخذ فيها أنفاسنا . "
ووضع ستروم حمله بدوره ، ثم أجال بصره في ما حوله وهو يقول : " ما أجملها من بلاد . "
فأجابت : " نعم ، إن اسكتلندا هي من أجمل بلاد العالم . "
فنظر إليها قائلاً : " يبدو انك متأكدة من ذلك . "
وكان في لهجته شيء من التهكم وهو يقول : " لقد سبق ورأيتِ شيئاً من العالم أليس كذلك؟ إذ لا بد أن قراركِ هذا مبني على أساس متين . "
فأجابت : " كلا لم أسافر كثيراً لقد ذهبت من قبل سائحة في الباص إلى القارة الأوروبية مع والديّ وذلك منذ سنوات وهذا كل شيء . "
فقال بدهشة : " أهذا كل شيء؟ ألا تحبين الأسفار؟ "
فهزت كتفيها . إن بإمكانها أن تخبره بالحقيقة ولكن ذلك كان يبدو وكأنها تخون ذكرى روري .. فقد كانت تحب الأسفار وكانت تحلم دوماً بسفر معه إلى المناطق الاستوائية حيث الشمس الدافئة وحيث النخيل والطيور الغريبة وأنواع الزهور التي لم ترها من قبل .... ولكن روري كان يقول انه لا يشعر بالراحة في مثل تلك الأماكن ... وكان يضيف مازحاً إن في اسكتلندا كثيراً من الأماكن لم يرها بعد ويريد أن يراها قبل أن يموت .
وهكذا زارا الكثير من الأماكن معاً وان لم يكن كلها قبل أن يموت .
وعاد ستروم يسألها : " أظنك سافرت كثيراً؟ "
فأجابت : " نعم سافرت ولكن ليس كثيراً . "
وبوقوفهما هذا شعرت نيرن بمبلغ برودة الهواء ، لقد مضت عليهما أكثر من ساعة وهما يسيران متسلقين دون توقف ورأت وهي تتطلع حولها انهما سيصلان إلى مواقع الثلج بعد ثلث ساعة أو نحو ذلك وحتى الآن لم يبد أثر لكيلتي ولكنهما سرعان ما سيكون بإمكانهما أن يشاهدا آثار قدميه على الثلج حين وصولهما .. هذا إذا كان قد سبق وسلك هذا الطريق ولكن كان عليه أن يسلك هذا الطريق ولا بد أن يعثرا عليه في أول كوخ يصلان إليه بعد حوالي نصف ساعة .
ولم تشأ التفكير في شيء تكرهه .. وحولت أفكارها إلى ناحية أخرى فقالت : " عندما قلت منذ لحظة أن المناظر كانت رائعة كان في صوتك شيء ما .... آه ربما كنت أتخيل ذلك ولكنه بدا لي وكأن لديك علاقة ما بهذه البلاد لقد كنت أخبرتني انك مولود في مانشستر ولكن اسمك هذا ( ستروم غالبريث ) هو إسكتلندي ولا بد انك إسكتلندي جزئياً على الأقل . "
فأجاب : " إنني لست إسكتلندي جزئياً وإنما مئة بالمئة ورغم إنني مولود في انكلترا ، فان أبي وأمي إسكتلنديان وبلد أمي يدعى ستروم كما اعتقد. "
فحملقت نيرن به وهي تقول : " كما تعتقد؟ ألا تعلم حقيقة؟ "
فأجاب : " لقد هجرت أمي أبي منذ ولادتي ، تاركة إياي معه وهو لم يتحدث عنها قط وقد تعلمت أن لا ألفظ اسمها أمامه وقد توفي عندما كنت في العشرين من عمري ولكن منذ وعيت على الحياة غرس في نفسي عقيدته في أن النساء لا أمان لهن . "
وضحك بمرارة وهو يتابع : " ولماذا لا اصدقه؟ لقد كان البرهان موجوداً .. فقد هجرتني أمي نفسها ...."
وهنا ، تذكرت نيرن الأسى الذي بدا عليه عندما سبق وسألته في المطعم عما إذا كانت أمه علمته أن لا يكون مغروراً . ذلك أن أمه لم تكن معه لتعلمه شيئاً ولكن غيابها هذا علمه شيئاً ... شيئاً أوجد لديه هذه النظرة العدائية نحو النساء ، جميع النساء .
وكان هو يتابع كلامه بمرارة : " والوقت الوحيد الذي تخليت فيه عن الحذر هو الوقت الذي صممت فيه على الثقة ...."
وسكت فجأة ولكنه لم يكن بحاجة لقول المزيد إذ لا بد أنه كان يعني بذلك علاقته بهازيل وهل هذا هو السبب في حضوره أخيراً للمطالبة بابنه؟ أتراه أدرك أخيراً أنه إذا هو لم يطالب به فانه سيكون قد ارتكب نفس ذنب أمه التي هجرته وليداً؟
وقالت : " بالنسبة إلى كيلتي ما الذي ستفعله بشأنه؟ هل سيسافر معك؟ أم انك ستضعه في مدرسة داخلية؟ "
كانت تتكلم دون أن تنظر إليه . لم تكن تريده أن يرى الدموع في عينيها ولكنها عندما لم تسمع منه جواباً ، غالبت دموعها والتفتت تنظر إليه ولكنه لم يكن ينظر إليها كان يحدق في الوادي وكأنه منحوتة في جانب الجبل ، ما عدا خصلة من شعره الأسود كانت تتطاير فوق جبهته وعادت تقول بقلق : " إذا أنت أخذت كيلتي هل ....."
فقاطعها : " لقد سبق وسمعت ما قلته . "
فنظرت إلى وجهه الذي بدا كأنه قد من الصوان وهي تسأله بخشونة : " ولماذا لم تجب إذن؟ وإذا لم تشأ الإدلاء بجواب على الأقل ....."
فقاطعها : " أتريدين جواباً؟ "
وتحول ينظر إليها وأجفلت وهي ترى الكآبة والتجهم يعلوان ملامحه وهو يتابع قائلاً : " إذن فسأعطيك الجواب . كلا إنني لن آخذ ابني معي كما إنني لن أضعه في مدرسة داخلية ... "
فقالت : " وماذا ستفعل إذن؟ "
فأجاب : " سأتركه في غلينكريغ يا سيدة كامبل وستستمر حياته كما هي وكأنني لم أكتشف وجوده قط ، لقد كنتِ تحدثت عن تربيته وأنا ليس لدي اعتراض على ذلك إنني سأؤمنه مالياً وسيرث كل أملاكي بعد موتي ."
لماذا تراها تشعر وكأنها متبلدة الإحساس . كان ينبغي أن تفهم ماذا كان يقول ولكن ما سمعته لم يكن معقولاً ..... يبدو وكأنه يريد أن يعود إلى المدينة تاركاً كيلتي في غلينكريغ ......
وعاد هو يقول بضيق : " نعم يا نيرن إن سمعك لم يخطئ ما قلته لكِ عندما أعود إلى لندن سأعود بمفردي . "
وانحنى يلتقط كيسها يناولها إياه ، فنظرت إليه لتراه ينظر إليها بعينين كانتا من العنف والقسوة بحيث تماثلان تلك التلال الصخرية حولهما وهو يقول لها : " في كل مرة انظر فيها إلى ذلك الغلام أرى أمه ، في كل مرة أفكر في ذلك الغلام أفكر في أمه وعندما أفكر في أمه ، تفيض نفسي بالكراهية كينبوع من السم وهذا السم يفيض على ابنها ...... "
فصرخت نيرن في وجهه : " إنني لا أعرف ما الذي فعلته هازيل لتستحق منك كل هذه المشاعر التي لا تعرف الغفران ولكن كيلتي لم يفعل شيء يجعله يستحق منك كل هذه الغلظة والعنف . "
وكان صوتها باكياً وهي تتابع : " ستروم لا تتخلى عنه ... انه ابنك ."
لم يجب وكأن توسلاتها صافحت آذاناً صماء . أشاح بوجهه عنها ليسير بتثاقل صاعداً المرتفعات الشاهقة وقد هبطت كتفاه وكأنهما تحملان أثقال العالم اجمع .
واغرورقت عيناها بالدموع . وأسرعت خلفه بعد أن شدت متاعها إلى ظهرها كان بإمكانها أن تتخيل ما قد يكون شاعراً به . لقد كان ممزق العواطف ذلك أنه نتيجة لكراهيته لهازيل كان يحاول أن لا يتعلق عاطفياً بابنه ويبدو أن هذا الكفاح كان صعباً عليه كانت تظن في البداية إن بإمكانها مساعدته ولكنها تدرك الآن خطأها ، فهو الوحيد الذي بإمكانه أن يحرر نفسه من كل هذه المرارة وذلك الحقد اللذين يدمران كيانه . انه الوحيد الذي بإمكانه أن يفك الأغلال التي تقيد قلبه ومن ثم يطلقه حراً .
كان على قمة جبل سلاغمهور كومة من الحجارة أقيمت منذ سنوات بأيدي المتسلقين الذين كانوا يضيفون حجراً إلى تلك الكومة وذلك كشاهد على إنجازهم في غزو القمة وفي هذا الوقت من فصل الشتاء كانت كومة الحجارة مغطاة بالثلوج.
وقفت نيرن مديرة ظهرها إلى هذه الحجارة وقد حنت ظهرها إزاء شدة الرياح وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب منذ فترة والسماء اغبر لونها كما انتشرت الظلال وأظلمت الوهاد وشعرت بالصقيع حتى العظم وأحست بارتجاف مؤلم وهي تنظر إلى ستروم .
وهتفت بيأس : " انه ليس هنا انه ليس على الجبل . "
فسألها : " ألا يمكن أن يكون قد نزل من الجهة الأخرى . "
فصرخت : " من غير الممكن النزول من الجهة الأخرى فهناك صخور شاهقة جداً وفي السفح يوجد أخدود مليء بمياه الأمطار ...."
وازدردت ريقها لا تريد أن تفكر بذلك الأخدود ولكن إذا كان كيلتي قد اختار النزول من تلك الجهة فليس ثمة فائدة من التفتيش عنه فالأخدود كان بعمق مئات الأقدام . ولفت وشاحها حول فمها وهي تقول : " ستسود الظلمة قريباً ومن الأفضل أن نعود"
ورفعت بصرها عالياً ثم همست بذعر : " الثلج سيتساقط مرة أخرى ...."
وتلاشى صوتها عندما هب الهواء المثلج يحمل الألوف من ندف الثلج تتطاير حولهما ومرت لحظة تجمد فيها ذهنها فلم تر ستروم وشعرت بنفسها وحيدة في هذا المكان الشاهق بعيدة أميالاً عن كل مخلوق أو مكان.
ثم إذا بأصابع قوية تقبض على ذراعيها وصوت يقول : " يبدو أن عاصفة ثلجية على وشك الهبوب من الأفضل أن نفتش عن ملجأ ، ولا تقلقي بشأن كيلتي إذ ربما عاد فراجع أفكاره من ناحية الهرب وربما يكون الآن جالساً في المنزل قرب المدفأة ."
وفكرت نيرن وهي تهبط فوق الصخور المغطاة بالثلج في أنه قد يكون على حق . قد لا يكون كيلتي الآن جالساً قرب المدفأة ولكنه بالتأكيد ليس على جبل سلاغمهور ، نعم ربما جاء إلى هنا ، ذلك أنهما شاهدا أثار أقدام أمام أول باب مرا به في طريقهما إلى القمة وكذلك أمام باب ثاني ولكن شدة الرياح وتساقط الثلج جعلت من غير الممكن التمييز ما إذا كانت آثار أقدام إنسان أم أرنب بري .
كان الكوخان خاليين وكان الأصغر القريب من القمة مجرد كوخ لا يقدم سوى الملجأ لأولئك الذين تفاجئهم العاصفة أو الظلام ، أما الآخر الذي يمران به مرة أخرى بعد ثلث ساعة في عودتهما فقد كان ذات مرة كوخاً لرعاة وكانت الغرفة الأمامية تحتوي على مدفأة أما الغرفة الخلفية فقد كانت عارية تماماً ولكن نيرن كانت لاحظت كومة من الحطب وبعض المواد السريعة الاشتعال في زاوية من الغرفة الأكثر اتساعاً كما كانت هناك حشية قذرة المظهر مكومة بجانب الجدار وقد ألقي عليها بطانية تماثلها قذارة .
وكانت كل دقيقة تمر بهما تجعل مقاومتهما لعصف الرياح اكثر صعوبة فقد جعل ذلك التنفس وكذلك الرؤية اكثر صعوبة وكان الثلج يزداد سماكة كل لحظة وكان شعر ستروم الأسود قد اصبح ابيض تماماً وكذلك حاجباه ولكن رغم الرياح التي كانت من القسوة بحيث توشك أن تقذف بهم من فوق الجبل فقد كانت حركاته مليئة بالثقة والسيطرة على ما حوله .
وجدت نيرن نفسها تفكر في أن حكمها عليه كان خاطئاً فقالت له وهي تحاول وسعها البقاء بجانبه : " يجب أن اعتذر إليك فقد كنت مخطئة."
فسألها : " مخطئة بماذا؟ "
فأجابت : " كنت ظننت انك ربيب المدينة ، ظننت انك ....."
فقاطعها وقد بدا الهزل في صوته : " ظننتني شخصاً خسعاً ستضطرين إلى تركه خلفك بعد عدة مئات من الأمتار ثم ..."
فقالت : " على كل حال ...."
وهنا فقدت توازنها وهي تقفز من فوق صخرة وكادت تقع لولا أن امتدت ذراعاه تثبتانها واحمر وجهها قليلاً بينما ابتسم وهو ينظر إليها قائلاً : " إن الثلج جعل شعرك يبدو ابيض تماماً مما أراني صورة عن مظهرك بعد خمسين عاماً حين يكون شعرك قد ابيضّ بينما ما زال وجهك جميلاً وانفك حلواً وما زالت تعلوه بعض نقاط النمش ... "
وابتسم مرة أخرى وكان شالها قد انزلق فمد يديه يربطه حول وجهها قبل أن يتابع سيره وكانت هي تسير بجانبه دون انتباه منها إلى بنطلونها الذي كان قد ألصقه البلل بساقيها . كانت تشعر بالبرد والضعف وكانت تدرك أنها لا بد تبدو كعمود ثلجي يمشي .
وفجأة هتفت بصوت أجش : " ها قد وصلنا آه لا أستطيع تصديق ذلك . "
لقد كان عثورهما على الكوخ الثاني أعجوبة حقاً فهي لم تر من قبل مثل هذا البياض الذي يكسو كل شيء وعندما وقفا أخيراً عند الباب والعاصفة تصفر حولهما تكاد تعصف بهما .
وتصاعد صرير الباب عندما فتحه ستروم وعندما جذبها إلى الداخل ، اندفعت معهما هبة ريح ثلجية هوجاء اكتسحت المكان وصفق ستروم الباب ثم وقفا معاً في الظلام صامتين .
وقال ستروم بهدوء : " سنمضي الليلة هنا . "
فهمست قائلة : " نعم أظن ذلك ولكن عندما تهدأ العاصفة في الصباح علينا أن نكون قادرين على العودة . على الأقل الشرطة تعلم أين نحن إذا .... "
فقاطعها : " دعينا لا نفكر في ( إذا ) هذه يا نيرن إن ما علينا أن نفعل الآن هو أن نهتم بوضعنا هنا حالياً ونلتمس الدفء . "
كانت نيرن تستمع إلى صوته القوي محاولة أن تستمد منه القوة ولكنها بعد أن كفا عن المسير ابتدأت بالارتجاف من البرد فقالت : " حسناً لقد كنت رأيت بعض الحطب ومواد الإشعال هنا من قبل في تلك الزاوية . إن علينا أن نشعل النار وقد أحضرت معي علب ثقاب طبعاً كذلك أحضرت مصباحاً يدوياً ولم أكن أظن أننا قد نحتاجه فقد فكرت فيه في آخر لحظة . "
فقال : " وهي فكرة طيبة حقاً و الآن دعيني أساعدك على إنزال حملك عن ظهرك ."
وخلعت نيرن قفازيها الجلديين ووضعتهما في جيب سترتها ثم فتحت كيسها بأصابع حذرة و أخرجت منه المصباح اليدوي فأنارته محولة ضوءه إلى الزاوية حيث سبق ورأت الحطب .
فقالت له : " إن الفراش هناك لم اكن أظن أن وقتاً سيأتي سأقتنع بمثل هذا الفراش الرث . "
وابتدأت تنظف المكان من الأوراق القذرة والمهملات الملقاة على الأرض وهي تقول : " علينا أن ننظف المكان قدر استطاعتنا لكي ......."
وسكتت فجأة وهي تسمع ما يشبه الأنين خلفها فقالت : " ماذا حدث؟ " هل أصابك شيء ؟ "
فقال ستروم : " كلا إنني بخير . اعطني المصباح لحظة . "
وتناول منها المصباح وبدأ يوجهه نحو أنحاء المكان ، السقف ، الزوايا ، فوق الباب والسقف .....
وهتفت : " آه كلا ....."
وشعرت بدوار وهي ترى في ضوء المصباح الضئيل ... " كلا هذا مستحيل .."
وقال ستروم بصوت اكثر خشونة مما سبق وسمعته من قبل : " هيا اهتمي بإشعال النار يا نيرن وسأضعه في كيس النوم إن علينا أن ندفئ جسده ."
لقد كان هذا كيلتي مستلقياً على الفراش القذر وغطاؤه الوحيد كان البطانية الرثة وكان متكوماً على نفسه مغمضاً عينيه ووجهه في شحوب الموتى وكان جسده يرتجف كمن يعاني من حمى الملاريا .
لا بد أنه كان يخفي نفسه خلف الفراش عندما اقبلا في البداية يبحثان عنه كما فكرت نيرن لا بد انه كان سمعهما يقتربان ، فأسرع بخفاء نفسه ولم يظن انهما سيعودان إلى الكوخ مرة أخرى ...
وهز ستروم ذراعيها ينبهها من أفكارها تلك قائلاً : " نيرن دعي عنك ذهولك هذا و أوقدي النار . "
ولم تعرف كيف تحركت وأحضرت الثقاب ثم الحطب تحمله إلى المدفأة كانت تشعر وكأن شخصاً آخر يحتل جسدها هو الذي يتحرك ويعمل . وعندما اشتعلت النار في الحطب وتصاعدت السنة اللهب أخذت تتأملها كالمنومة مغناطيسياً .
وما لبثت أن استدارت تنظر إلى ستروم الذي كان الآن قد تمكن من وضع كيلتي داخل كيس النوم ثم سحب الفرشة المستلقي عليها إلى قرب المدفأة وكان قد خلع عن الغلام حذاءه وجوربيه فوضعها قرب النار لتجف .
وسألته بصوت مرتجف : " كيف حاله؟ هل سيصبح بخير؟ "

الفصل التاسع

عندما استدار ستروم نحوها ، رأت نيرن وجهه على ضوء النار المشتعلة وكان مرهقاً مغضناً بينما صوته كان ثابتاً وهو يقول : " نعم انه سيصبح بخير ولا بد انه أوى إلى هنا قبل العاصفة الثلجية ورغم أن حذاءه وجوربه مبللان إلا أن ثيابه جافة انه البرد والإرهاق وهذا كل شيء ولولا أن عثرنا عليه لكان الامر مختلفاً بطبيعة الحال ... "
وداخل نيرن الارتياح ممزوجاً بمشاعر مختلفة ، مشاعر كانت بمثل عنف العاصفة الثلجية التي تولول خارج الكوخ . هل تراها جنت لكي تتعلق عيناها في مثل هذا الوضع بهذا الرجل الذي كان الآن يقف بعد طول جلوسه القرفصاء بجانب الفراش؟ بوجهه الهضيم وعينيه اللتين كانتا كبحيرتين من التعاسة؟ كان هذا ما جذبها إليه وكان هنالك أيضاً شعورها بالعطف نحوه ... العطف لأنها كانت تعلم أنه يتألم لقد كان الألم رفيقه كان رفيقاً لا يريده ولكنه تملك نفسه بكل قسوة .. تملك نفسه منذ خمس عشر عاماً ...
رفيقاً أوجدته فيه هازيل .
ما أعظم ما كان حبه لها ، لكي تترك فيه جرحاً كهذا ... لكي يتسمم بهذا الشكل مهما كان فعلها به ....
اقترب منها ونظر إلى النار وهو يسألها : " هل أحضرت طعاماً؟ "
فأجابت : " أحضرت جبناً وكعكاً ولوحي شكولاته وبعض المكسرات ولكنك لن تحاول إيقاظه أليس كذلك؟ "
فأجاب : " ليس لأجل كيلتي بل لأجلنا نحن . "
ودون أن يرفع عينيه عن النار قال : " لقد مرت ساعات منذ تناولنا الطعام وليلتنا ستكون طويلة ويجب أن نأكل شيئاً يحفظ قوانا ولكننا يجب أن نقتصد في مئونتنا فمن يعلم كم سنبقى محتجزين هنا؟ "
وسكت . وشعرت نيرن بالبرد أكثر مما كانت تشعر به خارج الكوخ ولم تشأ التفكير في إمكان أن تحتجزهما العاصفة أياماً.
وسألها : " هل ثيابك مبللة كلياً؟ "
فأجابت : " إن جوربي مبللان وكذلك بنطلوني من الفخذين فنازلاً أما القسم الأعلى من ثيابي فلا بأس . ماذا عنك أنت؟ "
فأجاب : " لست محظوظاً تماماً . "
فسألته : " هل سندخل إلى أكياس النوم الآن؟ "
فأجاب : " هذا افضل . "
جلست القرفصاء وسحبت كيس النوم من حقيبتها حيث فتحت السحاب وما زالت تتجنب النظر حولها ولكن قبل أن تدخل الكيس قالت : " هل لك أن تدخل كيسك ريثما احضر أنا شيئاً نأكله. "
ولم تعد إلى النظر إليه إلا بعد أن سمعته يجر سحاب الكيس الطويل وكان جالساً في الكيس يدفئ يديه أمام النار وقد وضع القسم الأعلى من الكيس على كتفيه العريضتين .
والتفت إليها قائلاً : " بالنسبة إلى الكلب شادو عندما خرجنا كان نائماً في المطبخ من الذي سيفتح له الباب ليخرج؟ "
فنظرت إليه مستغربة أن يفكر في الكلب في ظروف كهذه وأجابته وهي تناوله كعكة وقطعة جبن : " لقد اتصلت هاتفياً بأمي قبل أن نترك البيت وهي ستهتم به إلى حين عودتنا . "
فقال : " هذا حسن . "
ولم يزد ، واخذ يأكل ثم عاد يقول : " منذ متى اقتنيته؟ "
فأجابت : " شادو؟ منذ ثماني سنوات ، انه هدية العرس من كيفين . "
فسألها : " ابن أختك؟ لا بد أن أختك تزوجت قبلك بعدة سنوات ...... "
فقالت : " كلا ، تزوجنا في يوم واحد . "
وبعد فترة صمت عاد ستروم يقول : " ولكن كيفين .. أظنه في الحادية عشر أو الثانية عشر من عمره . "
فأجابت : " آه آسفة ، كان علي أن اشرح الامر . انه في الثانية عشر .. ولكن آدم ليس أباه فقد كانت كيلا متزوجة قبله من شاب اسمه درو فيرغسن وكانت هاجرت معه إلى كندا حيث ولد كيفين . وقد مات درو حين كان كيفين في الرابعة من عمره فعادت به كيلا إلى هنا حيث تزوجت من آدم بعد فترة قصيرة . "
فقال ستروم : " بشيء من الدهشة : " إذن آدم هو زوجها الثاني ، انهما يبدوان في غاية السعادة . "
فأجابت ببساطة : " انهما يحبان بعضهما . "
فابتسم ساخراً وهو يقول : " يحبان بعضهما؟ هل تثقين بالحب؟ "
فقضمت نيرن قطعة صغيرة من كعكتها وأعادت البقية إلى الكيس ، من يعلم كم سيبقون محتجزين في هذا المكان .... وأجابت : " نعم إنني أثق بذلك . "
فقال : " وإذا وقع شخص في الغرام وتزوج اكثر من مرة .... فهذا يبطل منطقك أم أن بمكان الشخص أن يكون له اكثر من حبيب ..... "
كانت تعرف أنه يغيظها ... ولكنها كانت تعرف أيضاً أنه يريد حقاً جواباً لهذا السؤال ، فهل بإمكانها ان تجيب؟
وأجابت بهدوء وهي تحدق في اللهب : " كلا ، إنني لا أثق بالحب المتعدد ولكنني أثق بان الشخص قد يعثر على رفيق ... رفيق حياة يكمله أو يكملها وعندما يجتمعان يصبحان واحداً مكتملاً . "
فسألها : " وهل تظنين أن كيلا ودرو كانا حبيبين حقاً؟ "
فأجابت : " كلا انهما لم يكونا حبيبين بكل معنى الكلمة ، لقد كان درو مجنوناً بكيلا وقد أحبته كيلا ، إنما ليس بنفس القدر ، لقد كانا دوماً صديقين حميمين وكان حبها له كحب أي شخص لصديق حميم . ولكن الامر مع آدم اختلف فقد تعلمت معه الحب الحقيقي الذي يكون بين رجل وامرأة فهو إذن حبها الحقيقي . "
فقال : " إذن ، جزآن متماثلان يتحدان معاً ليصبحا فرداً متكاملاً مثلكما أنتِ و روري؟ "
لم تحول عينيها عن النار ، كانت تعلم أنه ينظر إليها ، ولم تشأ أن يرى التعبير الذي بدا في عينيها لم تشأ أن يرى الدموع فيهما .. الدموع التي تفجرت منهما وكأن يداً خفية اعتصرت قلبها فلم تكد تحتمل الألم .
هذا الألم الناتج عن كلماته الرقيقة ... كلماته التي نطق بها بكل براءة . الألم الذي كان يدفعها آلي أن تصرخ وهي تواجه الحقيقة القاسية ، الحقيقة المرة ، الحقيقة التي اخترقت من الأعماق ... فهي مع أنها أحبت روري كما احبها هو أيضاً وكان حبهما رقيقاً متشاركاً بعيداً عن الأنانية .. ولكن كان هنالك شيء مفقود...
إنها لم تدرك هذا في ذلك الحين .. ولو لم تقابل ستروم غالبريث لما أدركته طيلة حياتها .
أما ما كان مفقوداً من علاقتهما فهي العاطفة.
العاطفة المحمومة والرغبة العميقة .....
وشعرت بنفسها ترتجف عندما قال لها بصوت يتملكه الذهول : " هل تبكين؟ آه يا نيرن .... "
رتب على يدها وتمتم : " إنني آسف ، إذ جعلتك تفكرين في روري فجلبت إلى نفسك الحزن .... إنني حقاً متوحش ... "
فهمست وهى ترى الندم في صوته : " كلا ، انك مخطئ ليس هذا هو سبب بكائي ."
فقال وهو يتخلل شعره بأصابعه : " ما هو السبب إذن؟ اخبريني . "
وماذا تخبره؟ وكيف تقول له أنها اكتشفت الآن ذلك الفراغ الذي كان يسود حياتها الزوجية؟
وعاد يقول : " من المفيد أحياناً أن تكشفي عما بنفسك .... "
وسكت فجأة وهو يراها تغمض عينيها وهي تجذب نفساً مرتجفاً فسألها بصوت متوتر : " ما هذا؟ ما هو سبب بكائك؟ "
وأرادت أن تصرخ ...... أن تقول له انه هو سبب بكاءها ... إنها تبكي لأنها تشعر وكأنها كانت تعرفه طيلة حياتها .... ولأنها تشعر أنها تريد أن تمضي بقية حياتها هنا ولكنها لم تنطق بكلمة.... وإنما قالت بصوت خافت : " إنني آسفة لا ادري ما سبب بكائي هذا ... ربما ما مر بي هذا النهار من أحداث قد أوهن أعصابي ، واظن ان علينا أن ننام . "
وقفت لتسوي كيس نومها ثم تستلقي . ومضت لحظة لا نهاية لها لم تسمع فيها صوت ستروم وتمتمت : " سأراك في الصباح . "
ولكن لم يكن هناك جواب فاستدارت تنظر إليه لترى انه يجلس القرفصاء قرب كيلتي واضعاً يده على جبينه وقد استحال إلى كتلة من الاهتمام والتركيز .
وشعرت وكأنها موشكة على البكاء ياله من رجل غامض معقد غير مفهوم ولكن هنالك شيء مؤكد هو انه رغم ما يبدو عليه من عنف وتصميم على ألا يختلط بابنه فقد كان قلبه يحتوي على مقدار كبير من الحنان . كانت متأكدة من انه رغم قوله انه لا يريد كيلتي ، فثمة صراع يدور في أعماقه في كل مرة ينظر فيها إلى ابنه الذي هو نسخة ثانية عنه ومن لحمه ودمه .
وبعد ذلك بلحظة سمعته يسوي من كيس نومه وهو يقول لها : " ليلة سعيدة يا ينرن ."
أجابته وهي تبتسم رغم الدموع التي كانت تنساب منها على وجنتيها : " ليلة سعيدة يا ستروم . "
ومن الغريب أنها استطاعت أن تنام وعندما استيقظت ونظرت إلى ساعتها رأت أنها الثامنة صباحاً وسرعان ما انتبهت إلى ستروم واقفاً أمام المدفأة يغذيها بالوقود . لابد انه أبقى النار مشتعلة طيلة الليل لأن الكوخ كان دافئاً .
وكيلتي؟
أدارت رأسها نحو ذلك الجسم المستلقي على الفراش . لم يعد الآن متكوماً على نفسه التماساً للدفء كان مستلقياً على ظهره يغط في نوم هادئ .
وشعرت نيرن بالطمأنينة والسلام ، كان ستروم مصيباً حين قال أن كيلتي سيصبح بخير ولكن لو أن كيفين لم يلحق به ليرى إلى أين يتجه إذن ....
وفجأة لاحظت نيرن أنها لم تعد تسمع صوت العاصفة فقد هدأت العاصفة وسيكون بإمكانها العودة في اقرب وقت ..
قال لها وهو يجلس بجانبها : " هل أنتِ مستيقظة؟ هل رقدت جيداً؟ "
فأجابت : " نعم ، وأنني اشعر بالذنب لعدم معاونتك في السهر . "
فقال : " معاونتي في السهر؟ "
فنظرت إلى النار المضطرمة وهي تقول : " اعني في المحافظة على اشتعال النار وإلا لكنا ارتجفنا من البرد طوال الليل . "
فقال : " لقد كنت مرهقة جسمانياً ونفسانياً . وما كنت لأوقظك مهما كان الامر وفي الحقيقة كنت مسروراً أن سمعت غطيطكِ . "
فقالت : " غطيطي؟ ولكنني لا أغط في نومي مطلقاً . "
والتفتت إلى كيلتي الذي كان ينقلب إلى جانبه وهو يتأوه مغمض العينين بينما ابتسم ستروم قائلاً : " إنني أقول ذلك لأعرف فقط وهذه عادتي كلما اضطررت لمشاركة الغرفة مع أحد . "
وكان الآن متكئاً أمامها ينظر إليها ليرى ردة الفعل عندها لما قاله .
شكرت نيرن حظها على أن ليس لديه فكرة من ردة الفعل في قلبها ، في نفسها وذلك عندما كان ينظر إليها بهذا الشكل . هل هذا كان شعور هازيل نحوه عندما كان ينظر إليها؟ شعرت لهذه الفكرة بمثل طعنة السكين في قلبها ، لماذا آلمها بهذا الشكل مجرد التفكير به مع هازيل؟
وهمست قائلة : " هل كنت مغرماً بهازيل؟ "
فاستدار يستلقي على ظهره ، واضعاً يديه تحت رأسه وقد سادت الرزانة ملامحه ثم قال بعد سكوت طويل : " نعم لقد كنت مغرماً بها ، كان حلماً جميلاً ... كان حلماً استحال إلى كابوس . "
فقالت برقة : " حدثني عن كل هذا ، عنك وعن هازيل . "
فقال : " بصوت خافت : " لقد كنت جئت ذلك الصيف إلى اسكتلندا في الصيف مبكراً ابحث عن قطعة ارض وكنت قد أوجدت لتوي مشروعاً في الخارج وحيث أن مشاريع السياحة والتزلج في الشمال كانت مزدهرة فقد وجدت أن الوقت قد اصبح مناسباً للاستثمار في المنطقة وبسبب اصلي الاسكتلندي كما أظن وجدت أن اسكتلندا تجذبني كالمغناطيس . "
فسألته : " وما الذي جعلك تختار قرية غلينكريغ؟ "
فأجاب : " كان المكان مثالياً فهو قريب جداً من الجبال ولكنه بعيد عن الطراز الأمريكي ، إذ انه كان يمثل اسكتلندا الحقيقة ، اسكتلندا القديمة التي كانت قبل أن يصبح كل شيء تجارياً وكانت غلينكريغ ..... كانت صورة كاملة لما أريد. "
فهزت رأسها قائلة : " ولكنك لم تطور شيئاً .... لماذا؟ "
ولكن توتر ملامحه أنبأها بالجواب . وكان طبعاً يتعلق بهازيل .
أجاب وقد بان التجهم في ملامحه : " لقد قابلتها مصادفة في نفس اليوم الذي عثرت فيه على قرية غلينكريغ وكنت هابطاً الوادي لأرى بعض الأراضي فيه والتي لم تعجبني وكنت شاعراً بخيبة الأمل لذلك لأنني كنت أحببت هذه المنطقة كثيراً وعندما رأيت خرائب البيت الريفي في كريجند والأراضي المهملة المحيطة به تساءلت عما إذا كانت معروضة للبيع وأوقفت سيارتي إلى جانب الطريق ثم أخذت أسير بين الحقول وملأتني الإثارة فقد كان المكان مناسباً تماماً وكنت واقفاً هناك أحلم بما سيكون عليه بعد إصلاحه عندما برزت أمامي صورة فاتنة لفتاة جبلية جميلة ذات شعر اسود ثائر وعينين خضراوين وضحكة جذابة أسرت حواسي ... "
وسكت فجأة وكأنه نسي نفسه ، ثم أطلق ضحكة مرة وهو يتابع : " وبالطبع لم تكن تلك صورة وإنما مجرد مخلوقة من لحم ودم . ولكنها فتنتني على كل حال . لقد سألتني : ماذا تريد من هنا يا ابن المدينة؟ فأجابتها : إنني أريدك . وكان حباً من أول نظرة . كان هذا أمراً سخيفاً أليس كذلك؟ ولكنه لم يبد سخيفاً في ذلك الحين لقد سرقت قلبي . "
فسألته نيرن : " وهل أحبتك هي أيضاً؟ "
فلوى شفتيه : " لقد قالت ذلك وكنت أظنها فتاة حرة عاطفية ، رغم أنها كانت دوماً ترغب في مقابلتي في أماكن هادئة ... وبعد أن مر على تعارفنا قرابة أسبوعين أخبرتني عن هوغ ... وعن تفاهمهما ، أخبرتني انه يصطاد السمك في الساحل الغربي ولكنها وعدتني أن تفصم خطبتها معه عندما يعود في أواخر حزيران وتخبره بأننا سنتزوج . "
وتنهد بصوت مرتجف وهو يتابع : " وفي آخر ليلة من رحلتي تلك ، كانت الغلطة التي اقترفتها وهكذا عدت إلى لندن وفي جيبي عقد شراء ارض كريجند وفي قلبي .... هازيل لندساي . "
وظنت نيرن أن حديثه انتهى ، فأرادت أن تعرف ما حدث بعد ذلك ولكنه عاد يتابع حديثه بصوت خشن : " لقد كتبت ألي رسالة بعد عودة هوغ من صيد السمك تقول فيها أنها منذ اللحظة التي رأته فيها مرة أخرى علمت انه الرجل الذي يحبه قلبها .. وان علاقتنا ، أنا وهي لم تكن سوى غلطة لم تعد تعني لها شيئاً وقالت أنها لا تريد أن اتصل بها بعد ذلك لأنهما هي وهوغ سيتزوجان بأقرب وقت بعد ان اعترفت له بالحقيقة . "
ترقرقت الدموع في عيني نيرن عطفاً على هذا الرجل . كان يقول الحقيقة دون شك . الحقيقة التي كانت تبدو من صوته الخافت المتألم .
وعاد يقول بصوت معذب : " ربما كنت سامحتها على كذبها ذاك ولكنني لن أسامحها أبداً على عدم اطلاعي على حملها مني . كان عليها أن تخبرني ، كان لي الحق في أن أعلم .... كيف أمكنها أن تكون بكل تلك الأنانية ... "
وكانت الشهقة المفعمة بالذهول والتي ملأت جو الكوخ ، كانت من الألم الذي ينضح منها ما ظنت نيرن معه أنها صدرت عنها هي ... فهي لم تصدر عن ستروم لأنه أبدى مثلها دهشة وعجباً وقد بدت عيناه حادتين متسائلتين . ذلك أن الشهقة كانت صدرت عن كيلتي .
كان منبطحاًَ على بطنه وقد أخفى وجهه بين ذراعيه وسرى في نفس نيرن الهلع . انه لم يكن نائماً ، فلا بد انه سمع كل شيء إذن ، ولم تستطع أن ترى وجهه ولكنها استطاعت أن تتصوره . لقد كان يحب أمه كثيراً وكان يرى العالم كله ممثلاً في هوغ .. الرجل الذي كان يظنه آباه .
وها هو ذا الآن يعلم انه كان يحيا حياة الكذب وان هذا الرجل الغريب الذي اقتحم حياته هو أبوه . انه يعلم الآن حقيقة ما حدث في الماضي وربما يمزق علمه هذا نفسه أشتاتاً .. تماماً كما تمزقت نفس ستروم وما زالت .
وهمست من خلال دموعها : " آه يا للهول ..... "
ووقف ستروم وهو يقول بصوت معذب : " لم اكن أريده أبداً أن يعرف .... "
وجاء صوت كيلتي خشناً وهو يقول بألم : " ولكنني كنت اعلم مسبقاً انك أبي . لقد سبق وعلمت ذلك، لقد كنت أنا من ... "
ولم يستطع أن يتابع كلامه .
وساد الصمت لحظة ، ثم همس ستروم ببطء وذهول : " هل كنت أنت من استأجر المحامي لكي يقتفي اثري؟ لقد ظننت أن أمك هي التي فعلت ذلك قبل موتها وإنها هي التي حركت الأمور لغاية في نفسها .. وكنت افترضت أيضاً أنها اخفت عنك الحقيقة لكي لا يعلم أحد بان هوغ لم يكن أباك الحقيقي .... "
وسألته نيرن : " ولكن من أين حصلت على النقود آجرا للمحامي يا كيلتي؟ إن القليل الذي تركه والداك لم يكد يكفي تغطية تكاليف الجنازة؟ "
فأجاب : " من بيع آلة التصوير . "
فهتفت : " آلة التصوير . "
لقد اتضح الآن كل شيء وشعرت بغصة في حلقها وهي تتابع : " لقد بعت آلة التصوير إذن لكي تدفع أجرة المحامي ... "
وهتف ستروم وقد بان الندم في ملامحه : " آه ، هذا هو السبب إذن في قولك انك كنت بحاجة إلى ثمنها ... "
فأجاب كيلتي بهدوء : " نعم ، وليس لأشتري المخدرات . "
فقال ستروم : " إنني آسف لقولي ذاك ، وان كنت أعلم أن أسفي هذا لا يكفي .. فهل بإمكاني أن اسحب كلامي؟ كل ما بإمكاني الاعتذار به هو انه كان صادراً عن اهتمامي بك . "
فأجاب الغلام وقد بدا الإرهاق في صوته : " نعم لا بأس إنني متفهم ذلك . "
فقال ستروم : " إن ما لم افهمه هو لماذا قررت أمك في النهاية أن تخبرك بالحقيقة؟ "
فانقلب كيلتي على جانبه متكئاً على مرفقه يحدق في ستروم بعينين مغرورقتين وهو يقول : " إن أمي لم تخبرني بذلك قط ، إن أبي هو الذي اخبرني لقد اخبرني عنك في المستشفى قبل أن يموت ، اخبرني انه ليس أبي الحقيقي ... اعترف بأنه كان يعلم ذلك طيلة الوقت . قال أن أمي لم تعلم مطلقاً بأنه كان يعرف بالأمر ، لم تعلم قط بأنه أحس باختلاف في مشاعرها نحوه ، عند عودته من صيد السمك في ذلك الصيف وعندما اكتشفت بعد زواجهما بقليل أنها حاملاً لم تعلم قط بأن أبي اكتشف سرها وانه تكهن بأنها لا بد تعرفت إلى رجل آخر أثناء غيابه وكان من حبه لها انه سكت طوال تلك السنين وكان الشيء الوحيد الذي استطاع أبي أن يعرفه عن ذلك الرجل وكان مجرد تخمين كما قال هو أن اسمه كان سومرليد ....... "
سألته نيرن : " سومرليد؟ ولكن .... "
فأشار كيلتي نحو ستروم وهو يقول : " إن اسمه الأوسط هو سومرليد .. وكانت أمي دوماً تقول أنها تحب هذا الاسم . "
ولم تستطع نيرن الكلام وقد أحست بأنها تكاد تختنق وكل ما استطاعت عمله هو أن تعض شفتها المرتجفة مغالبة دموعها . لقد فاضت بها المشاعر حتى لم تعد تستطع احتمالاً ...
وعلا صوت الطرق على باب الكوخ ، وبشكل غير متوقع ، جعلها تقفز من مكانها وهي تشهق لترى الباب يفتح فجأة فيهب منه الهواء المثلج يصفع وجهها ، و أغمضت عينيها إزاء النور الساطع ، لتعود فتحهما على خيال طويل يقف في الباب وانطلق صوت مألوف لديها يقول : " من حسن الحظ أنكم هنا جميعاً وليس بكم ضرر كما أرى . "
فقفزت واقفة وهي تهتف : " آدم كنت أظنك في ادنبره؟ "
واندفعت تحيط صهرها بذراعيها .
واحتضنها هو بشدة وهو يبتسم لها قائلاً : " لقد تصادف أنني اتصلت بالبيت هاتفياً بعد المكالمة بينك وبين كيلا فأخبرتني بما حدث فقطعت رحلتي وعدت إلى البيت حيث شكلت فرقة إنقاذ وإذ بالعاصفة الثلجية تهب وكان علينا أن ننتظر هدوءها . لا يمكنني أن أصف لك مقدار الراحة التي شعرنا بها عندما رأينا الدخان يتصاعد من مدخنة الكوخ هذا ، آه ، يا ستروم لقد أحسنت بعنايتك بهذين وتهاني لك فهذا شيء حسن جداً بالنسبة إلى ...... "
فقاطعه ستروم ضاحكاً : " بالنسبة إلى ابن المدينة . انك لست الوحيد الذي ظن بي الضعف والخرع ... "
وانطلق صوت كيلتي من الخلف قائلاً : " انه ليس خرعاً . فهو أول رجل استطاع الوصول إلى قمة افرست في رحلة كارينغتون الاستكشافية وذلك عندما كان في الرابعة والعشرين فقط من عمره . "
واستدار ستروم و نيرن ينظران إليه وكان جالساً في كيس النوم وقد بدا عليه وكأنه لم يذق النوم منذ اشهر .
وهتفت نيرن : " قمة افرست؟ متسلق جبال؟ "
وشعرت برأسها يدور .
وتابع كيلتي بصوت مرتجف : " متسلق جبال ومصور فوتوغرافي وقد اضطر إلى ترك التسلق لأنه أثناء هبوطه في أخدود عميق أثناء تلك الرحلة ، وذلك لينقذ قائد الرحلة نيكولا كارينغتون ، أثناء ذلك كسر ركبته ... "
فاستدارت نيرن نحو ستروم وهتفت بذعر : " ستروم ما كان لك أن تصعد إلى هنا .. وركبتك هذه .. إن المجازفة ... "
كان هو ينظر إلى ابنه وقد بدا على ملامحه تعبير لم تره من قبل . ذلك أن الكآبة القاسية التي كانت تعلو وجهه قد تلاشت ليبدو في مكانها رقة هزتها ... وكانت تلك الرقة ممزوجة بالارتباك ، هل ذلك لأن كيلتي كان يعرف من هو طوال الوقت وكان يحتفظ بذلك سراً؟ أم أن الارتباك هو سبب المشاعر التي ابتدأت تتكون في أعماقه نحو ابنه؟ أم ربما لسببين معاً؟
ولكنها ما أن نظرت إليه ، حتى تمالك مشاعره بسرعة وعاد الجمود إلى عينيه لا تنبئان عن شيء .
وقال هو : " لقد كانت مغامرة كنت متأهباً لها . وحتى الآن ركبتي صامدة .. والآن هيا بنا ، فأمامنا طريق طويل شديد البرد . "

الفصل العاشر

وقفت نيرن تحت الدوش وهي تتنهد مغتبطة بالماء الدافئ الذي ينهمر عليها وأغمضت عينيها ثم أخذت تفكر .....
من حسن حظهم انهم عادوا جميعاً سالمين وكذلك صمود ركبة ستروم أثناء هبوطه الجبل ، لقد أذهلها حقاً أن تعلم انه كان يوماً متسلقاً مشهوراً وكان أحد أعضاء رحلة كارينغتون الاستكشافية . لقد كانت يومها تلميذة في المدرسة ولكنها ما زالت تتذكر كيف كانت تتابع على شاشة التلفزيون أخبار محاولته البطولية الناجحة في إنقاذ كارينغتون والإثارة التي أحدثتها تلك البطولة في نفسها الغضة . لا بد أنها كانت حينذاك في سن كيلتي الآن .
آه ، كيلتي ....
وعادت نيرن بأفكارها إلى الحاضر وهي تتنهد . أخذت تفكر في الوضع التعس بين ستروم وابنه . ومهما حاولت إقناع نفسها بأن لا دخل لها هي في هذا الأمر وأن ستروم هو والد كيلتي ولا يمكن أبداً أن يبعده عن حياته ، فقد كانت دوماً تعود إلى نفس النقطة وهي أنها المسؤولة عن كيلتي حالياً ، فإذا أراد ستروم أن يهجر ابنه فستبقيه عندها . ولكن حتى ولو أن هذا سيسعدها ، فقد كانت تعلم في أعماقها أنه ليس في مصلحة كيلتي ، فهو بحاجة إلى رجل يتمثل به . بحاجة إلى أب .
فقط ، لو كان بإمكان ستروم أن يتغلب على هذا الأسى الذي يعانيه ولكن بقاء هذا الأسى خمسة عشر عاماً ، ليزيده الآن علمه بان هازيل اخفت عنه سر حملها منه كل هذا جعل أملها في استئصال الحزن والأسى من نفسه ضعيفاً جداً .
وكانت تركت ستروم و كيلتي في المطبخ يتناولان غداءهما الذي كانت أحضرته كيلا بسرعة من منزلها عقب وصولهم .
وكان ستروم قد نزل من غرفته بعد خروج كيلا أنيقاً حليقاً وشعرت لدى رؤية كيلتي يدخل من المطبخ بعد ذلك بقلبها يخفق ... لقد كان مرتدياً زيه الخاص والذي هو عبارة عن التنورة الجبلية السوداء والقميص المقفل وكان وجهه الهضيم جاداً وأدركت وهي تنظر إليه السبب الذي جعل قلبها يخفق . ذلك لأنه كان نسخة طبق الأصل عن أبيه وأيضاً كان يماثله في التعبير الذي ساد ملامحه . لقد كان الغلام تعيساً كالرجل ....
وكانت قد خرجت من الحمام وقد ابتدأت بتجفيف شعرها ، عندما سمعت شخصاً يهتف باسمها من خلف الباب ، ثم طرقاً متواصلاً .
كان ستروم وأجابت : " نعم؟ "
فسألها : " هل أستطيع الدخول؟ "
فأجابت : " نعم ، لماذا؟ "
فأجاب : " أريد أن أتحدث إليك . "
ففتحت الباب قائلة : " ادخل ماذا جرى؟ "
فأجاب : " إنني راحل . "
فسألته مذهولة : " راحل؟ ولكن .... "
قاطع كلامها وقد تغضن وجهه : " انه يتخذني مثله الأعلى . انه كيلتي . لقد أخذ يتحدث أثناء الطعام . لقد أخبرني أنه يحتفظ بكل أعمالي ، الصور التي كنت التقطتها على مدى السنين للصحف أثناء تسلقي الجبال . لقد أخبرني .... "
وأغمض عينيه ورأته نيرن يزدرد ريقه بصعوبة ولكنه عندما تابع كلامه كان قد استرد هدوءه وهو يضيف : " لقد اخبرني أن أعمالي كانت ملهمته ... "
فقالت : " آه ، وكان هذا قبل أن يعرف انك أبوه .... "
فأجاب : " نعم وعندما علم من المحامي أن ذلك الرجل الذي كان معجباً به إلى ذلك الحد هو أبوه ... وظن انه خان أمه شعر بأنه أيضاً قد خانها .. ما أشعره بالذنب ."
فقالت : " ولكن ، إذا كان شاعراً بالذنب إلى هذا الحد فلماذا طلب من المحامي الاتصال بك؟ أليس هذا ما حدث؟ والذي جعلك تعرف ان لك ولداً؟ "
فأجاب : " كلا يا نيرن ليس هذا ما حدث . إن كل ما أراد كيلتي معرفته هو هوية والده الحقيقية لا اكثر ، لأنه كان يفترض أنني أعلم بوجوده وأنني أنا الذي كنت هجرت أمه وقد كرهني قبل أن يعلم من أنا ولكنه بعد ان علم ذلك تملك مشاعره الاضطراب والتشوش ، إذ ان نفسه توزعت بين كراهيته لي وبين عدم الرغبة في التخلي عن صورة ذلك الذي كان مثله الأعلى سنين طويلة . "
فقالت : " آه يا ستروم كم هذا مخيف بالنسبة له . "
فقال : " نعم وقد استأجر المحامي وهو من انفرنيس ، مخبراً بناء على تعليمات كيلتي وهذا المخبر أخذ يتحرى عن ماضي هازيل ، مبتدئاً طبعاً من الوقت الذي أشار به كيلتي مستعلماً عن كل رجل ربما زار قرية غلينكريغ ح والى ذلك الوقت وفي النهاية كان اسمي في قائمته وقد اقتفى اثري إلى أن وصل إلى شقتي في لندن ولكن عندما أبتدأ يلقي بالأسئلة عني في محيطي ذاك ، ساور الساقي في مقهى هناك وكان من معارفي ، ساوره الفضول ، فأخذ يلقي عليه من تلقاء ذاته بعض الأسئلة جعلته يعلم أنني قد أكون أباً لولد في غلينكريغ . "
فسألته : " ومنذ متى أبتدأ كيلتي البحث عنك؟ "
فأجاب : " بعد وفاة هوغ مباشرة ولكنني لم أعرف بما يحدث إلا منذ حوالي ثلاثة أسابيع . فاستأجرت مخبراً ليتحرى عمن كان يبحث عني ، فقادته تحرياته إلى محامي في انفرنيس ، ولكن هذا لم يؤكد قصة ذلك المخبر الذي كان استأجره وكل ما اخبرني به هو أنه كان يعمل لحساب أحد عملائه ... "
فسألته : " وطبعاً ، اتصل المحامي بكيلتي ليخبره عن اتصالك به . "
فقال : " نعم وهذا هو السبب في أن الغلام تهرب من تلك الرحلة البحرية مع الفتيان ذلك ان المحامي أخبره انه استنتج من شيء قلته أنا ، أنني مصمم على العودة إلى غلينكريغ . "
فقالت : " وهذا ما قمت به فعلاً . "
فأجاب : " نعم ، قمت به بهذا لكي أتحقق من هذه القصة والآن ، إنني راحل بعد أن نلت الغرض من رحلتي ... "
فصرخت نيرن قائلة : " كلا ، لا يمكنك الذهاب ليس الآن . "
فارتسمت على شفتي ستروم ابتسامة حزينة ، حدق فيها طويلاً وقد بانت التعاسة على وجهه ثم قال بهدوء : " الماضي لا يمكن محوه يا نيرن ولا أقوى إرادة في العالم تستطيع ذلك . "
نظرت نيرن إليه وهو يسير نحو الباب ، وما أن خرج مغلقاً الباب وراءه بحزم حتى انطلقت من بين شفتيها آهة حزينة .
استندت إلى الجدار تحدق في فضاء الغرفة بعينين لا تريان . كلا ، الماضي لا يمكن محوه .. ولكن المرء يتعلم كيف يرضى به ، يضعه وراء ظهره ثم يتطلع إلى المستقبل فإذا لم يكن ستروم مهتماً بمستقبله هو ، فعليه أن يهتم بمستقبل ولده وفكرت باستماتة بأنه لا ينبغي له ان يرحل .. هذا غير ممكن ليس من دون ولده على كل حال ، إنها لن تدعه يفعل ذلك .
ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل؟
ومشت عائدة إلى منضدة الزينة حيث رأت في المرآة وجنتيها متوهجتين وعينيها لامعتين كمن به حمى . فأصلحت من مظهرها . عليها أن تسرع ، ليس لديها وقت تضيعه .
ذلك أن ستروم غالبريث قد صمم تماماً على ما يريد وكانت هي على استعداد لأن تفعل أي شيء في سبيل أن يغير من تصميمه ذاك .
كان كيلتي غلاماً رائعاًَ فهو موهوب ويشعر بالمسؤولية وذا شخصية متفردة وواثقة وهو قد أبتدأ يرتبط عاطفياً بستروم وتذكرت نيرن شيئاً سبق و قالته أمها لكيلا وآدم عندما ولدت لهما كاتريونا ، قالت : " إن الطفل لن يأخذ وقتاً طويلاً في الوصول إلى قلبكما . " وكيلتي لم يعد طفلاً ولكنه ما زال غلاماً ... ابن ستروم . كانت نيرن متأكدة من أنه إذا وجد الفرصة فلن يأخذ وصوله إلى قلب أبيه وقتاً طويلاً . إن عليه أن يفعل ذلك .
وان اعتمادها الآن على هذا .
هبطت نيرن الدرجات الأخيرة من السلم بسرعة عندما رأت كيلتي عند الباب الخارجي لتسأله : " هل أنت خارج؟ "
وأدركتها الدهشة والارتياح وهي تراه متردياً سترة وكانت سترة عسكرية ذات لون كاكي ، وربما كانت سترة قديمة لهوغ .. وكان لها ماض مجيد ولكنها سميكة دافئة أجابها قائلاً : " نعم فالساعة الثانية فقط ويمكنني ان الحق ببقية دروس بعد الظهر . "
فسألته : " وهل ستعود بعد ذلك إلى البيت مباشرة؟ "
أجاب : " نعم . "
وأشار برأسه إلى الطابق الأعلى حيث غرفة أبيه متابعاً بعينين كئيبين : " ولو أنه سيكون في ذلك الوقت قد رحل لقد سبق وودعني . "
فاقتربت منه تضع يدها على كتفه وهي تقول : " وأنت لا تريده أن يرحل أليس كذلك؟ "
ازدرد ريقه بصعوبة ثم أجاب قائلاً : " لا يمكنني منعه . "
وأشاح بوجهه ولكن ليس قبل أن ترى عينيه مغرورقتين بالدموع وتابع قائلاً : " لقد جعلني أقبل منه آلة التصوير هدية منه كما قال . "
تخيلت نيرن المشهد الذي جمعهما وغالبت دموعها وهي تقول : " سأحاول إثناءه عن عزمه . إنني أعلم أنه سيحبك إذا أمكنه فقط أن يفتح قلبه .... "
فقاطعها : " انه لن يحبني .... "
ومسح عينيه بكمه وهو يفتح الباب ليحدق بذهن شارد في الثلج الذي يغطي الأشجار أمام البيت ، ثم يتابع قائلاً : " انه لن يسمح لنفسه بذلك . انه مليء بالكراهية تماماً كما كنت أنا . "
فهتفت : " كيلتي . "
ولكنه كان قد اغلق الباب خلفه وذهب .
ولم يكن ثمة فائدة من الركض خلفه . إذ ما الذي بإمكانها قوله لتطمئنه؟ ولكنها ستحاول أن تؤخر ستروم عن السفر ، إنها لا تعرف كيف ولكنها ستحاول ولن تتأخر فهو لا بد يحزم أمتعته الآن .
واتجهت نحو السلم وقلبها يخفق وقد تبللت راحتاها بالعرق . عليها أن تثنيه عن السفر ......
قرعت الباب ففتحه لها وقبل أن يسألها عما تريد مرت بجانبه داخلة إلى الغرفة والتفتت إليه قائلة بابتسامة متألقة : " فكرت في أن أساعدك في حزم أمتعتك . "
ونظرت إلى حقيبته المقفلة وإلى الغرفة المنظمة والتي لولا أغطية الفراش المبعثرة لما بدا ان ستروم غالبريث قد سكنها أياماً وعندما يصبح في سيارته المرسيدس عائداً إلى المدينة لن يبقى أي شيء منه يشير إلى انه عاد إلى غلينكريغ . لا شيء سوى ألم القلب الذي سيخلفه وراءه .
قالت له : " يبدو عليك أنك مستعجل جداً لترك هذا المكان أليس كذلك؟ "
فبدا الجمود في عينيه وهو يقول : " ليس بالضبط ... "
فقاطعته بجرأة لم تعرف كيف واتتها : " بل الأمر كذلك وأقولها مرة أخرى .. انك مستعجل جداً لترك هذا المكان وأنا أعرف سبب ذلك . "
فقال ببرود رافعاً حاجبه : " أحقاً؟ ربما بإمكانك ان تطلعيني على السبب . "
فأجابت : " لا أظنني بحاجة إلى ذلك ولكن ما دمت مصراً على زعمك هذا فسأجاريك وأقول انك مستعجل على الرحيل لأنك .... خائف . "
فضحك برقة إنما بحذر وهو يسألها : " وهل لي أن أعرف ذلك الشيء الذي أخاف منه؟ "
فأجابت : " انك خائف من البقاء لكي ...... "
فضاقت عيناه وقال : " تابعي كلامك . "
فقالت بلطف : " انك خائف من البقاء لأنك تخاف من عواطفك .... ذلك أنك ابتدأت تشعر بالرغبة في ان تتعرف إلى ابنك لأنك ابتدأت تفكر في كيفية تغذية موهبته فأنت خائف من أن لا تستطيع نفيه من ذهنك إذا أنت لم ترحل على الفور ذلك لأنك تشعر بجدار الجليد بينك وبينه يذوب ، فالرعب يتملكك ... "
فقاطعها بصوت خشن : " هذا ليس صحيحاً يا نيرن فذلك لا يخيفني ولكنه يذكرني .. يذكرني بتقلب قلوب البشر . انه يذكرني بالألم الذي يولده الحب ثم انه يذكرني بما سبق وعاهدت نفسي عليه وهو أن لا أسمح للمشاعر بأن تتملكني مرة أخرى ."
فقالت بصوت ينضح بالألم : " ولكنك عدت للشعور مرة أخرى . "
ودون أن تعي ما تفعل ، اقتربت منه تمسك بيديه وهي تحدق فيه ثائرة : " انك عدت للشعور مرة أخرى ، لقد أدركت من الطريقة التي تنظر فيها إلى ابنك ، ان في أعماقك حنيناً ولهفة إليه تمزق نفسك .... "
قال بخشونة : " إذا كان بإمكانك أن تري كل هذا فلا بد أنكِ ترين الشوق الذي يتملكني من ناحيتك ، هذا الشوق الذي لم أعد أستطيع مقاومته . "
منذ دخول نيرن غرفته ، حاولت أن تتجاهل جاذبيته ، ذلك لأنها جاءت لأجل كيلتي ولكن عندما سمعت كلامه وجدت نفسها تنسى كيلتي وكل شيء ما عدا هذا الرجل الأسمر الجذاب الذي أدار رأسها .
وتمتم برقة : " يا لكِ من فاتنة ، فتاة جبلية حقيقية ، لقد أعجبت بك ولا أدري كيف سأتمكن من الهرب منك . "
فهمست : " وهل تريد أن تهرب؟ "
فتمتم : " أن ما أريده هو ....... "
لم تستطع أن تتجاهل ما قرأته في نظراته ... وبغريزة المرأة أدركت أنها مهما طلبت منه الآن فهو سيلبيها ولن يرفض لها طلباً .
فهمست : " هل ستبقى؟ إلى الغد فقط؟ وتمضي بعض الوقت مع كيلتي؟ "
فسألها : " هل تريدين مني ذلك؟ "
فأومأت برأسها : " نعم هذا ما أريده . "
ولم تكن متأكدة وهي تنطق بهذه الكلمات ما إذا كانت تتكلم عن كيلتي أم عن نفسها.
فقال : " إذن فسأبقى . "
فقالت : " هل هذا وعد؟ "
فأجاب : " نعم انه وعد . "
وأمسك بيدها ليؤكد وعده وانحدرت نظراتها إلى يديهما معاً ...... كانت تتأمل يد الرجل الخشنة السمراء إلى جانب يد المرأة العاجية التي كان يتناثر فوقها بقع نمش ... كانت تتأمل كل ذلك عندما التمع في أحد أصابعها شيء ما في نور الشمس المسترسل من النافذة .
انه خاتمها ، خاتم زواجها . الخاتم الذي وضعه روري في إصبعها بعد ان اقسما يمين الزواج .
وأغمضت عينيها وقد سرى في كيانها الألم والشعور بالذنب ...
لا فائدة ... ودب اليأس في نفسها وقد أدركت أنها لن تتمكن من متابعة هذه العلاقة التي ابتدأتها . ما زال الماضي قوياً في نفسها . إنها الأفكار ، ليس في إمكانها السيطرة على أفكارها ذلك إنها منذ لحظات ، كانت مع ستروم بمفردهما أما الآن فقد دخل بينهما شخص ثالث .
سحبت يدها من يده ثم وضعت ذراعها على عينيها بعد إذ شعرت بالدمع يتفجر منهما وهي تهمس قائلة : " آسفة أنني أشعر وكأنني ...... "
فقاطعها : " تشعرين وكأنك تخونين روري؟ "
وكان في صوته ملل عميق وكآبة وتفهم وشعرت بقلبها يصرخ ولكنها لم تستطع أن تغير مشاعرها .
وعادت تهمس بصوت مغلف بالألم ، والندم والعذاب : " أشعر وكأنه ... "
قال لها بصوت رقيق وكأنه يتكلم إلى طفلة : " لا بأس يا نيرن إنني افهم شعورك ... "
رفعت بصرها تنظر إليه وقد انحبست أنفاسها .
وقال يخاطبها برقة : " لو كنتِ امرأة أخرى لظننت انك استغللتِ حنانك ورقتك لكي تأخذي مني وعداً بالبقاء ولكن أنتِ ..... بتلك العينين البنفسجيتين الشفافتين البريئتين لا يمكن أن تعرفي الخداع . "
هل تراها حقاً استغلت حنانها ورقتها لكي تحمله على البقاء؟ وساورها الاضطراب من المؤكد أنها لم تكن تنوي خداعه أو التحايل عليه .. ولكن ربما كان هذا ما فعلت وفكرت بيأس .. من تراها حاولت أن تخدع ، ستروم أم نفسها؟ نعم لقد أرادته أن يبقى لكي تعطي كيلتي فرصة لاستمالته ولكنها إذا شاءت أن تكون صادقة تماماً فان عليها أن تعترف بأنها شعرت بهزة عنيفة في مشاعرها حين وعدها بالبقاء إن عليها أن تكون صادقه معه .
ولكن ما أن فتحت فاها لتتكلم شارحه له كل هذا حتى أسكتها قائلاً : " كلا ليس عليك أن توضحي ما بنفسك لي أنني فاهم . "
ونظرت إليه والحنين والشوق يتملكانها ... وأخيراً ، نهضت متجهة إلى الباب دون أن يحاول منعها .
وفكرت نيرن وهي تهبط السلم شاعرة بالتعاسة في مشاعرها المضطربة هذه .. إنها معجبة به ولكن شعورها بالذنب هو أقوى من إعجابها به.
هل سيتلاشى شعورها بالذنب هذا يوماً ما؟ وهل سيكون بإمكانها يوماً أن ترضى برجل آخر فتدخله حياتها دون أن يقف بينهما روري وذكرياته؟
وانحنت تربت على رأس الكلب شادو الذي هرول لاستقبالها وهي تهمس له : " لقد أصبحت الحياة مشوشة يا صديقي فهل تراها ستصفو مرة أخري عندما يرحل ذلك المقيم عندنا؟ "
وهز شادو ذيله بابتهاج وكأنه يرد عليها قائلاً نعم إنها ستصفو بالتأكيد عندما يرحل ستروم .
وتنهدت نيرن وتمنت لو كانت تصدق ولو جزءاً من هذا .
الفصل الحادي عشر

" ليلة سعيدة يا نيرن إنني ذاهب إلى الفراش . "
وما أن سمعت نيرن صوت كيلتي هذا الآتي من عند الباب خلفها حتى التفتت إليه من حيث تجلس أمام المدفأة في غرفة الجلوس وقالت تجيبه : " هل انتهيتما من تجهيز الغرفة المظلمة؟ "
فأجاب : " نعم وأشكر لك سماحك لي باستعمال ذلك المكان . "
فقالت : " ان تلك الغرفة الصغيرة الملاصقة للمطبخ خالية منذ سنوات .. ولكونها تحتوي على حوض للغسيل فهي ستناسب عملك تماماً . هل أنت مسرور بالمعدات التي اشتراها لك ستروم في انفرنيس؟ "
فأجاب : " ولماذا لا أكون مسروراً وكل شيء اشتراه لي هو من أجود الأنواع؟ "
وحاول كيلتي أن يضفي على كلامه صبغة مرحة ولكن نيرن شعرت بزيف محاولته تلك . ذلك انها ، عندما عاد من المدرسة وعلم أن والده ما زال في برواش ولم يغادر رأت لمعان السرور في عينيه ...
ولكن ذاك المعان سرعان ما أطفأه ستروم بقوله انه فقط أرجأ رحيله إلى اليوم التالي ذلك أن الشروع في الرحيل باكراً في الصباح كما قال سيكون أفضل من ناحية هدوء الطرقات وخلوها من زحمة السير ولكنه على كل حال أخبر كيلتي أنه سيأخذه إلى مدينة انفرنيس للتسوق ومن ثم ذهب الاثنان بعد ذلك بعشر دقائق وقد تناولا طعامهما في الخارج وعادا في الساعة التاسعة والنصف حيث شرعا في الحال في تجهيز الغرفة المظلمة لكي يخرج فيها كيلتي أفلامه ولم تشأ هي ان تقف معهما مفضلة تركهما وشأنهما وفي الساعة العاشرة ذهبت إلى المطبخ تصنع لنفسها كوباً من الشاي ووصل صوتهما إلى أذنيها أثناء اجتيازها باب غرفة الحديقة المفتوح وكان كيلتي يلقي الأسئلة بصوت حاد خشن النبرات وكأنه يريد به ان يخفي مشاعره بينما كان ستروم يجيب بصوته العميق الواثق بسهولة نابعة عن معرفته الكاملة بالتصوير الفوتوغرافي وكانت العلاقة بين الاثنين واضحة لا تخطئها الأذن زادتها هوايتهما المشتركة في التصوير وشعرت نيرن بالألم وهي تسمع إلى انسجام صوتيهما . الألم لأجل كيلتي الذي كان متلهفاً إلى منح حبه لأبيه ... والألم لأجل ستروم الذي كان يحاول جاهداً عدم تقبل ذلك .
وانتبهت من ذكرياتها هذه لترد على كيلتي : " نعم . معك حق إن ستروم لا يشتري سوى الأجود دوماً . "
ونهضت تسأله : " أين هو الآن؟ "
فأجاب : " أظنه ذهب إلى غرفته . "
وشعرت نيرن بفيض من خيبة الأمل . لقد أمضى طيلة الوقت مع كيلتي ... في ذهابهما إلى انفرنيس ثم أثناء انشغالهما في الغرفة المظلمة ... وأخذت تحدق في نار المدفأة وهي تفكر فيه وفي حنينها إليه .
وعاد كيلتي يقول : " إنني صاعد إلى غرفتي إذن . "
فحملت نيرن كوب الشاي الفارغ ومشت نحوه لتضع يدها على كتفه قائلة : " ليلة سعيدة . "
وبعد ذلك بلحظات ، فكرت وهي تغسل الصحون في المطبخ في ما عسى أن تبدو عليه الغرفة المظلمة ... ومن ثم قررت ان لا ضرر من إلقاء نظرة عليها .
كان الباب مغلقاً ولكن ما أن دفعته حتى شعرت بقلبها يكف عن الخفقان ذلك ان ستروم كان ما يزال هناك يقوم بتسوية بعض الأمور المتعلقة بأحكام إظلام الغرفة .
وأدار وجهه إليها وقد بدا التساؤل على ملامحه ثم قال بهدوء : " آه أهو أنتِ ظننتت ان كيلتي ربما نسي شيئاً . "
وحدقت نيرن فيه شاعرة وكأنها تغرق وتساءلت عما يجعل الأشياء تختفي من حولها كلما كانت معه في الغرفة ولا يبقى سوى تأثيره عليها وشعورها هذا بالدوار والوهن ...
قال أخيراً وهو ينفض يديه : " ها قد انتهى كل شيء واستقر الأمر لكيلتي الآن . "
فقالت تغير مجرى أفكارها : " اخبرني عن السبب الذي جعلك تتخلى عن هواية التصوير مادمت تملك تلك الموهبة؟ لقد سبق وغضبت عندما علمت أن كيلتي تخلى عن التصوير وأنا اذكر قولك حينذاك ، إذا كان لدى الإنسان موهبة ما فواجب ذلك الشخص ان ... "
فقاطعها : " أنني لم امتنع عن التصوير باختياري يا نيرن . "
فسألته : " وكيف؟ بإمكاني ان افهم سبب تخليك عن تسلق الجبال والذي هو إصابة ركبتك أما التصوير .... "
فقاطعها : " لقد اقترن عندي تسلق الجبال والتصوير معاً . في البداية ، كان تسلق الجبال وبعد ذلك أردت أن أسجل العلاقة بين الإنسان والجبال من خلال عدسة التصوير نعم معك حق لقد انتهت هواية تسلق الجبال عندي بإصابة ركبتي ولكن ذلك الانزلاق على الصخور الذي أصابني أثناء هبوطي لإنقاذ نيكولا أصبت أيضاً في رأسي ... ما سبب دماراً لعصب الرؤية في عيني اليمنى وأنا الآن لا أرى بها كلياً . "
وانتاب نيرن الذهول لما سمعت وقالت : " ولكن .... "
وسكتت وقد تلاشى من ذهنها ما تريد قوله .....
وضحك هو قائلاً : " ولكن العين تبدو بحالة حسنة تماماً . آه يا نيرن لا تكوني حساسة من قولك أشياء قد تسبب لي الألم ، فأنا لست حساساً أبداً من كوني أرى بعين واحدة فقط ، وان يكن التعود على فكرة انتهاء أيامي في التسلق والتصوير معاً ، أخذ مني وقتاً طويلاً في الواقع ولكنني كنت محظوظاً لبقائي حياً وعندما شفيت أخذت أتطلع حولي عن عمل أقوم به وكنت قد سبق وفكرت قبل أن يحدث لي ما حدث في ان أقوم ببناء أكواخ لمتسلقي الجبال ، وذلك بعد تقاعدي عن التسلق وهكذا عندما حدث ذلك التقاعد مبكراً ، عادت إلى ذهني تلك الفكرة وباشرت بها حالاً فاتفقت مع ممول ومن ثم قمت ببناء أكواخ قمم الجبال وكان النجاح باهراً ... ومنذ ذلك اليوم سرت في طريقي دون النظر إلى الوراء ."
فقالت بهدوء : " أليس غريباً أن يرث عنك ابنك ليس هواية تسلق الجبال وإنما موهبة التصوير الفوتوغرافي أيضاً؟ "
فأجاب بلهجة متوترة : " نعم هذا صحيح ان بإمكاني التأكد بأنه يوماً ما سيجعل من ذلك مهنة حسنة . "
فسألته قائلة : " ستروم .... هل علمت السبب في أنه أخذ محفظتك في أول صباح أمضيته هنا؟ "
فأجاب : " لقد اخبرني بذلك هذه الليلة . لقد أراد فقط أن يعرف هويتي الكاملة أراد ان يتأكد من أنني حقاً ستروم سومرليد غالبريث أبوه . "
وضحك بصوت أجوف متابعاً : " ويظهر أنه ورث أيضاً طبيعتي المتشككة . "
وأشاح بوجهه وكأنه يريد منها أن تعلم أنه لا يريد ان يتحدث عن ابنه أكثر من ذلك وتابع قائلاً : " إن القمر متألق تماماً هذه الليلة . وهذه فرصة حسنة للتأكد من أنه لا يوجد منافذ للضوء في ظلام الغرفة هذه . "
وقبل أن تدرك هي ما سيفعل ، كان قد مشى نحو الباب يغلقه بهدوء ثم يطفئ النور .
هذه العتمة المفاجئة جعلت نيرن تشعر بالدوار وبما يشبه الاختناق .... فتحسست طريقها نحو الباب ولكنها قبل أن تصل إليه وجدت نفسها تصطدم بالجدار .
وهتف ستروم : " آه ، حذار لقد كدت تتسببين الضرر لنفسك في سيرك هذا في الظلام . "
وجعلها الظلام الدامس هذا تشعر وكأنها انتقلت إلى عالم آخر عالم منفصل تماماً عن واقعها ، لا يوجد فيه سوى ستروم ولا صوت سوى صدى صوته في أذنيها .
وتنحنحت قائلة : " يبدو أنها ستكون غرفة حسنة . "
فأجاب : " آه نعم إنها رائعة لتظهير الأفلام ولن يحصل كيلتي على غرفة افضل منها . "
ثم مد يده إلى خلفها وأشعل النور .
فقالت بصوت متهافت : " إنني ذاهبة إلى غرفتي الآن . هل ما زالت ... مصمماً على الرحيل غداً صباحاً؟ "
فأجاب : " علي ان أرحل يا نيرن إن بقائي .... "
وأبدى بيده إشارة وكأنه يتوسل إليها ان تشعر معه ثم قال : " لقد أوضحت للغلام كل شيء وهو متفهم تماماً الآن . "
فقالت : " أنه بحاجة إليك يا ستروم . "
ورأته يجفل وكأنما صفعته ورأت كتفيه تهبطان وكأنما سلبت منه الحياة وهمست من خلال دموعها : " وأنا أيضاً بحاجة إليك . "
ولكنه استدار مبتعداً عنها . وأغمضت عينيها لحظة وكأنها بعدم رؤيته تنهي عذابه وعذابها . ثم عادت ففتحت عينيها وسألته : " في أي وقت ستشرع في المسير صباحاً؟ "
فأجاب : " أحب أن يكون ذلك في السادسة . "
فقالت : " سأراك في الصباح وسأجهز لك الفطور قبل رحيلك . "
ولم تنتظر جوابه كانت تعلم أن عليها أن تخرج من الغرفة وتغلق الباب خلفها قبل أن تنطلق من بين شفتيها تنهدات الأسى والحزن اللذين كانا يعتملان في أعماقها .

الفصل الثاني عشر

" هل رحل؟ "
فمسحت نيرن العرق عن جبينها بعد أن سمعت صوت كيلتي الذي كان واقفاً بباب المطبخ ، ثم استدارت تنظر إليه والتوى قلبها ألماً وهي ترى النظرة التي بدت في عينيه وقالت بهدوء : " نعم لقد رحل . "
فازدرد ريقه بصعوبة ثم أشاح بوجهه ومضى ينظر من النافذة ثم قال : " كنت آمل أن .... "
واختنق صوته بالانفعال فلم يستطع متابعة الكلام .
فقالت وهي تتقدم لتقف بجانبه : " نعم ... نعم وأنا أيضاً كنت آمل ذلك . "
فقال : " انكِ ... معجبة به أليس كذلك؟ "
فأجابت : " وأكثر من ذلك يا كيلتي أكثر من ذلك بكثير وقد أردت منه أن يبقى من أجلي أنا أيضاً ولكن هازيل سببت له الكثير من الأذى فلا تكرهه أنت . "
فأدار رأسه إليها . وكانت وجنتاه مبللتين بالدموع ، وهو يقول : " إنني لا أكرهه يا نيرن أما ما لا أستطيع أن أفهمه فهو كيف أمكن لأمي أن تؤذيه بهذا الشكل؟ فهذا ليس من طبيعتها . "
فهمست : " كلا ، ليست هذه طبيعة هازيل ولكننا لن نعرف قط ماذا كان يجول في ذهنها .. أو في قلبها ... في ذلك الوقت . "
ووقفا معاً لحظة طويلة صامتين ، وقد ربط بينهما الأسى وأخيراً تنهدت نيرن واستدارت لتبتعد عندما وقعت نظراتها على مغلف مقفل موضوع على عتبة النافذة فتقدمت تتناوله وهي تقول : " آه لقد كدت أنسى إنها رسالة تركها لك ستروم ... "
فتناولها وقد بدا الاضطراب على ملامحه وهو يسألها : " رسالة لي؟ وماذا في داخلها؟ "
فقالت : " لا أدري ... لماذا لا تذهب إلى غرفة الجلوس وتفتحها وسأبقى هنا اغسل الأرض وإذا أردت مني شيئاً فاصرخ لي . "
كان كل ما تعرفه أنه لم يكن بداخل المغلف نقود لأن ستروم كان أخبرها أنه فتح في البنك في غلينكريغ حساب توفير باسم كيلتي وأن على كيلتي أن يذهب إلى هناك بأقرب وقت ليوقع على الأوراق اللازمة كما أنه أعطى نيرن عنوانه في لندن وأخبرها ان عليها ان تبدأ الإجراءات اللازمة لحضانة كيلتي ، وسيقدم إليها ما تطلبه من عون ولم تشأ أن تتذكر النظرة التي كانت في عينيه ، باردة نائية مقفلة وكأنه كان يبعد عنه ، ليس هي فقط وإنما الحياة نفسها ولم تستطع الاحتمال .
" نيرن! "
واستدارت بعنف وهي تسمع نداء كيلتي الخشن وقد اختنق صوته بالدموع ونظرت إليه بارتباك وهو يندفع خارجاً ملوحاً بالرسالة في يده .
وتساءلت نيرن عما إذا كان قد جن فقد كانت دموعه تنهمر على وجنتيه ... ولكن عينيه كانتا متألقتين بالفرح ، وهو يهتف : " إنها هنا في هذه الرسالة . "
ووضع ذراعيه حولها ثم حملها وأخذ يدور بها بقوة أدهشتها ثم وضعها وهو يقول : " إنها هنا ، آه يا نيرن .... "
وخنقته الدموع وهو يناولها الرسالة .
وتناولتها منه وأخذت تحدق فيها . كانت رسالة معنونة إلى ستروم .
رسالة من هازيل .
وهتفت غير مصدقة : " آه يا كيلتي . هل هذه.... ؟ "
فأجاب : " نعم إنها الرسالة التي كانت أمي كتبتها له ... "
فقاطعته : " الرسالة التي كتبتها إليه بعد رجوعه إلى لندن .... الرسالة التي تحدث عنها؟ ولكن هذه رسالة خاصة يا كيلتي لا ينبغي لي أن أقرأها . "
فقال : " أقرئيها . "
كان صوته مرتجفاً ووجهه شاحباً وهو يكرر : " أقرئيها يا نيرن وستفهمين كل شيء . "
واهتزت يدها بالرسالة وهي تقرأها . كانت رسالة قصيرة كتبت بخط هازيل المألوف وكانت بالضبط كما سبق وأخبرها ستروم . كانت تخبره أن قصتهما انتهت وأنها تحب شخصاً آخر . أنها تحب هوغ كما أحبته على الدوام .. قالت في رسالتها : لقد عرفت هذا حالما رأيته صاعداً الطريق بخطواته الواسعة ، عائداً من رحلة صيد السمك إنني آسفة يا ستروم أظن أنني كنت أشعر بالوحدة فجئت أنت في ذلك الوقت ...
وهتف بها : " هل فهمتِ يا نيرن؟ "
فحملقت نيرن فيه وهو يختطف الرسالة من يدها وشعرت بساقيها ترتجفان فجلست على كرسي وعاد يهتف بها : " ماذا علينا أن نفعل يا نيرن؟ ماذا نفعل؟ "
فهزت نيرن رأسها وقد تملكها الذهول وشعرت بالدنيا تدور حولها وقالت : " لا أستطيع أن أصدق ذلك .... ولكن كان علينا أن نعلم .. كان علينا أن نتكهن بالأمر .. لا بد أن هذه هي القصة . فأن أمك ما كانت لتؤذي أحداً ... إلا ذا اضطرت .. "
فقاطعها : " إلا إذا كان الأذى سيصيب آخرين أكثر مما يصيبه هو ... "
واغمض عينيه لحظة ثم تابع : " آه يا نيرن يا لها من تضحية قامت بها . "
فهمست نيرن : " نعم يا لها من تضحية ... والرجل الذي تأذى أكثر من الجميع كان ستروم . "
فقال كيلتي : " لقد كتب لي ورقة برفقة هذه يقول فيها انه كان دوماً يحتفظ بهذه الرسالة معه ، إذ لسبب ما لم يستطع أن يلقي بها وهو يريدني أن أقرأها كبرهان على أنه لم يكذب بما قاله عما حدث بينه وبين أمي . "
فقالت وهي تتنفس بعمق : " انه لم يحلم قط بأن يكون فعل الرسالة أكثر من هذا كيلتي .. ان علينا أن نصحح الأمور . "
فأجاب : " اعلم ذلك ... ولكن كيف؟ "
فنهضت وهي تهتز ، فأمسكت بيده تقوده إلى مكتبها وهي تقول : " اجلس ، ان الأمر عائد إليك الآن عليك أن تكتب له رسالة تشرح له فيها كل شيء . "
ثم دفعت إليه بورق ومغلف يحمل اسمها في زاويته وهي تتابع : " اكتب إليه حدثه بكل ما في قلبك وبعد ذلك علينا أن ننتظر وأنا أعرف أن انتظارنا لن يطول . "
ولكن لشّد ما كانت مخطئة .
وكم كانت حمقاء.
لقد جلست طيلة الليل تنتظر أن يرن جرس الهاتف وتسمع صوت ستروم ليخبرها أنه تلقى الرسالة وأنه عائد في أقرب وقت.
وقد سهر كيلتي معها إلى حوالي منتصف الليل ولكنه في النهاية ، انسحب إلى غرفته وقد بانت في ملامحه خيبة الأمل.
وفي اليوم التالي لامت نيرن نفسها على عدم صبرها ذاك وحاولت أن تقّوي من ثقة كيلتي قبل ذهابه إلى المدرسة وذلك بقولها : " لا بد أن والدك سيتصل هاتفياً اليوم ."
ولكن ستروم لم يفعل .
ولا في اليوم التالي ولا الذي بعده.
وقال كيلتي وقد انكمش على نفسه : " انه غير مهتم انه لن يتغير لقد فات الأوان . "
هل هذا صحيح؟
ومع نهاية الأسبوع الثاني ، تبخر آخر أمل عند نيرن . لقد كان ستروم غالبريث سفينة مرت بهما ذات ليلة وهما لن يرياه مرة أخرى أبداً . لقد أقبل إلى الشمال لكي يوفي واجباته نحو ابنه حالياً ولما ، ولما أنجز ذلك ، أبعده و نيرن أيضاً عن ذهنه نهائياً . ولشد ما تمنت لو بإمكانها ان تبعده هي أيضاً من ذهنها .
كانت الريح دافئة صباح الأحد الذي سيصل فيه الفتيان عائدين من رحلتهم البحرية . ارتدت نيرن كنزة وبنطلون جينز ووقفت على الدرجات الأمامية عدة لحظات لترى إن كان ثمة أثر للحافلة التي ستأتي بهم . فهم سيصلون في أية لحظة وابتدأت تسير في الطريق نحو البوابة.
لاحظت بقلب حزين أن زهور النرجس ابتدأ وقتها يمر ... كانت كابية اللون ذابلة فوق ساقها المائلة لتعطي مكانها لزهور الخزامى والأقحوان .
رفعت بصرها إلى شمس الربيع وتناهى إلى سمعها صوت طيارة بعيدة ووضعت كفها على عينيها تمعن النظر .. كلا انها ليست طائرة بل مروحية ربما كانت قادمة من مركز البحرية .
وأعاد إلى انتباهها إلى الطريق صوت بوق سيارة وهناك حول منعطف الطريق برزت حافلة صفراء صغيرة الحجم ها قد عاد فتيانها .
ما أكثر الأحداث التي مرت عليها أثناء غيبتهم تلك ولكن كل ذلك أصبح جزءاً من الماضي الآن وعليها أن تتطلع إلى المستقبل وتنهدت وهي ترفع يدها تلوح لهم وبعد ذلك بلحظة ، كان يحيط بها الفتيان المراهقون بوجوههم التي لوحتها الشمس والجو ، وشعورهم الشعثاء وابتساماتهم الجريئة العريضة وقد تبعثرت أكياسهم وحقائبهم على جانب الطريق .
قالت تخاطبهم بابتسامة ترحيب : " يبدو أنكم قضيتم وقتاً طيباً . "
وتسابقت أصواتهم الفتية : " نعم ، نعم كانت رحلة رائعة كان عملاً شاقاً يا نيرن ."
قالت بابتسامة عريضة : " حسناً ، لا بد أنكم جائعون تماماً بعد تلك الرحلة الطويلة بالحافلة . "
وقاطعها آركي وهو فتى يبلغ الست أقدام طولاً : " إننا لم نأكل شيئاً منذ السادسة صباحاً . "
فقالت : " لقد أعددت المائدة في المطبخ لأجلكم ستجدون سجق وعجة في الفرن وحليباً وعصير البرتقال في الثلاجة فكلوا واشربوا .... "
وقبل أن تنهي كلامها كانوا قد اختفوا من أمامها وهم يتدافعون ضاحكين متجهين صوب باب المنزل .
وصافحت نيرن قائد الرحلة وهي تقول : " شكراً يا سيد وبستر لأعادتهم سالمين ."
فأجاب : " لقد كانت رحلة رائعة يا نيرن وأنا آسف لعدم مرافقة كيلتي لنا . كيف حاله؟ "
فأجابت : " آه انه الآن بخير . "
فقال : " لقد اضطررت إلى إرساله إذ لم تكن تلك رغبتي ولكنني أحسست ان مشكلته لم تكن جسمانية كما ... "
فقاطعته قائلة : " لقد فعلت الصواب والآن لا أحب أن أعيقك يا دان ... فأنا متأكدة من أن زوجتك بانتظارك الآن . "
فقفز عائداً إلى الحافلة وهو يلوح لها محيياً وما لبث أن غيبه المنعطف . نظرت نيرن إلى ساعتها . لقد ذهب كيلتي للنزهة مصطحباً الكلب وآلة التصوير قائلاً انه سيمر عند العودة بالمقبرة . إنها ستتفقد الفتيان ومن ثم ترتدي سترتها ثم تذهب بدورها إلى المقبرة حيث تلاقيه هناك....
ولما كان صوت الحافلة قد تلاشى مبتعداً فقد عاد إلى مسامعها صوت الطائرة المروحية مرة أخرى . لقد اقترب الصوت الآن ورفعت بصرها إلى السماء ...
واهتز قلبها . ما الذي جعل تلك المروحية تبدو وكأنها ستحط في الحقل القريب من منزلها؟ هل ترى حدث خطأ ما؟ ولكن صوت الموتور كان يبدو متزناً . ربما هنالك مشكلات أخرى ربما أصيب الطيار بمرض مفاجئ .
وركضت نيرن نحو السياج الذي يفصل بين قطعتي الأرض ، لتخرج من بين الأسلاك إلى الجهة الثانية راكضة على العشب بخفة وكأنما نبت لها جناحان وفي منتصف الطريق إلى الطائرة المروحية كانت هذه قد توقفت .
وقبل أن تصل إليها بأمتار قليلة فتح بابها وخرج منها رجل . رجل في سترة جلدية سوداء . رجل فارع القامة أسمر اللون وذو جاذبية مدمرة .
وكانت تعرفه جيداً .
وقفت نيرن فجأة وكأنها اصطدمت بحائط . لقد عاد لقد عاد أخيراً وأشرقت الدنيا حولها فجأة وتلونت الأشياء جميعاً بصباغ وردي زاه .
وهمست : " ستروم ... "
ولم تستطع أن تتحرك من مكانها ولكن لا بأس لقد قطع هو الطريق إليها ، ليحملها ويدور بها حوله إلى أن شعرت بالدوار وتذكرت كيلتي ، ما أشبه الابن بالأب فهما الاثنان مولعان بأن يرفعا الآخرين ويدورا بهم بسرعة عندما يشعرون بسعادة .
وكان ستروم سعيداً عندما وضعها على الأرض وهو يهمس : " لم أكن أدري أنني واقع في غرامك وأنني بحاجة إليك وأنني لا أستطيع العيش من دونك . هل فات الأوان؟ "
ورأت عيناه الجواب في عينيها.
وأخيراً استطاعت أن تقول : " آه يا ستروم لقد كنت أتمنى دوماً لكي تعود عندما أرسل كيلتي .... "
فقاطعها قائلاً : " كيلتي؟ أين هو؟ "
فأجابته برقة : " لقد ذهب إلى المقبرة ، ان الفرح سيهزه لرؤيتك لماذا لا تذهب لرؤيته هناك؟ "
فقال : " وأنتِ؟ "
فأجابت : " سأنتظر هنا . "
وما أن ترك يدها ليذهب حتى انفجر الضحك والصفير والهتاف من ورائها وأدارت نيرن رأسها لترى فتيانها مصطفين على الحاجز يتفرجون عليهما .
وهتفوا جميعاً بصوت واحد : " هيا يا نيرن لا تتوقفي . "
قال لها ضاحكاً : " هل هؤلاء الهمجيون فتيانك؟ هل علي أن آخذهم هم أيضاً إذا أنا أخذتك؟ "
فقالت : " نعم فهل هذا كثير عليك؟ "
فقال : " سأشغل وقتهم على الدوام ، لقد تدبرت عملاً لكل شخص هنا في كريجند وسيبدءون في خلال أسبوع . سأبدأ العمل في بناء مشروع الأكواخ الجبلية الذي صممت عليه منذ سنوات .. وسيكون هناك عمل لكل شخص هنا . "
فقالت بغبطة عميقة : " آه يا ستروم ستبقى بينا إذن مدة طويلة . "
فأجاب : " بل سأبقى إلى الأبد ثقي بذلك . "
كان الفتيان قد ذهبوا جميعاً و نيرن وحدها في المطبخ حيث غسلت الأطباق وابتدأت بتحضير القهوة ولكن ذهنها كان شارداً يفكر باللقاء الذي سيحدث في المقبرة بين الأب وابنه وهما يقفان معاً بجانب ضريح هازيل ، بعد أن تلاشت مرارة عدم التفاهم ذاك.
ونظرت من النافذة بعينين لا تريان . ما كان أحسن عودة ستروم العامرة بالحب لها ولكيلتي لو أنها حدثت قبل ، وليس بعدما علم بالحقيقة عن هازيل ، لو أنه فقط حاول الرجوع إلى نفسه ومناقشتها بعد رجوعه إلى لندن فيتغلب على مرارته بنفسه ... ويقتنع بضرورة وضع الماضي خلف ظهره إذا هو أراد أن يعود رجلاً سعيداً ويكون بطلها الفارس المتألق حقاً .
وهزت نيرن كتفيها بأسى ، إن رجلها هذا إذن ليس فارساً متألقاً بكل معنى الكلمة ولا بد لها من أن تعيش بينما يشوب سعادتها شيء من القتامة والكمد.
عادت إلى الواقع وهي تسمع الباب الأمامي يفتح فنشفت يديها واستدارت نحو الباب لترى ستروم عائداً ، فاندفعت إلى الأمام وهي تهمس : " أين كيلتي؟ "
فأجاب : " لقد نزل إلى الوادي لالتقاط بعض الصور وطلب مني تسليمك هذا . "
وحدقت نيرن دون أن تفهم في المغلف الذي ناولها إياه ، المغلف الذي يحمل اسمها في زاويته العليا والذي كان كيلتي عنونه باسم ستروم بخط يده . هذا غير ممكن ، غير ممكن أبداً .. إنها الرسالة التي كانت طلبت من كيلتي كتابتها إلى أبيه ليخبره بحقيقة تصرف هازيل نحوه بزواجها من هوغ بدلاً منه . ولكن الرسالة ما زالت مقفلة بينما كان من المفروض أن تلك الرسالة هي التي جعلته يعود .
وقالت تسأله : " إنني لا افهم . "
فقال : " وأنا لا افهم أيضاً ولكنه قال انك ستفهمين . قال لي بالضبط أخبر نيرن إنني لم أرسلها مطلقاً لقد أردته أن يشعر بالحاجة إلينا إلى حد أن يعود من تلقاء نفسه ."
وتفجرت الدموع من عيني نيرن وهي تتناول الرسالة منه قائلة : " يا له من غلام حكيم انه يفوقني حكمة بكثير . "
فقال ستروم : " ولكنه معنون باسمي هل يمكنني أن أقرأه؟ "
إنها طبعاً ستسلمه إياه ليقرأه . لقد علم الغلام مقدار ما سيصيب أباه من تمزق في المشاعر بعد أن يعلم الحقيقة فلم يحتمل رؤية المشهد.
وأجابته بصوت مختنق بالبكاء : " نعم أجلس هنا أما أنا فسأذهب لأضع بعض الخشب في المدفأة . "
وسكبت له فنجان قهوة وضعته بجانبه قائلة : " هناك المزيد من القهوة إذا شئت أما أنا فسأعود حالاً . "
ولكنها طبعاً لم تعد ذلك أنها كانت تعلم أن ستروم بحاجة إلى وقت يخلو به إلى نفسه إلى وقت يتكيف فيه مع الحقيقة ، إلى وقت يقتنع فيه قلبه بأن المرأة التي كان أحبها منذ زمن طويل لم تغدر به كما كان يعتقد ، إلى وقت يتحرر فيه من تلك المرارة إلى وقت يشعر فيه بألم جديد هو ألم الندم لحكمه الظالم ذاك على هازيل ، المرأة التي ضحت بسعادتها وبالرجل الذي أحبت .. وذلك لكي تقف بجانب الرجل الذي هو بحاجة إليها حقاً .
وقفت نيرن إلى نافذة غرفة الجلوس ملصقة جبينها بزجاجها البارد وقد تاهت بها الأفكار . انه حقاً بطلها الفارس المتألق .. ولكن ما زال هناك بعض الشوائب وعليها أن تنتظر أما الآن فعليها أن تفكر في ما عسى أن تكون عليه مشاعر ستروم من عذاب مبرح ونظرت إلى ساعتها ... ها قد مضت أكثر من نصف ساعة منذ تركته مع تلك الرسالة .
" نيرن ..."
تجمدت وهي تسمع صوته ولم تستطع أن تتحرك لم تستطع أن تواجهه لم تستطع التفكير في الألم المدمر الذي ستراه على ملامحه والعذاب في عينيه ...
لم تسمع خطواته على السجادة وشعرت بأنفاسها تختنق وهو يقول : " انظري ألي يا نيرن ."
ما الذي ستراه؟ كانت خائفة من النظر في وجهه واستمدت كل شجاعتها ثم استدارت تنظر إليه .
كانت عيناه صافيتين هادئتين وهو يسألها : " ألم يتمكن هوغ من السير بعد ذلك قط؟"
فهمست : " كلا ، لقد أمضى بقية حياته في كرسي متحرك . "
فقال : " وذلك الحادث على السفينة .... "
فأجابت : " لقد حدث في الليلة التي سبقت عودته إلى غلينكريغ ، لقد ترك شخص ما ثغرة في أرض السفينة مفتوحة فسقط هو في الظلام في عنبر السفينة فتهشمت ساقاه الاثنتان . "
وساد صمت طويل لم يكن يسمع فيه سوى صوت أزيز نيران المدفأة وكان في صوت ستروم عندما تكلم أخيراً ارتجاف بسيط وهو يقول : " انه إذن لا يمكن أن يكون قد عاد إليها صاعداً الطريق بخطواته الواسعة كما قالت في رسالتها تلك لقد تعمدت أن تقول هذا لكي لا أتكهن أنا بالأمر ..."
فقالت : " هذا صحيح . "
لقد لاحظت الآن البقع على وجنتيه والتي كانت العلامة الوحيدة على الدموع التي ذرفها وكادت غصة الألم تخنقها.
وقال : " كل هذا قد انتهى يا نيرن لقد أصبح في الماضي وأريد منكِ أن تعلمي أنه كان في الماضي قبل أن أحضر إليك اليوم ذلك أنني بعد عودتي إلى لندن ، شعرت وكأنني تركت جزءاً من نفسي هنا .... في غلينكريغ ، معك ومع كيلتي لم يتملكني مثل هذا الشعور من قبل قط في حياتي حتى ولا مع هازيل . شعرت بأن الحب الكبير الذي غمر قلبي لم يدع مجالاً لأية مرارة سابقة . لقد تمكنت من أن أرى إن ما كان بيني وبين هازيل لم يكن سوى سحابة صيف ... وأنا الآن اعتبره لا أكثر من حلم جميل .. فقد انتهى الكابوس ، آه يا نيرن لقد جعلتك تبكين .. مرة أخرى . "
فقالت : " إنني لا ... لا أستطيع المقاومة ... "
أجابها مهدئاً : " إذن فلتكن هذه الدموع .... دموع السعادة . "
فأخذت نيرن تشهق باكية إلى ان شعرت بالراحة أخيراً عند ذلك نظرت إلى ستروم بابتسامة مرتجفة وهي تقول : " لقد كانت فعلاً دموع السعادة ولكنها كانت أيضاً دموع الحزن . الحزن لأجل هازيل لا بد أنها كانت تراك في كل مرة كانت تنظر فيها إلى كيلتي كم كان هذا مؤلماً لقد أحبه هما الاثنان . "
فقال : " لقد سألني هذا الصباح عما إذا كنت أمانع في أن يدعوني باسمي ستروم قال أنه دوماً سيفكر في ان هوغ هو والده كما قال أيضاً انه لن يدع أبوتي له سراً إذ ليس هناك الآن من يتضرر من ذلك .. ثم انه ... "
ومسح عينيه بيده متابعاً قوله : " وهو أيضاً فخور بي جداً . "
ما أكثر هذه المشاعر التي انطلقت في نهار واحد وعادت الدموع تغرق عيني نيرن مرة أخرى ولكنها هذه المرة ابتسمت من خلالها وهي تهمس : " إن فخره بك ليس بمقدار نصف الفخر الذي ستشعر به أنت نحوه . "
وتنحنح شخص ما ، فاستدارا هما الاثنان في نفس اللحظة . كان كيلتي واقفاً عند الباب وقد تساقط شعره الأسود فوق جبينه وانزلقت تنورته السوداء إلى وركيه وكانت الابتسامة واسعة تكسو وجهه وتنير عينيه بينما هو مستند إلى الباب .
كان مصوباً نحوهما آلة التصوير.
" آه ... ها . "
وانفجر ضاحكاً .

الخاتمة

" لقد وصل عريسك يا نيرن هل رأيته؟ "
فاستدارت نيرن عن نافذة غرفة نومها عندما دخلت أختها من الباب وهي تحمل باقة من الورود الحمراء يعلوها الندى وكانت عينا كيلا تتألقان إثارة وهي تقول لاهثة : " لقد كنت خائفة من أن ينسى ستروم إحضار الورود عند حضوره من لندن ولكنني كنت مخطئة إذ أن قرية غلينكريغ لم تكن تحوي الورود التي تستحقها ... بماذا كان دعاك؟ آه نعم ( زهرته الحلوة)! "
فضحكت نيرن قائلة : " إذن فقد لاحظتِ أن ابن المدينة يمكنه أحياناً ان يقول الشعر هو أيضاً . "
وتناولت منها باقة الورود ورفعتها إلى انفها تتنشقها وهي مغمضة العينين وقالت : " ما أروعها من رائحة . "
واستدارت تنظر من النافذة مرة أخرى وهي تقول : " نعم لقد رأيت ستروم عائداً هل آدم جاهز ليأخذه إلى حفل الزفاف؟ "
فأجابت كيلا : " نعم انهم جميعاً بانتظاري في غرفة الجلوس . "
ووضعت ذراعيها حول خصر أختها ، وأخذتا تنظران معاً من النافذة إلى بناء مؤسسة " أكواخ قمم الجبال " الجديدة ... وإلى البيت الرائع الجمال الذي بناه ستروم لأجل عروسه في موقع منزل كريجند الريفي القديم وكانت نوافذ المنزل تشرف على الوادي والبحيرة وكان بإمكان كيلتي أن يرى من نافذته قمة جبله المحبوب سلاغمهور الشاهقة أما نيرن فستدير نزل برواش كمركز للمراهقين كما أن ستروم سيؤسس عمله في قرية غلينكريغ انه لن يقول بعد الآن إن موطنه هو المكان الذي يعلق فيه قبعته ، وشعرت نيرن بالرضى وهي تقول هذا ان موطنه سيكون حيث هو يريد ان يكون .. هنا في غلينكريغ معها.
وتمتمت كيلا : " كان ستروم قد قال أن المجمع الصناعي سيلتزم بناؤه عاما كاملاً وكان الحق معه إذ تحقق ذلك باليوم تقريباً ."
فقالت نيرن برقة : " انه كان عاماً رائعاً ... لقد كان كيلتي في منتهى السعادة كما أن ستروم ... "
فقاطعتها كيلا : " لقد جذبت قلبه بحلاوتك وحنانك ... "
وسكتت وهي ترى نيرن تتنهد وسألتها منزعجة : " ماذا حدث؟ "
فأجابت نيرن بوجه متجهم : " لا شيء كنت فقط أفكر في الماضي عندما كنت هنا وحيدة أفكر في روري ... "
وعضت شفتها شاعرة بوجهها يتوهج وهي تتابع قائلة : " انه مازال وسيبقى محتلاًً زاوية من قلبي يا كيلا إن علي أن اخبر ستروم .. ولكنني خائفة .. خائفة من ان لا يتفهم الأمر .. "
فاحتضنتها أختها بشدة وهي تقول : " آه يا للحمقاء كيف يخطر ببالك أن رجلاً مثله لا يعلم انك لست من نوع النساء اللاتي ينبذن ذكرياتهن بهذه البساطة؟ والآن لا أريد منك أفكاراً حزينة في مثل هذا اليوم السعيد . ابتسمي و ... "
وسوت من ثوب نيرن الأبيض وهي تقول : " والآن علي ان اذهب انتظري قرابة خمس دقائق ثم اتبعينا مع والدنا . "
ثم عانقت أختها واستدارت خارجة مغلقة الباب خلفها . وتلاشت الابتسامة من وجه نيرن ببطء وهي تتمتم آه يا ستروم وعادت تتشمم الورود مرة أخرى وهي ما زالت تتمتم ، كيف يمكنني أن أمنحك كل قلبي وما زال .....
وتجمدت فجأة وهي تحدق في باقة الورود الرائعة ... لقد كانت تظن أنها تحتوي وروداً فقط ... وروداً حمراء ...
ولكن ، ها هنا عدة أزهار من النرجس تختبئ بين الورود كانت أزهاراً صغيرة رقيقة هي أجمل ما رأت في حياتها .
واحتبست أنفاسها في صدرها . لابد أن ستروم وضعها هنا بنفسه هل هذا سبب إصراره على إحضار الورود بنفسه؟ هل أرادها أن تعلم في يوم عرسهما أنه يدرك مشاعرها ويفهمها جيداً وأنه لا يريد منها أبداً أن تغلق قلبها عن ذكرياتها مع روري؟
لقد كانت تظن من قبل أنها تحب ستروم ولكنها ترى الآن قلبها يفيض حباً . كان في قلبها من الحب الآن بحيث يكفي ستروم .. وكيلتي أيضاً كما أنه يكفي كيلا وزوجها وأولادهما ووالديها ... وبما فيهم روري ..
لقد كان ستروم يعلم ما علمته الآن وما الذي علمها إياه بهديته من أزهار النرجس هذه وهو أن القلب يمكنه أن يستوعب أكثر من ملئه حباً يمكنه أن يفيض حباً على الجميع.
كان هناك كثيرون متجمعين خارج مكان الحفل ، وما أن اقتربت نيرن ووالدها من المدخل حتى رأت فاني وبستر بين المتفرجين ، تحدق فيها من خلف نظاراتها السميكة وتلاقت أعينهما وفي هذه اللحظة شعرت نيرن بانفعال بسيط في أعماقها وافترت شفتاها عن ابتسامة ماكرة . ذلك أن فاني وبستر ستبقى عدة أشهر تجد ما تتحدث عنه .
وبقيت الابتسامة على فم نيرن وهي تتهادى مع أبيها في ممر المكان ، ممسكة بباقة الورود ولكن عينيها كانتا متجهتين نحو ستروم وقد غشاهما الدمع .
كان واقفاً أمام رجل الدين مع كيلتي وقد بدا الاثنان وسيمين بشكل لا يصدق في ملابس جبلية كاملة ، والتفت الاثنان يحدقان فيها وهي تقترب . كان وجه كيلتي متألقاً بالفرح أما ستروم .. فقد جعل الحب الذي بدا في عينيه قلبها يخفق بعنف هل من الممكن أن يموت المرء من قوة الحب؟
وهمس أبوها في أذنها وهو يراها تكاد تتعثر في سيرها : " تمهلي الآن في سيرك يا فتاة ... تمهلي ... "
وعندما وقفت بجانب ستروم سمعته يهمس لها : " لشد ما تبدين رائعة الجمال . "
نعم ... سيكون الأمر سهلاً .. سهلاً في أن تحب هذا الرجل وأن يحبها .
وعبقت رائحة الورود التي تحملها معطرة الجو بينما أخذ رجل الدين يعقد قرانهما بحيث يكونان زوجان معاً دائماً .. وإلى اللابد ..
تمت

بقلم: غريس غرين
العنوان الأصلي لهذه الرواية بالإنكليزية : snowdrops for a bride
تاريخ إصدار الرواية : 1992
ترجمة : بلقيس حوماني
الطبعة العربية الاولى عن مؤسسة النحاس 1995

^^^^^^
نبذه عن المؤلفة
ولدت غريس غرين في اسكتلندا . ثم هاجرت مع زوجها المهندس البحري ، جون ، الى كندا حيث ربيا اولادهما الاربعة ، وهما الان يعيشان سعيدين بعد أن خلا البيت من الاولاد في غرب فانكوفر في منزل يطل على المحيط . غريس مغرمه بالسير على شطئ البحر ، وبالعناية بالحديقه ، ومقابلة كتاب اخرين .. ثم التفرج على شخصيات رواياتها في الافلام ، لانها تعلم ان تلك الشخصيات ، عندما تمثل رواياتها ستلهمها على تأليف روايات أخرى .
  #2  
قديم 06-25-2007, 06:20 PM
 
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير

مشكووووووووورة حياتي
  #3  
قديم 06-25-2007, 08:49 PM
 
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير

مشكوره000

اختي على القصه 000
__________________
رحلة الألف ميل تبدأبخطوة
متى وجدت الإرادة والصبر زالت الصعاب
احسن وسيلة للتغلب على الصعاب اختراقها
لانعرف قيمة مالدنيا حتى نخسرة
ليس الفخر أن لانسقط بل أن ننهض كلما سقطنا
  #4  
قديم 06-25-2007, 08:59 PM
 
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير

الله الله
قصه رائعه جدا جدا
تقبلي مروري
  #5  
قديم 10-09-2007, 11:26 AM
 
رد: ( دعني احبك ) مختارات من قصص عبير



اختي العزيزة
ودمتي بود
__________________

الوقت يداهمني والعمر يسرقني

لكن لا املك سوى شكر لكل من تقبلني في هذا المنتدى
واتمنى من الله ان يجمعنا في الجنان العليا




اخوكم


سامر البطاوي




موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
احبك موت يا لغالي الثريا أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 12-16-2006 12:49 PM
مختارات من الأذان عثمان أبو الوليد نور الإسلام - 3 07-16-2006 01:40 PM


الساعة الآن 11:49 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011