النص الأول : قال العلامة الإباضي محمد بن إبراهيم الكندي في (بيان الشرع 1/164-172): " بسم الله الرحمن الرحيم فصل من كتاب عزان بن الصقر تعلم علمك الله الرد على من يقول : إن القرآن مخلوق: الحمد لله الذي أوضح لنا سبيل دينه، وألهمنا معرفته، وأيدنا بتوفيقه، وجعل فرجا ومخرجا مما فيه الزيغ، وجعلنا ممن يتبع ولا يبتدع. وكان فيما بلغنا، والله أعلم، ممن نثق به: أن جهما ، عدو الله، كان صاحب خصومات وكلام بعمق و إتباع لمتشابه القرآن، وكان أكثر كلامه في الله عز وجل تبارك وتعالى. فبلغنا، والله أعلم، أنه لقي شابا بخراسان من الزنادقة، فقال لجهم : نكلمك فإن ظهرت حجتك دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به جهما أن قالوا له: ألست تعلم أن لك إلها؟ قال: نعم. قالوا: فهل رأيت إلهك؟ قال:لا. قالوا: فهل سمعت له كلاما؟ قال : لا. قالوا له: هل وجدت له رائحة؟ قال: لا . قالوا: فما يدريك أنه إله؟ فتحير جهم، ولم يصل أربعين يوما. قال : ثم إن جهما استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى. وذلك [أن] زنادقة النصارى يقولون: إن الروح الذي كان في عيسى، هو روح من الله. فإذا أراد أن يفعل شيئا دخل في بعض خلقه، فتكلم على لسانه، ثم خرج وهو روح غائب عن الأبصار، لا يرى له وجه، ولا يسمع له حس ولا كلام، ولا يوجد [له] رائحة ولا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فاستدرك جهم هذه الحجة فقال (للمسي) : ألست تزعم أن فيك روحا؟ قال: نعم. قال:فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فهل وجدت له حسا؟ قال: لا. قال: وكذلك الرب، لا يرى له وجه، ولا يسمع له كلام، ولا تشم له رائحة، ولا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. ووجد آية في القرآن تحتمل قياس كلامه، قوله تعالى( ليس كمثله شيء) ووضع دين الجهمية واتبعه أناس، فقيل لجهم: هل تجد في كتاب الله أنه يخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ قال: لا . قيل له: فهل وجدت في سنة رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ قال: لا. قيل له: فمن أين قلته؟ قال : من قول الله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) وزعم أن كل مجعول فهو مخلوق. قلت [له]: فإن الله لم يعطك الفهم في القرآن. وجعل في القرآن من الكلام المتشابه أشياء كثيرة، تكون اللفظة الواحدة ، والمعنى مختلفا، وقد قال: (جعل) على معنى خلق، وقد قال: (جعل) على غير معنى خلق، فالذي قال (جعل) على معنى خلق لا يكون إلا خلقا. ولا يقوم إلا مقام الخلق ولا يزول عنه المعنى. مما قال الله (جعل) على معنى خلق قوله: ( الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور) يقول خلق الظلمات والنور. قال: ( جعل الليل لباسا) يقول خلق الليل لباسا. قال: (وجعلنا الليل والنهار آيتين) [وقال]: (وجعل لكم السمع والأبصار). وقال: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) يقول خلق منها زوجها. ومثله في القرآن كثير.فهذا وما كان على أمثاله لا يكون إلا على معنى خلق. ثم ذكر: (جعل) على غير معنى خلق، قول الله لإبراهيم عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماما) لا يعني أني خالقك، لأن الله قد خلقه قبل ذلك. وقال: ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) وقال إبراهيم: ( رب اجعل هذا البلد آمنا) وقد فرغ الله من خلقه قبل [قول] إبراهيم عليه السلام. وقال إبراهيم: (رب اجعلني مقيم الصلاة) لا يعني اخلقني مقيم الصلاة. وقال الله لأم موسى: ( إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) لا يعني خالقوه من المرسلين. قال: ( ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) وقال: ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة) وقال: ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) لا يعني : لا تخلقوا دعاء الرسول بينكم. [وقال] : ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) ومثل هذا في القرآن كثير فهذا وما كان على أمثاله لا يكون على معنى خلق، و(جعل) على غير معنى خلق. فبأي حجة قال جهم : (جعل) بمعنى خلق؟ إنما قول الله : ( إنا جعلناه قرآنا) يقول: جعله جعلا على غير معنى خلق، ووصفه بالعربية. فلما ظهرت الحجة على الجهمي بما ادعى من أمر الله ادعى أمرا آخر، فقال: أخبرونا عن القرآن هو الله، أو غير الله؟ فلعمري لقد أوهم الناس بما ادعى وهي من المغالط التي يسألون الناس عنها، فإذا سأل الناس الجاهل فقال: أخبرونا عن القرآن هو الله أو غير الله؟ فلابد له أن يقول أحد القولين. فإن قال هو الله، قالوا له : كفرت. وإن قال هو غير الله، قالوا: صدقت. فلم لا يكون غير الله مخلوق؟ فيبهت الجاهل عند ذلك فبقي متحيراً. ولكن الجواب فيه أن الله لم يقل في القرآن: إن القرآن هو أنا، ولم يقل: هو غيري. وقال: هو كلامي. فسميناه باسم سماه الله به، فمن سماه بما سماه الله به كان من المهتدين ، ومن سماه باسم من عنده كان من الضالين. فيقول الجهمي: الكلام لم يزل مع الله. وهذا أيضا من مغالطهم حتى يقول الناس هذه المقالة. فيقال لهم: إن الله لم يزل متكلما. فيقول: ألم يكن الله ولا شيء؟ فيقال لهم : كان الله بجميع صفاته كلها ولا شيء مخلوق. فإذا قال الجهمي: من قال الله وكلامه فإنه يقول اثنين. فيقال [له]: كذبت. نحن نقول الله وعلمه وكلامه وقدرته وملكه وسلطانه وعظمته وجميع صفاته. فإن قلنا ذلك فإنما نصف إلها واحدا، أو يقال للجهمي: تزعم أن الله كان ولا علم حتى أحدث علما ، وكان ولا كلام حتى أحدث كلاما?! فتعالى الله سبحانه عن هذه الصفة. بل نقول: لم يزل عالما متكلما لا متى عُلم ولا كيف عُلم. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أخبرونا هل القرآن شيء؟ قلنا : نعم هو شيء. فقال الجهمي: إن الله خالق كل شيء فلم لا يكون مع الأشياء المخلوقة وقد أقررتم أنه شيء؟ قلنا له: إن الله لم يسم كلامه في القرآن شيئا، إنما سما الشيء للذي كان. ويقال له: ألم تسمع إلى قولنا : قوله( إنما أمرنا لشيء)؟ فالشيء ليس هو قوله، إنما الشيء الذي كان. ثم قال أيضا: ( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) ليس هو قوله فالشيء: إنما الشيء الذي كان بأمره. ومن الأعلام والدلالات على أنه لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة قوله لملكة سبأ : ( وأوتيت من كل شيء) وكان ملك سليمان شيئا ولم توته، فذلك إذ قال الله كل شيء لا يعني كلامه مع الأشياء المخلوقة. وقال الله للريح التي أرسلها على عاد: ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) وقد أتت تلك الريح على أشياء لم تدمرها منازلهم ومساكنهم والجبال التي يحضرهم وقد أتت عليها تلك الريح فلم تدمرها فذلك قوله فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم. وقد قال : ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) فذلك إذا قال (خالق كل شيء) لا يعني نفسه ولا كلامه ولا علمه مع الأشياء المخلوقة. ومن الأعلام والدلالات عن الأشياء المخلوقة قول الله لموسى عليه السلام: ( واصطنعتك لنفسي ) وقال: ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) وقال عيسى : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) وقد قال: ( كل نفس ذائقة الموت ) وقد عقل عن الله تعالى أنه لا يسمى نفسه مع الأنفس التي تذوق الموت. وقد ذكر نفسه وكل نفس. فذلك إذا قال خالق كل شيء لا يعني نفسه و لا كلامه ولا علمه مع الأشياء المخلوقة ، وقد فصل الله بين قوله وبين خلقه حين قال: ( ألا له الخلق والأمر ) لم يبق شيء مخلوق إلا كان داخلا فيه، ثم ذكر ما ليس خلق فقال (والأمر) هو قول الله. فقال الجهمي: إن قول الله : ( ألا له الخلق والأمر ) واحد. قلنا : إن الله إذا سمى شيئين مختلفين لا يدعهما مرسلين حتى يفصل بينهما بواو، وألا تسمع إلى قوله : ( عسى ربه إن طلقكن إن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ) فهذا كله صفة شيء واحد فهو مرسل ليس بمفصل ، فلما ذكر ( ثيبات ) قال : ( وأبكارا ). فلما كانت البكر سوي الثيب فصل بينهما بواو. ثم قال : ( إن صلاتي ) ثم قال : (ونسكي ) فلما كانت الصلاة سوى النسك فصل بينهما بواو. ثم قال : ( إني معكما أسمع وأرى ) فلما كان أسمع سوى أرى فصل بينهما بواو. ثم قال أيضاًُ : ( لله الأمر من قبل ومن بعد ) يقول من قبل الخلق ومن بعد الخلق . وكيف يكون كلامه مخلوقا وهو يقول : ( إن هو إلا وحي يوحى ) ولم يقل إنْ هذا إلا خلق مخلوق. وقد سمى قوله قولا ، وسمته الملائكة قولا ، لم يسمه خلقا بقوله (حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق ) وذلك أن الملائكة لم يسمعوا صوت الوحي ما بين عيسى ومحمد ،صلى الله عليهما، وكان بينهما خمسمائة فلما أوحى الله إلى محمد صوت الوحي كوقع الحديد على الصفا، فظنوا أنه أمر الساعة ففزعوا فخروا لخوفهم ، خروا سجدا. وفي نسخة: لو جودهم فخروا سجدا فذلك قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم ، يقول حتى إذا أنجلى الفزع عن قلوبهم رفعوا رءوسهم قالت الملائكة بعضها لبعض (ماذا قال ربكم) ولم تقل ماذا خلق ربكم. ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: ما يأتيهم من ربهم محدث، وكل محدث مخلوق . فقلنا : أخبرونا أليس عالم بجميع ما في القرآن فمتى أحدثه بعد ما علم وقد أخبر أنه لم يزل عالماً. وإنما معنى قوله : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، إنما هو محدث إلى النبي عليه السلام ، وقد كان قبل ذلك لأن الله يقول : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) فأدراه الله وقد كان لا يدري ، فالقرآن إنما هو محدث إلى النبي ، وأما عند الله فلا يكون محدثا ، لأن الله - تبارك وتعالى - لم يزل بجميع ما في القرآن عالماً، لا متى علم ولا كيف علم . ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال: أنا أجد في كتاب الله آية تدل على أن كلامه مخلوق ، فقلنا: أي آية في كتاب الله تدل على أن كلام الله مخلوق ؟ قال : قول الله : ( إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ). فالكلمة التي ألقاها إلى مريم هي من قول الله : كن . فكان عيسى ، وليس عيسى كن ، وهو قوله. ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه، وقد ذكرنا كلامه في سورة من القرآن قوله : ( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ) وقوله : ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ). وقال الله لنبيه : ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) فأخبرنا الله أن النبي كان يؤمن بكلام الله. وقد قال الله في صفة مريم : ( وصدّقت بكلمات ربها وكتبه ) وقال : ( وإنْ أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) لم يعني حتى يسمع خلق الله، قال : ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ) . وقال : ( وكلّم الله موسى تكليما. وقال إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي ) فالكلام غير الرسالة فقد أخبرنا الله بخبر عن كلامه. ففي هذا بيان لمن أراد الله هداه. ثم إن الجهمي ادعى أمراً آخر فقال : أنا أجد أن كلام الله مخلوق . قلنا : أين وجدته ؟ قال : وجدته من قول الله : ( خلق السموات والأرض ومابينهما) ولا يخلو أن يكون في السماوات أو في الأرض أو فيما بينهما. فلعمري لقد تكلم بأمر أمكن فيه الدعوى، خدع بها جهال الناس. قلنا : إن الله يقول : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) فالحق لذي خلق به السماوات والأرض كان قبل السماوات والأرض. وقوله : ( فالحق والحق أقول ) . وقال : ( والله يقول الحق ) هذا خبر أخبرنا الله به يقول الحق ، والحق قوله، وقال : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) فالحق الذي خلق به السموات والأرض و الحق قوله. قلنا له : أخبرونا إذا كان كلامه مخلوقا وهو غير الله، فمن القائل للملائكة اسجدوا لآدم؟ ومن أمر الخلائق بالركوع والسجود؟ ومن أخبر عن من رضي الله عنه أن قد رضي عنه، ومن المخبر عن من غضب الله عليه أنه قد غضب عليه ؟ فإن كان هذا الذي يخبر عنه غيره. (كذا!!) وقد قال : ( عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ) وقال: ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) وكيف يكون غير الله مخلوق محدث يحكي ما قبله وبعده، وهو يقول : ( ألم تر كيف فعل ربك ) ويحكي عن الأمم فإن كان محدثا مخلوقا كيف علم الخبر من قبله أو بعده؟ فإن كان خلقا قبل الحكايات فكيف يعلم ما بعدها ما لم يطلع عليه بعده؟ وقال : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) فاللوح مخلوق فلما كان الكلام الذي خلق به اللوح كان قبل اللوح، فمن القائل للملائكة اسجدوا لآدم؟ الله بقوله الذي هو ؟ أم قوله المخلوق فهو القائل للملائكة اسجدوا؟ فقال: (لا يظهر على غيبه أحدا) ، أو متى خلق قبل أن يحكي للملائكة أو بعد؟ ويخلق كل ساعة إذا أراد أن يحكي عنه أو يوحي الكلام المخلوق؟ والذي يزعم مخلوق من خلق". ا.هــ وقال الشيخ محمد بن إبراهيم الكندي في (بيان الشرع 1/174-176) : "فصل في أن كلام الله قبل اللوح وقبل القلم : وأما احتجاجهم باللوح المحفوظ ، وقلتم : ما كان في اللوح المحفوظ فهو مخلوق ، وتأولتم قول الله : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) وقد أخطأتم التأويل لأن كلام الله قبل اللوح ، وقبل القلم، وقبل الرسم في اللوح المحفوظ ، أو فيما احتججتم في اللوح حجة عليكم وذلك أنكم قلتم أول ما خلق الله القلم والدواة واللوح ، فقال للقلم : أكتب ، فقال القلم : وما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، ألا ترون أن قوله أكتب قبل الكتابة ، وهو أمره . ثم زعمتم أن القلم تكلم ، فإن كان ما قلتم فقد تكلم القلم بغير لسان و لا جوف ولا شفتين. فلما قال : وما أكتب؟ كان أمر آخر ، فقال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فهذا قبل الكتابة، وهو كلامه وأمره وأن لكم في المصاحف كفاية عن اللوح المحفوظ قائما. إن القرآن مكتوب في المصاحف ، يرى إذا كتب ، ويسمع إذا قرئ، فأخبرونا هل يجوز لقائل أن يقول لم يزل الأمر لله، و لا يزال الأمر لله ، أو يقول : لله الأمر قبل أن يخلق الخلق، ولله الأمر بعد فناء الخلق؟ فإن قلتم : لا ، فقد زعمتم أن الله لم يكن له الأمر حتى خلق الخلق ، ولا يكون له الأمر بعد فناء الخلق ، فإن قلتم : يجوز لقائل يقول لله الأمر قبل أن يخلق الخلق ، وبعد فناء الخلق. فقد فصلتم بين الأمر والخلق، لأن الأمر كلامه ، والخلق خلقه.قال الله تبارك وتعالى: ( ألا له الخلق والأمر) فلما قال الإله : (الخلق) كان جميع الخلق داخلا في معنى الخلق. ثم قال: (والأمر) ففصل بينهما لأن الأمر كلامه.وقال : ( ومن يزغ منهم عن أمرنا) وأما احتجاجهم بقوله : ( خلق السموات والأرض وما بينهما) فقلتم : إن كل شيء بين السماء والأرض مخلوق ، والقرآن بين السماء والأرض ، وقد قال تبارك وتعالى : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) (فالحق) الذي خلق به السموات والأرض وما بينهما، غير (الخلق) الذي بين السماء والأرض، وكان قبل السماء، ويكون بعد السماء والأرض، وهو كلامه وهو خارج الأشياء. ومما يدل على أن الحق كلامه قول الله: ( والله يقول الحق ) (فالحق والحق أقول ) فالحق كلامه، وبكلامه كانت السماوات والأرض وجميع الأشياء ، ولو كان على ما قلتم لكان: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما (و) الحق. فلما قال : (بالحق) عرفنا أنه خلقها بأمره، وأمره كلامه. وقال : ( ولقد خلقنا السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام ) فالأيام الستة التي كون فيها السماوات والأرض كانت قبل السماء والأرض ، أما سمعتم للسماء والأرض (ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) وإنما أجابت بعد ما أمرت. وقال الشاعر في الكلام ، وبلغنا أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يرثي النبي صلى الله عليه وآله وسلم شعرا: فـقـــدنا الوحي إذ وليت عـنـا *** وودّعَنا من الله الكــــلامُ سوى ما قد تركت لنا رهينا *** تضمنه القراطيس الكرام (في المطبوع :القراطيس الكلام، والتصويب مما بعده. أبو المظفر) ولو كان معنى الكلام معنى الخلق لم يقل (وودعنا من الله الكلام .سوى ما قد تركت لنا) لأن الله خلق بعد وفاة النبي ، صلى الله عليه وسلم، خلقا كثيرا ، وهو أيضا حجة على من زعم أن ما في المصاحف ليس بقرآن. ألا تسمع قوله: سوى ما قد تركت لنا رهينا *** تواريه القراطيس الكرام فأخبر أن القرآن في القراطيس". أ.هــ |