06-17-2012, 03:12 AM
|
|
الدلال | | | | الدلال من فرط اهتمامي بمهجتي ، والسهر على راحتها ، وتوفير معظم طلباتها، ألفت الاتكال والكسل ، وركنت إلى عيش الرفاه والدلال . فشبت عن طوق العوائد ، وأضحت بارعة في التسديد واقتناص الطرائد . لما أخذت أشعرها ببعض واجباتها ، ضاقت بالعيش معي . وتاقت لتقيم في فضاء طليق ، لا تسيجه جدران ، ولا تظله سقوف . ولا تقيد الحياة فيه ضوابط ولا قواعد . فتوقعت العثور على السعادة بين أحضان المرح . وعلى اليمن في وسائل جلب النفع والمتعة . والحرية كامنة في رفع الحرج ونزع الكلفة . تود أن تغدو وتروح بلا مراعاة ، ولا اعتبار ، ولا وقوف عند ما رسم الكبار . اغتنمت أول غفوة أخذتني فيها سنة إلى هدوء استرجاع الأنفاس ، استعدادا لاستئناف السعي ، فهرولت ، ونطت سابحة في فراغ مدلهم . تشدو ترانيم الفرحة ، ترفرف بأجنحة الفراشة المبهورة بضوء المصباح . تملأ الفجاج الخالية بذبذبة الصفير .ترقص في مناسبات لا متناهية . تتعقب أسراب الخفافيش المفزوعة ، النائمة في حضن مقلها . تقطع المسافات الخيالية في لمح البصر . تفقدتها . أجهشت بالندم . تتبعت أثرها . بعثت في أثرها شرارات مقلتي . إلى أن وجدتها تواسي غصنا يتيما مصلوبا ، تدلى رأسه واندلقت اطرافه ، فغطت وجه صخر سقيم ، مقيم على حافة المنحدر السحيق ، ترتجف وريقاته تجاوبا مع هبوب ريح لافح ، فبدا المصلوب كمن يبعث إشارة المودع المحتضر . صك سمعها غرغرة الأنين .فانتقلت وقصدت أهذاب خيوط مرجانية متلألئة ، مدت أعناقها جسورا تمر عبرها قطرات ماء زلال منعش ، ملفوفة برداء الأشعة المتسللة عبر الشقوق . يبدو أنها تاهت في نشوة بين نتوءات صخورالمنحدر ومنعرجاته. شروق يومها تنكر للمغيب . فأصبح نهارها سرمديا ، وليلها غارت نجومه فتوغل في بيدائه . ترى الهوة سحيقة ، وتجد الفضاء شاسعا . لمحت ومض لهفتي يجوب أفقها ، فتنكرت له ، ولم تأبه به ، ولا أعارته أي اهتمام . لا ترغب في الالتفات إلى الخلف . بهرتها ألوان الطيف ، فذابت وسط ركام السحب . ملأ صدى صوتها المكان ، مرددا : أتوق إلى الإبحار بعيدا ، لترميم أنامل الشعاع ، وإعادة ترتيب خيوط نسيج الهلال . فأجبت قائلا : لا مناص من رشق الألم وتجرعه ، وازدراء مغصه . لم تعد الأمواج بعدها رحيمة بقاربي المرتجف. . غرق الاسطرلاب ، تعطلت البوصلة ، عبثت الرياح بأضلع الشراع ، مزقت السنون أرديته . ووارى قصف الرعد جثث ذكرياتنا ، ولم يبق سوى الترنم بعذوبة رجع صوتها ، كهدير . انتابت أطرافي رعشة الملسوع بقر السموم ، تيقنت من حصول أمر جلل ، فهمست أنا في أذني : قررت أن ألحق بها ، لا عيش لي بدونها . وضعت كفي فوق صدغي ، أغمضت عيني ، أغلقت منافذ حدسي ، استلقيت بقفزة خلفية من شاهق وسط أمواج الظلام الدامس . ملأ الريح جوانحي ، أخذت طريقي عبر سفوح المنحدر المترامي في الأفق ، الممتد على مساحة مد البصر . السرعة جنونية فاقت كل تقدير ، توقفت معها دوالب التفكير ، وتعطلت أدوات التوجيه والتحكم . حتى عانقت أديم الردى ، ووقعت بعنف على حافة أكمة صلدة ، فتناثرت أطرافي ، وانتشرت شظاياي في الأرجاء . شاهدت في المكان أكداسا لأذرع ممزقة تنزف دما فائرا ، ولأرجل حافية مبتورة الأنامل ، وأسنان حادة شرهة متآكلة ، وبقايا آذان متسترة تسترق السمع في حذر ، وبقايا ألسن تئن بصوت خافت ، تستغيث وتلح .. ولا مجيب ... |
| | | | | |