الغربة
عشت طفولة هادئة ، أتلمظ عذوبة المتعة في أحضان البر والمودة .
ترعرعت الفرحة بجانبي كفرد من العائلة .
أوكد عمل لي ، التمسك بتلابيب الدراسة والتحصيل .
كنت ميالا إلى بعض المناهل على حساب أخرى ، أفضل لحظات التربية الرياضية ، أود لو استغرقت سحابة يومي وهزيع ليلي .
ارتقيت سلم العمر بسرعة البرق ، أخطو على بساط العقد الثاني .
بعد يوم متعب ، زارتني سنة أمام مائدة شهية ، أخذتني في جولة مريحة .
اخترت قدوتي من صدر بيتي . بدأت أبصر ما حولي . أميز خيوط الضوء المتسللة إلى أعماقي ، تجوب بيسر ، ممتطية زفير أنفاسي ، تعم كل جسدي .
تغمرني فرحة الإقبال على لون حياة جديد .
امتطيت صهوة الغربة في يفاعة سني ، وعلى مقربة من نضجي .
ينازع فرحتي لهفي على وسطي .
أذكر حين لوحت بيدي معلنا رجفة الرحيل ، لمحته نفث زفيرا أشعل الحرائق في كل سبيل ، وأطرق متماسكا ، رافضا إبداء ملامح من يجهش أسفا على فراق ، يحث النائحات على العويل .
انزوت فرحتي واختفت تحت أسارير الدهشة الخانقة ، وأخذت الألوان التي تستشف في داخلي تتوارى مستسلمة لهبوب العتمة الكاسحة .
بدأت أقلب اختياراتي ومنها اعتذاري لغربتي ، والتخلي عن مشروعي الطافح .
أغدو وأروح على مسافة الرصيف ، بين مشيع متميز وقارب متحفز .
غربتي مصرة على الرحيل ، أخذت تربت على كتفي ، تنضو عني غبار التردد .
انتشلتني بقوة من عالمي المسيج بعادات مثقلة بالطقوس ، انزلقنا إلى جهة الوضع البديل .
أبحرت أجدف بين أمواج المفاجآت المتتالية . جعلت التيه نصب عيني . خلفت ورائي أحلامي الصغيرة . توجهت نحو أسراري الدفينة المتوارية خلف أستار الغفلة .
سافرت في سكينة ، أناجي دؤابات الفلق الطالع ، أستانس بخيوط الضوء اللائحة من ظل عتمة المجهول الزاحف . تحدوني أحلام سامقة كأشجار الآمال المديدة . أطرح بعيدا أوراق الخريف ، المتساقطة من شجرة أيامي العنيدة . أنشر ذكرياتي على الرصيف أمامي ، أشذب أطرافها التي جفت ، وأصون الباقي بين جوانحي .
أتمدد في عراء البيداء الشاسع ، أحاكي صفير الرياح ، أسير عدوا إلى أبعد من مدى الصياح . يسوقني كلام تفجر نبعا من داخلي ، ملأ شراييني دما فوارا ، يفيض سناه على الوجنتين .
استبدت بي غربتي ، حجبتني عن شهوة الشهود ، تدروني بلطف مثلما يدرو النسيم رذاذ السحب .
مدت جناحها مطية ، تسلقت مدارات النجوم ، اخترقت سدم الغيب ، قاومت الهواجم بترس الوجوم .
الكواكب تجري ، وأنا بين منعطفات مداراتها أمشي ، بلا أشباح ولا ظلال . أطرق أبواب الأقمار المشرعة على كل احتمال .أستشف العصارة من غمام المآل .
أطفو فوق سطح متاجج بلهيب أعماقي . تظل عيوني يقظى ترقب مرور يد الساقي . فيكف شروقي عن الغروب المعتاد بالديار . وأمحو من عاداتي توالي طلعة الضياء وذبول الأقمار .
حيث كان طفلنا يشيخ ألف مرة بين الليل والنهار .
وتوءد أحلامنا قبل استقرارها بخلد الإنسان .
ولا تسمع غير أنين الخطى المتعبة المترهلة . ولا ترى سوى شباك الصيد في المياه العكرة .
ولا تتعامل إلا مع الذين يكذبون كما يتنفسون . يغتالون البسمة ومن دمائها يمتحون .
يشيعون الموتى والأحياء معا إلى مثوى النسيان .
انتصر الطبع ، فلفت شجون العادة مضجعي .
وشدني الحنين إلى الأوجاع القديمة المغردة في عرائشي الدفينة ، فهممت بالنزول عبر مهاوي الإشفاق .
علمت غربتي فدنت وزمجرت :
من زارنا صار منا ، وكل ملتفت إلى الخلف نشنقه بحبل ارتداده ، ونمثل بمشكاته على أبواب مدينته . ثم نرتقها في لجة الاختراق بعد الاحتراق .
طأطأت مصغيا .... تملكني رعب غريب .
سحبت روحي من ظلمتي ، أفرغت أكداس ذكرياتي وبعثتها لتعبث بها أجيال الرياح .
طفقت أجثو بلا جسد ولا ألم خارج طيفي . أنسج من ومض البرق رداء لحظة حتفي .
أحجب وجهي بكفي ، أحضن الظلام ، أحتمي بحلكته ، أنتظر مصيري .
فسمعت من ناداني من بعيد . صوت خافت كأنه يصدر من قعر جب عميق .
تصورته الموت قادما في جثة يتحرك .
وأنا أرنو متلهفا في اتجاه الحياة .
تلك غنة صوت أمي ، توقظني لأستعد للاتحاق بمدرستي .
انتفضت بسرعة . أخذت نفسا عميقا لتعبئة رئتي .
سحبت جسدي من سريري .
تلمسته ... إنه شاخص كخشب عنيد يتحدى آلة النشر .
أبحث عن يقظتي .
دعوت ابتسامة باردة وسألتها :
هل كنت في حلم ؟
أم الحلم ما حل بي بعد استيقاظي . . . ؟