القاهرة 17 سبتمبر 2012 الساعة 11:06 ص

الغراب فوق الشجره يتأهب للطيران، الشمس الضوضاء تنفرط فى شوارع الناس والسيارات.
الضوضاء نعيق غراب وكلاكسات سيرات وصراخ.
مع الشمس يعم النور وحرارة الصيف الخانقة تصهر الأسفلت.
منتظرا كل صباح .. الميدان نصب تذكارى للجندى المجهول ، ومستشفى المبرة وجامع الفتح بمئذنته التى تحتضن الشمس ، ونافورة تطل على كورنيش البحر ، كلما رأيت رجلا يرتدى جلباب أحدق فى وجهه ، اتابع بنظراتى حتى يتلاشى ظله فى الزحام وسؤال يردده الميدان ......
- هل يجئ الغائب بما وعد ...؟
- وفى النور.. تبدد الظلمة .. وتدب الحكة والضوضاء فى الشوارع، تمتلى الأرصفة بالناس والباعة الشحاذين ، ورجل طويل يرتدى جلباب كحليا ، أصوات تتسلل إلى الآذان حاجه لله يابيه.. ربنا يكرمك ...!!
تفحصت وجهه مندهشا ، أناقته تؤكد أنه ابن عز مرمطته الأيام ، رق قلبى إليه رغم حرارة شمس الظهيرة نقدته جنيهين "فكة" وجدتهما فى جيوب ملابسى..
حدق فيهما شذرا قاطبا حاجبيه الكثيفين وردهما إلى ...
مش عايز حاجه .. هو أنا بشحت منك ولا إيه ..؟!
ربطت الدهشة لسانى من رد فعله الغريب ، لم اتملك نفسى أمام الدريكسيون " توقف ماتور السيارة ساخرا ، بانفعال وغضب مددت يدى واخزتهما متجاهلا رد فعله ، أدرت المفتاح استعداد للسيرإلا أنه اقترب من النافذة اليمنى قائلا بنبرة استعطاف ماتغضبش يا أستاذ ... ممكن استسمحك توصلنى عند جامع الفتح بتلقائيه انفرطت الكلمة من فمى ...قوى ..قوى اتفضل ...
فتح باب السيارة وجلس إلى جوارى ...
لا مؤاخذة يا أستاذ قلة زوق منى ..
حصل خير..
انطلقت فى طريقى متسللا بين سراب السيارات فى شارع الجلاء،
لم اعره اهتماما بالقدر الذى يؤهلنى لمجاراته فى الحوار ، مافعله ترك أثرا سيئا نحوه ... توصيله وخلاص .. ما بداخلى استنهض عاطفة تتملكنى كلما رأيت هذه النوعية من الناس التى ملأت شوارع المدينة من أطفال ورجال ونساء ينقبون فى صناديق القمامة عن كسرة خبز أو بقايا طعام .
أخرجت من جيب القميص عشرة جنيهات دستها فى جيب جلبابه لكنه بغرابة شديدة ردها إلى ورفض رفضا قاطعا متوسلا ...
أرجوك بلاش... حضرتك مش فاهم قصدى كنت عايز أشوف مبرر علشان أكلمك على فكره أنا جايلك مخصوص....
على العموم كتر خيرك ..! اثارة كلماته الملغزة حاسة الترقب والفضول التى اكتسبتها من مشاهدة الأفلام البوليسية وقراءة الألغاز وعقدت العزم على اكتشاف ما وراء عبارته المبهمة..

_بتقول آه..!!
_أنا جايلك مخصوص بالبشارة ..
_البشارة ...!!
مؤكد أن هذا الرجل يستخف بعقلى أو ربما يهذأ بى، وقد يهزى بخرافات وهلاوس صورها له البانجو أو نتيجة تعاطيه حبوب الهلوسة التى أدمها الشباب هربا من الواقع والمسؤوليات الحياتية.
جعلته يوادى حركات بهلوانية ولا يدرك مايقوله تصارعت وساوس الحيرة والقلق الداخلى ، وسرت رعشة أصابت بدنى بقشعريرة جعلتنى اتوقف على جانب الطريق .. ناظرا إليه ، اتفحصه... هل هو بشرا مثلنا ..؟أم ملك تمثل لى بشرا.. أو قد يكون جنيا..؟!!
تعوذت وتلفت عن يمينى ويسارى.
ربنا يخليك كفاية هرش دماغ أصلى العملية مش مستحمله..
الواحد مش ناقص لخبطه .. غلاء معيشه وانفلونزا طيور واشى خنازيروتيفود وطاعون وبلا أزرق ومكتفوش بكده مصلطين علينا التجار يمصوا فى دمنا باحتكار السلع لما بقت نهيبه وملهاش صاحب ...؛
صدقنى أرسلونى إليك بعد أن وقع الاختيار عليك ودرسوا حالتك جيدا.
مين ياعم الحج .. أبوس إيدك كفاية هرش دماغ وسيبنى فى اللى أنا فيه بلا خوتة رأس أنت بتشتغلنى ولا إيه ...؟!!
شفتك بشحمك ولحمك .. مواصفاتك فى الكتاب... عينيك.. نبرة صوتك .. قلبك الطيب .. وأكدوا أنك أحق الناس بصحبتى فى الرحلة ...
رحلته أيه ياعم بلاش هرتله ولعبكة فى نافوخى ... الحكاية مش نقصاك!
عايشين ومستحملين الغلة والمرار _ رضينا بالهم والهم مش راضى بينا _ على العموم نحمده ونشكر فضله على نعمته ... مقدر ومكتوب...!
محدش بيأخذ أكتر من نصيبه يابنى وعشان كده أنا جايلك .. أنا نصيبك ورزقك بعد ما وقع عليك الاختيار ..
ياراجل قول كلام غير ده .. إنت بتقول إيه .. ؟ مين دول ..؟!
قول وغير..؟!
أرسلوا إليك بمفاتيح السرعلى أن تطيع أمرى ولا تجادلنى فيما لم تحط به علما ، ولا تحدث الناس بما أخبرتك ... فاهم ؟
أولى درجات بلوغ السن الكتمان إذا أفصحت فضحت ولم تنال من الأمر شيئا...
السر الذى أخفيه عنهم هو أننى طماع، نعم طماع ، والطمع يقل ما جمع وما جمعته طوال هذه السنوات 40 ألف جنيه رضا من الله... بس يامين يرجعهم لي وادي له الحلاوة ..؟
رجل يرتدى جلباب كحليا طويل العود على رأسه عمامة بيضاء، عيناه العسليتان تشعان بريقا يخطف القلب ، ذو شارب أسمر مهذب متصل بلحية مخضبة بالبياض ، وبشرة قمحى .. من يراه يدلنى عليه ، والأجر والصواب عند الله ياخلق ...!!
أخذت حديثه مأخذ الجد وتيقنت أنه اصطفانى عن غيرى ، أو ربما يقصد شخصا أخرا يشبهنى وأخطأ العنوان ،تداعت فى رأسى صورا غير واضحة المعالم " غلوشت " على تفكيرى .طنين ضوضاء الزحام اختلط بوشوشات التوجس والخوف ..
ركنت السيارة على جانب الطريق فى ميدان المبرة إلى جوار رصيف النصب التذكارى قبل أن يهم بالنزول حدق فى عينى بنظراته النارية ، حقنتنى بمصل الرهبة والفزع، اقنعنى بسماحة وجهة ومسحة ورع وتقوى نورانية لمعت فى حدقتيه بريقها،رأيت مخلوقا يقفز فيهما، شعرت بحرارة الشطة تلتهم عينى،تراخى جسدى المنهك بالتعب واستلاب إرادتى ، لم أقو على تحمل نظراته.. فركت عينيا وفنجلت ناظرا إليه ، رأيته يخرج من جيبه منديل قماش نفخ فيه وغمغم بكلمات غير مفهومه ، قال بصوت أجش ...
سأريك ما لم تسطع عليه صبرا ...!
قلت بثقة وكبرياء ..
لن تهزنى ملاعيب شيحة بتاعتك ، ولا شغل الأبالسة ، أفعل ما تستطيع وسوف أبطل مفعول سحرك..
ضحك بقهقة سخطتنى ومد يده إلى الموبايل قابضا عليه ، عزم وقرأ طلاسم ، وتنفس شهيقا وزفيرا وحشرجات ، أحمرت عيناه وسالت منها الدموع ، تثاءب وانتفض جسده ...
وهو الذى أنزل من السماء ماء
أزدادت دهشتى لهول ما رأيت ،قطرات من اللبن تتساقط فى كفه اليسرى ... قيدنى الخوف والحيرة...
كيف فعلت هذا ...؟!
ألم أقل لك لا تسألنى عما لم تحط به علما..!
حاولت استيعاب ما أراه وافسحت مجالا للتخيل ، عندما أمرنى باحضار حفنة من التراب وقال:
أقبض عليها جيدا ولا تفتح كفك إلا إذا أمرتك..
ملس بكفيه على يدى وأغمض عينيه ، عزم وقرأمن ذاكرته ..
أمرنى بلهجه واثقة..
افتح كفك .
دهشت حين لم أجد أثرا للتراب كيف فعل ذلك ..؟ يبدو أنه على دراية فائقه بفنون السحر ولديه مهارة سرقة الكحل من العين لم يكتفى بما فعل وامرنى باحضار " زلطه " من الأرض أخذها من يدى ومسحاها ووشوش إليها وأعطاها لى قائلا ...
ضعها فى فمك واستحلبها.
ذابت فى فمى كما لو كانت حبة كرمله أو بمبوناية ، واخرج المنديل من جيبه وقام بعقده أكثر من عشرين عقده حدق فيه دقائق قائلا ....
يامفرج الكرب ..
بدأت العقد تنفك الواحده تلو الأخرى ...
قد تكون انفراجة من السماء على يد هذا الرجل انعم الله على بها .. وتنفك عقدتى .. يا عالم بالحال واليك السؤال ... فاجأنى..
معاك كام ...؟
كل رأس مالى أربعين ألف جنيه تعب السنين اللى فاتت كلها وكام جرام دهب للولية.
أخرجت كل ما معى من نقود وأعطيتها إيها، نظر إليها .. مئتا جنيه وبعض عملات ورقية و فضية .. ولما تأكدمن طمأنينتى إليه رفض أخذهما قائلا ...
الأن سأكشف لك السر الذى لا يعلمه أحد ... أنا عارف انى معاك فلوس كتيروذهب فى البيت خذنى معاك وسوف ترى مالم تكن تتصوره فى حياتك ويطرح الله فيه البركة ويتحول بأذن واحد أحد إلى مليون دولار من الورق الأخضر الجديد.
سرك فى بير ياسيدنا الشيخ...
أخذته معى إلى المنزل وتركته وحده فى السيارة أسفل العمارة ،
جمعت كل مافى المنزل دون أن أفصح لأحد عن السر حتى يتحقق المراد فرد المنديل ووضع الفلوس والذهب فيه .. أربعون ألف بالتمام والكمال ومصاغ زوجتى ...
قال ...:
استطيع أن أحولها اضعافا مضاعه من الورق الأخضر خذنى إلى جامع الفتح لو سمحت ، هناك سوف تتحقق النبوءة وتنال المراد ...
ورق أخضر إياه بلا تخريف ..
مليون دولا ياأستاذ فى انتظارك .. هدية من السماء لك أنت ، مواصفاتك وشكلك ولونك ...
أبوس أيدك ياعم الحاج كفاية هرش دماغ و سيبنى فى إللى أنا فيه بلا خوتة رأس أنت بتشتغلنى ولا إيه ...؟!! ما بلاش هرش دماغ..!
شفتك بشحمك ولحمك.. مواصفاتك فى الكتاب... عينيك... نبرة صوتك .. قلبك الطيب.. وأكدوا أنك أحق الناس بالهدية..
ياعم الحج قول وغير ورق أخضر إيه.. ومليون إيه.. وهديه إيه ؟ إشمعنا أنا من دون الناس ...!!
وفى المساء يعم الظلام ، وتعمى العيون ساعة القدر.
والقدر نبوءة وبشارة ، والبشارة مال فى الطريق إليك ، والمال ورق أخضر ( رزم من الدولارات ).. ومع المال تتوه العقول وتتحكم فينا الأحلام، وحلم الجوعان لقمة عيش.
ولقمة العيش دولارات فى الطريق، وأمام الجنيه تستلب الإرادة..
فما بالك فى الدولار الذى يتحكم فى الشعوب ... يسود الصمت حتى يجئ المغرب انتظارا لتحقيق النبوءة..
حين وصلنا إلى الميدان أمرنى باخراج مامعى من نقود ووضعها فى صرة المنديل مصر على وضع العملات الفضيه الفكة دسها فى جيبه ،وبدأ يعزم بعبارات غير مفهومة وأمرنى بالنزول مخرجا زجاجة المسك ومسح بها على يدى ...
بحق السندل والمندل افتح عطاياك على عبدك الفقير.. خلاص قبلوا الهدية وبعد دقائق سوف تصبح مليونيرا أذهب وصلى ركعتين لله ولا تنظر خلفك ، وجاهد نفسك، ولا تخالف أمرى ..
نزلت من السياره قاصدا باب المسجد ابتعدت عدة خطوات ، استغرقت ثوان ، ولما توجست ودب القلق فى صدرى التفت خلفى لم أجده، انشقت الأرض وبلعته أو كأنه فص ملح وذاب ،
بحثت عنه فى كل مكان.. ماذا أقول لهم ..؟
ماذا لو سألونى عن الفلوس... ؟!
سوف أقول لهم خسرتها فى البورصة..
الشارع والضوضاء، نور المصابيح المطلة على الميدان يمطر بالصمت ، والصمت انتظار القادم بالبشارة ولا يجئ، عمامته الملفوفة فوق رأسه طبق من نور، ووجه بشوش لا يمكن أن يخدعنى ، الرجل غريب طيب ذو صوت حنون .. والغريب أعمىو لو كان بصير .. الرجل طويل ... يرتدى جلبابا كحليا من يراه يدلنى عليه ياولاد الحلال ..
لذت بالصمت ... ربما يجئ .. ابحث عنه محدقا فى وجوه الناس، والضوضاء تقهقه ساخرة ..
ياحول الله الرجل طار عقله ...!!
منتظرا حتى المساء .. والفرحة لم تتم ، أخذها الغراب وطار
اقصد الغريب الذى يلبس جلبابا كحلي، طويل العود على رأسه عمامة بيضاء ، عيناه العسيتان تشعان بريقا يخطف القلب، ذو شارب أسمر مهذب متصل بلحية مخضبة بالبياض ، وبشرة قمحى .. ومن يراه يدلنى عليه والأجر والصواب عند الله ياخلق..!
الميدان نصب تذكارى للجندى المجهول وأعمدة كهرباء تغرقه بالنور، ومبنى مستشفى المبرة ومئذنة جامع الفتح ابتلعتها ظلمة الليل، أشجار الفيكس اشباحا تلتف حول نافورة صامتة، تذرف دمع الجفاف ، كلما رأيت رجلا يرتدى جلبابا أحدق فى وجهه ، أتابعه بنظراتى حتى يتلاشى ظله فى بحر الظلام...
هل يجئ الغائب بما وعد ..؟!
يظل الهاتف يهرش فى دماغى إنه قادم لا محالة، ابتلعنى الصمت وغبت عن الوعى ، لكن طيفه الذى يراودنى بدأ يتلاشى مع مرور الوقت، والغراب يحلق بجناحيه فوق رأسى وينعق مخترقا سراب الفضاء الواسع..
مؤكدا أنه لن يجئ ...!!
لكن ترى هل يجئ الغائب بما وعد ..؟!!
وماذا سيجرى لو جاء ...؟!!
http://www.misrelmahrosa.gov.eg/sect...87%D8%A7%D8%AA

مشكووووووووور

مشكووووووووور

__________________
-