القاهرة 06 اكتوبر 2012 الساعة 12:23 م

حلقات يكتبها:سمير الجمل

الوطنية لا تباع ولا تشتري.. وعندما يكون الولاء الأعظم لله سبحانه وتعالي. ثم لتراب وطنك.. ثق أنك ستأخذ من الشرق أفضل ما فيه.. ومن الغرب أحسن ما عنده.. ثم تكون لك في نهاية المطاف وجهة نظرك الخاصة ومنهجك الذي تؤمن به ويحقق لك التميز والتفرد في مجالك..
في عام 1953 كانت هناك ترشيحات لبعثة تدريبية بالولايات المتحدة الأمريكية.. وتقدم لها وخاض امتحانها مع غيره. وكان أفضلهم وأقربهم إلي البعثة. لكنها لسبب أو لآخر ذهبت إلي غيره.. لقد ابتعد الشاذلي عامداً عن ضباط الثورة في فترة تقسيم الغنائم والمناصب بعد الثورة.. كان ينظر إلي ما هو أبعد من ميزة يحصل عليها.. ويفقد لأجلها أهم ما يتميز به. نظرته البعيدة للأمور. حيث العسكرية عنده قبل كل شيء. وبعد كل شيء.. وهي كل شيء.. كانت البعثة لدراسة فنون المظلات.. وهو الذي تم تكليفه بعد ذلك بإنشاء أول فرقة مظلات في مصر. وبدأ التدريب عليها لكي تستعرض فنونها أمام جمال عبدالناصر في العرض العسكري الذي سيقام في 23 يوليو ..1954 وتسمي قوات الصاعقة. المظلات بسلاح الأقوياء والأشداء. وأشهر المدارس التدريبية في أمريكا وانجلترا وفرنسا. وأشهر الوحدات: نافي سيل. صقور الجو. رجال البريهات الخضراء. رينجرز. إس. أ. إس. دلتا فورس. رينبوسكس.. هذه كلها دورات رفيعة المستوي التي تقوم بما يسمي العمليات الخاصة.
وللأسف هناك خطأ كبير وقعت فيه بعض مواقع الإنترنت وأيضاً كُتَّاب المقالات. عندما تجاهلوا أن مؤسس المظلات هو سعد الشاذلي. وليس أحد الضباط برتبة ملازم.

والثابت أن الشاذلي في هذا الوقت حصل علي رتبة رائد.. وهو من أول من حصل علي فرقة رينجرز. وهي مدرسة المشاة الأمريكية. وكلمة رينج معناها قاطع المسافات الطويلة. وهم الرجال الذين كانوا يحرسون القوافل الأمريكية من الغرب للشرق. أو العكس.. بعد ذلك ذهبت مجموعة أخري للحصول علي نفس الفرقة منهم جلال هريدي..
ومن التحقيق في الموضوع. وعبر العديد من المصادر. اكتشفت أن سبب تجاهل اسم الشاذلي في تأسيس فرقة المظلات راجع لوجود المقدم أحمد إسماعيل قائد كتيبة هريدي.. وهو نفسه المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية. والمعروف أن بينه وبين الشاذلي خصومة.. ولها قصة سوف نقف علي تفاصيلها.

ثم إننا سنجد أن أحد أبطال المظلات الأوائل الشهيد إبراهيم الرفاعي الذي انضم إليها وهو ملازم أول. والنقيب نبيل الوقاد. وهو شقيق الكابتن محمود بكر المعلق الرياضي الشهير. وبعد المظلات أنشئت الصاعقة التي أصبحت عالمياً في المركز الثاني. بعد صاعقة الهند التي تأكل لحوم البشر الموتي. وكانت قوام المظلات في أول أمرها تسمي بشياطين الجو. وأنشئت أول كتيبة أيام الوحدة مع سوريا. وكانت "75" وأخري في سوريا هي "76". وقد عادت الأخيرة إلي دمشق بعد الانفصال.. وبعد ذلك تأسست الصاعقة وتم ضمها إلي المظلات فيما يعرف بالقوات الخاصة.

وهنا يكشف الفريق الشاذلي لأحمد منصور في برنامج "شاهد علي العصر" لقناة الجزيرة. كيف ذهب إلي أمريكا وهو يحمل رتبة الرائد.. ووقتها كانت مصر بعد ثورتها مباشرة بأشهر قليلة.. وعلاقتها مع أمريكا الدولة التي بدأت تتصدر المشهد العالمي. علي حساب الإمبراطورية الإنجليزية. التي غربت عنها الشمس.. وكان الضابط الشاب يعرف أن المجتمع الأمريكي الذي يعيش وسطه لا يمثل قيادته السياسية. ويعترف بأن الشعب الأمريكي بسيط في تعاملاته. ومن الممكن الاندماج معه بسهولة. وكان يُطلق علي الضابط المصري أنه حليف. ومع ذلك في بعض المحاضرات كنا كشرقيين يتم منعنا منها.. وقد استفاد من تلك الدورة التي ذهب لأجلها.. وكانت تجربة مثيرة لأن سلاح المظلات لم يكن معروفاً في مصر. وفي أغلب الدول العربية.. ورجاله كما هو معروف.. صفوة العسكريين.. وهذه الدورة لم يحصل عليها مصري قبلي سوي حسين فهمي عبدالمجيد. ولكنه لم يستمر في المظلات بعد عودته.. وللأمانة مثل هذه الدورة التي تضيف إلي الشخص خبرات خاصة تجعله يشعر بالكبرياء.

وحتماً سوف تزداد درجته بعد العودة إلي مصر..
وتلقي الأمر من جمال عبدالناصر بتأسيس سلاح المظلات بعد أن كانت مجرد وحدة صغيرة.. وعندما أقول عبدالناصر فإن ذلك تم عن طريق القيادة العسكرية. لكن بموافقة رئيس الدولة. وأصبحت أنا قائداً لأول كتيبة مظلات. وعرفت أن احتفالات الثورة سوف تشهد عرضاً أمام الرئيس. وكانت الكتيبة مجرد سريتين. ولم تكتمل قوتها. ومع ذلك كان الاستعراض دافعاً للانطلاق. وهدفاً نريد أن نصل إليه بنجاح. وكنا نجري يومياً 3 كيلومترات. ونعمل استعراضاً بالخطوة السريعة. والتقيت مع قائد منطقة القاهرة وهو اللواء نجيب غنيم.. وشرحت له برنامج الاستعراض.. وكان المطلوب أن يتم إخلاء ميدان العرض.. حيث تمشي القوات البرية. ومن خلفها الدبابات.. وخشينا أن تظن القيادة أن هناك خللاً في البرنامج بسبب لحظات الصمت هذه بين قوات تمشي بخطوة عادية. وأخري ستمشي بخطوات سريعة. ومع ذلك مرت اللحظات بشيء من القلق علي الحاضرين. ثم بدأت الموسيقي تعزف بما يتناسب مع خطواتنا بإيقاعها الخاص.. ونجحت الفقرة.. وأصبحت هذه الخطوة السريعة مرتبطة بقوات الصاعقة والمظلات. وهذا ما يميزها عن سائر القوات.. ونقلتها الدول العربية فيما بعد. وكانت الكتيبة رقم 75 هي الرائدة.

ولنا هنا أن نسأل: لماذا تجاهلت مواقع الإنترنت التي نقلت عن بعضها البعض اسم الشاذلي. وهو قائد الكتيبة. مع أنها ذكرت رقمها.. إلا أن تكون المسألة متعمدة.

وعلينا أن نعرف دور المظلات. والناس تعرف أن المظلة يُهبَط بها من الطائرة العسكرية. مستخدماً الباراشوت. أو "المظلة" وبها ينزل خلف خطوط العدو. وبذلك تستطيع ضرب خطوط المواصلات. ومراكز القيادة. ويمنع الاحتياطي من الوصول إلي القوات البرية.. وعليه أن يعتمد علي نفسه لمدة 24 ساعة. حتي يلتحم مع قواته البرية.. ولذلك يتم تزويده بسلاح وذخيرة وتعيين "غذاء « ماء".. وبهذا المنهج عملنا في الإعداد لحرب أكتوبر 1973. حيث تصورت أن تكون عملية العبور الأولية باستخدام المظلات. تلحق بها قوات المشاة قبل الدبابات والأسلحة ب 18 ساعة. وبالأرقام والأوزان حسبنا ما يمكن أن يحمله الجندي. وما أقصي مدة يمكن أن يقطعها سيراً علي الأقدام بالحمولة الواجبة من أسلحة وعتاد ومؤنة.. ولذلك تكون نسبة المخاطرة بالنسبة لجندي المظلات عالية. ولابد لذلك من تدريب خاص.. فالطائرة التي يستقلها معرضة للضرب قبل أن يهبط منها.. وهو أثناء نزوله يمكن للمدفعيات أن تصطاده.. فإذا نزل سالماً من الممكن أن تتأخر عليه القوات البرية المنتظر أن تلتحم به. وبدلاً من أن يستمر 24 ساعة. يجد نفسه في حسابات أخري قد تصل إلي 48 ساعة أو أكثر. وعليه أن يهييء نفسه بما لديه.. حتي مخاطر المظلات قائمة وقت السلم أثناء التدريب العنيف الذي يتعرض له الجندي وأبسط احتمال أن تخذله المظلة ولا تفتح معه في التوقيت المناسب.. ومع ذلك يشعر الجندي بالزهو لأن اختياره تم بالانتقاء.. وقد يتهمه البعض بالاستعلاء والغرور علي زملائه الجنود. كما أن ملابسه متميزة بألوانها وشكلها. ونحن ندربه علي أن يفصل تماماً بين الإحساس بالثقة. وبين التكبر.. وهنا لابد من العقلانية.

سؤال خاص
** وعندما سألوا الفريق الشاذلي عن الأزمة التي وقعت بين الرئيس محمد نجيب والرئيس جمال عبدالناصر في عام ..1954 كانت إجابته: هذه أزمة لم أكن طرفاً فيها. ولا شاهداً عليها. لذلك أرفض أن أتحدث نقلاً عن أحد.. لذلك يقول للتاريخ إن مجلس قيادة الثورة تراجع عن قبول استقالة اللواء محمد نجيب في 27 فبراير ..1954 بعد أن اندلعت المظاهرات لصالحه نظراً لشعبيته في الشارع. كما خرجت مظاهرات أخري في الخرطوم لتأييده فقد كان نجيب رئيساً لسلاح الحدود.. ثم إن ضباط الفرسان انحازوا للديمقراطية.. وبالفعل عاد نجيب إلي الرئاسة وتم إعلان ذلك في بيان حفاظاً علي وحدة الأمة.. وهذه شهادة الكاتب أحمد حمروش. أحد الضباط الأحرار. بينما مضي ثروت عكاشة علي نهج الشاذلي وعمد ألا يتعرض في مذكراته لما جري في الفترة من 1953 إلي 1958. وقد سافر فيها إلي سويسرا وفرنسا كسفير.

ويتحدث الشاذلي عن العدوان الثلاثي عام ..1956 كقائد كتيبة فقط. لا علم له بما يدور في الكتائب الأخري. ولا يدعي البطولة.. وكان الهدف ضرب الثورة الناهضة. وتحجيم شعبية جمال عبدالناصر الطاغية وطموحاته المصرية والعربية والأفريقية والآسيوية.

لكن أنور السادات في كتابه "البحث عن الذات" يردنا إلي أزمة نجيب وجمال التي دخلت مجالها الأخير بعد توقيع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز في أكتوبر 1954. وهي التي أنهت احتلال 75 عاماً لمصر.. وقد جرت المفاوضات برئاسة عبدالناصر.. وبلغ الغليان أشده داخل مجلس قيادة الثورة.. ثم بين الإخوان والثوار من جانب. ومع الإنجليز من جانب آخر.. وتكاتفت الظروف لكي تعلن الثورة فشلها عند هذا الحد.. لكن مجلس الثورة تمكن من إبعاد ضباط سلاح الفرسان الذين اختلفوا معهم وأبرز هؤلاء خالد محيي الدين. وثروت عكاشة الذي سبق له السفر ربما لأنه استشعر الأزمة قبل وقوعها وهو صاحب الحس المرهف.. وتم توقيع اتفاقية الجلاء مع الإنجليز. وفي نفس الضربة جري عزل نجيب في ضواحي القاهرة بمنطقة تسمي "المرج" ظل بها نسيا منسيا حتي مات هناك معدماً.. وفي 22 يونيه 1956 تم انتخاب جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية. أو بمعني آخر.. أعلن قائد البلاد الحقيقي عن نفسه.. إنه الرجل القوي.. وتم حل مجلس قيادة الثورة وقبض جمال علي زمام الأمور. وبعد أسابيع قليلة أعلن دالاس وزير خارجية أمريكا إفلاس الاقتصاد المصري. وتراجع أمريكا والبنك الدولي عن تمويل السد العالي. وظهر الاتحاد السوفييتي في الصورة بحضور وزير خارجيته لاحتفالات أعياد الثورة. وأعلن جمال في ميدان المنشية تأميم قناة السويس رداً علي دالاس.. وكانت العاصفة!!
مخاوف السادات

* إنها الحرب يا جمال!!
هكذا همس أنور السادات إلي جمال عبدالناصر والقطار يعود بهما من الإسكندرية إلي القاهرة بعد الإعلان عن تأميم قناة السويس. وفسر ذلك بأن خطوة التأميم استفزازية. وفيها تهور.. هكذا يقول السادات في مذكراته. ولكنه لم يذكر لنا ماذا كان جواب عبدالناصر عليه. خاصة أن الجماهير في كافة المحطات بين الإسكندرية والقاهرة قد خرجت كلها لاستقباله في إشارة تأييد لقراره من غالبية الشعب.

وما جري أن إيدن رئيس وزراء بريطانيا. وكان علي مأدبة عشاء أقامها الملك فيصل ملك العراق. ونوري السعيد رئيس وزرائه.. فهب منتفضاً لكي يتصل بقادة فرنسا وإسرائيل. وكانت نصف أسهم القناة ملكاً لانجلترا ونصفها الآخر لفرنسا.. وكان عبدالناصر بخلاف التأميم قد أفسد علي الإنجليز حلف بغداد. وكان قرارهم بالحرب الثلاثية في 29 أكتوبر 1956 وهو نفس الموعد الذي حدده وزيرا خارجيتي انجلترا وفرنسا للاجتماع مع وزير الخارجية المصري محمود فوزي.. وهاجمت إسرائيل سيناء وأمر جمال بسحب القوات المصرية منها. وبدأت الحرب

عودة إلي الشاذلي
يقول الشاذلي: هجم الطيران الثلاثي علي الطائرات المصرية وهي في أماكنها وكان باستطاعة جمال عبدالناصر أن يقف فوق سطح منزله ويري بسهولة مطار ألماظة والنيران تشتعل في الطائرات وتنفجر.. في هذا الوقت كنت أنا قائد كتيبة مطلوب منه تنفيذ ما يتلقي من أوامر سواء اقتنع بها أو لم يقتنع.
وللعلم الكتيبة يتراوح عدد أفرادها بين 500 : 1000 فرد. وتتكون من 3 سرايا مشاة. وسرايا معاونة للهاون والمدفعية المضادة للدبابات.. واللواء يتكون من 3 كتائب مشاة وتكون قوته في حدود 3 : 4 آلاف جندي. والفرقة يصل عددها إلي 15 ألف جندي.. ومعظم التشكيلات العسكرية في الجيوش تتم علي هذا النحو بزيادة أو أقل قليلاً. وهناك طبعاً وحدات للمشاة أو المدفعية أو المهندسين أو الإشارة.. ومع ذلك وصلت قواتنا التي توغلت في سيناء إلي ممر "متلا". وانضربت عند ذلك. وطلب الإنجليز أن يتم سحب قواتنا.. وتقرر بالفعل كما ذكرنا من قبل.. وكانت قوات فرنسية وانجليزية قد نزلت جواً في بورسعيد وقابلتها المقاومة الشعبية الباسلة.. وحاولت قواتنا منعهم من احتلال السويس.
وكنت أنا أتأهب للطيران إلي سيناء والنزول هناك خلف خطوط العدو. ولما تم ضرب الطيران بما في ذلك الطائرة التي كنت سوف أستقلها مع الكتيبة.. وتحولت بذلك إلي وحدة مشاة عادية.. واتجهت فيما بعد إلي السويس. ثم أخذوا مني سرية للمعاونة في صد الهجوم علي بورسعيد وهي في حدود مائة فرد...وهذه الحرب نستطيع أن نقول إنها ساهمت في تقوية شوكة إسرائيل التي لم تحارب بالمعني المفهوم.. لأن الطيران الفرنسي والانجليزي تكفل بالجانب الأكبر منها.

وكانت حسابات جمال عبدالناصر أن انجلترا وفرنسا لن تقدما علي الحرب بسهولة.. ولكن حدث غير ذلك.. ولذلك سحب قواتنا من سيناء لمواجهتهما.. وطبعاً تدخل الاتحاد السوفييتي وأمريكا لوقف هذا العدوان.

وهنا يتحول الشاذلي إلي ناقد عسكري. وينظر لحرب 1956 بعين المحلل فيقول:
* الهدف من أي حرب أن تنتصر علي عدوك لكي تملي عليه شروطك. ويتصرف وفقاً لإرادتك سياسياً.. ولو حدث غير ذلك فأنت خاسر حتماً في هذه الحرب. وقد دخلت انجلترا وفرنسا الحرب لإسقاط جمال عبدالناصر وتشجيع الشعب علي ذلك.. وهو الهدف الذي لم يتحقق لأن الشعب التف حول جمال أكثر. بذلك كان نصرهم العسكري دون نتيجة سياسية. بينما تحقق ذلك لجمال.. ثم إنك تنظر إلي هذه المعركة التي دخلتها ثلاث دول.. ضد مصر بمفردها. وبسلاح روسي لم يتم التدريب عليه. ولم يصل بكمياته المنتظرة. وعلي ذلك بدأت العلاقات مع الاتحاد السوفييتي تأخذ مساراً جديداً.. بينما حدث الشقاق مع أمريكا وكانت حربهما الباردة علي أشدها. وقانونها إن لم تكن معي. فأنت ضدي.. وكان هذا يتم حتي داخل أمريكا نفسها بما عرف "بالمكارثية"..
وهكذا وجدت نفسي في بعثة إلي الاتحاد السوفييتي.. أمام مدرسة مختلفة تماماً عن الأمريكية التي سبق لي التعرف عليها.. وكأن الأقدار شاءت لي أن تفتح أبواب أكبر قوتين في فترة زمنية وجيزة.. والبعثة العسكرية.. بالنسبة لي.. ليست مجرد تدريبات ودراسة لفترة معينة في علم بعينه.. ولكنها أسلوب حياة أيضاً مع شعب ومكان.. وكان الخلاف أنك في أمريكا ترسل بضابط. أو اثنين.. لكنك في الاتحاد السوفييتي ترسل بمائة. وبذلك تصبح عملية التعليم سريعة.. لأن هذا العدد عندما يرجع يقدم خبراته لغيره. وبذلك تتسع الدائرة.. إلي جانب ذلك كان هناك خبراء سوفييت يحضرون إلي مصر لنفس الغرض أيضاً.. وكان خيار جمال عبدالناصر في هذا التوقيت ذكياً وعملياً.. لأن أمريكا لن تدعم الجيش المصري. بحيث يتفوق في قوته علي إسرائيل مهما تكن الأسباب.. ومن هنا وجب أن نتجه إلي روسيا. حيث تريد محاصرة المد الأمريكي والاستعماري.. ولو عدنا بالذاكرة إلي الوراء في عام ..1947 سنجد أن روسيا أيدت قيام دولة إسرائيل.. ولكن بمقاييس السياسة ليست هناك ثوابت. ومع ذلك تشكك الروس عندما حاول جمال أن يتقرب منهم علي حساب أمريكا.. وتمت أول صفقة سلاح بطريقة غير مباشرة عن طريق تشيكو سلوفاكيا.. وكان السوفييت يدركون أن مصر قد تفتح لهم أبواب العالم العربي كلها التي أغلقها الأمريكان في وجوههم.. نعم الإمكانات العسكرية في أمريكا أكبر بحجم مشاهدتي.. وهي في بعثاتها تهتم بجوانب فنية لأفراد.. لكن السوفييت يركزون علي القيادات كما قلت.. وهذا ما يذكرنا بالفارق بين الاستعمار الانجليزي الذي كان يهتم بالموارد.. بينما الفرنسي يركز علي الجوانب الثقافية.. وقد تأثرت القيادات العسكرية المصرية بالفكر السوفييتي.. لكن المهارة المصرية كانت حاضرة وقادرة علي الاستيعاب. بل وتطوير ما تعرفه بأسلوبها الخاص.. لكن البصمة السوفيتية كانت حاضرة وموجودة بعد .1956

إلي الكونغو
مرة أخري يأتي اسم الشاذلي متصدراً لأول قوة عسكرية مصرية تشارك في مهمة تابعة للأمم المتحدة. ومعني ذلك أن نفوذ مصر وعبدالناصر بدلاً من أن يتقلص سياسياً بعد معركة 1956 ازداد وتوسع. وهذا هو الدليل. حيث تحول إلي زعيم مصري وعربي وأفريقي بعد أن مد يده إلي حركات التحرير في كل مكان..
ورغم أن الكونغو تبعد عن مصر خمسة آلاف كيلو.. لكن يد التعاون كانت ممدودة.. وهنا تظلها الأمم المتحدة..
والمدهش كما قال الشاذلي: إن القوات المصرية سافرت إلي الكونغوا بطائرات أمريكية. وهذا هو التناقض السياسي الذي يتعامل مع هذه الأمور بكل بساطة.. وكان الهدف دعم "لومومبا".. رغم توتر العلاقات المصرية الأمريكية. ونستطيع أن نفسر ذلك أيضاً بأن أمريكا التي تعودت أن تتخلي عن حليفها إذا أدركت أنه تحول إلي ورقة محترقة لا لزوم لها.. وكان آخر ذلك في مصر مع الرئيس السابق مبارك. أثناء ثورة 25 يناير. حيث كانت تخرج البيانات والتصريحات من البيت الأبيض تطالبه بالرحيل. "ناو". أي الآن وتدعم الثورة عليه. وهو المحسوب كأحد رجالها.. بل إن إسرائيل وصفته بالكنز الاستراتيجي بالنسبة لها.. ولابد أن يكون كذلك بالنسبة لأمريكا بالتبعية.

كانت الكونغو مستعمرة بلجيكية. وقرروا الانسحاب. وكان ضرورياً أن تتواجد قوات تُثبت لومومبا. وتعوض الفراغ الذي أحدثه الانسحاب البلجيكي.. وتلك هي مهمة القوة المصرية في إطار الأمم المتحدة مع قوات أخري.
ولأن العمليات تتم تحت علم الأمم المتحدة. لا بأس أن تأتي طائرات C/30 لكي تأخذ الجيش المصري إلي "ليوفودليت".

ولا نستطيع أن نفصل واقعياً بين دعم لومومبا.. وحفظ السلام في تلك المنطقة.. وأنا كقائد كتيبة مصري أعرف جيداً أن مهمتي مساعدة الدول الأفريقية لكي تنهض. وبالنسبة للرائد سعد الشاذلي.. هو في تلك الأرض البعيدة يمثل بلداً بأكمله. جيشه وشعبه. بل ورئيسه.. وهو بطبعه يحب أن يتصرف بحرية. ويكون سيد قراره.. لأن عمل الضابط تحت من هو أكبر منه وله حق إصدار القرار النهائي.. يجعله مكبلاً.. وليس معني ذلك أن الرئيس أو القائد عليه أن يتصرف من تلقاء نفسه.. بل هي المشورة والتخطيط.. ويبدو أن جمال عبدالناصر هو الذي رشحه لهذه المهمة دون غيره. فهي تحتاج كتيبة بمواصفات خاصة. وليس هناك من هو أفضل من المظلات. بل زاد علي ذلك أن أمر بصرف 50 ألف دولار تكون تحت تصرف قائد الكتيبة في تلك البلاد البعيدة. وهكذا اكتملت عند الشاذلي عناصر القيادة مادياً ومعنوياً.. مع أن الأمم المتحدة هي التي تقوم علي رعاية الكتيبة. تمدها بالطعام ومصروف الجيب. لكن هذا المبلغ لأي ظرف طارئ.. وكانت المفاجأة السارة هناك في "ليوفودليت".. استقبال رجل الشارع الكونغولي للجيش المصري وهو يحمل أعلام مصر مرحباً.. في إشارة إلي قوة مصر ورئيسها في أفريقيا.. وكان الشاذلي يحمل معه مجموعة مطبوعات عن مصر بالعربية والفرنسية لتوزيعها علي الناس هناك.. ومن أنكر علي عبدالناصر اهتمامه الأفريقي واتهامه بإهدار المال والرغبة في زعامة واهية علي من يسأل أو يفكر بهذا النحو.. أن ينظر ماذا حدث لنا في مصر. عندما تركنا أفريقيا. وأدار مبارك ظهره لها.. وتكتلت دول حوض النيل ولأول مرة ضد مصر مطالبة بإعادة توزيع أنصبة المياه.. وكانت حجة مبارك ذلك الاعتداء الذي وقع عليه في أثيوبيا بتدبير سوداني كما قيل.. وعلي ذلك أسرعت الوفود الشعبية تشد الرحال إلي دول حوض النيل.. بعد ثورة يناير 2011 لاستعادة الأرض والاهتمام.. بمنطقة لا غني عنها. تركناها لإسرائيل تتصرف فيها كما تشاء!!

http://www.misrelmahrosa.gov.eg/sect...87%D8%A7%D8%AA