هذه المرّة سنبتعدّ عن أماكِنِنا المُعتادّة ..
بعيداً .. بعيداً جداً عن موقِع القلعتانّ في تلكَ الغابة الكثيفة ..
في طُرقاتّ البلدة الصغيرة الواقِعة في نهاية الغابة .. انتشرَ البائِعونّ الذينَ يصيحونّ بِأسعارِ السلعّ المُختلِفة ..
وَفي إحدى الطُرقّ توقفتّ عربةٌ فاخِرة سوداء مُمشاه بخيوطٍ ذهبيّه سطعت أسفلَ الشمسّ .. وَقبلَ أنّ يفتحَ الخادِمّ البابْ .. ترجلَ فتىً في الرابِعة عشرّ رُبما ليمطَّ يديهِ في الهواء صائِحاً : الحُريّـــــــة !!
تلقى ضربةً خفيفةً على مؤخِرة رأسِه مِنّ شابٍ في العشريناتّ مِنَ العُمرّ :إهداء ! الأُمراء لا يتصرفونَ هكذا أنـ...
- سمّو الأميرّ ! أ..أيُمكِنُنيّ مُصافحتُك !؟
استغربَ " ريدموندّ " الأبنّ الوحيدّ للملِكّ وَالذيّ قدْ جاءَ في زيارةٍ إلى هذه البلدة التيّ تُعدّ كَجُزء صغيرّ مِنْ دولتِه الضخمة .. ثُمَ سُرعانَ ما ابتسمَ لتتبينَ أسنانه المرصوصة كَـ عقدٍ مِنْ لؤلؤ ..
انحنى لمستوى طِفلّ السابِعة مِنَ العُمرّ ليحملهُ قائِلاً : ما اسمُكّ يا صغيرّ !؟
- أنطونيو !
قرصَّ وجنتهُ قائِلاً : يا لهُ مِنْ اسمٍ جميلّ .. لِمَ تسيرُ لوحِدكّ ؟ أينَ والِداكّ ؟
- قالَ أخي بِأنهُما ذاهِبانّ في رِحلة !
تفاجئ ريدموندّ بداءً ثَمَ أردفَ بِهدوءٍ مع ابتِسامة حانيّة : أينَ هوَ منزِلُكّ !؟
أنهى جُملته ليضعَ الصغيرّ على الأرضّ .. أمسكَ أنطونيو يدهُ ليجُرّه قائِلاً : تعالَ معيّ !
ألتفَ ريدموندّ بِرأسِه إلى الخلفّ قائِلاً : موسكيتّو ! سأذهبُ لتجوُلِ قليلاً ..
ألتفَ الخادِمّ موسكيتو وَالذيّ كانَ يُحدِثّ سائِقَ العربّة : ماذ..! سيديّ الصغيرّ .. لا يُمكِنُك التجـ...
لكِنهُ كانَ قدّ ذهبَ مُسبقّاً .. حاولَ اللحاقَ بهِ لكِنهُ قدّ أضاعه .. خشيَّ فعلاً أنّ يكونَ قدّ تعرضَ لِسوء !
ظلَّ أنطونيو الصغيرّ يجُرُهُ خلفه بِإصرارّ .. وَكمّ الإصرارّ في عينيّ هذا الطفلّ جعلَ ريدموندّ يشعرُ بالغرابةِ فعلاً !!
ألهذهِ الدرجة الأمرُ مُهِم لِهذا الطفلّ !؟
انعطفَ أنطونيو في عدّةِ مُنعطفاتّ مُعقدّة جاريّاً .. بدأ ريدموندّ ذو الجسدّ الضعيفّ يتعبُ مِنْ كثرةِ الجريّ .. قالَ بابتِسامة مُرتبِكة قليلاً : أنـ..أنطونيو .. ما رأيُك أنّ نُخفِفَ السُرعةَ قليلاً !!
لكِنهُ صاحَ : لا ! لا يُمكِنُنيّ .. لا يجبّ على صانِع السلامّ أنّ يموتْ !!!
تفاجئَ ريدموندّ مِنْ حديثه .. ما الذيّ يقولهُ هذا الطِفلّ تحديداً !؟
أخيراً توقفا .. أتكئَ ريدموندّ على الجِدارّ .. وَعلى الرُغمّ مِنْ قذارة الجِدارّ إلا أنهُ لمْ يكترِثّ .. انزلقَ بِهدوءٍ حتى جلسَ على الأرضِ لاهِثّاً .. شعرَ بِأنهُ يلفظُ أنفاسه الأخيرة لِشدّة التعبّ .. انتابهُ شعورٌ مُفاجِئ بالخطرّ .. بشكلٍ تلقائيّ أمسكَ معصمَّ أنطونيو الذيّ كانَ يُحاوِلُ فتحَ إحدى الأبوابّ وِشدّهُ نحوه ليقعا على يساراً .. في تلكَ اللحظة كانتّ ثلاثّ رصاصاتّ قدّ اخترقتّ الجِدارّ في مكانِ أنطونيو ..
نهضَ أنطونيو ليصيحَ : لقدّ أتوا !!.. علينا الدخولّ .. لكِنَّ البابَ لا يُفتحّ !!
سارعَ ريدموندّ بِسُرعةٍ نحوَ البابّ الذيّ ما إنّ لامسه حتى تحطمَ إلى أشلاء صغيرة .. تراجعَ بِضعةَ خطواتٍ في فزعّ لكِنَّ أنطونيو جرّهُ فوراً مُعلِناً بِأنهُ لا وقتَ لديهما الآن ..
صمتٌ ثقيّل ملئ المكانّ .. لمْ يُدرِكّ كِلاهُما ما الذيّ يجبّ قولُه !!
كُلُ شيءٍ بدا وهماً بِالنسبة لهُما .. أن يُدركا فجأةً أنَّ لهُما توأماً ..!!
ليسَ بالأمرِ العاديِّ أبداً .. أبداً !!
تنهدتّ كارينْ واقِفةً : لديَّ الكثيرُ لِأشرحه لكُما .. لكِنّ في البدء ..
وَاشارتّ على كازويا بالاقتِرابّ ..
بدا مُضطرِباً أثناءَ اقتِرابِه .. يتقدمُ ُخطوتانّ وَيتراجعُ خطوه .. لمْ يعُدّ يدريّ ما الخيّار الأصحّ الآن ..
ابتسمتّ كارينّ بِهدوء لتقترِبَ مِنه .. وَعندما لمْ يعُدّ هُناكَ إلى خطوة واحِدة تفصِلّ بينهُما ..
فتحتّ كارينّ ذراعيها لتحضِنه ..ارتعشتّ أطرافُه وَتصلبَ جسدّه وَخفقَ قلبُهُ بِجنونّ ..
ضاعتّ كلِماتُه وَلمْ يعرفّ ما الخطوة التاليّة ..
ظلتّ كارينّ حاضِنةً إياهُ بينما تقولّ : لا بأسّ ! لا تقُلّ شيئاً ! أنا سعيّدة لِأننيّ قادِرة على حضنِكَ الآن .. لا تفعلّ شيئاً ..!
عِندها ارتخى جسدُه وَهدئ قلبُه .. سعيدّ أمّ حزينّ !!
هوَ فعلاً لمْ يعُدّ يدريّ .. ألافُ التساؤلاتّ اجتاحتّ فِكره .. لكِنهُ فضلَّ الصمتّ .. ليحصُلّ على الدِفئ الذيّ لا طالما رغِبَ بِه .. كُل شيء يُمكِنّ أن يؤجلّ الآن .. لمّ يعُدّ هُناكَ شيءٌ مُهِمّ !!
عِندها اقتحمتّ سيرا الحُجرة قائِلة : كارينّ ! دونْ ، وَريكّ مفقودانّ ..!!!!
سارا عبرَ ممرٍ سريّ قبعَ خلفَ بضعةِ صناديقّ وَدلفَا إلى حُجرةٍ متوسِطة الحجمّ .. توسطتها منضدة خشبيّة عتيقّة بانتّ عروقُها ، حولها سبعةُ مقاعِدَ وَالثامِنُ ذو قدمٍ مكسورةٍ ومرميٌ في إحدى زوايا الحُجرة ، ملئتّ الصناديقُ الفارِغة أنحاء الحُجرة وَغطى الغُبارُ المكانَ تماماً ..
نفضَ التُرابّ الذي علقَ بِملابِسه الفاخِرة أثناءَ سيرِه في الممرّ ثُمَ ألقى نظرةً على المتواجدينَ في الحُجرة .. حولَ المِنضدة جلسَ ثلاثةُ أشخاصّ .. شابّة في الواحِدة وَالعشرينّ غجريّة الشعرّ تضعُ قُبعةً سوداء تدلتّ مِنها شبكةٌ سوداء قاتِمة أخفتّ مُعظمَ ملامِحِ وجهِها ، كانتّ طويلة ، وَنحيلة لكِنّ جسدّها بدا مرِناً فِعلاً كمَّ أنها تحمِلُ بينَ يديها مُسدساً صغيراً .. وَتتحدثّ مع شابٍ في السابِعة وَالعشرينّ بشعرٍ غجريٍ هوَ الآخر وَعينينّ بلونِ العسلّ ، حنطيّ ذو جسدٍ رياضيّ وَمفتولٌ بِالعضلاتّ .. وَالثالِثة كانتّ " ميلوديّ " ذاتّ الشعرّ الأصفرّ الطويلّ الذيّ اختفى أعلاهُ أسفلَ قُبعةٍ صوفيةٍ سوداء ، وَعينينّ واسِعتينّ رماديتينّ لكِنّ مِنَ الواضِحّ بِأنها كانتّ مِنَ النوعّ الخجولّ .. وَفي زاوية الحُجرة فوقَ إحدى الصناديقّ المُترِبة جلستّ طِفلة لمّ تتعدى السادِسة بِشعرٍ رماديّ طويلّ وَأملسّ بعينينّ زرقاوتينّ صارختينّ وَناعستينّ وَبشرتُها صافيةٌ وَثلجيّة .. بدتّ كَدُميةٍ ملقيةٍ بإهمالّ وَهيَ منطويةٌ على نفسِها وَتنتفِضُ مِنْ شِدّة البردّ بِسببّ ملابسِها الخفيفّة لكنّها بدتّ غاليّة الثمنّ ..
بالإضافة إلى أنطونيو ذو الشعرّ البُنيّ الذيّ اختفى مُعظمُه أسفلَ قُبعةٍ قطنية باهتِه ، بينما كانتّ عينيه عسليتينّ هادِئتينّ بِبشرةٍ قمحيّة ، هزيلّ وَقصيرّ القامّة بالنسبة لطفلٍ في عُمرِه ..
لمّ يكترِثّ ريدموندّ بِشأنَّ الآخرينَ كثيراً إنما اتجهَ بشكلٍ تلقائيّ نحوَ الطفلة المنزويّة على نفسِها وَهوَ يقولُ موبِخّاً : كيفَ يُمكِنُكُمّ تركُ طِفلةٍ بِهذا الشكلّ !؟
تحدثتّ صاحِبة الشعرّ الغجريّ : مِنَ الطبيعيّ أنّ تكرهَ طِفلةٌ مُختطفيها .. لمْ نستطعّ الاقتِرابّ .. احذرّ إنها شرِسة !
رمقها بِنظرة ثُمَ اقتربَ ليجلِسَ بجانبِها عندما رمقتهُ بِحدّة وَالتصقتّ بالجِدارِ بجانبِها مُكشِرةً وجهها .. ابتسمَ بِهدوء قائِلاً : لا بأسَّ عليكِ .. أنا لا أعرِفُ من هؤلاء .. أنا أيضاً وجدتُ نفسيّ هُنا فجأةً ..!
لم تهدئ ملامِحُها وَلا تُرخيّ دِفاعاتِها عندما سألته : هل خطفوكَ أنتَ أيضاً !؟
تأملهُم لِِبعضِ الوقتّ : لستُ أدريّ .. تمَّ جرِّ إلى هُنا فجأةً .. رُبما أنا أيضاً مُختطفّ .. لستُ أدريّ !
تفحصتهُ بِدِقّة حتى هدأتُ وارتاحتُ لهُ نفسُها .. وَهذا شيءٌ طبيعيّ لرؤيتِها ابتِسامته الهادِئة الحنونّة وَملامِحُه البشوشّة وَكانَ مِنَ الواضِح بِمُجردّ النظرّ إليه بِأنهُ ليسَ مِنَ النوعّ المُخادِعّ أو الدّجالّ .. : أنا آنابيلّ كورسِنّ هيل ، أنتَ مـ...ما اسمُكّ !؟
- ريدموندّ !
قطبتّ حاجبيها : فقطّ هذا !؟
حكَّ مؤخِرةَ رأسِه بِبلاهة : لنّ ترغبيّ بمعرفتيّ هويتيّ !!
حملقتّ بهِ لفترةٍ قصيرّة ثُمَ قالتّ : لا بأسـ..
وَتلتّها رعشةٌ خفيفّة جعلتهُ يُنتبِه إلى هذه النُقطة ..
وقفَ ليخلعَ مِعطفهُ الحريريّ الطويلّ ذو اللونّ الكُحليّ المُوشى بِخيوطٍ مِنّ ذهبّ ليضعهُ على كتفيها الهزيلينّ وَلِشدّةِ بردِها لمّ تُفكِرّ كثيرّاً حتى تعلقتّ بالمعطفّ وَضمتهُ حولَ جسدِها بيديها الصغيرتينّ .. أخذتّ تتنفسُ بإرهاقّ ليسألُها وَنظرُها أصبحَ مشوشّاً فتُغلقّ عينيها بِتعبّ ثُمَ سُرعانَ ما تفتحهُما قلقاً وَفزعاً .. كانتّ الهالاتُ السوداء شديدةُ الوضوحِ أسفلَ عينيها مِنْ شدّةِ التعبّ .. : متى كانتّ أخِرُ مرةٍ نمتِ فيها !؟
لكِنها لمّ تُجِبّ عليه بتاتاً .. تأملها لبعضِ الوقتّ ثُمَ سُرعانَ ما وضعَ يدهُ على كتفِها ليجعلها تستلقيّ على قدميه .. حاولتّ النهوضّ لكِنهُ ضغطَ عليها قائِلاً بينما يمسحُ على كتفِها الهزيلّ المُختبِئ أسفلَ المعطفّ بِهدوء : لا بأسّ ! لنّ أدعَّ أحدهُم يُؤذيكِ .. أعِدُكّ .. ثقيّ بيّ فقطّ !
ترددتّ كثيّراً في أثناءَ ذلِك لكِنّ سُرعانَ ما غلبها النومّ لتذهبَ في سُباتٍ عميقّ ..
أسندَ رأسهُ إلى الجِدارِ مِنْ خلفِه .. لمّ يعُدّ يستطيعُ الصمودّ .. أنفاسُهُ أصبحتّ مُتلاحِقة كمنّ جرى لعدةِ كيلومِتراتّ .. بينما شحِبَ وجهُهُ وَاصفرّ .. أصبحتُ الصورةً أمامه مشوشةً بعضَ الشيء .. وَتخالطتّ أفكارُه وَقدّ فتكَّ الصُداعُ بِرأسِه .. سبَّ وَشتمّ بِصوتٍ مُنخفِضّ جسدهُ الضعيفّ الذيّ لا يتحملُ حتى نفخةَ رياحٍ خفيفّة .. اقتربَ الشابُ مِنهُ ليضعَ يدهُ على كتفِه : هل أنتَ بخـ...!!!؟
دفعَ ريدموندّ يدِه قائِلاً مِنْ بينِ أنفاسِه المُتلاحِقة : لا تقترِبّ ! أبقى بعيّداً !!..
قطبَ الشابُ حاجبيه : لكِنّ ..
عِندها قاطعتهُ تلكَ الشابّة : " نيفّ " ! دعّهُ وَشأنه .. إنهُ مُجردُ طِفلٍ ثريٍ مُدللّ .. لنّ يقبلَ بِالمُساعدة إلا مِنْ أشهرّ الأطِباء في العالمّ ..
نقلَ " نيفّ " نظراتهُ بينَ تلكَ الشابّة التيّ كانتَ تُعطيهُم ظهرها وَريدموندّ الذيّ بدا كمنّ يحتضِرّ حينها ليعودَ إلى مقعدِه ..
تمكنَ ريدموندّ مِنْ سماعِ شيءٍ مِن أحادِثهمّ وَلمْ يفهمّ إلا أنّ تلكَ الشابّة تُخططّ لشيءٍ ما بِمُجردِ أنّ يُغشى عليهِ .. لكِنّ ما ذاكَ الشيء !؟..
وَمِنّ هُنا قررّ المُكافحة للبقاءِ مُستيقظاً حتى وَإنّ أُرهِقَ بِشدّة .. لنّ يهتمّ ..
أسندَ رأسهُ إلى الجدارِ مُجدداً وَهوَ يقتصِدُ في تنفُسِه .. لكِنّ .. ما الذيّ عناهُ أنطونيو بِكلامِه ..
" صانِع السلامّ يجبُ أن لا يموتّ !!! " !؟
لمّ تكُنّ جُملةً عقلانيّةً أبداً .. لا بُدَّ وَأنهُما قد خدعا هذا الطِفلّ لِإحضارِه ..
هوَ كانَ أبلهاً لِأنهُ تركَ موسكيتّو خلفهُ بِتلكَ الطريقّة .. لقدّ ندِمَ فِعلاً ..!!
لكِنّ هل يُغيرُ الندمُ شيئاً الآن ؟
فتحَ عينيه بإرهاقّ .. يشعُرّ بِأنَّ كُلَ عظمةٍ في جسدِه تُؤلِمُه .. كمَّ لو أنَّ جسدُه هُشِمَ تماماً ..
لِذا لمْ يُحاول النهوضَ حتى .. وصلَ إلى مسامِعه صوتُها تتحدثُ مِنْ خارِج الحُجرة المُظلِمة ..
ابتسمَ بِهدوء وَأغمضَ عينيه مُجدداً ..
شعرَ فجأةً بِأنَّ روحهُ تخرُجّ لِوهلة ثُمَ هدئ الوضعّ ..
فتحَ عينيه مُحدِقاً في الفراغِ مِنْ حولِه .. لا أرضيه .. لا جُدرانّ .. لا سقفّ .. لا شيء ..
الشيء الوحيدّ الذي رافقهُ في هذا المكانّ كانَ شخصاً شابههُ كثيراً بِذاكَ الشعرّ الرماديّ المُبعثرّ بِشدّة ، وَالبشرة البيضاء الصافيّة .. نفسُ الطولّ وَالوزنِ .. كمَّ لو أنهُ إنعِكاسٌ في المرآة .. عدى شيءٌ واحِدّ ..
هوَ يمتلِكُ عينينّ زرقاوتينّ صارختينّ بِينما ذاكَ الشخصُ كانَ ذو عينينّ سوداوتينّ قاحِلتينّ ..
بدتّ ملامِحُ ذاكَ الشخصّ بارِدةً جدّاً وَلا تحمِلُ أيَّ تعبيرّ ..
فبادرَ هوَ بالحديثِ قائِلاً : نـ...نيرو ! ما الذيّ حدثَ في ذلِكَ الوقتّ .. أعنيّ ..
بدتّ معالمِ الانزِعاجّ ترتسمّ على نيرو فقررَ الأولُ أن يلتزِمَ الصمتّ ..
تنهدَ نيرو بِمللٍ قبلَ أنّ يقولْ : أُحبِذُ عدمَ الحديثِ بِذاكَ الشأنّ ..
شعرَ بِالضيقّ بِسببْ الصمتّ الذي استحلَ مكانهُ مُجدداً لكِنهُ آبى الحديثّ .. وَقررَّ الانتِظارّ إلى أنّ يُقررّ نيرو الحديثَ أولاً ..
بعدَ وقتٍ مِنَ الصمتّ .. تحدثَ نيرو أخيراً : بلانكو !
انتفضَ بلانكوّ فزِعاً ليقولّ : مـ...ماذا !؟
رمقهُ بِنظرّة : مِمَّ .. أنتَ .. خائِفّ !؟
ارتبكَ بلانكوّ كثيرّاً .. وَأخذَ يجولُ بعينيه الفراغَ مِنْ حولِه ..
عمَّ الصمتُ مُجدداً .. لا زالَ نيرو راغِباً بالإجابة .. بينما بلانكوّ لمْ يُحبِذّ ذلِك ..
لكِنهُ استسلمَ في النهاية : أنا أخشى .. أخشى أن يؤذوها !
قطبَ نيرو حاجبيّه : أتعنيّ آنابيلّ !؟
أومأ بلانكو فتنهدَ نيرو قائِلاً : هُم يرغبونَ بِأنّ يُزيحونا عنّ طريقهِمّ لتنفيذّ خُططِهمّ البلهاء .. وَليحصُلَ ذلِكّ يجبّ أن تبقى حيّةً على الأقلّ .. لو أُصيبتّ بِمكروه .. سينتهيّ كُلُ شيءٍ بالنسبةِ لهُم .. لِذا .. أطمئِنّ !
ظلَّ يلانكو يُحملقّ في الأرضِ بِهدوءٍ فأخذَ نيرو نفسّاً .. هوَ يعرِفُ بِأنَّ بلانكو لمْ يقتنِعّ البتّة بكلامِه .. لكِنّ ما دامَ لنّ يُقدِمَ على آيُّ تصرفٍ أبلهٍ أو متهوِرّ فهوَ لا يهتمّ ..
أستطردَ قائِلاً بانزِعاجّ : المُشكِلة الآن أنهُم مُتقدِمونَ علينا .. لديهمّ جميعّ القِطعّ التي تُأهِلهُم للفوزّ .. وَهُمّ في طريقهُم للحصولِ على الملِكانّ ..
تحدثَ بلانكو عِندها : إيلايّ قِطعة مُهِمة .. وَنحنُ نملِكُه .. وَيُمكِنُنا الحصولُ على الملِكانِ قبلِهما .. فقطّ إن اجتهدنا قليلاً بعدّ !!
أتخذَ نيرو وضعيةَ التفكيرّ مُحدِقاً بِمَّ أسفلَ قدميهِ .. هدئَ المكانّ لبعضِ الوقتّ : لكِنّ .. مسألةُ آنابيلّ تُعيقُّ تحرُكنا .. وَفي نفسّ الوقتّ .. حصولِهُم على ذاكَ الفتى هوَ في صفِّنا !!
تساءل فوراً : هل حصلُ عليهِ فعلاً !؟
- أجل ! أثناءَ نومِكّ .. أنا قُمتُ بِجولةٍ في الأرجاء .. آريا لم تتمكنّ مِنْ ردعِهمّ .. لكِنّ ذلِكَ في صفِّنا .. فهُم يحسبهُم مُختطفينَ الآن ..وَيُمكِنُنا أن نكونَ الأشخاصّ الأخيارّ الذينَ سينقذونه ..
فكرّ بلانكو في الأمرّّ من جميعّ النواحيّ .. فعلاً .. أخذهُم لهُ عنوةً يجعلُ الأمرّ في صالِحهمّ ..
استطردَ نيرو في الحديثِ أمِراً : يجبّ علينا الذهابّ وَالحصولِ على آنابيلّ وَالفتى .. لكِنّ يجبّ أنّ يبقى أحدُنا هُنا ..
قطبَ بلانكو حاجبيه : سـ..سننفصلّ !؟ لمْ نفعلّ هذا منذُ زمنٍ بعيدّ !! أمُتأكِدّ بِأنكَ ستكونُ بخيرٍ بعدَ ذلِك !؟
أومأ بِنعمّ قائِلاً : لنّ أبقى في الخارِجّ .. سأدخلُ في جسدِ آريا أو أربولّ .. أيُّ شخصّ !
تفهمَ بلانكو الوضعّ ثُمَ أدركَ أنهُ هوَ منْ سيذهبّ لإنقاذّ الاثنانّ فصاحَ قائِلاً : أنا سأذهبّ !!!؟
- أجل! ماذا تتوقعّ !؟ لا يُمكِنُني تركُّ هذا المكانّ بِلا أحدٍ يأمرُ وَينهيّ .. وَأنتَ لستَ أهلاً للمسئولية ..
نظرَ إلى الأسفلّ قائِلاً : لكِننيّ .. لا .. لا أُجيدُّ فعلَ شيءٍ أبداً !!!
- تستطيعُ فعلها ! فقطّ لا تبدأ التذمُرّ .. سنُنهيّ النِقاشَ الآن ..
رفعَ بلانكو رأسهُ نحوهُ بِسُرعة قائِلاً : ماذا !؟ لا .. انتظِـ....
لكِنهُ فتحَ عينيهِ فجأةً على الواقِع وَاعتدلَ بشكلٍ تلقائيّ على الأريكة غيرَ آبهٍ بالآم جسدِه ..
فزعتّ آريا مِنْ ذلِك لتقِفَ فوراً قائِلاً : إيـ..إيستريلا ! أأنتُما بخيرّ !؟
ابتسمَ لها : أجل ! كِلانا بخيرّ ..
قطبتّ حاجبيها : أنتَ بلانكو الآن !؟ توقعتُ ظهورَ نيرو أولاً ..
تنهدَ بيأسّ : ما الخطاء الذي ارتكبته في حياتيّ لتكرهينيّ هكذا !؟
وَقبلَ أنّ تُجيبه .. استطردَ هوَ قائِلاً : على آيةِ حالّ .. نيرو سيأخُذُ جسدكِ مؤقتّاً .. هل أنتِ قادِرة على تحمُلِه أمّ ندعُّ أربولّ يتولى الأمرّ !؟
فكرتّ قليلاً قبلَ أنّ تُقولّ : بالطبعّ يُمكِنُنيّ أن أتحمله " وَاضافت بتساؤل " لكِن إلى أينَ ستذهبّ !؟ وَما الوقتّ الذي ستستغرِقُه فأنتَ تعرِفّ بِأننا لا نستطيعّ تحمُلّ نيرو لِأكثرّ مِنْ ثلاثةِ ساعاتٍ وَحسبّ !
- لستّ أدريّ كَمّ مِنَ الوقتّ سأختفيّ .. لكِننيّ ذاهِبٌ لإحضارّ آنابيلّ ، أعتمِدُّ عليكِ آريا !!