#46
| ||
| ||
كان عمر رضي الله عنه واحداً من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعه الأمي، وهذا دليل على شغفه بالعلم منذ صغره، وسعيه ليكون واحداً من القلة القليلة، الذين محوا أميتهم، وهذبوا أنفسهم، وتبوأوا مكانة مرموقة في عصر الرسالة، لمجموعة مقومات، لعل منها إلمامه بالقراءة والكتابة وهو حدث له قيمته آنذاك وقد تلقى عمر دروسه الأولى، وتعلم القراءة والكتابة على يدي حرب بن أمية والد أبي سفيان[1]، وقد أهلته هذه الميزة، لأن يثقف نفسه بثقافة القوم آنذاك، وإن كنا نجزم أن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عمر وصقل مواهبه، وفجر طاقاته وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عمر لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه كذلك في المدينة المنورة – حيث سكن العوالي – وهي ضاحية من ضواحي المدينة، وإن كانت قد اتصلت بها الآن وأصبحت ملاصقة لمسجد الرسول، حيث امتد العمران، وتوسعت المدينة، وزحفت على الضواحي، في هذه الضاحية نظم عمر نفسه، وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها، والذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وقد كان لا يفوته علم من قرآن، أو حديث أو أمر أو حدث أو توجيه قال عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار من بني أمية بن زيد – وهي من عوالي المدينة – وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك[2]. وهذا الخبر يوقفنا على الينبوع المتدفق، الذي استمد منه عمر علمه وتربيته وثقافته، وهو كتاب الله الحكيم، الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجماً على حسب الوقائع والأحداث، وكان الرسول يقرأه على أصحابه، الذين وقفوا على معانيه، وتعمقوا في فهمه، وتأثروا بمبادئه، وكان له عميق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم وكان عمر واحداً من هؤلاء الذين تأثروا بالمنهج القرآني في التربية والتعليم، وعلى كل دارس لتاريخ عمر وحياته أن يقف وقفة متأملة أمام هذا الفيض الرباني الصافي، الذي غذى المواهب وفجر العبقريات، ونمى ثقافة القوم، ونعني به القرآن الكريم، وقد حرص عمر منذ أسلم على حفظ القرآن وفهمه وتأمله، وظل ملازماً للرسول يتلقى عنه ما أنزل عليه، حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، وقد أقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم بعضه وحرص على الرواية التي أقرأه بها الرسول[3] وكان لعمر أحياناً شرف السبق إلى سماع بعض آياته فور نزوله كما عني بمراجعة محفوظه منه[4]، فقد تربى عمر رضي الله عنه على المنهج القرآني وكان المربي له صلى الله عليه وسلم وكانت نقطة البدء في تربية عمر هي لقاءه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان، وطرح الكفر، وقوي على تحمل الشدائد، والمصائب في سبيل دينه الجديد وعقيدته السمحة، كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم المحرك الأول للإسلام، وشخصيته صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض والعظمة دائماً تحب، وتحاط من الناس بالاعجاب، ويلتف حولها المعجبون يلتصقون بها التصاقاً بدافع الاعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك، أنه رسول الله، متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بعد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يُحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئاً واحداً في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية. حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول ويرتبط حب الله بحب رسوله ويمتزجان في نفسه، فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك. كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطلقها الذي تنطلق منه[5]، لقد حصل للصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، يقول سيد قطب عن تلك التزكية: إنها لتزكية، وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول صلى الله عليه وسلم. تطهير للضمير والشعور، وتطهير للعمل والسلوك، وتطهير للحياة الزوجية، وتطهير للحياة الاجتماعية، وتطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد، ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح، وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال، إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة، ولحياة السريرة، ولحياة الواقع، تزكية ترتفع بالانسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه، ويتعامل مع الملأ العلوي الكريم[6]. لقد تتلمذ عمر رضي الله عنه على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس قال تعالى:} لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ164 { آل عمران،آية:164. وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم في غزواته، وسلمه وأصبح لعمر رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، التي أثرت في شخصية عمر وفقهه ولازم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمع من رسول الله وتلقى عنه وكان إذا جلس في مجلس النبوة لم يترك المجلس حتى ينفض، كما كان حريصاً على أن يسأل الرسولصلى الله عليه وسلم عن كل ما تجيش به نفسه، أو يشغل خاطره[7]، لقد استمد من رسول الله علماً وتربية، ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم وخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم برعايته، وشمله بتسديده، ولقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أني لأرى الري يخرج من أظافري، ثم أعطيت فضلي يعني عمر. قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم[8]. قال ابن حجر: والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]. وهذه المعرفة لا يمكن تَأتِّيها إلا لمن كان راسخ القدم في التزود بما يعينه على فهم كتاب الله، وسنة نبيه، وسبيله في ذلك: التعمّق في فهم اللغة وآدابها، والتمرس في معرفة أساليبها، والتزود في كل ما يساعد على فهمها من معارف وخبرات، وكذلك كان عمر رضي الله عنه[10]، ولقد جمع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عمر حب شديد، والحب عامل هام في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وبين تلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية والثقافية، لما له من عطاء متجدد وعمر قد أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً جماً، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر دعوته، فقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين[11]. فقال له عمر: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل أحد إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال: فأنت أحب إلي من نفسي قال: الآن يا عمر[12]. واستأذن عمر يوماً إلى عمرة فقال له صلى الله عليه وسلم: لا تنسنا يا أخي في دعائك[13] . فقال عمر: ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: يا أخي[14]. وهذا الحب السامي الشريف هو الذي جعل عمر يلازم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته، وقد أمده ذلك بخبرة ودربة ودراية بشؤون الحرب، ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، كما أن ملازمته للرسول صلى الله عليه وسلم وكثرة تحدثه معه، قد طبعه على البلاغة والبيان والفصاحة وطلاقة اللسان، والتفنن في أوجه القول[15] وفي النقاط القادمة سنبين بإذن الله تعالى مواقفه في الميادين الجهادية مع رسول الله، وبعض الصور من حياته الاجتماعية بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. أولاً: عمر رضي الله عنه في ميادين الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتفق العلماء على أن عمر رضي الله عنه شهد بدراً، وأحداً، والمشاهد كلها مع رسول الله ولم يغب عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم[16]. 1- غزوة بدر: شارك عمر رضي الله عنه في غزوة بدر، وعندما استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل المعركة، تكلم أبو بكر رضي الله عنه أول من تكلم، فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين، ثم الفاروق عمر رضي الله عنه فأحسن الكلام، ودعا إلى قتال الكافرين[17]، وكان أول من استشهد من المسلمين يوم بدر مِهجع[18] مولى عمر رضي الله عنه[19]، وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاله العاص بن هشام[20] ضارباً بالقرابة عرض الحائط أمام رابطة العقيدة، بل كان يفخر بذلك تأكيداً لهذه الفكرة وبعد انتهاء المعركة أشار بقتل أسارى المشركين، وفي تلك الحادثة دروس وعبر عظيمة قد ذكرتها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، وعندما وقع العباس عمّ النبي في الأسر حرص عمر على هدايته وقال له: يا عباس أسلم، فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك[21]، وكان من بين الأسرى خطيب قريش سهيل بن عمرو، فقال لرسول الله: يا رسول الله، دعني أنتزع ثنيتي سهيل بن عمرو فيدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وإن عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه[22]، وهذا ما حدث فعلاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم عدد من أهل مكة بالرجوع عن الإسلام، حتى خافهم والي مكة عتاب بن أسيد فتوارى، فقام سهيل بن عمرو، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة النبي وقال: إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رابنا ضربنا عنقه فتراجع الناس عن رأيهم[23] وحدثنا عمر عن حديث سمعه من رسول الله عندما خاطب مشركي مكة الذي قتلوا ببدر، فعن أنس قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءَيْنا الهلال، وكنتُ حديدَ البصر فرأيته، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ قال: سأراه وأنا مُستلقٍ على فراشي، ثم أخذ يُحدثنا عن أهل بدر، قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيُرينا مصارعهم بالأمس، يقول: هذا مصرع فلان غداً، إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، قال: فجعلوا يُصرعون عليها، قال: قلت: والذي بعثك بالحق، ما أخطؤوا تِيكَ، كانوا يُصرَعون عليها ثم أمر بهم فطُرحُوا في بئر، فانطلق إليهم، فقال: يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وَعَدكم الله حقاً، فإني وجدت ما وعدني الله حقاً قال عمر: يا رسول الله، اتكلم قوماً قد جَيَّفوا؟ قال: ما أنتم بأسمَعَ لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يُجيبوا[24]، وعندما جاء عمير بن وهب إلى المدينة قبل إسلامه في أعقاب بدر يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، وما أراهم في عدوهم، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب وقد أناخ راحلته على باب المسجد متوشحاً سيفه، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، ما جاء إلا لشر وهو الذي حرش بيننا، وحرزنا للقوم يوم بدر. ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحاً سيفه. قال: فأدخله عليّ، قال: فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة[25] سيفه في عنقه فلببه[26]، بها وقال لمن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده، واحذروا عليه من هذا الخبيث، فإنه غير مأمون. ثم دخل به على رسول الله فلما رآه رسول الله وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال: أرسله يا عمر، أدن يا عمير. فدنا ثم قال: انعموا صباحاً وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم، فقال رسول الله: أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام تحية أهل الجنة[27].فقال: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه. قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً قال أصدقني، ما الذي جئت له، قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمداً فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك، على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك. قال عمير: أشهد أنك لرسول الله، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، ثم شهد شهادة الحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره ففعلوا[28]. ومن خلال هذه القصة يظهر الحس الأمني الرفيع الذي تميز به عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد انتبه لمجيء عمير بن وهب وحذّر منه، وأعلن أنه شيطان ما جاء إلا لشر، فقد كان تاريخه معروفاً لدى عمر، فقد كان يؤذي المسلمين في مكة وهو الذي حرّض على قتال المسلمين في بدر، وعمل على جمع المعلومات عن عددهم، ولذلك شرع عمر في أخذ الأسباب لحماية الرسول فمن جهته فقد أمسك بحمالة سيف عمير الذي في عنقه بشده فعطله عن إمكانية استخدامه سيفه للاعتداء على الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر نفراً من الصحابة بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم[29]. 2- غزوة أحد، وبني المصطلق والخندق: من صفات الفاروق الجهادية: علو الهمة، وعدم الصغار، والترفع عن الذلة حتى ولو بدت الهزيمة تلوح أمامه، كما حدث في غزوة أحد، ثانية المعارك الكبرى التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعند ما وقف أبو سفيان في نهاية المعركة وقال أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن أبي قحافة، فقال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء القوم قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر رضي الله عنه نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعل هبل[30]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجيبوه. قالوا ما تقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، قال أبو سفيان يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وتجدون مُثلة لم آمر بها ولم تَسُؤني[31] ، وفي رواية قال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار[32]. فجاءه، فقال له أبو سفيان: أنشدك الله يا عمر، أقتلنا محمداً؟ قال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن، قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر، لقول ابن قمئة لهم: إني قد قتلت محمداً[33] . كان في سؤال أبي سفيان عن رسول الله وأبي بكر وعمر دلالة واضحة على اهتمام المشركين بهؤلاء دون غيرهم لأنه في علمهم أنهم أهل الإسلام وبهم قام صرحه وأركان دولته وأعمدة نظامه، ففي موتهم يعتقد المشركون أنه لا يقوم الإسلام بعدهم، وكان السكوت عن إجابة أبي سفيان أولا تصغيراً له حتى إذا انتشى وملأه الكبر أخبروه بحقيقة الأمر وردوا عليه بشجاعة[34] . وفي غزوة بني المصطلق كان للفاروق موقف متميز، ونترك شاهد عيان يحكي لنا ما شاهده، قال جابر بن عبد الله الأنصاري: كنا في غزاة فكسع[35] رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول الله فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد الله ابن أبي فقال: فعلوها:؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع ذلك عمر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال عمر: كلام فيه نقص فقال ذلك فقال: يا رسول الله: دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[36]، وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مر به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف ياعمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا. ولكن أذن بالرحيل وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس[37] ومن مثل هذه المواقف والتوجيهات النبوية استوعب عمر رضي الله عنه فقه المصالح والمفاسد، فهذا الفقه يظهر في قولهصلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[38]، إنها المحافظة التامة على السمعة السياسية، ووحدة الصف الداخلية، والفرق كبير جداً بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداً، ويؤكدون على ذلك بلسان قائدهم الأكبر أبي سفيان: ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً[39]، وبين أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة ستتم في محاولة الدخول إلى الصف الداخلي في المدينة من العدو بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتلك التضحيات[40] وفي غزوة الخندق يروي جابر فيقول: أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس، فجعل يسُبُّ كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس تغرب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأنا والله ما صليتها، فنزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بُطحان[41]، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم بعدها المغرب[42].
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنته بعد..!! طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله، طوبى للقابضين على الجمر، كلما وهنوا قليلاً تعزوا بصوت النبيِّ صل الله عليه وسلم ينادي فيهم: " لا تبرحوا أماكنكم " ! |
#47
| ||
| ||
3- صلح الحديبية، وسريه إلى هوازن، وغزوة خيبر: وفي الحديبية دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر ليبعثه إلى مكة، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء به، فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عديّ بن كعب أحد يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي لها وغلظتي عليها، ولكني أدلُّك على رجل أعزّ بها مني، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته[43]، وبعد الاتفاق على معاهدة الصلح وقبل تسجيل وثائقها ظهرت بين المسلمين معارضة شديدة وقوية لهذه الاتفاقية، وخاصة في البندين اللذين يلتزم النبي بموجبهما بردّ ما جاء من المسلمين لاجئاً، ولا تلتزم قريش برد ما جاءها من المسلمين مرتداً، والبند الذي يقضي بأن يعود المسلمون من الحديبية إلى المدينة دون أن يدخلوا مكة ذلك العام، وقد كان أشد الناس معارضة لهذه الاتفاقية وانتقاداً لها، عمر بن الخطاب، وأسيد بن حضير سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وقد ذكر المؤرخون أن عمر بن الخطاب أتى رسول الله معلناً معارضته لهذه الاتفاقية وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه[44]، وفي رواية: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني[45]، قلت أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قلت: لا، قال فإنك آتيه ومطوف به قال عمر: فأتيت أبا بكر فقلت له: يا أبا بكر: أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر ناصحاً الفاروق بأن يترك الاحتجاج والمعارضة إلزم غرزه فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله[46]، وبعد حادثة أبي جندل المؤلمة المؤثرة عاد الصحابة إلى تجديد المعارضة للصلح، وذهبت مجموعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم عمر بن الخطاب لمراجعتة، وإعلان معارضتهم مجدداً للصلح إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطاه الله من صبر وحكمة وحلم وقوة حجة استطاع أن يقنع المعارضين بوجاهة الصلح، وأنه في صالح المسلمين وأنه نصر لهم[47]، وأن الله سيجعل للمستضعفين من أمثال أبي جندل فرجاً ومخرجاً، وقد تحقق ما أخبر بهصلى الله عليه وسلم، وقد تعلم عمر رضي الله عنه من رسول الله احترام المعارضة النزيهة ولذلك نراه في خلافته يشجع الصحابة على إبداء الآراء السليمة التي تخدم المصلحة العامة[48]، فحرية الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقداً لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن والأمان دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر، ونفهم من معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن المعارضة لرئيس الدولة في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون[49]. لم يكن ذلك الموقف من الفاروق شكّاً أو ريبة فيما آلت إليه الأمور، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثّاً على إذلال الكفار، لما عرف من قوته في نصرة الإسلام[50]، وبعد ما تبينت له الحكمة قال عن موقفه بالحديبية: ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً[51]. وفي شعبان سنة 7 من الهجرة بعث رسول الله عمر بن الخطاب إلى تربة في ثلاثين رجلاً إلى عُجزِ[52] هوازن بتربة وهي بناحية القبلاء[53]، على أربع مراحل من مكة[54]، فخرج، وخرج معه دليل من بني هلال[55]، فكان يسير الليل ويكمن النهار، فأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً فانصرف راجعاً إلى المدينة رضي الله عنه[56] وفي رواية: قال له الدليل الهلالي: هل لك في جمع آخر تركته من خَشْعَمَ سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله بهم، إنما أمرني أن أعْمَدَ لقتال هوازن بتُربة[57]، وهذه السرية تدلنا على ثلاث نتائج عسكرية: الأولى: أن عمر أصبح مؤهلاً للقيادة إذ لولا ذلك لما ولاه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قيادة سرية من سرايا المسلمين تتجه إلى منطقة بالغة الخطورة وإلى قبيلة من أقوى القبائل العربية وأشدها شكيمة. والثانية: أن عمر الذي كان يكمن نهاراً ويسير ليلاً، مشبع بمبدأ المباغتة، أهم مبادئ الحرب على الإطلاق، مما جعله يباغت عدوه ويجبره على الفرار، وبذلك انتصر بقواته القليلة على قوات المشركين الكثيرة. والثالثة: أن عمر ينفذ أوامر قائدة الأعلى نصاً وروحاً، ولا يحيد عنها، وهذا هو روح الضبط العسكري وروح الجندية في كل زمان ومكان[58] . وفي غزوة خيبر عندما نزل رسول الله بحضرة أهل خيبر أعطى رسول الله اللواء[59] عمر بن الخطاب، فنهض معه من نهض من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله لأعطين اللواء غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فلما كان غداً تصدر[60] لها أبو بكر، وعمر، فدعا علياً، وهو أرمد[61] ، فتفل في عينيه وأعطاه اللواء، ونهض معه من الناس من نهض فتلقى أهل خيبر فإذا مرحب يرجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب أطعن أحياناً وحيناً أضرب شاك السلاح بطل مجرب إذا الليوث أقبلت تلهب فاختلف هو وعلي – رضي الله عنه – فضربه علي على هامته حتى عضى السيف منه بيضتي[62] رأسه، وسمع أهل المعسكر صوت ضربته، فما تتام آخر الناس مع علي حتى فتح الله لهم وله. وعندما أقبل في خيبر نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا، إني رأيته في النار في بردة غلَّها، أو عباءة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون قال: فخرجت فناديت: ألا أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون[63]. 4- فتح مكة وغزوة حنين وتبوك: لما نقضت قريش صلح الحديبية بغدرها، خشيت من الخطر القادم من المدينة، فأرسلت أبا سفيان ليشد العقد ويزيد في المدة، فقدم على رسول الله فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان ولكن بدون جدوى، وخرج حتى أتى رسول الله فكلمه فلم يردّ عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله، فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله؟ والله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به[64]، وعندما أكمل النبي صلى الله عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم فيه بنبأ تحرك النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحي على هذه الرسالة، فقضى صلى الله عليه وسلم على هذه المحاولة في مهدها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم علياً والمقداد فأمسكوا بالمرأة في روضة خاخ على بعد اثني عشر ميلاً من المدينة، وهددوها أن يفتشوها إن لم تخرج الكتاب فسلمته لهم ثم استدعي حاطب رضي الله عنه للتحقيق فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش -يقول- كنت حليفا ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما إنه قد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله، دعني اضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم، إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم[65] ومن الحوار الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعُمر بن الخطاب في شأن حاطب يمكن أن نستخرج بعض الدروس والعبر منها. - حكم الجاسوس القتل، فقد أخبر عمر بذلك ولم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن منع من إيقاع العقوبة بسبب كونه بدرياً. - شدة عمر في الدين: لقد ظهرت هذه الشدة في الدين حينما طالب بضرب عنق حاطب. - الكبيرة لا تسلب الإيمان: إن ما ارتكبه حاطب كبيرة وهي التجسس ومع هذا ظل مؤمنا. - لقد أطلق عمر على حاطب صفة النفاق بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي في عهده صلى الله عليه وسلم. إذ النفاق إبطان الكفر والتظاهر بالإسلام، وإنما الذي أراده عمر، إنه أبطن خلاف ما أظهر إذ أرسل كتابه الذي يتنافى مع الإيمان الذي خرج يُجاهد من أجله ويبذل دمه في سبيله[66]. - تأثر عمر من رد الرسول صلى الله عليه وسلم فتحول في لحظات من رجل غاضب ينادي بإجراء العقوبة الكبيرة على حاطب إلى رجل يبكي من الخشية والتأثر ويقول: الله ورسوله أعلم، ذلك لأن غضبه كان لله ورسوله فلما تبين له أن الذي يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم غير ما كان يراه غض النظر عن ذلك الخطأ ومعاملة صاحبه بالحسنى تقديراً لرصيده في الجهاد واستجاب[67]. وعندما نزل رسول الله بمر الظهران وخشي أبو سفيان على نفسه وعرض عليه العباس عمّ رسول الله طلب الأمان من رسول الله فوافق على ذلك يقول العباس بن عبد المطلب قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس واصباح قريش والله، قال فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قال: قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فأستأمنه لك، قال: فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول الله على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال: من هذا؟ وقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال قلت: يا رسول الله إني قد أجرته، فلما أكثر عمر من شأنه قلت: مهلاً يا عمر، فوالله أن لو كان من بني عدي ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: إذهب به ياعباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به[68]، فهذا موقف عمر –رضى الله عنه- وهو يرى عدو الله يمر بقوات المسلمين، محتمياً بظهر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد بدا ذليلاً خائفاً، فيود عمر –رضي الله عنه- أن يضرب عنق عدو الله قربى إلى الله تعالى وجهاداً في سبيله، ولكن الله تعالى قد أراد الخير بأبي سفيان فشرح صدره للإسلام، فحفظ دمه ونفسه[69]. وفي غزوة حنين، باغت المشركون جيش المسلمين وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وإنحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين ثم قال: أين أيها الناس؟ هلموا إليّ أنا رسول الله: أنا محمد بن عبد الله، فلم يسمع أحد، وحملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق الناس إلا أنه بقي مع رسول الله نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته وكان فيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وابنه الفضل، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه، وربيعة بن الحارث وغيرهم[70]، ويحكي أبو قتادة عن موقف عمر في هذه الغزوة فيقول: خرجنا مع رسول الله عام حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فضربته من ورائه على عاتقه[71]، بسيف فقطعت الدرع، وأقبل عليّ فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ فقال: أمر الله، ثم رجعوا[72]. قال تعالى عن هذه الغزوة: } لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ25{ التوبة الآية: 25 فلما تاب الله تعالى على المؤمنين بعد أن كادت الهزيمة تلحق بهم نصر الله أولياءه، بعد أن أفاؤوا إلى نبيهم واجتمعوا حوله، فأنزل الله سكينته ونصره على جنده وقال تعالى يقص علينا ذلك:} ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ26 { التوبة، آية 26. وبعد معركة حنين عاد المسلمون إلى المدينة وبينما هم يمرون بالجعرانة[73]، كان رسول الله يقبض الفضة من ثوب بلال رضي الله عنه ويعطي الناس، فأتى رجل وقال لرسول الله: يا محمد، اعدل، قال رسول الله: ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه دعني يا رسول الله، فأقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم[74]، يمرقون منه كما يمرق السهم[75] من الرمية[76]، ففي هذا الموقف منقبة عظيمة لعمر رضي الله، فهو لا يصبر إذا انتهكت أمامه المحارم، فقد اعتدي على مقام النبوة والرسالة، فما كان من الفاروق إن أسرع قائلاً: دعني يا رسول الله، أقتل هذا المنافق. هذا هو رد الفاروق أمام من ينتهكون قدسية النبوة والرسالة[77]، وفي الجعرانة لبّى عمر رضي الله عنه رغبة يعلى بن أمية التميمي الصحابي المشهور في رؤية رسول الله حين ينزل عليه الوحي، فعن صفوان بن يعلى، أن يعلى كان يقول: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل[78] عليه قال: فبينما النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة[79]، وعليه ثوب قد أُظلَّ به، معه فيه ناس من أصحابه، إذ جاءه أعرابي عليه جُبَّة متضمِّخٌ[80]، بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فأشار عمر على يعلى بيده، أن تعالَ فجاء يعلى فإذا النبي صلى الله عليه وسلم مُحمَرُّ الوجه، يغط[81] كذلك ساعة، ثم سُرِّي عنه قال: أين الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبّةُ فاترعها، ثم ضع في عمرتك كما تضع في حجك[82] وأما في غزوة تبوك فقد تصدق بنصف ماله، وأشار على رسول الله بالدعاء للناس بالبركة عندما أصاب الناس مجاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك[83]، أصاب الناس مجاعة، فقالوا يا رسول الله لو أذنت فذبحنا نواضحنا[84]، فأكلنا وادَّهنَّا، فقال لهم رسول الله: افعلوا، فجاء عمر فقال يا رسول إنهم إن فعلوا قل الظّهر، ولكن ادعهم فليأتوا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف الذرة، والآخر بكف التمر، والآخر بالكسرة، حتى اجتمع من ذلك على النطع شيء يسير، ثم دعا صلى الله عليه وسلم بالبركة ثم قال: خذوا في أوعيتكم فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملأوه وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت منه فضلة، فقال رسول الله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك، فيحجب عن الجنة[85]. هذه بعض المواقف العمرية التي شاهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شك أن الفاروق قد استوعب الدروس والعبر والفقه الذي حدث في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبحت له زاداً انطلق به في ترشيد وقيادة الناس بشرع الله تعالى.
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنته بعد..!! طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله، طوبى للقابضين على الجمر، كلما وهنوا قليلاً تعزوا بصوت النبيِّ صل الله عليه وسلم ينادي فيهم: " لا تبرحوا أماكنكم " ! |
#48
| ||
| ||
ثانياً: من مواقفه في المجتمع المدني: كان عمر شديد الحرص على ملازمة رسول الله وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله لم يترك المجلس حتى ينفض، فهو واحد من الجمع القليل الذي لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب حين قدمت عير إلى المدينة[86]، وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة بين يدي رسول الله في الشؤون الخاصة والعامة[87]، ولذلك فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً[88]، وفي رواية: خمسمائة وسبعة وثلاثين حديثاً[89]، اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين[90]، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى[91]، وقد وفقه الله إلى رواية أحاديث لها قيمتها الأولوية في حقيقة الإيمان والإسلام والإحسان والقضاء والقدر، وفي العلم والذكر والدعاء وفي الطهارة والصلاة والجنائز، والزكاة والصدقات، والصيام، والحج، وفي النكاح والطلاق والنسب، والفرائض، والوصايا والاجتماع، وفي المعاملات والحدود، وفي اللباس والأطعمة والأشربة والذبائح، وفي الأخلاق والزهد والرقاق والمناقب والفتن والقيامة، وفي الخلافة والإمارة والقضاء، وقد أخذت هذه الأحاديث مكانها في مختلف العلوم الإسلامية، ولا تزال رافداً يمد هذه العلوم[92]، وإليك بعض المواقف التعليمية والتربوية والاجتماعية من حياة الفاروق مع رسول الله في المدينة. 1- رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عمر عن السائل: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أخبرني عمر بن الخطاب أنهم بينما هم جلوس – أو قعود – عند النبي صلى الله عليه وسلم، جاءه رجل يمشي، حسن الوجه، حسن الشعر، عليه ثياب بياض، فنظر القوم بعضهم إلى بعض: ما نعرف هذا، وما هذا بصاحب سفر. ثم قال: يا رسول الله، آتيك؟ قال: نعم. فجاء فوضع ركبتيه عند ركبتيه، ويديه على فخذيه، فقال: ما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. قال: فما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، والجنة والنّار، والبعث بعد الموت، والقدر كلِّه. قال: فما الإحسان؟ قال: أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فمتى الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السَّائل. قال: فما أشراطها؟ قال: إذا العُراة الحفاة العالة رعاء الشاء تطاولوا في البنيان، ووَلَدت الإماء أربابهنَّ[93]. قال: ثم قال عليَّ الرّجُلَ، فطلبوه فلم يروا شيئاً، فمكث يومين أو ثلاثة، ثم قال: يا ابن الخطاب أتدري من السائل عن كذا وكذا؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك جبريل جاءكم يعلمكم دينكم[94]. وهذا الحديث يبين أن الفاروق تعلم معاني الإسلام والإيمان والإحسان بطريقة السؤال والجواب من أفضل الملائكة وأفضل الرسل. 2- إصابة رأيه رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو بكر وعمر، في نفر. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا، وقمنا، فكنت أوّل من فزع فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً[95] للأنصار لبني النجار فدرت به هل أجد له باباً فلم أجد، فإذا ربيع[96] يدخل في جوف حائط من بئر خارجة فاحتفزت[97] فدخلت على رسول الله فقال أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله قال: ما شأنك؟ قلت: كنت بين ظهرينا، فقمت فأبطأت علينا، فخشينا أن تقطع دوننا، ففزعنا، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب، وهؤلاء الناس ورائي. فقال: يا أبا هريرة – وأعطاني نعليه – اذهب بنعلي هاتين فمن لقيته من وراء الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة. وكان أول من لقيت عمر، فقال: ما هذان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هذان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني بهما من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه بشرته بالجنة. فضرب عمر بين ثديَيَّ بيده، فخررت لأستي، فقال: ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بالبكاء وركبني[98] عمر. وإذا هو على أثري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا هريرة؟ قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني[99] به فضرب بين ثدييَّ ضربة فخررت لإستي، فقال: ارجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر ما حملك على ما فعلت؟ فقال: يا رسول الله، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً به قلبه بَشَّرَهُ بالجنة؟ قال: نعم. قال: فلا تفعل؛ فإني أخاف أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلِّهِم[100]. 3- حرص رسول الله على توحيد مصدر تلقي الصحابة: عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: أمتهوكون[101] يا بن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي وفي رواية: أن لو كان موسى حياً ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم[102]. 4- رسول الله يتحدث عن بدءِ الخلق: عن طارق بن شهاب قال سمعت عمر رضي الله عنه يقول قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه[103]. وهذا الحديث يدخل ضمن فقه القدوم على الله الذي فهمه عمر من رسول الله. 5- نهي رسول الله عن الحلف بالآباء وحثه على التوكل على الله: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها، ولا تكلمت بها ذاكراً ولا آثراً[104]، وسمع عمر رضي الله عنه نبي الله يقول: لو أنكم توكَّلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً[105]. 6- رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً: عن أبي موسى قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها، فلما أكثر عليه غضب، ثم قال للناس. سلوني عمّا شئتم، قال رجل: من أبي؟ قال: أبوك حذافة فقام آخر، من أبي؟ قال: أبوك سالم مولى شيبة[106]، فلما رأى عمر ما في وجهه، قال: يا رسول الله إنا نتوب إلى الله عز وجل[107]، وفي رواية: فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، فسكت[108]. 7- لا ونعمةَ عينٍ بل للناس عامة: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: امرأة جاءت تبايعه فأدخلها الدولج[109] فأصبت منها ما دون الجماع؟ فقال: ويحك لعلها مُغيبة[110] في سبيل الله؟ ونزل القرآن:} وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ114 { هود،آية:114. فقال: يا رسول الله إلي خاصة أم للناس عامة، فضرب صدره – يعني عمر – بيده، وقال: لا، ولا نعمة عين بل للناس عامة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق عمر[111]. 8- حكم العائد في صدقته: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه، فأردت أن أبتاعه وظننت أنه بائعه برخص، فقلت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تبتعه، وإن أعطاكه بدرهم، فإن الذي يعود في صدقته كالكلب يعود في قيئه[112]. 9- من صدقاته ووقفه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر تصدق بمال له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقال له: ثمغ، وكان به نخل، فقال عمر: يا رسول الله إني استفدت مالاً، وهو عندي نفيس، فأردت أن أتصدق به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدق بأصله، لا يباع ولا يوهب، ولا يورث، ولكن ينفق ثمر. فتصدق به عمر، فصدقته تلك في سبيل الله، وفي الرقاب، والمساكين، والضيف وابن السبيل، ولذوي القربى، ولا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، أو يؤكل صديقه غير متمولٍ به[113]، وفي رواية: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط. أنفس منه، كيف تأمرني به؟ قال:إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أويطعم صديقاً غير متموِّل فيه[114]، فهذا الموقف العمري فيه فضيلة ظاهرة للفاروق رضي الله عنه ورغبته في المسارعة للخيرات، وإيثاره الحياة الآخرة على الحياة الفانية. 10- هدية نبوية لعمر بن الخطاب وأخرى لابنه: عن ابن عمر قال: رأى عمر على رجل حلة من استبرق، فأتى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اشتر هذه فالبسها لوفد الناس إذا قدموا عليك. قال: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له. فمضى من ذلك ما مضى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه بحلة، فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بعثت إلي بهذه، وقد قلت في مثلها أو قال في حُلة عطارد[115] ما قلت؟ قال: إنما بعثت إليك لتصيب بها مالاً[116] وفي رواية: … فكساها عمر أخاً له بمكة قبل أن يسلم[117]، وأما هدية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر، فعن عبد الله بن عمر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكنت على بكر صعب[118] لعمر، فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم، فيزجره عمر ويرده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه. قال: هو لك يا رسول الله قال: بعنيه: فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو لك يا عبد الله بن عمر تصنع به ما شئت[119]. 11- تشجيعه لابنه وبشرى لابن مسعود: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدِّثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنّها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة. قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إلي من أن يكون لي كذا وكذا[120]. وأما بشرى عمر لابن مسعود، فقد روى عمر رضي الله عنه أنه سمر في بيت أبي بكر مع رسول الله في أمور المسلمين، فخرج رسول الله، وخرجنا معه، فإذا رجل قائم يصلِّي في المسجد، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءته فلما كدنا أن نعرفه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد. قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل رسول الله يقول له: سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ. قال عمر: قلت: والله لأغدون إليه فلأبشرنه، قال فغدوت إليه لأبشره فوجدت أبا بكر قد سبقني إليه فبشره، ولا والله ما سابقته إلى خير قط إلا سبقني إليه[121]. 12- حذره من الابتداع: عن المسور بن مخرمة[122]، وعبد الرحمن بن عبد القاريّ أنهما سمعا عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤُها على حروف كثيرة، لم يُقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أُساوره[123] في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، فلببته[124]، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: كذبت، فوالله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده، فقلت له: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ الفرقان على حروف لم تُقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان، قال: يا هشام اقرَأها. فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرات القراءة التي أقرأنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت. ثم قال رسول الله: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه[125]. 13- خذ ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل: عن عبد الله بن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قد كان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر مني حتى أعطاني مرة مالاً. فقلت: أعطه من هو أفقر مني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذه، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك[126]. 14- دعاء رسول الله لعمر رضي الله عنه: رأى النبي صلى الله عليه وسلم على عمر ثوباً وفي رواية قميصاً أبيض فقال: أجديد ثوبك أم غسيل؟ فقال: بل غسيل، فقال: البس جديداً، وعش حميداً، ومُت شهيداً[127]. 15- لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها: عن جابر بن عبد الله: أن أباه تُوُفِّي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال لجابر: جُدَّ له، فأوف له الذي له، فجده بعد ما رجع رسول الله فأوفاه ثلاثين وسقاً[128]، وفضلت له سبعة عشر وسقاً، فجاء جابر رسول الله ليخبره بالذي كان، فوجده يصلي العصر، فلما انصرف أخبره بالفضل، فقال: أخبر بذلك ابن الخطاب، فذهب جابر إلى عمر فأخبره فقال له عمر: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله ليباركن فيها[129]. 16- زواج حفصة بنت عمر رضي الله عنهما من رسول الله: قال عمر رضي الله عنه: حين تأيمت[130] حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر، قال: قلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبث لياليَ، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إليَّ شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان بن عفان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال عمر: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي، إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله لقبلتها[131] .
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنته بعد..!! طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله، طوبى للقابضين على الجمر، كلما وهنوا قليلاً تعزوا بصوت النبيِّ صل الله عليه وسلم ينادي فيهم: " لا تبرحوا أماكنكم " ! |
#49
| ||
| ||
ثالثاً: موقف عمر رضي الله عنه من خلاف رسول الله مع أزواجه: عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر رضي الله عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، اللتين قال الله تعالى: } إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا { التحريم: 4 حتى حجَّ عمر وحججت معه، فلما كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة، فتبرز ثم أتاني، فسكبت على يديه فتوضأ، فقلت، يا أمير المؤمنين، من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: } إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا {؟ فقال عمر: واعجبا لك يا ابن عباس: قال الزهري: كره، والله ما سأله عنه ولم يكتمه عنه – قال هي حفصة وعائشة. قال: ثم أخذ يسوق الحديث، قال: كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، قال: وكان منزلي في بني أمية بن زيد بالعوالي، قال: فتغضبت[132] يوماً على امرأتي، فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك، فو الله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وتهجره إحداهنَّ اليوم إلى الليل. قال: فانطلقت، فدخلت على حفصة، فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم. قلت: وتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟ قالت: نعم. قلت: قد خاب من فعل ذلك منكنَّ وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب عليها لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هي قد هلكت لا تراجعي رسول الله ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك - يريد عائشة -: قال وكان لي جار من الأنصار، وكنّا نتناوب النّزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينزل يوماً، وأنزل يوماً، فيأتيني بخبر الوحي وغيره، وآتيه بمثل ذلك، قال: وكنا نتحدث أن غسّان تُنْعلُ الخيل لتغزونا، فنزل صاحبي يوماً، ثم أتاني عشاءً فضرب بابي، ثم ناداني فخرجت إليه، فقال: حدث أمر عظيم. فقلت: وماذا، أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم من ذلك وأطول، طلق الرّسول نساءه. فقلت: قد خابت حفصة وخسرت، قد كنت أظن هذا كائناً. حتى إذا صليت الصبح شددت علي ثيابي، ثم نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي، فقلت أطلقكن رسول الله؟ فقالت: لا أدري، هو هذا معتزل في هذه المشربة: فأتيت غلاماً له أسود، فقلت: استأذن لعمر، فدخل الغلام ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتُك له فصَمتَ، فانطلقت حتى أتيت المنبر، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلاً، ثم غلبني ما أجد، فأتيت الغلام فقلت: استأذن لعمر فدخل ثم خرج إليَّ، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبراً، فإذا الغلام يدعوني، فقال: ادخل، فقد أذن لك. فدخلت، فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إلي وقال؟ لا. فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله، وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فتغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني، فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُراجعنه، وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، فدخلت على حفصة، فقلت: لا يغرَّنك إن كانت جارتك هي أوسم وأحبَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى، فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم. فجلست، فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرُدُّ البصرَ إلا أهبة[133] ثلاثة، فقلت: ادع يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وُسِّع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالساً، ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا فقلت: استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عز وجل[134]. هذا ما تيسر جمعه وترتيبه من حياة الفاروق في المجتمع المدني ولقد نال عمر رضي الله عنه أوسمة رفيعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بينت فضله ودينه وعلمه رضي الله عنه وسنتحدث عنها بإذن الله.
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنته بعد..!! طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله، طوبى للقابضين على الجمر، كلما وهنوا قليلاً تعزوا بصوت النبيِّ صل الله عليه وسلم ينادي فيهم: " لا تبرحوا أماكنكم " ! |
#50
| ||
| ||
رابعاً: شيء من فضائله ومناقبه: إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء والمرسلين وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة[135]، وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه ومنها: 1- إيمانه وعلمه ودينه: فقد جاء في منزلة إيمانه رضي الله عنه ما رواه عبد الله بن هشام أنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر يا رسول الله، لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحبّ إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحبُّ إليّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر[136]. وأما علمه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم شربت – يعني اللبن – حتى أنظر إني الرّي يجري في ظفري أو في أظفاري، ثم ناولت عمر. فقالوا: فما أولته قال العلم[137]. وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة – ومنقبة لعمر رضي الله عنه – وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره.. والمراد بالعلم – في الحديث – سياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر في طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف عليُّ فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انشاراً، وأما دينه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض على عمر وعليه قميص اجتره. قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين[138]. 2- هيبة عمر وخوف الشيطان منه: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله صلى فدخل عمر ورسول الله يضحك. فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب. قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً[139] قط إلا سلك فجاً آخر[140] هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه[141]. قال ابن حجر: فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه. وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض، وقال النووي: هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل ما يحبه الشيطان قال ابن حجر والأول أولى[142]. 3- ملهم هذه الأمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر[143] هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدَّث. فقيل: المراد بالمحدث: الملهم. وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد، وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة.. بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس[144]. قال ابن حجر: والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات[145] وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه[146]، قال ابن القيم: ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير[147]. 4- لم أر عبقرياً يفري فريه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب[148]، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له[149]، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن[150]، وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً… الحديث ومعنى: استحالت صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأمّا العبقري فهو السيد وقيل: الذي ليس فوقه شيء ومعنى ضرب الناس بعطن أي أرووا إبلهم ثم آووا إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح وهذا المنام الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم وأشاع الإسلام رغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة وحصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لطولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين وكثرت الفتوحات والغنائم.. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه: أي لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: حتى ضرب الناس بعطن، قال القاضي عياض ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر وضرب الناس بعطن. لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما[151]. 5- غيرة عمر رضي الله وبشرى رسول الله له بقصر في الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طليحة وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت. لمن هذا؟ فقالوا: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك. فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار[152]، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً. فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله[153]؟ هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤيته قصراً في الجنة للفاروق وهذا يدل على منزلته عند الله تعالى[154]. 6- أحب أصحاب رسول الله إليه بعد أبي بكر: قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: قلت يا رسول الله، أيُّ الناس أحبّ إليك؟ قال: عائشة قلت: يا رسول الله، من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب ثم عدّ رجالاً[155]. 7- بشرى لعمر بالجنة: عن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له، فإذا أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي افتح له وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان[156].
__________________ إن كانت غزوة أحد قد انتهتْ فإن مهمة الرماة الذين يحفظون ظهور المسلمين لم تنته بعد..!! طوبي للمدافعين عن هذا الدين كل في مجاله، طوبى للقابضين على الجمر، كلما وهنوا قليلاً تعزوا بصوت النبيِّ صل الله عليه وسلم ينادي فيهم: " لا تبرحوا أماكنكم " ! |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
حملة (تثقيف الشيعه)معلومات لا يعرفها الكثير من الشيعه....!!! | مؤمن الرشيدي | نور الإسلام - | 121 | 11-15-2014 03:25 PM |
نظرة (الرافضه اليك وحكمهم فيك)ايها السنيّ الموحد...!!! | مؤمن الرشيدي | نور الإسلام - | 1 | 01-25-2013 08:04 PM |
تكفير الصحابه ما عدا ثلاثه عند(الرافضه)...!!! | مؤمن الرشيدي | نور الإسلام - | 8 | 04-18-2012 10:42 AM |