-5-
ألقى زين جسده فوق الأريكة الكبيرة وسط الصالة ، كما ألقى بمعطفه و حقيبته المدرسية جانبا ، استغرب كثيرا شعوره بالحر رغم جو نوفمبر البارد.
استلقى على الأريكة و ذهنه لايزال منشغلا بلايزا !
غير قادر على نزع صورتها من ذهنه ، تلك الفتاة الجميلة الرقيقة و ما تحركه في أعماقه ، عيناها الواسعة البريئة التي تشع اهتماما به و قلقا عليه ، و تلك العبارات الغامضة التي قالتها له و لا يستطيع التوقف عن التفكير فيها !
و رغم أنها جعلته مشتتا أكثر من قبل حتى و أججت شعوره البغيض بالضياع إلى أبعد حد ، إلا أنه ما كان نادما على تعرفه عليها ... لو كان ممكنا تسمية ما حدث اليوم تعارفا !
لكن لا معنى لأي من هذا الآن ، لقد استمر يتجول لساعات _و الهواء البارد يلفح وجهه دون أن يخفف من السخونة التي يشعر بها_ محاولا البحث عن جواب السؤال الأهم ، ما الذي يصيبه ؟!
رن الهاتف فوق المنضدة أمامه مقاطعا تساؤلاته ، فمد يده بتعب يلتقط سماعة الهاتف :
(آلو ... أهلا أمي.)
قال بصوته الخافت الهادئ ، بدت قلقة و هي تسأله :
(زين .. هل أنت بخير بني ؟ كدت أجن قلقا عندما لم تجب على إتصالاتي .. أين كنت ؟)
(لا داعي للقلق ، كنت أتجول قليلا ..)
(عند الشاطئ ، أليس كذلك ؟!)
(أعلم كيف تشعرين حيال ذلك ، لكنني بخير و لا شيء يدعو للقلق حقا.)
قالها وهو يغلق عينيه و يفركهما بإصبعه و إبهامه ، والدته الطيبة المسكينة !
رغم مرور سنوات على حادث اختفاءه إلا أنها دائمة الخوف من تكرار الأمر ، تخشى من اختفاءه مجددا عند ذلك الشاطئ الذي لا يكف يوما عن الذهاب إليه ، إنها خائفة من المرور عبر ذلك من جديد ، كما تعرب بين الحين و الآخر مبررة سبب قلقها الزائد عليه ، حتى أنها ما كانت لتذهب في رحلة العمل هذه لو امتلكت خيار الرفض.
(كيف يسير العمل ؟)
سألها محاولا تغير الموضوع ، فأجابت بتنهيدة :
(لقد عانينا من بعض المشاكل لكن كل شيء يسير بشكل جيد الآن ، كما و أن الجو دافئ هنا ، أخبرني هل تمطر عندكم ؟)
(ليس اليوم.)
قالها زين وهو يشعر أنه جالس تحت شمس صيفية ، و راح يجيب بصبر و هدوء على أسئلتها عن كل شيء و توصياتها له بالانتباه لطعامه و صحته ، إنه ناضج الآن و يستطيع تدبر أموره ، لا حاجة لأن تعيش في القلق طوال الشهرين الذين ستغيبهما عن المنزل.
تفاجأ زين حقا حين سألته :
(هل أنت مريض ؟ يبدو صوتك غريبا.)
كان يتحدث بصوت طبيعي جدا و أدهشه أن تشعر أن ثمة خطبا ما ، كذب قائلا :
(أنا بخير.)
(لا تبدو بخير يا زين .. أخبرني ما الخطب ؟)
(ما من خطب أبدا .. أنا متعب قليلا فحسب.)
صمت للحظات وهو يفكر فيما يمنعه من إطلاعها على حقيقة ما يصيبه من نوبات عجيبة ، و تخيل كم ستفزع لو فعل !
همست بتوتر :
(زين .. عدني أن تعتني بنفسك جيدا حتى عودتي ، لا أدري لما ينتابني شعور سيء بخصوصك !)
عقد زين حاجبيه :
(شعور سيء ... مثل ماذا ؟!)
أجابت بنبرة غريبة حزينة :
(لا أعلم تحديدا ... أشعر أن مكروها ما يقترب .. و أني قد أفقدك إلى الأبد ، و لا أستطيع إحتمال ذلك !)
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسمعها تواصل :
(شيء ما داخلي ينبئني باقتراب سوء ما ، و لم أستطع الكف عن التفكير في ذلك ، لو كان بوسعي إلغاء هذه الرحلة و العودة لفعلت ، أرجوك زين .. أرجوك عدني أن تعتني بنفسك لأجلي ، فأنت أهم ما لدي !)
(حسنا .. أنا أعدك !)
بدا ذلك أكثر من قلقها المعتاد ، بدا مزيدا من الكلام الغامض الذي يطالب بالإنتباه للنفس خشية الخطر المجهول الذي يتربص به ، راح زين يمرر يده في شعره بتوتر ، هل محيطه الذي تغير فجأة ؟ أم أنه هو الذي فقد صوابه ؟!
ضحكت أمه ضحكة متوترة ثم قالت :
(لعلك تخالني مصابة بجنون الارتياب !)
(آه .. لا .. أبدا !)
أجابها بأقصى طبيعية ممكنة ، و لم يعرف ماذا يقول أيضا !
تنهدت الأم و قالت :
(علي الذهاب الآن لدي الكثير من الأعمال لأنجزها .. لا تسهر كثيرا فغدا يوم دراسي ، محبتي !)
(إلى اللقاء.)
قال زين ، ثم أعاد سماعة الهاتف لمكانها متنهدا ، كم استغرب حديث والدته !
لكان قال بأنه أمر طبيعي بل و متوقع منها بعد سفرها ، لو لم يكن هو نفسه يملك شعورا مشابها ، شعور باقتراب خطر مجهول .. عليه الاعتراف بذلك ، لكن ماذا يعني هذا ؟!
اعتدل زين جالسا على الأريكة شاعرا بالتعب من كل هذا الغموض.
صعد إلى غرفته ليأخذ حماما باردا ، ثم ارتدى ثيابا خفيفة لأن الحمام البارد لم ينجح في تخفيض الحرارة التي يحس بها ، فاجأه الجوع الذي كان يشعر به و الذي سمح له بإلتهام قطعة بيتزا كبيرة الحجم كاملة ،
تذكر مرتاحا وهو يرتمي على فراشه أن نوباته العجبية لم تباغته سوى مرة واحدة هذا اليوم !
استعاد ذهنه صورة لايزا و شعوره الغريب باقتراب المجهول لا يفارقه ...
و بقي رأسه يدور من فكرة لأخرى حتى استسلم للنوم أخيرا.
¤ ¤ ¤
احتشدت الغيوم عند الأفق ، و هبت نسمات هواء باردة عصر ذلك اليوم.
كان زين واقفا عند نافذة غرفته ينظر إلى الخارج بشرود ، ينظر تحديدا إلى الفتاة التي تتحرك بخفة في حديقة المنزل المقابل ، لقد مر أسبوع على ذلك اليوم الذي خاطبها فيه عند الغابة ، و لايزا ظلت تتجاهله طوال هذا الأسبوع ، لا يدري لماذا يود و بشدة أن يرى تلك العيون الخضراء الدافئة عن قرب الآن ، لتجعله يختبر تلك الخفة الغريبة المريحة مجددا.
لكن ذلك كان مستحيلا و لايزا تصر بأقصى جهدها على أن تتجاهله ، صحيح أن ذلك سهل عليه مسألة مراقبتها ، لكن يبقى ذلك التوق المزعج شيئا حاضرا !
لقد راقبها طيلة الأسبوع ، (كما لو أنهما تبادلا الأدوار !)
فكر زين ساخرا من نفسه ، ثم عادت عيناه تتابعان حركاتها الرشيقة المرحة في حديقة المنزل ، كانت تلهو مع قطتها الصغيرة و تضحك بينما شعرها العسلي الناعم يتطاير حول وجهها بجمال ، إنها مفعمة بالحيوية و النشاط هذه الفتاة.
لقد لاحظ حبها لكل ما حولها و سرورها به لقد لاحظ حبها لكل ما حولها و سرورها به .. الناس .. الطبيعة .. و حتى الحيوانات الصغيرة!
إهتمام الفتاة بمثل هذه الأمور ليس اعتياديا هذه الأيام ، كما و أن الطريقة اللبقة الرقيقة التي تتحدث فيها و تحيي بها الآخرين أيضا تبدو مختلفة ... كما لو أنها من جيل آخر ، أرجع زين السبب في ذلك إلى كونها تربت على يد جدتها العجوز.
إن المرأة المسنة تبدو سيدة ارستقراطية خارجة من لوحة قديمة للعصور الوسطى ، كانت تملك أنفا شامخا و عينين سوداوين حادتين ، شعرها الشائب مربوط دائما بإحكام خلف رأسها و التجاعيد التي رسمها الزمن على وجهها تزيد ملامحها الجامدة قسوة ، لكن لايزا لا تشبهها في شيء ، بل إنها العكس تماما فهي ناعمة و لطيفة الملامح ، صحيح أنها قادرة على التأثير بمن حولها بنظرة كما قد تفعل جدتها ، لكن نظرتها تكون شيئا آخر بعيدا كل البعد عن تلك القسوة و ذلك التكلف ، ما كان بإمكانه تصور تعبير كذاك وهو يعلو عينيها الواسعة البريئة.
نهضت لايزا و أسرعت إلى الجدة العجوز التي خرجت إلى الحديقة ، كانت الجدة تقول شيئا ما و وجهها المتجهم ينظر بإتجاه منزله ، ارتفع بصرها إلى نافذة غرفته حيث كان يقف و منحته واحدة من تلك التحديقات الثاقبة المريبة كما العادة ، أرجع زين رأسه للخلف وهو يبادلها تحديقا صامتا فارغا.
هذه السيدة العجوز ... ترى هل كانت رؤيتها في تلك الليلة حلما ؟!
كلا .. ربما .. في الحقيقة هو ليس واثقا !
في تلك الليلة التي تلت تعرضه للهجوم المزعوم في الغابة القريبة ، مر بحالة عجيبة حتى أكثر من كل الغرائب في حياته ،
لقد كان يتألم كثيرا فالنوبات كانت تزداد سوءا مع مرور الوقت ، و قرر الخروج إلى الهواء الطلق ليخفف من شعور الإختناق الذي تخلفه تلك الحالة عادة ، و فقط عندما خطى أول خطوة إلى الرصيف شعر بأغرب شعور على الإطلاق !
شعر كمن غطس عميقا في مياه فاترة غمرت جسده بإحساس قوي من الخدر ، و صار يرى كل ما حوله ضبابيا .. كل شيء عدا ضياء ساطع من بعيد ينادي عليه !
تحرك جسده تلقائيا ، لم يكن يفكر و لم يكن يرى أي شيء عدا ذلك الضوء الذي يجذبه إليه بقوة غامضة !
لقد كان شيئا سحريا ، كانت قدماه تتحركان بخفة لا تكادان تلامسان الأرض ، و رأسه فارغ من كل شيء .. كل أفكاره و تساؤلاته .. كل شيء عدا هذا النداء الملح الذي ملأه بالسكينة ، ود لو يظل أسير ذلك الإحساس إلى الأبد !
لكن ذلك لم يدم طويلا ، فقد قطع عليه شخص ما السكينة التي كان غارقا فيها ،
قطعها بأن دفعه على الأرض بعنف زلزل الصورة الضبابية أمام عينيه و جعلها تنقشع عن الواقع لحظات رأى خلالها المرأة العجوز الطويلة القامة واقفة فوقه ،
تلفت حوله بحيرة عميقة لقد كان جالسا على رمال الشاطئ ، انتبه الآن فقط إلى صوت الموج الهادر.
بعيدا عن التفكير في ما أحضره إلى هنا تساءل وهو يرفع رأسه ليقابل الوجه المتغضن العابس أمامه ، من أين جاءت العجوز بتلك القوة التي دفعته بها ؟!
لعله كان حلما ... لعله مازال يحلم !
إهتز الواقع أمام عينيه في اللحظة التالية ، و إنسدل جفناه عندما شعر بذلك النداء يسحبه ليغرق تحت شلال ضياءه الخلاب من جديد ، كم هو مريح و مسالم هذا الشعور ، شعر بجسده ينهض دون أمر منه ليواصل المسير ...
كانت دهشته عظيمة عندما استيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه مستلقيا على الأريكة الكبيرة وسط الصالة !
حاول اقناع نفسه بأن ذلك لم يكن أكثر من حلم ، لكن الأمر تكرر في اليومين التاليين أيضا ، مع اختلاف بسيط وهو أنه لم يبتعد أبدا كما في المرة السابقة ، و دائما تظهر تلك العجوز أمامه و تدفعه للعودة ، لقد كان يختبر شعورا عكسيا عندما يعود إلى محيط منزله كما لو أنه يخرج من تلك المياه المخدرة !
هذا كان يحدث في المساء فقط بعد غروب الشمس و كان كل شيء يبدو عاديا في الصباح كما لو أن ما مر به مجرد حلم فقط.
و لازال لا يعلم أكان حلما أم حقيقة ؟!
عاد ينظر إلى المشهد أمامه مشوش الفكر ، ينظر إلى جيرانه الغامضين العاديي المظهر !
..
أنهت العجوز حديثها لحفيدتها و عادت إلى داخل المنزل.
علمت لايزا التي استغربت كيف كانت جدتها تحدق بالمنزل المقابل ، أن زين هناك حتما حيث كانت تنظر !
و قلبها يبدأ بوتيرة نبضاته السريعة كلما كان قريبا منها ، حققت له رغبته أخيرا و منحته نظرة سريعة تحمل الكثير من العواطف ، قابلتها عيناه الزرقاء الباردة بتعبير غريب لم تفهمه ، قبل أن تسرع هي إلى دخول المنزل فجدتها تحتاجها في أمر عاجل !
....