ماذا قال الأسد؟ نضال نعيسة
نزل خطاب الأسد كالماء البارد على تلك الرؤوس الحامية والنارية الكبيرة والصغيرة، في عواصم البداوة ومدن الملح أو في عواصم الاستكبار والإثم والعدوان والاستعمار التي كانت تعطي المهل، وتمنح الأيام، وتطالب بالرحيل، وتتوقع سقوط سوريا بأيام معدودات، وكانت تتوقع خطاب الخضوع، والركون والاستجداء، فرأت نفسها أمام خطاب التحدي والانتصار، ووجدت تلك الرؤوس الحامية نفسها في المربع الأول بعد سنتين من ضخ المال والسلاح وتجنيد آلاف الأقلام والأبواق المأجورة هنا وهناك للنيل من عزيمة الرجل وثنيه عن ترك سوريا لقمة سائغة بفم تلك الوحوش والذئاب الكاسرة والضباع الضارية التي دمرت شعوب المنطقة وضربت العيش والاستقرار بها تحت مسمى الثورات والربيع العربي وتركتها أثراً بعد عين، مع الإعلان الرسمي اليوم عن إفلاس تونس "الثورة".
وبغض النظر عن المبادرة التي أطلقها الأسد كسبيل للخروج من الأزمة، التي قد تكون عرضة لتجاذبات ونقاشات كثيرة، فقد قال الأسد كل ما يعتمل ويختلج في نفوس وضمائر السوريين، من فضح للمؤامرة الكونية وأبعادها، ومن يقف وراءها ويمولها، وأعلنها بصراحة الواثق المنتصر، بأن لا حوار مع القتلة ومع الإرهابيين، و"الدمى" وسنطارد آخر مرتزق وإرهابي في جبهة النصرة التي اعترفت أمريكا، راعية الثورات الليفية، بوجودها، لا بل زودتها وبما يخالف القانون الأمريكي، وتحديداً قانون الباتريوت لمكافحة الإرهاب، بمبلغ 25 مليون دولار. لا حوار مع الدمى المتحركة التي صنعت وفبركت في الدوائر الغربية والاستخباراتية المعروفة فهذه لا محل لها من الإعراب في سوريا، مستقبل سوريا يصنعه السوريون أنفسهم، وفي سوريا، ولن يكون القرار في سوريا، والحل إلا بيد السوريين، وبإرادة الشعب السوري البطل صانع المعجزات، ومسطـّر هذه الملحمة الأعظم في تاريخ البشرية التي تجلت بالصمود ومواجهة أعتى هجمة في التاريخ البشري وأوسع عدوان تتعرض له دولة مستقلة وذات سيادة، تنقض عليها 130 دولة دفعة واحدة، لجلب الديمقراطية على الطريقة الأمريكية لها.
ومن قلب دمشق، ويا للغرابة والعجب، "التي تدور المعارك على بعد أمتار من القصر الجمهوري"، حسب خطاب الإعلام المضلل إياه، وفي تلك القاعة الشامية الفخمة، في دار الأوبرا، دار الموسيقا والأوركسترا و"أورنينا" السورية، واللحن السوري الأول في التاريخ كرسالة على العمق الحضاري السوري الضارب في التاريخ، وكرمز للتمدن والحضارة والإبداع والتألق السوري الدائم، كانت كلمات الأسد تصل لمئات الملايين من المتابعين، حيث تم نقل الخطاب مباشرة عبر مئات القنوات التلفزيونية، لتنسف تلك الوقفة، وذاك الظهور خطاباً "ثورياً" كاملاً عن الحالة الأمنية الحقيقية في دمشق والضواحي، التي تم تطهير معظمها من رجس العصابات الإرهابية المدعومة أطلسياً، ومسهل لها تركياً، وممولة من منظومة النعاج البدوية الصحراوية.
لقد كان الأسد، وبطريقة جد دبلوماسية يفرض شروطه، شروط المنتصر، ويضع تصوراته، ويرسم ورؤيته لما هو قادم، وهذه لا يفعلها المهزومون. وضع الكرة في مرمى من يدعم ويسلح ويمول الجماعات التكفيرية التي تخرب وتدمر في سوريا، موضحاً للجميع طبيعة الصراع الذي تحاول ماكينات الإعلام تزييفه وتقديمه بلبوس رومانسي ثوري طاهر جذاب، قائلاً بأن الحل الأمني والعسكري لم يكن خياراً سورياً بل خيار الخارج التدميري، الذي يرفض حتى اللحظة السماح لأدواته بالحوار والتوصل لمخرج سلمي، والذي-الخارج- ما زال يسهل تدفق "الثوار" المسلحين، من كل حدب وصوب، ومما هب ودب، وقبّ على وجه الأرض، وحتى من جنسيات "أوروبية"، كما أعلن الرئيس الأسد ذلك صراحة. ألقى الضوء على الوضع العسكري بفشل الإرهابيين في السيطرة على أية بقعة من الأرض السورية خلافاً لما ينضح به إعلام التضليل. تكلم عن فشل المسلحين الذين تم استبدالهم بجبهة النصرة، التي لن يكون مصيرها بأفضل من مصير المسلحين، ملقياً الضوء، في الوقت ذاته، على التاريخ المشبوه للقاعدة التي تم تصنيعها غربياً وإطلاقها لتعيث فساداً وخراباً في الدول المستهدفة أمريكياً وإسرائيلياً. رفض أي كلام عن تقسيم سوريا غامزاً من طرف ماكينات التضليل التي تتحدث عن إقامة دويلات طائفية وإثنية هنا وهناك. تحدث عن بطولات نادرة وفردية للشعب الذي تصدى للعدوان والإرهاب. لم يخف الأسد حزنه وأسفه لما حل من خراب ودمار تسببت به آلة العدوان البربري، غير أن الثقة بإعادة البناء والإعمار، كانت أكبر بكثير وأوسع من مساحة الأسى والحزن. أنـّب الأتراك، ضمناً، الذين أساؤوا لعلاقات حسن الجوار التقليدية بين الشعوب المتحضرة، وسخر وتهكـّم من تلك الدول المجهرية، التي لا تاريخ ولا أصل لها، وتحاول أن تصنع تاريخاً وحضوراً من خلال بعث عصبيات الجاهلية، وتصدير الفتن والقتل لدول الجوار. لام الغرب على تدخله في شؤون الدول الأخرة في عودة مريبة ومرفوضة للحقب الاستعمارية التي ودّعتها البشرية، آخذاً عليه تحريضه لأتباعه وأذنابه في تأجيج الصراع. وجـّه الشكر للدول الصديقة، لروسيا، وإيران، والصين، والبريكس، في رسالة تحذيرية لرموز العدوان، بأن سوريا ليست لوحدها في الميدان، ولن تكون فريسة أو ذاك الهدف السهل المستباح، والنزهة المريحة لذئاب الناتو، مشدداً على استقلالية وسيادة سوريا ووحدتها وأن سوريا لن تقبل الوصاية ولا ترضى الخنوع ، ملوحاً على أن العالم لم يعد ذا قطبية أحادية، والقرار الدولي قد سحب تماماً من يد الغرب والأطلسي. لم ينس الرجل فلسطين، ولم ينس قضيتها ومحوريتها وأهميتها وأشار لخلفيتها في الصراع، رغم خيانة وتخاذل البعض المتربح والمتاجر بهذه القضية المقدسة، التي جدد التزام سوريا بها. بالمطلق، سوريا ستبقى سوريا، لن تكون نكرة، ولا دمية، أو لعبة بيد الغير، ستبقى كبيرة كما عرفتموها، وصانعة للتاريخ للقرار.
باختصار، الاسد لم يسقط، ولا تبدو أيامه معدودة، كما يشاع، وهو غير مستعد للرحيل الآن، وبمشيئة الآخر. إنه الخطاب الشامل الكامل، خطاب المنتصر، المتفاءل، والكلام هنا لقيصر الكرملين، فلاديمير بوتين، ولا يهم كل تلك الأصوات النشاز، وكل ذاك التشويش، ونقيق الضفادع، ونعيق الغربان، في إمبراطوريات الظلام.