عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام الإسلامية > نور الإسلام -

نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #31  
قديم 03-05-2013, 10:24 PM
 






تعقيبات على قصة موسى عليه السلام



وردت في قصة موسى بعض الآيات التي تحتاج لتوضيح معناها، ودفع ما يتوهم مما هو خلاف المراد منها. وها نحن نقف عليها، ونذكر ما يتعلق بها من أقوال وتوجيهات:

قوله تعالى: {وأبونا شيخ كبير} (القصص:23)

وردت هذه الآية في سياق الحديث عن موسى عند ذهابه إلى مدين والتقائه بالمرأتين، اللتين كانتا تتزودان بالماء. وقد اختلف المفسرون في هذا الشيخ: من هو؟ على أقوال: أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أُرسل إلى أهل مدين. وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، وقد قاله الحسن البصري وغير واحد، ورواه ابن أبي حاتم.

وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة؛ لأنه قال لقومه: {وما قوم لوط منكم ببعيد} (هود:95)، وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد عُلِم أنه كان بين موسى و الخليل عليهما السلام مدة طويلة، تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد. قال ابن كثير: "من المقوي كونه ليس ب شعيب، أنه لو كان إياه لأوشك أن يُنَصَّ على اسمه في القرآن ها هنا. وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده. ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه: "ثبرون". وقد نقل ابن كثير أقوالاً أُخر في المراد من هذا الشيخ، ثم عقب عليها بقوله: "الصواب أن هذا لا يُدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك". وما ذكره ابن كثير يفيد أن ما ذهب إليه كثير من المفسرين من كونه شعيباً غير مُسَلَّم به؛ لأن هذا لا يُعرف إلا بنص، ولا نص فيه.

قوله تعالى: {هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين} (الزخرف:52)

هذا القول قاله فرعون كذباً وافتراء، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد، وهو ينظر إلى موسى عليه السلام، بعين كافرة شقية، وقد كان موسى عليه السلام، من الجلالة والعظمة والبهاء في صورة يبهر أبصار ذوي الأبصار والألباب. وقوله: {ولا يكاد يبين} افتراء أيضاً؛ فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة، فقد سأل الله عز وجل أن يحل عقدة من لسانه؛ ليفقهوا قوله، وقد استجاب الله له في ذلك في قوله: {قال قد أوتيت سؤلك يا موسى} (طه:26)، وبتقدير أن يكون قد بقى شيء لم يسأل إزالته -كما قاله الحسن البصري- وإنما سأل زوال ما يحصل معه الإبلاغ والإفهام، فالأشياء الخَلْقية التي ليست من فعل العبد لا يعاب بها، ولا يذم عليها، و فرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا، وإنما أراد الترويج على رعيته، فإنهم كانوا جهلة أغبياء.

قوله تعالى: {واشدد على قلوبهم} (يونس:88)

هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام؛ غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه، بعد أن تبين له أنه لا خير فيهم، كما دعا نوح عليه السلام، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} (نوح:26-27)؛ ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة، التي أمَّن عليها أخوه هارون، فقال تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} (يونس:89).

قوله تعالى: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} (يونس:91)

هذا الذي حكاه الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك من أسرار الغيب، التي أعلم الله بها رسوله، وقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قال فرعون: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} قال: قال لي جبريل: يا محمد! لو رأيتني، وقد أخذت حالاَ من حال البحر -أي: طيناً أسود من طين البحر-، فدسسته في فيه؛ مخافة أن تناله الرحمة". وقد رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

قوله تعالى: {قوما جبارين} (المائدة:22)

ذكر كثير من المفسرين ها هنا أخباراً من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء القوم الجبارين، وأنه كان فيهم عوج بن عنق بن آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع! وهذا شيء عجيب غريب، يُستحَى من ذكره، ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى خلق آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن)، متفق عليه.

وقد ذكروا أن هذا الرجل كان كافراً، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب السفينة، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وهذا كذب وافتراء، فإن الله ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} (نوح:26)، وقال تعالى: {فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين} (الشعراء:119-120)، وقال تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (هود:43)، وإذا كان ابن نوح الكافر غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر وولد زنية؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له: "عوج بن عنق" نظر.

قال الآلوسي بعد أن حكى ما قيل من صفات هؤلاء القوم الجبارين: "وهي عندي حديث خرافة".

قوله تعالى: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم} (غافر:25)

قد يُفهم أن المراد من هذه الآية ما جاء في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} (القصص:4)، إلا أن الصحيح غير ذلك، كما قال الرازي: "أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام؛ لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت، وأما في هذا الوقت ف موسى عليه السلام قد جاءه، وأظهر المعجزات الظاهرة، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه؛ لئلا يُنشَّؤوا على دين موسى، فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء".

قوله تعالى: {فقبضت قبضة من أثر الرسول} (طه:96)

ذهب عامة المفسرين إلى أن المراد بـ {الرسول} في الآية جبريل عليه السلام، وأراد بـ (أثره) التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. غير أن بعض أهل العلم قال: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون؛ والظاهر أن يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، وبـ (أثره) سنته وهديه الذي أمر به، يقال: فلان يقفو أثر فلان، ويقبض أثره: إذا كان يمتثل طريقته. وتقدير الكلام -بحسب هذا القول- أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في عبادة العجل، فقال: بصرت بما لم يبصروا به، أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت أخذت شيئاً من سنتك ودينك، فطرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. قال الرازي: "واعلم أن هذا القول ليس فيه إلا مخالفة المفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق؛ لوجوه...". ثم ذكر أربعة وجوه تعضد هذا القول. وبحسب هذا القول، يكون المراد بـ {الرسول} موسى عليه السلام، ويكون المراد بـ (أثره) دينه وسنته وعلمه. وهذا القول أقرب لظاهر القرآن، إذا استبعدنا الروايات التي ذكرها المفسرون، ولا حرج في استبعدها؛ لأنها عارية من السند الصحيح، والأغلب أنها من الإسرائيليات.

قوله تعالى: {فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)

قد يقال هنا: ما الفائدة في تصديق هارون لأخيه موسى؟ أجاب الزمخشري عن هذا السؤال بما حاصله: ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، بل المراد أن يلخص بلسانه الحق، ويبسط القول فيه، ويجادل به الكفار، كما يفعل الرجل صاحب المنطق والبيان، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله: {وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني} (القصص:34)، وفضل الفصاحة إنما يُحتاج إليه لذلك، لا لقوله: صدقت، فإن هذا القول يستوي فيه صاحب البيان وغيره.
قوله سبحانه: {قال رب إني أخاف أن يكذبون} (الشعراء:12)

شكا موسى إلى ربه خوفه من تكذيب قوم فرعون له، وضيق صدره من طغيانهم، وخشيته من قتلهم له عندما يرونه...وليس هذا من باب الامتناع عن أداء الرسالة، أو الاعتذار عن تبليغها، وإنما هو من باب طلب العون من الله تعالى، والاستعانة به سبحانه على تحمل هذا الأمر، والتماس الإذن منه في إرسال هارون معه؛ ليكون له عوناً في مهمته، وليخلفه في تبليغ رسالة ربه في حال قتلهم له.

قوله تعالى: {حية تسعى} (طه:20)

ورد في سياق قصة موسى عليه السلام وَصْفُ عصاه بعد إلقائها مرة بأنها {حية تسعى} (طه:20)، وأخرى بأنها {ثعبان مبين} (الأعراف:107)، وثالثة بأنها {تهتز كأنها جان} (النمل:10)، قد يبدو أن ثمة تناقضاً بين هذه الأوصاف، والواقع أنه لا تنافي بينها؛ لأن (الحية) اسم جنس، يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى. و(الثعبان) هو العظيم منها. و(الجان) هو الحية الصغيرة الجسم السريعة الحركة. وقد ذكر بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا (الثعبان) وأحواله، وهي روايات ضعيفة، لا يعول عليها، ولا ينبني على معرفتها فائدة.

قوله تعالى: {فجمع السحرة لميقات يوم معلوم} (الشعراء:38)

اختلف المفسرون في عدد هؤلاء السحرة، فقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحراً، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير. وهذا الاختلاف ليس بذي شأن، ولا ينبغي إطالة الوقوف عنده.

قوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} (الأعراف:143)

اختلفت روايات المفسرين في سبب هذا الميقات وزمانه؛ فمنهم من يرى أنه الميقات الكلامي الذي كلم الله فيه موسى تكليماً، فقد كان معه سبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل ينتظرونه في مكان وضعهم فيه غير مكان المناجاة، فلما تمت مناجاة موسى لربه، طلبوا منه أن يكلموا الله تعالى كما كلمه موسى، وأن يروه جهرة، فأخذتهم الصاعقة، وكان ذلك قبل أن يُخبر الله تعالى موسى أن قومه قد عبدوا العجل في غيبته.

والذي عليه المحققون من المفسرين، والسياق القرآني يؤيده أن هذا الميقات الذي جاء في هذه الآية غير الميقات الأول، وأنه بعد عبادة بني إسرائيل للعجل في غيبة موسى، وأن الله أخبر موسى بذلك عند ذهابه لتلقي التوراة، فرجع موسى إليهم مسرعاً، ووبخهم على صنيعهم، وأحرق العجل، وأمره تعالى بعد ذلك أن يأتيه مع جماعة من بني إسرائيل؛ ليتوبوا إليه من عبادة العجل، فاختار موسى هؤلاء السبعين.

ثم إن هؤلاء السبعين المختارين من بني إسرائيل طلبوا من نبيهم موسى ما لا يصح لهم أن يطلبوه، فأخذتهم الرجفة بسبب ذلك، أو بسبب أنهم عندما عبد بنو إسرائيل العجل في غيبة موسى، لم ينهوهم عن المنكر الذي فعلوه، ولم يأمروهم بالمعروف.

__________________
ليلى
رد مع اقتباس
  #32  
قديم 03-05-2013, 10:59 PM
 
رووووووووووعه يسلموووووو على الطرح الرائع
نسمة قلب likes this.
رد مع اقتباس
  #33  
قديم 03-08-2013, 11:46 AM
 
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مجود الحربي
رووووووووووعه يسلموووووو على الطرح الرائع



__________________
ليلى
رد مع اقتباس
  #34  
قديم 03-15-2013, 07:52 PM
 



قصة مريم عليها السلام في القرآن



سمى القرآن الكريم سورة برأسها باسم مريم عليها السلام، وضمَّنها حيزاً واسعاً من قصة حملها وولادتها لعيسى عليه السلام، كما جاء الحديث عن مريم عليها السلام في سور: آل عمران، والأنبياء، والتحريم.

وقد جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه)، ثم قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} (آل عمران:36)، رواه مسلم.



يبدأ حديث القرآن الكريم عن مريم عليها السلام بالإخبار بأنها نأت بنفسها عن أهلها في مكان بعيد، وكأن الله أراد تهيئتها لأمر غير معتاد، {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا} (مريم:16)، ثم تمضي القصة لتخبرنا أنه سبحانه أرسل إليها جبريل عليه السلام متمثلاً بصورة رجل كامل الرجولة: {فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} (مريم:17)، وكان رد فعل الفتاة العذراء على هذا الموقف المفاجئ، أن استعاذت بالله ممن فجأها على غير ميعاد، فخاطبته بقولها: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} (مريم:18)، وكان جواب المَلك لها مطمئناً لقلبها، ومهدئاً من روعها: {إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا} (مريم:19)، فأجابته مريم عليها السلام جواباً فطرياً ناظراً إلى الأسباب، فقالت: {أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا} (مريم:20)، غير أن المَلك أخبرها بأن خالق الأسباب والمسببات لا يعجزه شيء، وأن الأمر بيده قد يُجري الأمر من غير سبب، وأن الغرض من خرق الأسباب أن يبين للناس قدرته سبحانه على كل شيء، وأن يجعل للناس آية يعتبرون بها؛ ليعظموا هذا الخالق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وليقدروه حق قدره، فقال مخاطباً إياها: {كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا} (مريم:21).

ثم إن المشهد القرآني -وبعيداً عن الدخول في التفاصيل- يخبرنا أن إرادة الله سبحانه وقعت على مريم، وحملت في بطنها جنيناً سيرى النور عما قريب: {فحملته فانتبذت به مكانا قصيا} (مريم:22). وقد ذكر ابن كثير أن غير واحد من علماء السلف ذكروا أن المَلَك -وهو جبريل عليه السلام- نفخ في جيب درعها، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج، فحملت بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت ضاقت ذرعاً به، ولم تدر ماذا تقول للناس، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به، غير أنها أفشت سرها، وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام، كان قد سأل الله الولد، فأجيب إلى ذلك، فحملت امرأته، فدخلت عليها مريم، فقامت إليها فاعتنقتها.

ويمضي المشهد القرآني ليضعنا أمام مشهد مخاض الولادة الذي فاجأ مريم عليها السلام وهي وحيدة فريدة بعيدة، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض، ولا علم لها بشيء، ولا معين لها في شيء، فهي تتمنى لو أنها كانت قد ماتت قبل أن يحصل لها الذي حصل، وتكون نسياً منسياً! {فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} (مريم:23). وفي حدِّة الألم، وصعوبة الموقف تقع المفاجأة الكبرى، {فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا} (مريم:24)، يا لقدرة الله! طفل وُلِدَ اللحظة يناديها من تحتها، يطمئن قلبها، ويصلها بربها. ثم ها هو ذا يرشدها إلى طعامها وشرابها! فيقول لها: {وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا} (مريم:25)، فالله سبحانه لم ينسها، ولم يتركها، بل أجرى لها تحت قدميها جدول ماء عذب، ونخلة تستند إليها، وتأكل منها تمراً شهيًّا، فهذا طعام وذاك شراب. ليس هذا فحسب، بل ويدلها على حجتها وبرهانها! فيقول لها: {فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} (مريم:25).

وفي مشهد آخر يخبرنا القرآن الكريم أن مريم الفتاة الطاهرة العفيفة المقيدة بمألوف البشر في الحياة، قد تلقت البشارة كما يمكن أن تتلقاها فتاة، واتجهت إلى ربها تناجيه، وتتطلع إلى كشف هذا اللغز الذي يحير عقل الإنسان، فقالت: {رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر} (آل عمران:47)، وجاءها الجواب يردها إلى الحقيقة البسيطة، التي يغفل عنها البشر؛ لطول إلفتهم للأسباب والمسببات الظاهرة، ولعلمهم القليل، ومألوفهم المحدود: {قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران:47)، وحين يُرَدُّ الأمر إلى هذه الحقيقة الأولية يذهب العجب، وتزول الحيرة، ويطمئن القلب، وتهدأ النفس؛ وتعود مريم إلى نفسها تسألها في عجب: كيف عجبت من هذا الأمر الفطري الواضح القريب!!

وقد ذكر ابن كثير أنه لما ظهرت مخايل الحمل على مريم عليها السلام، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها، يخدم معها البيت المقدس، يقال له: يوسف النجار، فلما رأى ثقل بطنها وكبره، أنكر ذلك من أمرها، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها، ثم تأمل ما هي فيه، فجعل أمرها يجوس في فكره، لا يستطيع صرفه عن نفسه، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول، فقال: يا مريم، إني سائلك عن أمر، فلا تعجلي علي، قالت: وما هو؟ قال: هل يكون قط شجر من غير حَبٍّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت: نعم - فهمت ما أشار إليه - أما قولك: هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر؟ فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب، ولا بذر. وأما قولك: وهل خَلْقٌ يكون من غير أب؟ فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها، وسلم لها حالها.

ثم ينتقل حديث القرآن عن مريم عليها السلام إلى مشهد جديد، بعد أن وضعت حملها، وهدأت نفسها، إنه مشهد القوم الذين تنتسب إليهم، وهي الآن بينهم، تحمل طفلها، الذي هو فلذة كبدها. لكن ماذا سيقولون لها، وعهدهم بها أنها لم تعرف زوجاً فيما مضى، وأنها حسنة السمعة بينهم، شريفة النسب، {فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} (مريم:27-28)، بيد أن مريم لم تنبس ببنت شفة، بل أشارت إلى وليدها، وكأن الله ألهمها أن هذا الوليد سوف ينطق بالحقيقة التي تُخرس الألسنة، وتلجمها عن الحديث فيما هو غير مألوف من حياتها، {فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} (مريم:29)، ثم يصور لنا المشهد القرآني الطفل وهو ينطق بحقيقة ما حدث، وواقع أمره وما جاء به: {قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} (مريم:30-33)، فهو أولاً وقبل كل شيء عبد لله، ولم يقل: أنا الله، ولا ابن الله، بل قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا}، إلى أن قال: {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} (مريم:36)، فقد أنطق الله الطفل؛ ليبين حقيقة العلاقة بين الخالق والمخلوق، والغاية من هذا الخلق الإنساني العجيب.



وقفات مع بعض أحداث القصة



أولاً: قوله تعالى: {فحملته..}

اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام، والمشهور عن الجمهور أن مريم عليها السلام حملت به تسعة أشهر، كما هي عادة النساء في حملهن. وقد قال ابن كثير في هذا الصدد: "ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر، كما تحمل النساء، ويضعن لميقات حملهن ووضعهن، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر". والواقع أن السياق لا يذكر كيف حملته، ولا كم حملته؛ هل كان حملاً عاديًّا كما تحمل النساء، وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة، فإذا هي علقة فمضغة فعظام، ثم تكسى العظام باللحم، ويستكمل الجنين أيامه المعهودة؟ إن هذا جائز. كما أنه من الجائز في مثل هذه الحالة الخاصة أن لا تسير البويضة بعد النفخة سيرة عادية، فتختصر المراحل اختصاراً؛ ويعقبها تكون الجنين ونموه واكتماله في فترة وجيزة. ليس في النص ما يدل على إحدى الحالتين، فلا نجري طويلاً وراء تحقيق القضية التي لا سند لنا فيها، والاختلاف في مثل هذه المسائل لا طائل من ورائه، ولا يرجى منه فائدة؛ لأنه لا يترتب عليه حكم شرعي.

وأيضاً، مما لا ينبغي الجري وراءه تحديد المكان الشرقي الذي انتبذت إليه مريم عليها السلام معتزلة قومها، ويكفي في الصدد العلم بما أخبر به القرآن الكريم، وهو أنها اتجهت إلى مكان شرقي، قد يكون بيت المقدس، وقد يكون غير ذلك. وقل مثل ذلك في قوله عز وجل: {فانتبذت به مكانا قصيا} (مريم:22).



ثانياً: قوله سبحانه: {وأمه صديقة..}

قال ابن كثير: دلَّ قوله تعالى: {وأمه صديقة} (المائدة:75) على أن مريم عليها السلام ليست بنبية، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق، ونبوة أم موسى، ونبوة أم عيسى؛ استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم، وبقوله: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} (القصص:7).



ثالثاً: قوله تعالى: {فنفخنا فيها..}

جاء في حديث القرآن الكريم عن قصة ولادة مريم قوله سبحانه: {والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا} (الأنبياء:91)، وقوله تعالى: {ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا} (التحريم:12).

نصت هاتان الآيتان على عفة مريم عليها السلام، وذكرتا أن حملها بعيسى عليه السلام إنما كان عن طريق (النفخ) في فرجها. وقد نقل المفسرون هنا أقوالاً حول ماهية هذا (النفخ)، منها المقبول ومنها المرفوض، ومنها القريب ومنها البعيد، والأسلم في مثل هذا الأمر التسليم بظاهر اللفظ القرآني، وهو أنه كان هناك (نفخ)، أما الدخول في تفاصيل هذا (النفخ) فلسنا مكلفين به، ولا ينبغي الوقوف عنده طويلاً، يقول سيد قطب رحمه الله في هذا الصدد: "أهذه النفخة هي الكلمة؟ آلكلمة هي توجه الإرادة؟ آلكلمة: {كن} التي قد تكون حقيقة، وقد تكون كناية عن توجه الإرادة؟ و(الكلمة) هي عيسى، أو هي التي منها كينونته؟ كل هذه بحوث لا طائل وراءها إلا الشبهات. وخلاصتها هي أن الله شاء أن ينشىء حياة على غير مثال، فأنشأها وفق إرادته الطليقة، التي تنشئ الحياة بنفخة من روح الله. ندرك آثارها، ونجهل ماهيتها. ويجب أن نجهلها؛ لأنها لا تزيد مقدرتنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاء الحياة ليس داخلاً في تكليف الاستخلاف!".
maggie likes this.
__________________
ليلى
رد مع اقتباس
  #35  
قديم 03-15-2013, 08:41 PM
 
نسمة قلب likes this.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
لۈ حيَـآتڪ قصـَۂ ، ، فمَـآذآ سيَڪۈن عنۈآنهَـآ . .!* الدلع كلو حوارات و نقاشات جاده 4 09-09-2010 07:02 AM
مـن قصـص ملــوك الفراعنــة نبيل المجهول أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 0 02-10-2007 04:26 PM


الساعة الآن 07:48 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011