الفصل السادس _ تكملة :



-٢-





هواء الخريف البارد إلى حد ما ، كان يهب بشكل متواصل الليلة ..
كانت الشمس قد غابت منذ ساعتين تقريبا ،
حين كان كريس يقطع الطريق المعبد بين المقابر المهجورة "إلا من قاطنيها" .. قاصدا قبرا بعينه !!
شعره الأسود المشعث كان يرفرف حول وجهه و فوق عينيه .. و كما يجعل ملامحه عصية على الرؤية كان يصعب عليه هو أيضا الرؤية !!
لكنه كان ثائرا جدا ليتذكر إرجاعه إلى الخلف !

سار و يداه في جيوب معطفه الجينز .. حتى توقف أمام شاهد قبر محدد ،
حفر عليه بوضوح اسم شخص لايزال يعاني صعوبة في تقبل رحيله !!

ضاقت عينا كريس العسليتان ، وهو يقرأ الاسم كما يفعل في كل مرة يقدم فيها إلى هنا ...

(( أوليفر هاجاي ))

باقة أزهار ذابلة كانت موضوعة أمام الضريح ..
خمن دون جهد أن والدته هي من أحضرتها في آخر زيارة لها قبل أن تسافر !
أمه دوما ما تجتهد أكثر منه في ذلك .. و تواضب على المجيء لرؤيته !
بينما هو .. يأتي فقط في مثل هذه اللحظات الغبية النادرة ، حيث تقوده هذه العواطف !!


أخرج كريس من جيب معطفه علبة شراب غازي من النوع الذي كان والده الراحل يفضله ،
ثم وضعها بهدوء فوق الطريح الحجري .. ليقرفص إلى جوارها بعد ثانية.

‏_أعلم أنك كنت لتفضل جعة لكن ...

هز رأسه للحظة ثم واصل و عيناه مثبتان على الحجر الذي يحمل اسم ابيه :
‏_أنت تعلم .. لا أستطيع شراء ذلك بعد !

صمت بضع لحظات .. لا يدري أي غباء حل عليه الليلة ليأتي إلى هنا أولا ، و ليجري حوارا مع شخص ميت ثانيا !!
لم يكن ممن يؤمنون بالترهات التي تقول أن المتوفي يمكنه سماع من يتحدث إليه .. من تحت التربة !
لكنه ظل يتحدث على أي حال !

‏_لم أسامحك بعد .. و لا أنوي أن أفعل !

قال كريس وهو يعتدل واقفا ،
حاجباه معقودان .. و عيناه لامعتان ببريق غضب و ألم ممتزجين !!

‏_أنا فقط ... أتيت أؤكد أنني لا أشبهك ، و لن أكون مثلك يوما !

لدقائق عدة .. كان صوت النسيم وهو يتلاعب بالأوراق الجافة المتساقطة على أرض المقبرة الخضراء ، هو الصوت الوحيد المسموع في المكان !
إلى أن تحدث كريس ثانية ..
و قد رق صوته رغما عنه يقول مودعا بعينيه قبل كلماته :
‏_مع هذا ... أنا آمل أنك ترقد بسلام .. أبي !


استدار كريس يلتف عائدا من حيث أتى ،
يشعر أنه بإلقاءه تلك الكلمات القلائل .. قد ألقى ثقلا كبيرا الليلة عن كاهله !!




‏،*.*.*.*،




وضع فرانك فوق الطاولة البيضاء الصغيرة التي كانت وسط المطبخ ،
طبق البيض الذي أنهى تحضيره توا !
و ألقى بجسده فوق واحد من المقاعد الأربعة ، ليلتقط الشوكة و يغير على الطبق المتواضع أمامه بجوع .. إنما دون شهية !!
يكاد هذا الروتين البائس لحياته يقتله ..

سمع فجأة صوت باب المنزل الخارجي يفتح و يقفل بضوضاء !
تبعه أصوات خبط أقدام ثقيلة على الأرض الخشبية للممر ،
حتى أطل ذلك الرجل من باب المطبخ بثيابه الفوضوية ، و شعره البني المشعث ، تسبقه رائحة الكحول التي تفوح منه !!

رفع فرانك رأسه قليلا عن صحنه ، و رمقه بجمود .. قبل أن يعود إلى تناول طعامه دون أن ينطق بشيء.

لم يتكلم الرجل أيضا .. وهو يتقدم من فرانك بخطى ثقيلة لكن ثابتة !
استند بذراعيه إلى طاولة الطعام .. و مال بجذعه ينظر عن قرب في وجه فرانك الذي كان يتجاهله !

بقي الرجل يحدق به بعيون باردة .. خالية من الحياة للحظات ،
حتى تكلم فرانك أخيرا بنبرة حاول أن يجعلها هادئة .. نظرا لكونه يعرف بقدوم مشكلة :
‏_أحاول أن آكل هنا .. توقف عن التحديق في !

ارتفعت زاوية شفتي الرجل بابتسامة باهتة ساخرة :
‏_بيض من جديد !

أجابه فرانك :
‏_لا أجيد تحضير شيء آخر !

ثم ترك إهتمامه بالطعام و رفع إليه عينين بنيتين شبيهتين بعيني ذلك الرجل إلى حد كبير ،
أردف غير قادر على منع نفسه :
‏_إنها الثامنة فقط .. و أنت تعود إلى البيت ثملا ؟!! لم تشرب هكذا منذ فترة .. فماذا تغير ؟!

ما كان "جورج" راغبا في الابتسام أبدا مع مزاجه السوداوي هذه الليلة .. حتى و إن كان ذلك لمجرد السخرية ،
وجهه المتعب بدا وسيما بالرغم من خلو تعابيره من الحياة .. و بالرغم من ذقنه النامية !
كان يشبه فرانك كثيرا بملامحه عدا في لون الشعر .. يبدو تقريبا كنسخة أكبر منه سنا فحسب !
لكنه دوما ما يرى في وجه فرانك شبها بشخص آخر ... شخص تحرك ذكراه في داخله غضبا عنيفا و ثورة جنونية !!

امتدت يده فجأة عبر الطاولة ،
ليقبض ملء يده من شعر فرانك بشكل مفاجئ !!
و يسحبه بشدة .. فقط ليضرب رأسه بقوة على سطح الطاولة بعدها !!
أحدث ذلك الارتطام صوتا عنيفا و مرعبا و قد سقط الطبق على الأرض ليتناثر أشلاء و ينسكب محتواه ..
حدث ذلك في ثانية أو أقل ..
أخذت المفاجأة فرانك على حين غرة .. حتى أنه احتاج ثانية ليشعر بالألم الحاد في جبهته ،
و ثانية أخرى لينتفض مبعدا يد ذلك الرجل عن رأسه النازف ..
‏ ..





‏*~نهاية الفصل السادس ..