عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيون الأقسام العامة > مواضيع عامة

مواضيع عامة مواضيع عامة, مقتطفات, معلومات عامه, مواضيع ليس لها قسم معين.

Like Tree2Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #56  
قديم 04-01-2014, 03:24 AM
 



العلاقة بين اللغة والفكر
04/08/2011
الدكتور . مختار بن الغوث

******



اللغة نظام من الرموز الصوتية، يستعمله الإنسان للتعبير عن أفكاره، وانفعالاته ورغباته. ويرى أكثر اللغويين والفلاسفة أن اللغة والفكر متلازمان تلازماً مطلقاً، فلا يتأتى التفكير مجرداً من اللغة، ولا اللغة مجردة من غير فكر.
ومفردات اللغة "إنما هي علامات حسية على الأفكار، وهذه الأفكار هي معناها المباشر. فاللغة هي وسيلة المواصلات للفكر، أو هي التمثيل الطبيعي والخارجي لحالة داخلية، واللغة عبارة عن سلسلة من الكلمات عن تفكير كامل"
******

وحينما يكون المرء في حالة صمت وفكر مجرد من الكلام ففكره ذلك هو حديث في قرارة النفس ، يتم خلف الشفاه ؛ وإذا كانت الفلسفة تميل إلى عد الفكر سابقاً للكلمة، وهي تالية له، فإن الدراسة العلمية للغة أثبتت عند عدد من الباحثين أنه لا يمكن القول بأسبقية الفكر على اللغة، أو بأسبقية أحدهما على العموم، وأنهما يخضعان لتأثير متبادل، قد يكون متساوياً، بل إن تأثير اللغة في الفكر قد يكون أقوى من تأثير الفكر في اللغة
ولكن فئة أخرى قليلة تذهب إلى عدم وجود ارتباط نوعي بين الفكر واللغة، وترى أن للفكر وجوداً مستقلاً عن الكلمة، وأن اكتساب اللغة ليس شرطاً حتمياً لحدوث التفكير، ويستدل بعضهم على ذلك بالصم البكم، فهم يفكرون كغيرهم، لكن من غير لغة
******

ولا خلاف ـ على كل حال ـ في العلاقة الأزلية بين اللغة والفكر، ولا في أن اللغة للفكر كالأرقام للحساب: لا يمكن تصور عملية حسابية بدون أرقام، مع أن الحساب من حيث هو عملية عقلية، شيء والأرقام شيء آخر. كذلك لا يمكن تصور فكرة بدون ألفاظ
واللغة ـ بعد ـ عنصر من عناصر ماهية الإنسان، ولذلك عرَّفه الفلاسفة قديماً بأنه حيوان ناطق، كائناً ما كان معنى النطق: العقل، أو الكلام، بعد ما ثبت أنه لا فكر بلا كلام ولا كلام بلا فكر، بل كل واحد منهما هو الآخر بمعنى من المعاني.وهي ـ فوق هذا كله ـ عقائد، وذكريات، وعواطف، وأخيلة، وعلاقات و"تراث اجتماعي ووسيلة من وسائل الإمتاع الفني، وبقية من بقايا فكر الأسلاف الأول"، تصل الأحياء بالأموات، والحاضر بالماضي، وهي مستودع عقل الإنسان، منذ كان، إلى أن تقوم الساعة، فيه يخزن ما أنتج فكره، ليرثه من يخلفه، وليست مجرد أصوات عرضية كأصوات الحيوان، يمكن أن تتعارضها الأمم، فتؤدي للمقترضين ما كانت تؤدي للمقرضين، من غير أثر يتبع ذلك القرض، بل هي هوية موسومة بوسم أهلها مشحونة بخلاصة فكرهم وتصوراتهم، وصور حياتهم، وما اقترض منها انتقل معه حتماً شيء من ذلك.وكل عدول عنها، أو انتقاص منها هو عدول وانتقاص من ثقافة، وتاريخ، وعقيدة، وانسلاخ من هوية
******
ولاسيما في هذا العصر الذي يقول لغويوه إن تفضيل لغة على أخرى مرفوض في علم اللغة الحديث، وإن اللغات كلها متكافئة كما قال سابير: "لا معنى لأن نقول إن هناك لغة ـ مهما تكن ـ أكثر فصاحة، أو أكثر ارتباطاً من لغة أخرى قد تكون أكثر تعقيداً، وأكثر صعوبة"
ولمنزلة اللغة من الفكر والهوية سنت مائة وعشرون دولة في العالم قوانين دستورية لما يتعلق بشؤون اللغة ، كما يقول وزير الثقافة الفرنسي
ومنذ أعوام قليلة قامت فرنسا بحملة لحماية الفرنسية، وأعدت قانوناً يحرم اللجوء "إلى ألفاظ أو عبارات أجنبية في حال وجود لفظ أو عبارة مماثلة في الفرنسية تؤدي المعنى نفسه" ويفرض استعمال الفرنسية في الوثائق والمستندات، والإعلانات المكتوبة والمسموعة، والإعلانات المعروضة على الجمهور في الأمكنة العامة، وفي عقود العمل والأنظمة الداخلية للشركات الأجنبية العاملة في فرنسا، وأقر مجلس الوزراء مشروعه، وناقش العقوبات والغرامات التي يمكن فرضها على من يستعمل كلمة أجنبية لها مرادف من الفرنسية. وفي الثالث عشر من إبريل عام 1994 نوقش في مجلس الشيوخ، ثم أقرته الجمعية الوطنية، وأيدته الأحزاب الفرنسية، وتبارى زعماؤها في التأييد، فقال أحدهم:"ما يعنيه مشروع القانون هو هويتنا الوطنية الواجب تنزيهها عن الشوائب والمثالب". وقال آخر:"اللغة هي إشهار (إعلان) هوية وطنية، والدفاع عنها مسؤولية دولة"

******
وقد كان العرب في عصور القوة يرون في لغتهم أكثر مما يراه الفرنسيون، كما يقول ابن جني: "والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم بها أجمل الجميل فيها أكثر من يورد،أو جزء من أجزاء كثيرة منه"، أما حصار اللغات الأجنبية لمنع دخول مفرداتها إلى العربية فكان يقوم به الفرد العادي بدافع من الأنفة من أن يستبدل بلغتة غيرها، كما يظهر من قول أبي المهدي الأعرابي:يقولون لي (شنبذ) ولست مشنبذاً طوال الليالي ما أقام ثبي ولا قائلاً (زوداً) ليعجل صاحبي ..... ولا تاركاً لحني لأحسن لحنهم ولو دار صرف الدهر حيث يدور ، ونهى عن استعمال المفردات الأعجمية، والتحدث بغير العربية الأئمة والخلفاء، وذمه الأدباء، ونفر منه الفقهاء. فقال عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) : "ما تكلم الرجل الفارسية إلا خَبَّ، ولا خَبَّ إلا نقصت مروءته" ، وسمع سعد بن أبي وقاص قوماً يتكلمون بالفارسية فقال "ما بال المجوسية بعد الحنيفية"؟ويرون في ذلك أثراً يرجح بعض العلماء أنه من كلام عمر بن الخطاب، وهو : "من كان يحسن أن يتكلم العربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق"
******
وقال المبرد: " ثلاث يُحكم عليهم بالاستصغار حتى يُدرى من هم، وهم رجل شممت منه رائحة نبيذ في محفل، أو سمعته في مصر عربي يتكلم بالفارسية، أو رجل رأيته على ظهر طريق ينازع في القدر" ، وكره الإمام الشافعي استعمال الكلمة الأعجمية لها مقابل عربي، كما فعل الذين سموا التجار "سماسرة" وقال : " ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها، لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوباً فيه، من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بأعجمية "
وقال ابن تيمية وهو يحض على تعلم العربية والتكلم بها، ويبين تأثير اللغة في الفكر والأخلاق: "واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيناً، ويؤثر أيضاً في مشابهة صور هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق"

******
وليس في هذا النهي عن تكلم لغات الأعاجم لغير حاجة نهي أو تحريم لتعليمها، لكنه نهي عن وضعها في غير موضعها، وإحلالها محل العربية، والتشدق بها على سبيل المباهاة والتظرف، وعلى وجه يضعف الشخصية، ويذهب التميز، ويعبّد القلوب للآخرين، ويطمس الهوية، وإلا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت بتعلم العبرية
لقد ولت تلك الشخصية المتميزة للعرب، المعتزة بلسانها، وصار السواد الأعظم منهم يراها بعين غير التي كانت تُرى بها، وحل محل الإجلال والإعجاب الاستخفاف بها وبأساتذتها، واستصعابها، والعزوف عنها، والعدول إلى اللغات الأجنبية، والاعتزاز بمعرفتها.ويستشري الاستخفاف أكثر شيء في أساتذة الجامعات والمثقفين

******
وصورة العربية وآدابها في أذهان هؤلاء أنها تخصص غير ذي شأن، لا ضرورة له في حياة العرب العصرية وأنت اليوم تجد الشخصية العلمية والسياسية البارزة، تتحدث على الملأ، في المؤتمرات العالمية والصحفية ، ومقابلات القنوات الفضائية التي يشاهدها العالم، وفي المحاضرات بمدرجات الجامعات وقاعات الدراسة، نجدها تتحدث باللهجات العامية، التي يتكلم بها سائقو الأجرة والشاحنات، والبناءون ، والحدادون، وعمال النظافة، والأميون، والأعراب، وساكنو الأرياف، ومهرجو المسرحيات الهزلية، يتحدث براحة بال، لا يداخله حرج من أنه أتى غير لائق بالسداد، وأن نظراءه من الدول التي تستهويه لغاتها يترفعون عن مثل ما يأتي، ويأبون أن يسووا أنفسهم في مثل هذه المقامات الدهماء

******
ولقد نرى مثل ذلك من أساتذة النحو والصرف والأدب والبلاغة: لا يحاضرون إلا بلغة الشوارع.وإذا عرف واحد من هؤلاء شيئاً من لغة أجنبية وجدت لسانه طيعاً بالحديث به، بمناسبة وبغير مناسبة
وذلك ناتج من أمرين: أولهما: قلة الوعي الثقافي، وعدم إدراك أن اللغة من جوهر الإنسان، وكل نقص فيها هو نقص في ماهيته، ينبغي استكماله قبل أن تطلب معرفة أو مهنة قد تكون قياماً لحياته، لكنها لا تمس جوهر إنسانيته، ثم عدم إدراك حقيقة اللغات، وأنها متكافئة، من حيث كونها نظاماً من الأصوات يعبر عن حاجات النفس، وهي في الاقتدار على ذلك التعبير متساوية، وأن عدول المرء عن لغته له سبب خارج عن ماهية اللغة، هو عشق أهلها، لا الإعجاب بها هي لذاتها، وهو إذ يعول إلى لغة غيره إنما يضع في عنقه غلاً يقوده ذليلاً لأصحاب تلك اللغة.وثاني الأمرين أن العرب أقاموا علاقتهم بالغرب منذ أن عرفوه على وجه غير صحيح، ولا تزال على ما بنيت عليه أول مرة، وبنيت على انبهار، وغرام وإجلال تولدا من ذلك الانبهار، وتولد منهما الازدراء لكل عربي والعشق للغرب بخيره وشره وبما يكره هو من نفسه، وفتحت أبواب التقليد على مصارعها، حتى أصبح يسيراً عليهم التنازل عن كل خصوصية لمقابلها عند أولئك، بل غدا الحفاظ على الهوية والخصوصية، والحرص على التميز سمة من سمات الرجعية والجمود والانسلاخ من الهوية وملاقاة الغرب في كل شيء، والبدء من حيث بدأ، والانتهاء إلى حيث انتهى هو السبيل إلى النهضة، كما قال طه حسين ـ مثلاً ـ :"إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة، ليس فيها اعوجاج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة: خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يُحب منها وما يُكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع... إن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير مرافقها الثقافية الهامة إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين (اليونانية واللاتينية)، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام، قبل كل شيء"

******
وهذا التصور هو الذي دفع إلى الانسلاخ من العروبة والإسلام، والدعوة إلى التغريب، ونتج من ذلك هذه النظرة إلى العربية والتقليل من شأنها وشأن آدابها ورميها بالعجز عن الوفاء بحاجة العلم والحياة العصرية، وبالصعوبة وعدم العقلانية، وضاق بها بعضهم ذرعاً حتى دعا إلى إحلال العاميات محلها، وكتابتها بالحروف اللاتينية "لعجز حروفها عن تمثيل نطقها"! وكان صوت الداعين إلى هذا صدى لمؤلفات وضعها مندوبو الاستعمار في الدول العربية، وبعض المنصرين، في قواعد اللهجات العامية والدعوة إليها، بدعوى الإشفاق على العرب، والحرص على نهضتهم؛ لسبب إنساني بحت! وترجموا إلى العامية بعض أسفار النصرانية، وشجعوا على الكتابة بها، واستحثوا الحكومات المستعمرة على الإعانة على إحلالها محل العربية. وعمدوا إلى الفصحى يكشفون عن "صعوبتها وعجزها ومعاينتها لحياة الناس، وما يلاقون من المشقة في تعليمها"، وكان أشهر هؤلاء في المشرق، ثلة من المنصرين والقساوسة ؛ ثم سارت في آثارهم فئة من العرب مسلمين ونصارى، منها يعقوب صروف، ورفاعة رافع الطهطاوي، وأحمد لطفي السيد، ومارون غصن، وسلامة موسى، ولويس عوض، ومحمد فريد أبو حديد، وأنيس فريحة، وأنطون مطر، وسعيد عقل
******
وإذا كانت مآرب المستعمرين في تمزيق وحدة العرب بقطع الرابطة الثقافية بينهم، وقطع صلتهم بتراثهم وماضيهم، وإبقائهم تبعاً للمستعمرين، والحئول بينهم وبين الإسلام، إذا كانت هذه المآرب بينة، ولها مسوغاتها، فلقد كان العرب مسلوبي العقل والتفكير في هذه القضية، عاجزين عن فهم ما يقولون، عاجزين عن عرضه عرضاً علمياً ينبني على أساس موضوعي. فلقد غضوا الطرف عمداً أو جهلاً أو محاكاة، عن صعوبات اللغات الأجنبية، كالإنجليزية والفرنسية، وعن مساوئها، ومساوئ حروفها الهجائية وصعوبتها وعجزها عن تمثيل الأصوات، وصعوبة الكتابة بها، مما يُقرُّ به أهل تلك اللغات ويضجون منه،غضوا الطرف عن ذلك، كما غضه أهلها الذين اشتغلوا عنه بإصلاح العربية، وإنهاض أهلها حباً لهم وإشفاقاً عليهم! وصبوا جام الغضب على العربية وحدها. ولسنا بصدد الحديث عن شيء مما رميت به العربية ولا بصدد نقضه، لأن تلك الدعوات قد انقلبت خاسئة، ولأن صعوبة اللغة ومجافاتها للعقل لا يجوز أن تصرف أهلها عنها، ولم نرها صرفت أهل لغة عن لغتهم، وقدم اللغة ومخالفتها للهجات المحكية لا يحول دون قدرتها على استيعاب العلوم، وقد بعثت من القبور لغات، ترجمت إليها العلوم، وغدت من اللغات الحية المعترف بها في العالم، ولم يضرها قدمها عند أهلها، ولا عند المستعمرين الناصحين للعربية!غير أن هزيمة الاستعمار وأنصاره لم تنزل العربية منزلها، فقد انحاز بعض سياسيي العرب إلى الثقافة الغربية، وتعصب للغات الأجنبية، وفرضها على بلاده فرضاً، فجعلها لغة التعليم والتعامل، ولغة الوثائق الرسمية، بل اللغة الرسمية في كل شيء، ما عدا الدراسات اللغوية والشرعية، إن وجدت
******
ووقف سياسيون آخرون من العربية والهوية العربية موقف الذي لا يبالي، يرون الناس والحياة والمدن تتبدل ليل نهار من أشخاصها وحياتها أشخاص قوم آخرين وحياتهم، فلا يحركون ساكناً، أسماء المتاجر، ولوحات الإعلانات والدعاية، وأسماء الشوارع غير عربية، والملابس المستوردة ـ ولاسيما ملابس الأطفال ـ مزخرفة بالعبارات الأجنبية والأسماء والرموز التي لا تمت إلى الإسلام والعروبة بصلة، وقد تكون دعاء لدولة أجنبية، أو عبارة حب وولاء لها، أو أسماء أوثان أو شخصيات معظمة عند الذين يصدرون هذه الملابس.ومن نافلة القول أن الحكومات العربية هي صاحبة الأمر في كل شأن من شؤون الحياة، وإن أرادت المحافظة على اللغة والهوية فعلت، بقرار، وإن لم تشأ، أو تبال تركت الأمور تجري في أعنتها.ولقد انحازت حكومات عربية بعد رحيل الاستعمار إلى سياسة الاستعمار التعليمية، فلم تول العربية عناية كبيرة، واختصرت مناهجها والوقت المخصص لدراستها، وبوأت العارفين باللغات الأجنبية وخريجي مدارسها المراتب العليا من الدولة، دون خريجي المدارس العربية الإسلامية، فانصرف الناس إلى اللغات الأجنبية والعلوم التطبيقية، عن العربية، ونظروا إليها تلك النظرة المشوبة بالاستخفاف، إذ لم يكن لها عائد مادي كما لغيرها، وإذ كانت غاية التعليم الأولى هي تأمين حياة مادية لائقة؛ فهل تنجح الثورات العربية في إعادة الاعتبار للغة الضاد؟!
_________
" باختصار وتصرف "



*إسلام ويب*


__________________
رد مع اقتباس
  #57  
قديم 04-01-2014, 03:35 AM
 
شكرا لكل من تواجد بموضوعى وجزاكم الله خيرا
******
__________________
رد مع اقتباس
  #58  
قديم 04-03-2014, 03:04 PM
 
بناء الشخصية الإبداعية في الإسلام 26/01/2014
اسلام ويب ( د. محفوظ ولد خيري )


أولى الإسلام الشخصية الإنسانية عناية فائقة، وجعل بناءها وتطويرها من أولوياته التي تقوم على مقاييس محددة في غاية الدقة والإتقان، بخلاف المقاييس البشرية التي ترتكز في معظمها على الأهواء البشرية والمصالح الضيقة.
******
والمقصود بالشخصية: النظام المتكامل الذي يشمل كل الاستعدادات والميول والغرائز والدوافع والقوى البيولوجية الفطرية الموروثة، وكذلك الصفات والاستعدادات والميول المكتسبة من الخبرة، أما الشخصية الإبداعية: فهي مجموعة الخصائص والصفات الشخصية التي تحفز الإبداع في الإنسان .


وغني عن القول أن الرؤية الإسلامية مسارٌ مفتوحٌ لاستشعار الجمال - وبالضرورة الإبداع - واستنطاقه واستيطانه واستلهامه والبحث عنه وتنميته بأبعاده المختلفة ومستوياته المتباينة ومجالاته المتنوعة (الروحية والمادية) حتماً ضمن الرؤية النابعة من قلب الإسلام والمنضبطة وفق تصوره، ولا يخفى أن من أبرز خصائص العقل الإبداعي، الإدراك الجمالي، واكتساب القيم الجمالية؛ فالتربية الجمالية درجة ارتقاء للعقل في معراج الفكر وتحليق للروح في فضاء الإيمان الوضيء، فهي توسّع الفضاءَ المعرفي والوجداني، وتجعل مدرِك الجمال أقرب إلى مبدِع وخالق الجمال، وإذا أضفنا إلى ذلك أن مدرِك الجمال يمتلك وجداناً حياً يقظاً، " فقد نجد المبدع شخصاً ذا حساسية مرهفة وقدرة على الإدراك الدقيق للثغرات والإحساس بالمشكلات، فمنظر غروب الشمس قد لا يثير عند الشخص العادي سوى ترقب قدوم الليل، أما بالنسبة للمبدع فقد يكون بؤرة لكثير من المشاعر بمقياس الحساسية المرهفة والوجدان اليقظ" .
وحسبنا أن السيرة الحية للنبي صلى الله عليه وسلم تؤكد بأنه يملك وجداناً يقظاً وقلباً فياضاً؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، [آل عمران: 159].


لقد راعى الإسلام ورعى في نظامه الأقوم وآدابه البنّاءة كل جوانب الإبداع في النفس البشرية، وقوم ووجه هذه الجوانب؛ فأرشد إلى خير السبل في توجيه ملكة الإبداع واستصلاحها والموازنة بين عناصرها جميعاً، وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الإبداع ككل؛ فحفز جوانب الإبداع الإيجابي في الشخصية الإسلامية من خلال مجموعة من الروافد كان لها بالغ الأثر في تكوين الشخصية الإبداعية المسلمة وتمييزها عن الشخصيات الأخرى وذلك من خلال ما يأتي:
******
أولا: الحث على التفكير الإبداعي:
*****************
التفكير الإبداعي: هو ذلكم التفكير الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل، وينفي الأفكار الوضعيّة المقبولة مسبقاً ويتضمنّ الدافعية والمثابرة والاستمرارية في العمل، والقدرة العالية على تكوين الحل لمشكلة ما تكويناً جديدا؛ فالعقل ينضج ويتطور والفكر تتسع مداركه وتزداد قدراته على المعالجة والحفظ والتدبر والتأمل من خلال زيادة التفكير المنطقي السليم والذي ليس له محصله إلا الإبداع والتميز وهذا ما أراده الإسلام لأتباعه وجنده، وللمتفكرين في القرآن الكريم نصيب طيب من المدح حيث ذكرهم الله تعالى في آيات كثيرة؛ قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [يونس: 24].


أمر الإسلام بإعمال العقل وإطلاقه من عقاله ومنحه مساحة كبيرة من حرية التفكير لأن في ذلك منفعة للأمة وزيادة في تقدمها وتطورها وارتقاءها في العلوم والمعارف لأن العقول المعطلة تبقى ميتة لا نفع فيها، لذا حرص الإسلام على إطلاق تفكير الإنسان منذ نعومة أظفاره ونعى على أولئك الذين يتقيدون في التفكير بحدود ما وصل إليه أسلافهم، أو يقيدون عقولهم بعقول آخرين ربما كانوا أضعف منهم ملكة في التفكير؛ قال تعالى: {قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، وبنفس الحرص الذي أبداه الإسلام تجاه الإنسان بدنا وجسدا وأعضاء حرص كذلك على حرية عقلة وفكره بعيدا عن أية قيود تحد من انطلاقه وتمنعه من التفكير والتأمل والتدبر، بل إنه حض وشدد على أن يكون العقل والفكر حرا طليقا يجول في ملكوت السماوات والأرض يتدبرها ويعقلها ويتعرف على آيات الله فيها فتزيده إيمانا بالله وتكون طريقا موصلا له إلى معرفة خالقه ومولاه، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الروم: 8]، وقد لاحظ بعض المفكرين أن الإنسان الذي يمتاز حتى في بنيته التشريحية عن بقية الثديات مصمم بطريقة تساعده على التفكير والتأمل فيما حوله من عجائب الكون؛ يقول الدكتور: أحمد زكي: " فالله صمم جسم الحيوان وركب هيكله كأنه لم يرد من هذا التصميم أن يتمكن الحيوان من النظر إلى السماء وذلك لأسباب عدة من أهمها: أنه مع عقله العاجز لا يستفيد من هذا النظر شيئا وعلى غير هذا الطراز صمم ربنا جسم الإنسان وركب هيكله، فالإنسان عقل زاخر كثير الوعي، وهو قادر كثير القدرة، فهو يستفيد من النظر إلى السماء أكبر استفادة ويلقى في سبيل هذا النظر بعض المشقة، ولكنها تهون في هذا السبيل الذي هو فيه" .


ثانيا: بعث روح التفاؤل والإيجابية:
**************
يعد التفاؤل مؤشرا على الصحة النفسية العالية؛ فهو سمة إيجابية للنفس السوية، يترك أثره على تصرفات الإنسان ومواقفه، ويمنحه حياةً مستقرة سوية، يكون بمقدور صاحبها أن ينتج ويبدع في إنتاجه؛ ولذا فإن الإسلام يغرس في شخصية الإنسان التفاؤل والإيجابية، وينأى به عن التقاعس والكسل، حتى على مستوى الكلمة يقولها الشخص في حق نفسه، ولكي يبق المسلم متفائلا حرر الإسلام شخصيته من كل ضغط نفسي يمكن أن يؤثر عليه، مثل الخوف من المستقبل والهلع من قادم الأيام؛ فقد أخبر سبحانه وتعالى أن هذه الوساوس التي قد تعترينا أحيانا إنما هي من الشيطان أما المنهج الرباني فهو إنما يدخر لنا الفضل والخير العميم في مستقبلنا ومصيرنا الآجل؛ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268]، وكذلك حرر الإسلام الشخص من الخوف من الموت، ومن الخوف من المرض، ومن الخوف من انقطاع الرزق؛ " اعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " [أخرجه أحمد (1/ 293)، والترمذي (4/ 667)] .
إن مثل هذه الروح الإيجابية التي تغرس في شخصية الفرد المسلم من شأنها أن تدخل الطمأنينة والسعادة إلى نفسه، ثم تنتقل إلى المجتمع ليصبح هذا الفرد عنصرا فعالا منتجا ومبدعا في مجتمع رشيد.


ثالثاً: تعزيز الاعتداد بالنفس وعدم التبعية:
******************

الاعتداد بالنفس شعور داخلي يعبر عما يشعر به الإنسان تجاه نفسه من فخر واعتزاز، وهو يؤدي إلى الثقة بالنفس التي تُكوِّن في النهاية الشخصية المبدعة، وقد حث الإسلام الفرد المسلم على الاعتداد بنفسه، وعدم الركون للذلة والمسكنة، وعدم التبعية، وأن تكون للمسلم شخصيته المستقلة المتميزة، وأرشد إلى مخالفة أهل الكتاب وغيرهم من أصحاب الملل والنِّحل الأخرى في أمور كثيرة مثل: استقبال القبلة، والصلاة بالنعال، والترغيب في السحور، وتعجيل الفطر، وتغيير الشيب، والنهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، ... قال عليه الصلاة والسلام: " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا" [رواه الترمذي] .
******
ومظاهر الاعتداد بالنفس تبرز كذلك في اهتمام الشخص بمظهره الخارجي بغية الحصول على القبول الاجتماعي، ولكن بدون غرور وكبرياء ومغالاة أو إسراف، ومن الاعتداد بالنفس أن لا يتراجع الشخص في قرار اتخذه، طالما لم يتبين له أنه كان مخطئا، ومن صور الاعتداد بالنفس التي عملت السنة على إذكائها تنمية روح التنافس في الخيرات بين الأفراد، فكثيرا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع من شأن الفرد ويعلي من معنوياته بأسلوب يدفعه لإتقان العمل والمواظبة على الإتيان بالمزيد، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة أنه قال: قيل يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه" [البخاري]، وأذكت السنة روح التنافس حين سمحت للطاقات العقلية الإبداعية بالتفجر ولم تحجر عليها، بل إنها استلهمتها لاستخراج المكنون من كنوزها؛ والدليل العملي على ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يدلون بآرائهم في المواقف كلها وبين ظهرانيهم قائد ينزل عليه وحي السماء فتفتقت أذهانهم عن أمور إبداعية كثيرة؛ فهذا الحباب بن المنذر يشير على النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر الكبرى بأن المنزل الذي نزل به الجيش ليس بمنزل، وأن المكان الأنسب هو ماء بدر، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الرأي، ومن هذا الباب موافقات عمر رضي الله عنه، وإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه بحفر الخندق ... وغيرها.
******
والدراسات العلمية اليوم تشير إلى أن انخفاض شعور الفرد بأهميته وأهمية الأعمال التي يقوم في الغالب بأدائها تعد من معوقات الإبداع التي تكبح جماحه وتطفئ جذوة لهيبه في نفوس المبدعين.


رابعا: تحقيق الحرية بمعناها الصحيح:
****************

العلاقة بين الحرية والإبداع علاقة متكاملة ومرتبطة بعضها البعض، فلا إبداع بدون حرية، لأن الحرية هي الضمان الوحيد لإبداع حقيقي يقترب من الواقع بمعطياته، وفي ذات الوقت يأخذ بالحسبان الثوابت التي يسير عليها المجتمع ويتمسك بها، فتكون مصدراً لانطلاقته الإبداعية؛ فالحرية قيمة من القيم الأساسية التي تعمل بمثابة إطار مرجعي ينظم سلوك المبدعين ويحركه، وقد فتح الإسلام بمجيئه آفاقا للحرية ساهمت في تكوين البيئة الخصبة للإبداع، فالإسلام جاء بالتوحيد الذي يجسد الحرية في أسمى معانيها؛ ذلك أن العبودية تأخذ أشكالاً وصوراً متعددة، ومن ثم فإننا نجد هذا البعد حاضراً في الإشارات النّبوية؛
فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلن الرفض لكّل أنواع العبودية لغير الله ابتداءً من الأوثان البشرية ومروراً بالمعشوقات الحجرية، وانتهاءً بالتعلقات الخفية كعشق الهوى والمال والمرأة، ولقد مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاماً من دعوته يرسخ مفهوم التوحيد ويجذره في نفوس المسلمين، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، [رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه النووي في الأربعين النووية]، ويقول عليه الصلاة والسلام: " تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعطى لم يف" [سنن ابن ماجة، ]، فالعبودية للسالف ذكره استلاب لحرية العقل ودفن لطاقاته الإبداعية، يقع المرء من خلالها تحت سطوة اللذة العاجلة واللحظة الراهنة، بيد أن التحرر من العبودية لغير الله دعوة مفتوحة لالتحام بالكتلة العمرانية لنعيد للأمة تميزها ودورها الفاعل، وما التحول المذهل في العقل الجاهلي وإعادة تشكيله إلا من صناعة التوحيد.

******
من خلال هذه الركائز والروافد بنى الإسلام شخصية إبداعية متميزة، تتمتع بالاستقرار الداخلي ولا تعاني الحيرة والاضطراب والتوهان الذي تعيشه بعض النفوس التَّواقة للإبداع في الحضارات الأخرى، ومن ثم جاءت الشخصية الإبداعية المسلمة متميزة في إبداعها منسجمة مع مجتمعها، فهي لا تعيش انفصاما في الرؤى ولا ازدواجا في المعايير، وهي تعمل وتنتج وتبدع لدنياها في الوقت الذي لا تنس فيه نصيبها من الأخرى، وذلكم هو جوهر التميز في حضارة الإسلام .

__________________
رد مع اقتباس
  #59  
قديم 04-11-2014, 05:56 PM
 
الحرف العربي يواجه التحديات
11/01/2014
اسلام ويب ( د. محفوظ ولد خيري)
******



لا يتمارى اثنان فيما يتميز به الحرف العربي من خصوصية وجمال ورمزية ضاربة بالقدم في وجدان وكيان الثقافة العربية والإسلامية والعربية الإسلامية، فهو بما يختزله من دلالة كينونة الثقافة ولسانها المترجم والمعبر عنها غالبا .
ورغم أننا لا نستطيع بالتحديد معرفة التاريخ الذي ولد فيه الحرف العربي بشكله الحالي المستخدم اليوم إلا أننا نعلم يقينا أنه مر بمراحل تطور تبلور من خلالها الشكل الحالي للكتابة العربية
******
والمصادر تشير إلى أن ثمت كتابات عربية - أو كما يسمونها أقلاما - متعددة كانت تستخدم قبل ومع الحرف العربي الحالي إلا أنها اندرست ولم يكتب لها الإنتشار؛ فهنالك خط (المسند) الذي اعتبره المؤرخون القلم العربي الأول والأصيل وهو خط أهل اليمن، ويسمونه خط (حِميَر)، وجاء بعده الخط (الإرمي) نسبه إلى قبيلة إرم، وهو الخط الذي دخل الجزيرة العربية مع دخول المبشرين الأوائل بالنصرانية، حتى أصبح فيما بعد قلم الكنائس الشرقية، وهناك القلم (الثمودي) نسبة إلى قوم ثمود، والقلم (اللحياني) نسبة إلى قبيلة لحيان، والقلم (الصفائي) الذي عرف بالكتابة الصفائية نسبة إلى أرض (الصفاة) .
******
وإذا ما مررنا سريعا على المحطات البارزة في تطور الكتابة العربية فسنجد أن ظهور الإسلام شكل نقلة نوعية في تاريخ الثقافة العربية ككل والحرف العربي على وجه الخصوص، حيث بدأت تنتشر الثقافة المكتوبة وتقل الأمية مع اتساع النظم الإدارية في المناطق الآهلة بالعرب، واستُخدِم الحرف العربي أولا في تدوين القرآن الكريم، ثم في تدوين الحديث ومكاتبة الملوك في مرحلة لاحقة، ثم عربت دواوين الدولة وضربت على النقود نقوش عربية في عهد عبد الملك بن مروان في حدود سنة 80 للهجرة، ثم دخل الحرف العربي بعد ذلك طور التجميل والمحسنات فأضيف إليه نقط الإعجام وعلامات الإعراب في أواخر القرن الأول للهجرة، وفي منتصف القرن الثاني الهجري ألف عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج البصري (توفي سنة 155 هـ) أول كتاب بالعربية يؤلف في الإسلام
تطور شكل الحرف الجمالي بسرعة بعد ذلك ثم اتخذ أساليباً بعضها تزييني صرف والآخر قاعدي، وأول الخطوط التزيينية كان الخط الكوفي، ومنه المضلع الهندسي والمشجر والمضفر، وهناك خطوط زخرفية أخرى كالطغرائي والديواني والفارسي، أما الأسلوب القاعدي؛ فمن أمثلته: خط الطومار والثلث والثلثين والنصف والرقعة.
******
والواقع أن الشرق والغرب الإسلامي والعرب والعجم كلهم شاركوا في تطور الحرف العربي؛ فقد أخذت مدرسة المغرب والأندلس الخط الكوفي وجودته في القرون الخمسة الأولى للهجرة، ثم لينته لأغراض التدوين، وقد كان المغرب يسيطر عليه الخط الأندلسي المتمغرب – كما يسميه ابن خلدون - ثم أخذت الكتابة تكتمل مغربيتها من عصر بني مرين في القرن السابع للهجرة إلى أن صارت متميزة بعدة خصائص
وفي الفترة الأخيرة ضبط الدارسون للخط المغربي عدة خطوط منها: الخط القيرواني، والأندلسي، والفاسي، والسوداني
وفي مشرق العالم الإسلامي اهتم الإيرانيون بالحرف العربي وأدخلوا عليه كثيرا من التحسينات والإضافات؛ فاخترعوا خط: التعليق ثم جاء الخطاط الفارسي المبدع: مير علي، فطور التعليق بإدخال شيء من النسخ عليه وسماه: النستعليق ، واخترع الوزير ابن مقلة الشيرازي خط الثلث، وألف في الخط والقلم رسالته الهندسية التي تعتبر بحق آية في هذا الميدان، وهي التي كانت فاتحة هندسة وزن الحروف العربية بميزان رياضي
******
أما الخطاطون الأتراك والسلاجقة فقد برعوا في كتابة الخط العربي وركزوا جهودهم في إجادة خطي النسخ والثلث، وبلغ الخط العربي في عهد العثمانيين ذروة الكمال والجمال، وخلف لنا الخطاطون الأتراك آثاراً خطية بالغة الروعة، واحتل الخطاطون الذين يرسمون الحروف العربية مكانة بارزة في بلاد السلاطين العثمانيين حتى إن بعض سلاطينهم تعلموا فن الخط على يد أساتذته الكبار وكان منهم خطاطون متفوقون كالسلطان محمود خان والسلطان عبد الحميد الثاني، وساهم العثمانيون كذلك في إثراء الخطوط العربية باختراع خطوط جديدة؛ منها الديواني والديواني الجلي وخط الرقعة الذي أصبح من أكثر الخطوط العربية انتشارا.
******
وفي عصر النهضة الحديث أخذ تطور الحرف العربي منحى جديدا حيث أضيفت إليه علامات الترقيم مستفيدا في ذلك مما توصلت إليه الكتابات الغربية واللاتينية من تطور، وقد ساهمت هذه العلامات بشكل كبير في توضيح دلالات الفصل بين أجزاء الكلام وتفسير فقراته، وإبراز غرض الكاتب وانفعالاته من تعجب واستفهام ودهشة وغير ذلك،
******
وأول من استعملها وأدخلها في الكتابة العربية شيخ العروبة: أحمد زكي باشا الذي أعد - في العام 1912 م - بمعونة عدد من الباحثين والأدباء العرب رسالة عنوانها: (الترقيم و علاماته)، و أقرت وزارة المعارف العمومية المصرية استخدام هذه العلامات فى المدارس آنذاك، ثم فى عام 1932 م ارتضت " لجنة تيسير الكتابة فى المجمع اللغوى " ما أقرته وزارة المعارف المصرية وأصدرت بيانا بذلك ينص على عشر علامات أضيف لها بعد ذلك بعض العلامات الأخرى.
******
سيطرت الحروف العربية – في فترة سابقة - على الكتابة في العالم؛ فقد كانت الكتابة العربية الكتابة الأكثر استعمالا خلال العصور الوسطى، حيث اكتسحت أفريقيا كاملة فكانت كل لغاتها تكتب بالأبجدية العربية؛ اللغة الأفريكانسية، والبربرية، ولغة الهراري، والهوسا، والفولانية، والماندينكية، والولوفية، والنوبية، والسواحلية، واليوروبية في غرب أفريقيا، كذلك كتبت بها لغات في أوروبا شملت الألبانية، والأذرية في أذربيجان، واليونانية في مناطق معينة في اليونان والأناضول، واستخدمت الأبجدية العربية في أوربا من قبل المستعربين والأراغونية والبرتغالية والإسبانية عندما حكم المسلمون شبه جزيرة أَيْبِيرِيَا (الأندلس)، وكانت تستخدم في آسيا الوسطى وأقاليم الاتحاد الروسي، وجنوبي شرقي آسيا، والشرق الأوسط، وعلى امتداد المساحة التي كانت تغطيها الإمبراطورية العثمانية والتي بلغت 19.902.000 كم،
إلا أن هذا المد شهد جزرا حادا في القرن العشرين الميلادي حيث تحولت تركيا إلى استخدام الأبجدية اللاتينية في عام 1928م كجزءٍ من ثورةٍ تغريبيةٍ داخلية، وتحولت اللغة اليوغورية بتركستان الشرقية إلى الكتابة بالحرف اللاتيني في حدود عام 1960 م، وفي ماليزيا كتبت المالوية بالحروف العربية زمنا، حتى قرر الاستعمار الإنجليزي عام 1963 م اعتماد الحرف اللاتيني بديلا عن الحرف العربي في ماليزيا وإندونيسيا.
******
والأدب الألباني مازالت بعض من روائعه مكتوبة بالحروف العربية، وقد كانت لغات منطقة البلقان تدون بالأبجدية العربية حتى سنة 1970م تاريخ صدور آخر كتاب في اللغة الألبانية مطبوع بالحروف العربية
أما الجمهوريات الإسلامية في آسيا التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي؛ "كازاخستان" و"أوزبكستان" و"تركمانستان" و"قرقيزيا" و"أذربيجان" فقد تقرر في مؤتمر أنقرة سنة 1993 أن تكتب لغاتها بحروف لاتينية معدلة (34 حرفا)، وعندما سيطر الاستعمار الغربي على مختلف أنحاء القارة الإفريقية ناهض الحرف العربي وعطل كتابة اللغات الإفريقية به واستبدلها بالحروف اللاتينية، وقد نفّذ ذلك على مراحل، فطبعت لأول مرة في فترة الثلاثينات من القرن العشرين الميلادي كتب بالحروف اللاتينية، بكل من لغتي "الهوسا" والسواحيلية، وهما أكبر اللغات الإفريقية في غرب إفريقية وشرقها، وقد تمّ تكريس هذا الاتجاه عالمياً تحت إشراف اليونسكو في أواسط الستينات في مؤتمر عقد في داكار، حيث اعتمدت كتابة اللغات الإفريقية جميعاً بالحرف اللاتيني، ووضعت القواعد الثابتة لذلك، وهي خطوة حاسمة تمّ بها فصل الإفريقيين عن تراثهم المكتوب، وعزل الأجيال الإفريقية ثقافياً عن ماضيها، وكأنهم يبدؤون الحياة الثقافية بعد استعمار أوروبا لإفريقيا، في حين أنّ الثقافة الأوروبية لا جذور لها في إفريقيا، وهي نتاج لاستعمار بدأ وانتهى في القرن الماضي .
******
لم يتوقف الأمر عند انحسار كتابة اللغات غير العربية بالحرف العربي فحتى اللغة العربية شهدت دعوات وندوات نادت بتحويل أبجديتها إلى الحرف اللاتيني ولاستغناء به عن الحرف العربي، تولى كبر هذه الدعوات كبار أباطرة المستشرقين والمستغربين، وقد مُهِّد لهذه النظرية بعدد من المقالات الصحفية والدراسات والبحوث، وعقد مجمع اللغة العربية بالقاهرة جلسة في 3 مايو سنة 1943م لمناقشة: " إحلال الحروف اللاتينية محل الحروف العربية "، إلا أن هذا الاقتراح البارد ولد ميتا فلم يجد تحمسا أو حتى قبولا في الأوساط العلمية والأكاديمية ولم يجد صدى في الشارع العام، وقد فسر على أنه إنما يعقد المشكلة ولا يحلها؛ فهو لن يقضي على مصاعب الإملاء بل إن فوضى تطبيقه ستؤكد الحاجة مجددا إلى قواعد إملاء معقدة، كما أنه لا يحقق التطور الأدبي والاجتماعي المنشود .
******
لكن العقبة الكؤد والتحدي الأكبر الذي واجه الحرف العربي إنما تمثل في تقنية أدوات التواصل الإلكتروني الحديثة التي ألجأت طريقة تصميمها والحاجة الملحة لاستخدامها وفرضها لأنواع محددة من أشكال التمظهر الإجتماعي إلى نشوء لغة هجين اصطلح على تلقيبها ب"لغة الشات"، وهي مزيج من الأحرف اللاتينية والأرقام ولاختصارات الرمزية التي تستخدم للتعبير عن المضمون العربي كبديل عن الأبجدية العربية، وتتميز بالسرعة ولاختصار والتدعيم الذاتي في جميع الأجهزة الإلكترونية والهواتف المحمولة وأجهزة الآيباد في عمليتي الكتابة بها والقراءة وعدم الحاجة إلى إدخال برامج مدعمة للغة العربية.
******
ومن خلال تتبع واستقصاء هذه الظاهرة نجد أن أسباب انتشارها والحرص على استخدامها ترجع لأسباب فنية وتقنية تتعلق بعدم تزويد بعض مفاتيح اللوحات بالحرف العربي مما يضطر مستخدميها للتعامل مع الحرف اللاتيني وإن كانوا لا يقرؤن – حتى – شيئا من اللغات الأجنبية، وبعضهم يستخدمها لأسباب مجتمعية صِرفة فمعظم رواد مواقع التواصل الاجتماعي – وخاصة من فئة الشباب - يصنف مستخدمي الأحرف العربية بأنهم "من الطراز القديم"، فيما يتعاملون بشغف مع من يستخدم لغة الشات، وبسؤال إحدى المشاركات عن دواعي استخدامها لهذا النوع من الكتابة رغم أنها لا تتقن غير اللغة العربية، أجابت بالقول: إنها تحبذ استخدام هذه اللغة لأنها تحسسها بنوع من (البريستيج) و(الأتيكيت)، مضيفة أنها اضطرت لاستخدام هذه اللغة أسوة بزميلاتها اللاتي لا يستخدمن إلا هذه اللغة
******
والمحصلة النهائية أن استخدام هذه اللغة أدى إلى ضياع الإملاء والكتابة والحرف العربي في الوقت الذي لم يزود فيه مستخدموها بشيء من المعرفة أوالثقافة الأجنبية، والغالبية العظمى من مستخدميها على درجة كبيرة من الجهل بقواعد الإملاء في اللغة العربية وفي اللغات الأجنبية على حد سواء .

******
__________________
رد مع اقتباس
  #60  
قديم 04-27-2014, 05:38 PM
 
من مواقف الشهود الحضاري للأنصار
14/11/2013
اسلام ويب ( د. محفوظ ولد خيري )
******



الأنصار هم قبائل الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة، وهما قبيلتان قحطانيتان، جاءتا من مملكة سبأ في اليمن على إثر خراب سد مأرب، وبعد مجيء رسالة الإسلام كانا أول عشيرة آمنت بها وصدقتها، فهاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وتوحدت كلمتهم وأصبحوا جميعا يعرفون باسم الأنصار، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
سماهم الله أنصاراً بنصرهم دين الهدى وعوان الحرب تستعر
ولعل المجتمعات الإنسانية لم تشهد مجتمعا في عراقة ونبل وكريم خصال مجتمع أنصار النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، أولئكم البررة الذين كانوا أول حصن احتضن هذا الدين وناكف ودافع عن حماه، وهيأ البيئة المناسبة التي بنيت عليها دولة الإسلام فكانت بنيانا سامقا أصله ثابت وفرعه في السماء، آتى أكله ناشرا حضارة إلهية أنقذت البشرية من ضلال وجهل واصطراع كانت تصطخب فيه .




ولا جرم أن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتحلون جميعهم بصفات نادرة جعلتهم مؤهلين للاختيار الرباني ليكون حملة لآخر رسالة سماوية للأرض، وهم الذين ثبتت صفتهم على أفضل ما يوصف به المؤمن في التوراة والإنجيل والقرآن؛ قال تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29]، هذا الوصف ثابت لجميع الصحابة إلا أن الأنصار خصوصا تميزوا ببعض المواقف الحضارية النبيلة التي أرى أنها بحاجة للتوقف عندها، واستنباط العبر والدروس منها
فهم الذين احتضنوا الدعوة حين رفضتها جميع القبائل، وسخَّروا أموالهم وأنفسهم وديارهم في سبيل الدفاع عنها و إزالة العوائق عن طريقها، وتبرؤوا من تحالفاتهم في الجاهلية و أخلصوا الولاء للإسلام، وهم أصحاب البيعتين اللتين تعهدوا فيهما أن يحموا النبي صلى الله عليه وسلم مما يحمون منه أنفسهم ونسائهم، وهم عاصمة خلافة الإسلام طيلة فترة الخلافة الراشدة.



وفي أول اختبار حقيقي لعزيمة الأنصار في معركة بدر التي كانت خارجة – إجرائيا - عن نص معاهدة بيعة العقبة التي لم تنص على خروج الأنصار إلى أي حرب خارج ديارهم وإنما حماية الرسول صلى الله عليه وسلم داخل المدينة فقط وعدم إخراجه منها، كان جواب الأنصار صارخا على لسان سعد بن معاذ - حامل راية الأنصار – الذي وقف موجها خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.

ويكفيهم أن الله قد شهد لهم بأنهم، { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }، وختم بالشهادة لهم بالفلاح: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الحشر: 9] .

والواقع أن فضل الأنصار ومآثرهم – بل وحتى مواقفهم - أكثر من أن يطالها الحصر، لكننا سنقف وقفة عجلى عند موقفين اثنين من نوادر مواقف المجتمعات ربما في التاريخ الإنساني كله:

الموقف الأول:

********


في ختام غزوة حنين بعدما أفاء الله على رسوله وفرق الخير في الناس وأعطى قبائل العرب تلك العطايا التي ملأت رحب الفضاء من النعم والشاء والغنم، ومن الذهب والفضة والمال، ولنستمع لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو يحكي ماحدث؛ إذ يقول: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد

فقال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة" قال فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم، ووجِدَةٌ وجدتموها علي في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم" ؟ قالوا بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: "ألا تجيبونني يا معشر الأنصار"

قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل، قال: "أما والله لو شئتم لقلتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا، تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار" قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا .

الموقف الثاني:

********


بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه على وجه التحديد، يرويه الهيثم بن عدي عن عوانة قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، فساوى فيه بين الناس، فغضبت الأنصار وقالوا: فَضِّلنا، فقال لهم أبو بكر: صدقتم، إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتم للدنيا، وإن شئتم كان ذلك لله والدين! فقالوا: والله ما عملناه إلا لله وانصرفوا.

فرقى أبو بكر المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال:

" والله يا معشر الأنصار، لو شئتم أن تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم في أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإن لكم من الفضل ما لا نحصيه عدداً وإن طال به الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنوي:

جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت

هم خلطونا بالنفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلت

أبوا أن يملونا، ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لاقوه منا لملت "

من خلال مقارنة سريعة بين هذين الموقفين نستنتج ماكان عليه أنصار النبي صلى الله عليه وسلم من نبل السجايا وكريم الخصال وتحمل مسؤلية الشهادة والدين، وما تمتعوا به رضوان الله عنهم وعن صحابة رسول الله أجمعين من أخلاق عاليه ومستوى من الإخلاص والتجرد لله فريد من نوعه، وهي كذلك تدل على استمرارية هذا الإخلاص والتجرد وأنه لم يكن في الفترة الأولى من الدعوة فقط، بل تضاعف بعد موت النبي صلوات وربي وسلامه عليه فقد استمروا على منهجهم في الإيثار والتعفف والتعالي على أطماع الدنيا وحظوظ النفس، وكم في ذلك من مجاهدة، كذلك فإنه يدل على مدى اللحمة والاتحاد ووحدة الكلمة الذي أصبح عليه الأنصار بعد الإسلام بعد أن كانوا أعداء يتربص كل فريق منهم بالآخر.
بل إن بعض المصادر تذكر أن الحروب الطاحنة استمرت بين الأوس والخزرج قرنا وربع القرن من الزمان (نحو 120 سنة) طلبا للرئاسة والسيادة على يثرب ولم تنته حتى جاء الإسلام فأطفأ نارها، وتحول مجتمع الأنصار تحولا كاملا عن ما كان عليه من الشقاق والفرقة وحب الرئاسة وطلب الدنيا، ويا لروعة هذه المظاهر العظيمة من مظاهر الإيمان والحب لله ولرسوله،
ومن ثم فلا عجب أن تصبح: " آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" كما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه كما عند [ أحمد (3/130، رقم 12338)، والبخاري (1/14، رقم 17)، ومسلم (1/85 ، رقم 74)]
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله " [ أحمد (4/292، رقم 18599)، والبخارى (3/1379، رقم 3572)، ومسلم (1/85، رقم 75)]، رزقنا الله حبهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة والنعيم، بمنّه وكرمه، إنّه على ذلك قدير .


__________________
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 08:13 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011