عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > ~¤¢§{(¯´°•. العيــون الساهره.•°`¯)}§¢¤~ > أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه

أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه هنا توضع المواضيع الغير مكتملة او المكرره في المنتدى او المنقوله من مواقع اخرى دون تصرف ناقلها او المواضيع المخالفه.

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 03-16-2013, 01:45 AM
 
6- لمحت في وجه فريزر جمودا رهيبا ، كانت عيناه مسمّرتين على يدها وهي تلامس ذراع مارك ، اساء فهم دوافعها ، ومع ذلك ، شعرت بغبطة خفية.

سألته كوري بفارغ صبر:
" اين سأنام الليلة؟".
" ستنامين هنا".
وصرخت بحدة:
" إذن أنت تنام مع الآخرين".
رد فريزر باسلوبه المعتاد:
" لا ابدا ، لقد أوضحت موقفي ، ولكن إطمئني ، إنك في أيد أمينة ".
تكوّمت كوري في الزاوية ، وتلحفت بما توفر من الأغطية والبطانيات ، وتظاهرت بالنوم ، لن تخلع ثيابها قبل أن تتأكد من غرقه هو الآخر في نوم عميق.
ظل فريزر صامتا ، ثم سمعته يتنقل في الخيمة ، فخالته يستعد للنوم ، كانت قد أدارت ظهرها متحاشية النظر اليه أو رؤية وجهه المتعجرف وملامحه القاسية ، إنها لحظات مؤلمة ، تمزق قلبها المعذب ، وتقتل كل شعور بالصداقة والإخلاص في النفس البشرية.
تاكد لها ان فريزر لا يعاني من أي عذاب أو صراع ماثل ، أخذ يصفر الحانا مختلفة وهو يطوف في الخيمة ، وكأن كل شيء على ما يرام.
توقعت ان يبادر الى التمني لها( بليلة سعيدة) أو ( اراك في الغد إن شاء الله) ولكن توقعاتها ذهبت سدى.
ما هي إلا لحظات حتى اخذت تشف أذنيها بشخيره البطيء الثقيل يملأ ظلام الخيمة ،غرق في نوم عميق ، تاركا إياها مسهدة كأنها تستلقي على فراش من الشوك والجمر ، وبدأت تكشف في قلب تلك العتمة المخيفة مدى سيطرة فريزر على حواسها ومشاعرها ، كان يملك سحرا عجيبا يجذبها اليه ، يؤرقها ، ويقلب كل مفاهيمها التقليدية بصدد الحب والزواج ، تلك المفاهيم التي تلقتها منذ نعومة أظافرها .
وترامت الى مسمعها أصوات مبهمة ، متقطعة من الجانب الآخر من المخيم ، ثم بدأت الأصوات تزداد وضوحا ، إنها اصوات الرجال يتوجهون الى خيمهم ، وتبينت صوت بويد يتلفظ بإسمها وإسم فريزر.
كان صوتا متهكما ، يرن بقهقهة لئيمة ، لم تسمع كل كلمة قالها ، ولكنها فهمت مغزى حديثه وإصراره على الطعن بسمعتها ، تنهدت بإمتعاض وهي تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها.
وإضمحلت الأصوات ، ساد الصمت داخل الخيمة وخارجها ، وفجأة مزق هدوء الليل زئير متواصل ، ترددت أصداؤه في جنبات الصحراء.
منتديات ليلاس
إنه أسد ، غرزت كوري أظافرها في لحم كفها ، تصاعد الزئير من مكان قريب ، ولا بد ان الأسد يطوف الآن حول المخيم ، إرتعدت فرائصها ، وفطنت الى وجود فريزر معها ، فهدأ روعها قليلا ، إنه رجل متعجرف ، متحجر ، وسليط ، ولكنه سيؤمن لها الحماية في هذه اللحظة الحرجة ، مرت دقائق مشحونة بالتوتر ، تتقاذفها مخاوف رهيبة ، ولا تلبث أن تطمئن الى سلامتها وهي تفكر بفريزر ومدى صلابته وجرأته.
وإستسلمت اخيرا للنوم ، عندما فتحت عينيها كانت خيوط الفجر تتسلل من فجوة ضيقة في الخيمة ، فركت جفنيها وكأنها في حلم مذهل ، تزاحمت في ذهنها أحداث اليوم الفائت ، فهزت رأسها تحاول طرد أشباحها.
كانت الخيمة خاوية ، لا بد أن فريزر إستيقظ قبلها ، ترى هل رآها تغط في نوم عميق؟ سرت في وجنتيها حمرة الخجل ، وتسارعت نبضاتها.
وما أن أصبحت في الخارج حتى رأت المخيم يموج حركة ونشاطا ، كان الرجال قد إرتدوا ملابسهم الكاملة ، وبدوا حليقي الذقن ، أنيقي المظهر ، وهو تطور جديد ، عرفت كوري انها مسؤولة عنه بعد إكتشاف هويتها كأنثى ، ثم لاحظت أن الجميع يتوقع منها إعداد وجبات الطعام ، لم تعترض ، إنها تهوى طهي الطعام ، وطالما أبدت اسفها لإنشغالها بأمور أخرى ، ومع أن وسائل الطهي ومواد الأكل لا يمكن مقارنتها بما يتوفر في المدينة ، فإن كلمات الشكر والثناء التي اثارتها وجباتها المرتجلة جعلتها تنسى أية صعوبة أخرى.
وعلّق فريزر ، وهو يمضغ لقمته الأخيرة:
" إنه فطور شهي".
كانت هذه الكلمات الوحيدة التي سمعتها منه بعد أن احداث الليلة الفائتة في الخيمة ، وتسارعت نبضات قلبها ، وقف قربها بقامته الشامخة ، أسمر الوجه ، تموج عيناه بصفاء البحر الهادىء ، يدل مظهره أنه قضى ليلة هنيئة ، ولم يكن لوجودها في خيمته أي أثر يذكر على اسلوب حياته.
قالت مبتسمة:
إذن للنساء بعض الفائدة؟".
مط شفتيه متهكما:
" أنا أول من يوافق على ذلك".
فإمتعضت قليلا:
" بالله عليك ما هذا الكره الدفين؟".
رد بإعتدال :
" لا تتظاهري بالبراءة ، من يقرع الباب يسمع الجواب ، ولا تفكري برد بارع الان ، كنت تعرفين رايي مسبقا".
راقبته يبتعد عنها ، طويلا ، خفيف الحركة ، ثابت الخطى ، تمنت لو تستطيع إرجاع عقارب الساعة ، وتبديل كل قراراتها.
حمل مارك صحن الطعام ، وجلس بجانبها ، ظل لحظة صامتا ، بدا متوترا شارد النظرات ، وفطنت الى أن مزاجه السيء يرتبط بشيء فعلته، كانت تبحث عن أسلوب ملائم لكسر حاجز الصمت بينهما عندما بادر الى القول:
" ماذا جرى ليلة أمس؟".
" لا شيء البتة....".
ونظر اليها بعينين حادتين:
" لا ضرورة الى التظاهر بالبراءة يا كوري ، إن فريزر ملوري يحب اللهو مع النساء ".
قالت كوري بخفة عفوية:
" هذا إذا وجد رغبة لدى النساء".
أصيب مارك بالحرج :
" لم أقصد.... لا اعني...".
قالت بلطف ، يؤنبها ضميرها:
" أعرف انك صادق النية ".
" هل انت متاكدة أنه لم يحدث أي شيء؟".
لم يحدث أكثر من تصدع في عالمها خاطبت كوري نفسها ، وأصبحت كالركن المتداعي ، ولكن ذلك لن يثير إهتمام فريزر في شتى الحوال ، ولا يجوز لها إلقاء التبعة عل كاهل مارك ، فأجابته بصوت عال:
" أنا متأكدة تماما".

تبدلت لهجته
" كوني حذرة يا كوري".
وعدته ، مدركة معنى عبارته:
" سأكون حذرة كل الحذر ".
وإستطرد:
" إن فريزر قائد جيد ، ولكنه صعب المراس أيضا ، ستتعرضين لمتاعب كثيرة إذا ما وقعت في غرامه".
لمست كوري مدى أسى مارك وإنزعاجه ، وضعت يدها بلطف على ذراعه ، وقالت مبتسمة :
" لا تقلق علي ، لا مبرر لقلقك إطلاقا".
ون صوت فريزر يناديها :
" كوري".
فإستدارت قائلة:
" نعم؟".
" أريد منك إنجاز بعض الأمور المستعجلة".
وردت :
" سمعا وطاعة".
إختارت كلماتها بدقة ، وتمعن ، لمحت في وجه فريزر جمودا رهيبا ، كانت عيناه مسمرتين على يدها تلامس ذراع مارك ، واساء فهم دوافعها ، مع ذلك، شعرت بغبطة خفية ، لا بأس من إكتوار فريزر ببعض الغيرة ، ربما كانت هذه نقطة ضعفه ، شمخت بانفها ، وإرتات إثارته أكثر:
" لينظف الصحون احد سواي".
مع ذلك نجح في إلهائها بشؤون اخرى ، قضت معه أكثر من ساع يبحثان شجون التصوير والمهمات المترتبة عليها ، كرهت في البداية طريقته الفظة في إصدار الأوامر ، ولكنها تناست حنقها وهي تزداد إنهماكا في عملها الشيق.
قال فريزر وهما في طريق العودة الى المخيم:
" ألم أحذرك من العبث مع الرجال؟".
عرفت كوري ما الذي يشغل باله ، إنه سينحو عليها باللائمة في كل ما تفعله ، إذن ، لا فائدة من إطلاعه على الحقيقة حول ذلك المشهد الذي رآه بام عينه.
إبتسمت مستفسرة :
" أنت تغار من مارك؟".
عض شفتيه إمتعاضا ، وبقبضة صلدة طوّق معصمها:
" يا لك من إمراة شريرة ".
واظبت على إغاظته :
" أنت تتهرب من الإجابة على سؤالي".
فرد بإزدراء :
" تعرفين جوابي ، لماذا أغار؟ أنت لا تختلفين عن أية إمرأة أخرى".
كان غروره لا يطاق ، ولكنها اصرت على رايها :
" أنت غيور".
ضغط باصابعه على معصمها:
" إن ذوقي ارقى مما تتصورين ، ولا أجد مبررا لتبديد وقتي على عذراء مثلك ".
إنه لا يكف عن إهانتها ، قالت بصوت خفيض:
" ليتني بقيت في المنزل ولم أشاهد وجهك في حياتي".
قال يزيد نيران غيظها وقلقها إضطراما:
" إن رأيك مشابه لرأيي ، احذرك ثانية يا كوري ، إياك وإثارة المتاعب بين افراد البعثة".
احست بضعفها وأنوثتها الغضّة في آن معا :
" لم أفعل شيئا غير لائق مع مارك أقسم لك".
اجابها بصوت مخيف :
" هذا هو رأيك ، ولكن يجب أن تعلمي أن مارك على وشك الوقوع في غرامك".
صاحت مستنكرة ، وهي تدرك في قرارة نفسها صدق كلمات فريزر:
" هذا هراء ، إن مارك مجرد صديق ودود".
وإسترسل:
" طبعا ، غير ان صداقة كهذه مليئة بالأخطار ، ولن يدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان".
وقالت بعفوية :
" وهذا ما يوجد بيني وبينك أليس كذلك؟ مجرد صداقة ".
أجاب بتمهل:
" إن الأمور تحت سيطرتي المباشرة ، ولذلك لا خطر علي ، أستطيع البقاء معك أو التخلي عنك ساعة أشاء".
ادركت ان الإعتصام بالصمت خير وسيلة تتبعها مع هذا الرجل المتعجرف، ولكن كلماته الأخيرة افقدتها صوابها ، فقالت متحدية:
" ألست من لحم ودم مثل الآخرين؟".
طوّقها بذراعيه القويتين ، وشدها اليه بهصرها هصرا ، هل يريد عناقها أم إيذاءها ؟ وكادت تصرخ ألما عندما دفعها بعيدا عنه ، فسقطت أرضا ترتعد من الخوف ، نظر اليها بإزدراء قاتل ، تضج في صدره غرائز سافلة ، وفي عينيه بركان مزمجر ، نهضت تهمس بدعة:
" لماذا فعلت ذلك؟".
فقال بصوت أجش:
" لثبت لك انني من دم ولحم كأي رجل آخر ، ولكنني استطيع السيطرة على نفسي عندما يحلو لي ، أما أنت فلا تملكين إرادة أو أي شيء ، إنك اسيرة غرائزك".
إنفجرت غضبا:
" يا لك من وحش ضار ".
وبدأت تبتعد عنه حائرة ، مضطربة الأعصاب ، إنها انثى جميلة القوام والوجه ، تعيش بين مجموعة من الرجال وسط صحراء مقفرة ، ومن الطبيعي ان تلفت الإنتباه ، وتخلق اجواء غير طبيعية ، ماذا تفعل ؟ لم تجد جوابا شافيا ، كل ما تريده الآن تجنّب فريزر ملوري وكل ما يمثله من غرور ، ورجولة وجاذبية ، إنه يكاد يدمر طمأنينة نفسها التي لم تفقدها في كل مراحل حياتها.
لم تنبس ببنت شفة وهي تتابع سيرها ، وحتى عندما سمعته يحذرها مجددا من مغبة التورط مع مارك.
تنفست كوري الصعداء عندما تركها فريزر وشأنها ذلك اليوم ، وشغلت نفسها بعد الغداء مع بعض الرجال ، متلكئة في إلتقاط الصور الى ان رأت الشمس تتوارى وراء الأفق ، وأخذ الجميع يستعد لإستقبال الليل.
فقد ظلام الصحراء سحره ، خالت النجوم المتناثرة في الفضاء الشاسع باهتة ، تبعث على الرهبة والحزن ، حتى زئير الأسد بات قصة عتيقة تدعو الى التثاؤب عوض التيقظ والترقب ، ستنطفىء النار بعد قليل ، ويأوي الرجال الى الفراش ، وستجد نفسها وحيدة في الخيمة مع فريزر ملوري ، ورغم تصميمها على صده ، وعدم السماح له بمسها او التحدث معها ، توجست شرا وسرت في شرايينها قشعريرة مخيفة ، إن مجرد التفكير في فريزر يقلب كل حساباتها ويحوّلها الى ريشة في مهب الريح.
ترى هل ينتظر فريزر تقدم الليل ؟ خاطبت نفسها ، رأته يتحدث مع بيتر ، ولم تتمكن من سماع الحوار ، ولكن بدت عليه إمارات الود والغرتياح ، أدركت انه لا يعير إهتماما لقلقها واوهامها ، فاصيبت بخيبة أمل.
رفع فريزر عينيه وحدّق اليها كأنه أحس بها تراقبه ، وإلتقت نظراتهما برهة عبر السنة النار ، كانت برهة قصيرة خالتها دهرا ، إذ تراءى لها أنه لا يوجد احد سواهما في هذه الصحراء ، تجمّد الدم في عروقها وهي تشيح بوجهها صوب الأفق المظلم.
وتنبهت فجأة الى قرارها السابق ، لتذهب الى الخيمة لتوّها وتأوي الى النوم قبل أن يدركها فريزر ، إن مشاعرها الرقيقة لن تقوى على خوض تجربة مريرة جديدة وربما اشد غرابة.



  #12  
قديم 03-16-2013, 01:47 AM
 
7- قررت الإبتعاد عنه حتى لو إضطرت الى عصيان أوامره ، ولم يخطر لها أن هناك رجلين آخرين يتنافسان عليها بكل ما أوتيا من قوة.

وهكذا مضت كوري الى الخيمة ، تاركة مارك في خيبة وإرتباك ، لكنه بقي في مكانه قرب النار مدركا عقه التحدث اليها في هذا الوقت بالذات.
اخذت تستعد للنوم ، مطمئنة الى وجودها وحيدة ، وإنشغال فريزر بأمور أخرى ، وما ان سمعته يقترب من الخيمة حتى إستلقت متظاهرة بالنوم العميق ، أحست به يعاينها ، ويتمعن في وجهها ، وجدت صعوبة في المحافظة على تنفسها الطبيعي المنتظم وقد راح قلبها يخفق كالمطرقة ، هل إنطلت عليه الحيلة ؟ ليس من السهل خداع رجل حاد الملاحظة مثل فريزر ، خاطبت نفسها وهي تترقب خطوته التالية.
بدا أنه غير مكترث كثيرا بوضعها ، ها هو يبتعد قليلا ويباشر بخلع ملابسه ، كادت أن تفتح عينيها قليلا وتختلس النظر ، ثم إستقر رايها على تحاشي أي خطأ قد يورطها في مماحكات مؤلمة ، ومهاترات باتت تعرف عواقبها.
منتديات ليلاس
وبعد لحظات معدودة كان شخيره البطيء يملأ أرجاء الخيمة ، إنه لم يبالغ عندما أكد لها قدرته على التحكم بعواطفه ، والسيطرة على نزواته الطارئة ، تمنت لو كانت تملك قوة إرادته وبرودة أعصابه.
إستلقت متململة في الظلام ، محاولة التركيز على أي شيء آخر ، إنها لن تسمح لفريزر بالإستيلاء على مشاعرها ، والإنزلاق في هاوية غروره وتصرفاته الفظة ، وإلا قضي عليها كإنسانة حرة طليقة.
نهضت في صباح اليوم التالي متاخرة ، وبعد أن غادر فريزر الخيمة ، وإتجهت الى نار المخيم فإختارت مكانا بعيدا عنه قدر الإمكان ، إلتفتت بدون تعمد فرأته يراقبها ، إلتقت نظراتهما لحظة طويلة، لو كان فريزر رجلا آخر لما ترددت كوري في الإبتسام له وإلقاء تحية الصباح عليه ، لكنه فريزر ، ولا تليق به تحية الصباح العادية.
وقبل ان تشيح بنظرها بعيدا عنه ، لمحت كوري في عينيه تلك النظرة الساخرة المتهكمة ، كادت تسحق فنجان قهوتها وهي تحتسي رشفة حارة ، لا فائدة من التظاهر بالهدوء، ما أن يقع نظرها عليه حتى يكتسحها إضطراب هائل لا يقاوم.
قررت الإبتعاد عنه باي ثمن ، حتى لو إضطرت الى عصيان أوامره ، إن غروره الوقح لا يترك مجالا للتفاهم معه ، أو الإقتراب منه بحرية وعفوية.
قضت كوري صباحها تلتقط الصور مع مارك ومجموعة من زملائه ، وكان يتحين الفرصة ليتبادل معها بعض الكلمات ، طلب منها ان تتنزه معه في المساء ، وبعد الإنتهاء من العمل ، وافقت كوري مع معرفتها لتحذير فريزر وإعتراضه ، كان مارك رجلا يوحي مظهره بالثقة ، وما أعذب تلك الإبتسامة تحوم على شفتيه وهو يرمقها بإعجاب خفي ، وإزدادت قناعة بتقديرها له وإرتياحها الى رفقته، كان فريزر حذّرها من مارك ، ووقوعه في غرامها ، ربما كان ذلك صحيحا ، مع انها تمنت ألا تصل الأمور بينهما الى هذا الحد ، إنها لا تتمنى أكثر من بناء صداقة متينة ، مؤهلة للإستمرار والنمو زمنا طويلا.
لم تعثر على اثر لفريزر ، ظنت كوري انه منهمك في التنقيب عن موقع جديد ، تنفست الصعداء لغيابه ، وزال توترها الدائم الذي يلازمها مع وجوده بجوارها.
وكم كانت مخطئة ، ها هو شبحه يطاردها ، ويسكن أفكارها ، إستشاطت غيظا وهي تلمس ضعف إرادتها وهشاشة عزيمتها ، الم تقرر تجنبه والإبتعاد عنه؟ نعم إن الإبتعاد عنه جسديا مسالة سهلة ، ولكن ما الذي تفعله بعقلها ومشاعرها وعواطفها؟
حان وقت تناول الشاي ،وجدت نفسها تتحدث الى الرجال الآخرين بإندفاع منقطع النظير ، الأمر الذي اثار دهشتهم ، ولفت انظارهم .
عادوا الى المخيم عند الظهيرة ، ودنا منها فريزر وهي تلتهم طعامها ، كان يريدها أن تعمل معه بعد الظهر ، إزداد وضعها سوءا ، خانتها إرادتها وغمرتها احاسيس غريبة وهي تتأمل قامته الطويلة ووجهه الصارم.
خرجت الكلمات من فمها بشق النفس:
" آسفة ، لا أستطيع العمل معك اليوم".
فتقوّس حاجباه:
" لا تستطيعين ؟!".
تمتمت متلعثمة:
" إنني مشغولة بإنجاز بعض الأمور في الموقع الآخر ، ولا يمكنني التوقف الآن ".
لم يجبها ، أخذ يتمعن في وجهها صامتا ، إحمرت وجنتاها خجلا وقالت بصوت مخنوق:
" إنني مشغولة ، هل انت أصم؟".
ضحك بملء فمه ، وإقشعر جسم كوري ، أدركت أنه يخترق معاني كلماتها ، ويفهمها على حقيقتها ، لا بأس ، لتحتفظ الآن برباطة جاشها ، وتهيء نفسها لمواجهته في وقت لاحق ، لا فائدة من الرد عليه وهي في حالة يرثى لها ، لا تحسن إخفاء مشاعرها ، ولا تعرف كيف تتلقى عجرفته الطاغية ، أغمضت عينيها ، ودفت رأسها بين راحتيها.
إرتفع صوته هازئا ، مغريا:
" كوري ، سأتساهل معك اليوم ، لأن ذلك لن يضيرني ، ولكن لا يمكنك تجنب العمل الى الابد".
وأدركت كوري ان إنتصارها الذي حسبت أنها حققته كان إنتصارا هشا ، سريع الزوال.
وجدت صعوبة في التركيز على عملها ، تعثرت أكثر من مرة ، وكادت آلة التصوير ان تهوي من يدها ، وتتحطم شظايا ، وترامى اليها صوت مارك متسائلا:
" ما بالك يا كوري؟ هل أنت على ما يرام؟".
نظرت اليه ، فرأته يستبد به القلق ، إن بينه وبين فريزر هوة شاسعة ، وكأن السيد ملوري لا يعرف معنى للقلق ، أو الإهتمام بما يصيبها ، والح مارك:
" كوري ، ما بك ؟".
حامت على ثغرها إبتسامة شاحبة:
" أنا بخير ، إطمئن".
فلم يقتنع :
" يبدو أنك شاردة الذهن ".
" لا بد أن الحر أثّر علي ، ولكنني بخير ، إطمئن".
ظل مارك يرمقها فترة من الزمن ، وإحتضن يدها مبتسما:
" أتمنى ذلك... اتمنى ذلك من كل قلبي".
وسمعت نفسها تقول له:
" ساذهب معك للتنزه كما إتفقنا ، لأثبت لك صحة قولي ".
" إنها فكرة رائعة".
وكاد يطير فرحا ، مما جعلها تشعر بوخز الضمير ولم تجد مبررا لشعورها المفاجىء.
أنهيا عملهما في وقت مبكر ، وفيما عاد الآخرون الى المخيم سار مارك وكوري في إتجاه معاكس .
كانت الشمس توشك ان تغيب ، باعثة اشعة واهنة ، باهتة ، وترامى الفضاء الشاسع فوقهما صافيا ، تمتزج في رحابه الوان الغروب الذهبية القرمزية ، وخيم هدوء شامل ، يخبىء في طياته حشرجة النهار المحتضر وأسرار الليل الوليد.
وفجاة سمعت كوري صدى خشخشة على مقربة منها ، إستدارت فوقع نظرها على غزال ، ينتصب جامدا كالتمثال ، براقبهما بحذر شديد ، وكأنه يهم بالفرار ، فكرت كوري بالزئير الذي ترددت اصداؤه في سكون الليل ، فأدركت أن الغزال سيكون لقمة سائغة لأي اسد يتربص به ، إن حذره مسالة طبيعية ، وهو في هذا الوضع الصعب .
تقدما بخطوات وئيدة ، وإرتفعت أمامهما شجرة زعرور شائكة وسط الأعشاب الذابلة ، وحطت على الأغصان العارية أسراب من النسور الكاسرة ، سبق لكوري أن رأت نسورا كهذه تغط منتظرة ، أو تحوم في الفضاء ، إنها من الطيور الجارحة ، تتحيّن فرصة الإنقضاض على فريسة نال منها الأسد حصته فتقتات بالفضلات الباقية ، إقشعرت كوري وهي نرى النسور تغطي الشجرة ، صامتة ، مترقبة.
ما أصعب مشهد الموت والإفتراس في هدوء الغسق الجميل ، ولكن هذه هي حياة لصحراء البدائية الصارمة ، حياة مضى عليها آلاف السنين ، القوي يأكل الضعيف ، حيث يهيمن قانون الغاب هيمنة مطلقة ، إنه مفهوم متوحش يثير الرعب ، ولكنه يشيع أيضا جوا من المغامرة والتحدي ، ومرة ثانية ، وبدون إرادة منها ، تراقصت صورة فريزر في ذهنها.
إلتفتت الى مارك معلنة:
" إنها مناظر مثيرة ، اليس كذلك؟".
تبدلت ملامح مارك ، ووافق مرددا:
" إنها حقا مثيرة".
وتابعت تحاول إخفاء إرتباكها :
" أنت تحب هذه الحياة ، أليس كذلك؟".
ساد صمت غريب ، ثم قال مارك:
كنت أحبها كثيرا".
تساءلت بعجب:
" ولم تعد تحبها الآن ؟".
فإزدادت ملامحه تجهما:
" إنها حياة موحشة ن هل يمكنك التعوّد عليها يا كوري؟".
علت وجهها مسحة من الحيرة القاتلة ، إنها الآن في س يؤهلها لفك مغزى الكلمات الغامضة ، وتعرف تماما كيف تضع حدا لتمادي بعض الرجال من دون ان تجرح مشاعرهم ، لكن مارك ليس ككل الرجال ، إنها تعتبره من اعز أصدقائها ، فأجابته:
" لست... لست متأكدة".
وأدركت أنها لم تكن صادقة مع نفسها ، إنها تستطيع التعوّد على هذه الحياة ، والتمتع بها وذلك في ظروف معينة ، وبصحبة أناس معنيين ، هبطت عليها الفكرة كالصاعقة، إنها لا تكاد تصدق ما يدور في ذهنها ، رددت كلماتها بشفاه مرتجفة:
" لست متأكدة ، إنني متعبة اكثر مما تصورت ، ما رأيك لو نعود الى المخيم؟".
قال:
" حسنا".
لم يدل صوته على شعور بخيبة الأمل او الرفض ، لكن كوري عرفت مدى إنزعاجه وتأففه وهما يتوجهان الى المخيم ، سرى اللغط عندما اصبحا وسط حلقة الرجال ، واحست كوري أن الجميع يحدجونها بنظرات مستفهمة ، خبيثة ، لم يكن هذا شيئا جديدا عليها ، فضّلت تجاهلهم ، والتظاهر بعدم المبالاة، حتى بويد ، بكل وقاحته وإشاراته المبطنة لم يعد أكثر من إزعاج يومي تعلمت كيف تتحمله مكرهة ، وها هو يصيح بلهجته المستهترة :
" ما هذا يا مارك ؟ هل انعم اله عليك بأشياء حرمنها منها ؟ ".
وعلت القهقهات تصم الآذان ، ثم برز فريزر ، يسير متمهلا صوب كوري ومارك ، حبست انفاسها ، لن تدعه يستغل الموقف ويتهكم عليها ، ولم ينبس ببنت شفة ، لكنه بدا في حالة من الإستياء الشديد ، خيم صمت مشحون بالتوتر.
شعرت كوري بالغضب يتأجج في داخلها ، انها لم تفعل شيئا يستحق هذه المعاملة ، هل تنفجر غضبا ، وتلقن فريزر وبويد درسا قاسيا ، أم تتصرف بوقار وتحفظ كرامتها ؟ إستقر رايها على الخيار الثاني.
إنطلق صوتها واضحا واثقا وقالت وهي تلمس ذراع مارك :
" إستمتعت بالنزهة كثيرا يا مارك ، أتمنى أن نقوم بنزهة ثانية في وقت قريب".
لم تنتظر جوابه ، وتوجهت صوب خيمة المطبخ والإبتسامة تعلو فمها ، ومشت براس مرفوع هادئة واثقة الخطى ، لكن ما أن اصبحت في الداخل ، حتى تكدر مزاجها من جديد.
ظلت تشعر بالإنقباض حتى صباح اليوم التالي ، كان ذلك اليوم يوم عطلة ، حيث إنهمك الرجال في المطالعة ، أو ممارسة بعض الألعاب والتمارين الرياضية ، اما هي فكانت في وضع لا تحسد عليه ، لا تدري ماذا تفعل ، أو أين تتوجه.
قررت مغادرة المخيم والإبتعاد عن هذه الأجواء الخانقة ، وتذكرت تحذير فريزر لها من مغبة التوغل في الصحراء بمفردها ، لكنها إختارت تجاهل تحذيره ، لم تفكر طويلا في المخاطر التي قد تتعرض لها.
كان مارك جالسا يسجل بعض الخواطر في دفتر صغير ، وعندما مرت به رفع رأسه قليلا ، مبتسما بخجل ، ثم إستأنف الكتابة ، إرتاحت الى تفهمه لوضعها وتركها تمضي في سبيلها ، أما فريزر فلم تعثر على اثر له.



بدأ التوتر بالتضاؤل وهي تحث الخطى الى الأمام ، كانت الشمس تطل من وراء الفق متمهلة في صب حرها الحارق ، ولاحت في البعيد صفوف من التلال الواطئة ترفل في ضباب شفاف ، وإنتشرت هنا وهناك اشجار غليظة الجذوع ، مجوقة على نحو يشكل مأوى طبيعيا ، أسفت لعدم جلبها آلة التصوير ، إذ كانت ستلتقط صورا رائعة تحتفظ بها لنفسها ، وتدخل روعتها بعض البهجة على قلب والدها الحزين.
ومتى سترى الرسوم الصخرية؟ تساءلت كوري ، حتى الآن لم تجد شيئا ينبىء بوجودها ، ساورتها الآمال بالعودة من الصحراء متابطة الصور التي حلم بها والدها ، ستكون مواجهة والدها محرجة وأليمة بدون هذه الصور.
خامرها شعور أن أحدا يتعقبها ، لم تسمع وقع أقدام إذ ان سماكة الرمل كفيلة بإخماد أي صوت.
طرق أذنيها حفيف العشب الجاف ، وإنقصاف غصن يابس ، فتأكدت كوري انها ليست وحيدة كما كانت تظن ، أهو حيوان ام إنسان؟ ترددت في الإلتفات الى الوراء ، وفي ظنها ان حركة كهذه قد تؤدي الى هجوم مفاجىء.
حثتها غريزتها على الركض بأقصى سرعة ، لكنها أجبرت نفسها على السير ببطء شديد ، كانت اعصابها كالوتر المشدود ، تصارع هلعها بإرادة تلقائية إكتسبتها من مهنتها ، لقد إبتعدت كثيرا عن المخيم وعليها ان تقفل عائدة وعبر طريق جديد ، أكثر أمانا.
إنقصف غصن شجرة ، فإنتفضت مذعورة ، وإمتدت يدهاالى شفتيها تطبق عليهما وتكبت صرخة الهلع ، إستدارت تلقائيا، تبحث عن شبح يحوم حولها.
كان بويد يقف على بعد خطوات منها ، نظرت اليه شاعرة ببعض الإرتياح ، لم يخطر ببالها أنها ستبتهج يوما برؤية هذا الوجه المتورد الوجنات ، لكنها في تلك اللحظات كادت تعانقه وتحمد الله على وجوده قربها .
إختنقت الكلمات في حنجرتها:
" أنت؟ بويد.... إعتقدت ...".
فإبتسم قائلا:
" ماذا إعتقدت ؟".
تبخر إبتهاجها العفوي وهي تتمعن في عينيه الجاحظتين :
" إعتقدت أن أحدا يتعقبني ، ولم اكن مخطئة ، ما الذي أتى بك الى هنا؟".
" هل يحتاج الأمر الى شرح يا كوري؟".
بلعت ريقها ، تحاول تغيير مجرى الحديث:
" يا له من يوم جميل ، أظن انك رغبت في التنزه قليلا ".
خنق قهقهته وهو يقول:
" رغبت في أكثر من نزهة يا ملاكي الطاهر ، ولكن انت تعرفين هذا طبعا".
" لا افهم معنى كلامك".
إستبد بها الخوف وهي تفكر بالمسافة التي تفصلها عن المخيم ، تراقص بريق خبيث في مقلتيه وإستطرد:
" إن البراءة لا تلائمك ، ما أن تركت أريك هوغن حتى وقعت في احضان فريزر ".
قالت بإصرار :
" انا عائدة الى المخيم".
وبدا جسمه الضخم سدا منيعا ، يلغي امامها كل المنافذ ، فألحت عليه:
" دعني أمر يا بويد".
إبتسم :
" كفي عن التمثيل".
وتراءى لها أن هذا الرجل الضخم خفيف الحركة ، سريعها ، وما ان حاولت التقدم حتى امسك بها وشدّها نحوه ، فأطلقت كوري صرخة الم وهو يغرز اصابعه القوية في لحم ذراعها الطري ، قاتلته بعنف وضراوة ، لكن دون جدوى ، طوّقها بذراعيه بقوة حيوانية خانقة فكاد يغمى عليها ، ثم رفع راسه ليتنشق بعض الهواء:
" ما هذه المقاومة ؟ هل تفضلين فريزر علي ؟".
وإنتهزت كوري الفرصة لتلطمه على وجهه بجماع قبضتها ، فأصابت أنفه ، ورأت الشرر يتطاير من عينيه وهو يصيح :
" ستندمين على وقاحتك ايتها الشريرة".
ورماها ارضا وهي ترتجف ذعرا ، إنه ينوي إخضاعها عنوة ، ماذا تفعل ؟ هل تقاومه ؟ وكيف؟.
وتصاعدت من اعماقها صيحة مولولة حادة:
" فريزر... فريزر اين انت؟".
ولكن لا حياة لمن تنادي ، ها هو ينحني فوقها ، رفسته بجزمتها ، فلم يرتدع ، بل إزداد إصرارا وهياجا ، وأخذ يمزق ثيابها ، إستجمعت قواها لتعضه عضة موجعة ، فكشف عن أنياب حادة ، ثم رأته يفغر فاه دهشة ، وهو يرفع بصره الى أعلى.
كان مارك يقف فوقها ، يمسك بيديه شعر بويد ، ويشده نحوه ، وقرأت في وجه مارك ، رغم محنتها ، بحرا متلاطما من الغضب .
إنتصب بويد واقفا ، وزمجر:
" ماذا تفعل يا مارك ؟ هل تريد الإستئثار بكوري؟".
هدده مارك بقبضته صارخا:
" لعنك الله كم أنت بذيء".
وتشابكا بالأيدي قبل ان تتمكن كوري من التدخل ، راح كل منهما يلطم الآخر ويضربه بكل ما أوتي من قوة ، خافت على مارك الهادىء اللطيف ان يسحقه بويد سحقا بفظاظته وجلافته .
لكنها فوجئت بمقاومة مارك ، وصموده أمام اللكمات المتواصلة ، بدا غضبه العارم دافعا صلبا يضارع وزن بويد الثقيل وقوته القاهرة ، مع ذلك لم تطمئن كوري الى النتيجة ، إن بويد سينتصر في النهاية ، وتلك مصيبة فادحة لن تسمح بوقوعها ، راحت تبحث كالمجنونة عن حجر ، أوغصن شجرة لتضرب بويد ضربة محكمة.
لم يفطن أحد الى إقتراب الرجل الثالث ، عمد بسهولة متناهية الى الفصل بين الرجلين وتراجع مارك الى الوراء يلهث أعياء ، وحاول بويد الإنفلات ليشن هجوما جديدا ، غير أن قبضة حديدية سمرته في مكانه.
تنفست كوري الصعداء ، وهي لا تكاد تصدق عينيها ، تجمدت لا تدري حقيقة وضعها وقد راح فريزر يرمقها شزرا وإزدراء ، ثم حوّل فريزر إنتباهه الى الرجلين ، معلنا بصوت صارم جازم:
" لن أسمح بهذه الترهات مرة ثانية".
رد عليها مارك بعد أن هدأ روعه قليلا :
" إنك لا تفهم حقيقة ما جرى ".
فحدّق فريزر في وجه كوري بإحتقار مميت:
" إني افهم اكثر مما تتصورين ".
وهتف بويد مغتاظا:
" اريد القضاء عليه ، لا يمكنني السكوت بعد أن إعتدى علي ".
تابع فريزر بحدة:
" أنت تعرفين سبب إعتدائه ، لا أريد اعذارا واهية ، إننا فريق عمل موحد وعلينا العيش سوية ، إن شجارا كهذا يسيء الى معنويات الرجال ككل".
عقّب مارك موافقا:
" إن فريزر على حق".
فإزداد بويد عنادا :
" ليذهب بحقه الى الجحيم".
كرّر فريزر أوامره بثقة القائد :
" أريد أن تتصافحا مصافحة الرجال ، ولنضع حدا لهذه المهزلة".
هز بويد راسه متجاهلا يد مارك الممتدة لمصافحته وقال رافضا:
" لا... لن أصافحه".
الحّ فريزر :
" صافحه الآن ".
بدا بويد أقل ثقة بنفسه ، وأدرك في قرارة نفسه أن عناده لن يفيده امام إصرار فريزر وأوامره الحاسمة ، ورأته كوري يلوي فمه بإمتعاض ، ثم يستسلم للأمر الواقع معلنا :
" حسنا ، ولكن وجود إمرأة معنا كان لا سبيل الى إنكاره".
إستدار فريزر نحو كوري :
" كلنا نوافق على رأيك ( وأشار بيده) لنتوجه الآن الى المخيم".
" افضّل العودة بمفردي".
تعمدت كوري إعلان تمردها على فريزر وعنجهيته بعد أن زال الخطر عنها ، وطوّق ذراعها بقبضة محكمة:
" إن ما تفضلينه لا يعني شيئا بالنسبة الي ، سأراكما وقت الغداء يا مارك وبويد".


  #13  
قديم 03-16-2013, 01:50 AM
 
8- لا يمكنها بناء أي مستقبل مع هذا الرجل ، لتطرد شبحه من ذهنها مرة والى الأبد : إنه لن يتوانى عن تدميرها وسحق آمالها الفتيّة ...

توقعت كوري درسا جديدا من التانيب والتعنيف ، وهي تسير مع فريزر في طريق العودة الى المخيم ، سيفرغ كل ما في جعبته من عبارات الإزدراء والإحتقار ، إنها على أهبة الإستعداد الآن لرد الصاع صاعين ، لن تدعه يهينها وهي تعرف أن بويد تحرّش بها ، وتعقّبها دون دعوة أو تشجيع منها.
ظل صامتا ، يراقب مارك وبويد يحثّان الخطى أمامه ، كان عليها شق طريقها وسط الأعشاب والنباتات الشائكة ، فتركته يتقدمها ، وتلكأت وراءه ، تابع سيره واثقا أنها لن تجرؤ على تحدّي إرادته ، فكرت في الإلتحاق بمارك ، لإغاظته وجرح كبريائه ، لكنها فضلت عدم إستفزازه ، والإنصياع للامر الواقع ، الم تتعلم من بويد وخضوعه لأوامر سيده ؟ أنه لا يقبل أي تجاوز لسلطته المطلقة .
وحلّق بها الخيال بعيدا ، وكانها تغرق في حلم جميل ومخيف في آن معا ، وللمرة الأولى فكرت في فريزر كإنسان مختلف ، نظرت اليه كزوج تحيا معه تحت واحد زوجة واما.
حاولت طرد هذه الأفكار من ذهنها ، إنها افكار مزعجة لا يجوز التوقف عندها ، لا... يستحيل عليها أن تكون له ، إن اية إمراة تتزوج فريزر ملوري ستعاني الأمرين ، وستقع تحت سيطرة رجل متحجر الفؤاد عديم الرحمة ، لا يرضى باقل من الطاعة العمياء.
منتديات ليلاس
وقررت أن المسألة لا تعنيها من قريب او بعيد ، إذ لا يمكن لها أن تكون تلك المرأة وهي تعرف مدى كره فريزر لها ومن الأفضل تركيز إهتمامها على أمور مجدية وعملية، وكان قد حان وقت الغداء ولا بد أن الرجال يتضوّرون جوعا.
ما أن وصلوا الى المخيم ، حتى توجهت كوري نحو المطبخ لتوها وفوجئت بفريزر يسالها :
" الى اين تتوجهين يا كوري؟".
ردّت بصوت يضج تحدّيا:
" ما هذا السؤال ؟ إنني بخير الان ، ولا حاجة الى شكر جهودك العظيمة".
فإقترح بهدوء:
" يمكنك شكر مارك ، تعالي يا كوري ".
ولمحت نظراته الشيطانية تعلن نواياه الخبيثة.
" الى اين؟".
" الى خيمتنا ".
تنهدت باسى ، يا لسذاجتها وطيبة قلبها ، إن فريزر لن يدع الأمور تمر بسلامة ، قالت بإستخفاف:
" ليس لدي ما أعمله في الخيمة ، وتنتظرني واجبات كثيرة في المطبخ ، اراك في وقت لاحق سيد فريزر".
فتحوّل وجهه الى كتلة من العداوة:
" لا يا عزيزتي ، ليست الأمور بهذه البساطة ، أريد مناقشة بعض المسائل معك ، وفي هذه اللحظة".
لا فائدة من المقاومة ، الم يجد بويد نفسه في وضع مماثل؟ وماذا كانت النتيجة ؟إن فريزر يصدر الأوامر وينتظر تنفيذها والإنصياع لها ، اطلقت آخر سهم في جعبتها :
" ليس لديّ ما اناقشه معك".
فتقوّس حاجباه بتهكم:
" إن لديّ أمورا كثيرة اريد مناقشتها معك".
لم ترغب في مشاكسته أمام افراد المجموعة ، إن حظها بالنجاح شبه معدوم ، فلتحتفظ إذن بوقارها وكرامتها ، وتنتظر فرصة أخرى.
اسدل فريزر ستار الخيمة وراءهما ، كان الجو حارا وقاتما وتبينت ملامحه القاسية الصارمة ، فسرت في جسمها قشعريرة خفية ، أشاحت بنظرها عنه ، ثم فكرت بالفرارا الى الخارج ، خانتها قواها فظلّت مسمرة مكانها ، مرت لحظات مشحونة بالتوتر العنيف الخانق ، وتمكنت بعد صراع نفسي مرير من النطق بكلمات متقطعة :
" ما الذي ... تنوي مناقشته معي؟".
أجاب بعنجهية:
" الم أوصيك بالحذر والإحتراس؟".
" أنا... انا لم...".
" ..... وبتفادي المتاعب؟".
إغرورقت عيناها بالدموع ، لا تدري أهي دموع الخوف والرعب أم الترقب وما يخبئه المستقبل المجهول...
إضطربت مرتعشة ويده تلمس ذقنها ، وتحتضن عنقها برشاقة ممزوجة بإصرار عنيد ، وجدت نفسها تحدق في وجهه تنتظر مفاجأة ثانية ، قال لها بصوت عذب رقيق:
" ماذا كنت تتوقعين عندما إبتعدت بمفردك عن المخيم؟"
" لم اتوقع.... أعني لم أعرف انب ويد سيتعقبني".
وإستطرد بصوته العذب:
" كنت تعرفين كل شيء".
قالت بصوت أقرب الى الهمس:
"لا ، عليك أن تصدقني".
فتبدلت لهجته :
" كفي عن التظاهر بالبراءة ، إن هذه الآلاعيب لا تنطلي عليّ ، كل منا يعلم من أنت يا كوري ، وبويد أكثر علما من غيره ، أما مارك فلا يزال غارقا في هيامه كالمراهق ، ويرفض رؤيتك على حقيقتك".
حاولت التملص منه ، فأحكم قبضته حول عنقها ، توسّلت اليه:
" دعني وشأني يا فريزر ".
" بعد أن أنتهي من إشباع رغباتك".
" أنت تسيء فهمي ، كل ما أريده هو الخروج من هذه الخيمة ".
شدّها نحوه:
" ما الذي حملك على التنزه وحيدة؟".
رمت براسها الى الوراء:
" لن اسمح لك بإهانتي ، أنت شاهدتني اقاوم بويد بكل قواي".
فإسترسل في إستهزائه المعتاد:
" ربما كنت تمثلين مسرحية جديدة".
فردّت بمرارة:
" أن بويد يثير إشمئزازي".
" وماذا عن مارك؟ هل كنت تنتظرين مارك في تلك البقعة المنعزلة؟".
وقالت يائسة :
" فريزر لا...".
قاطعها :
" انا آسف لتطفّلي ، وإفساد خطتك ، ولكن لا حاجة الى التوغل في الصحراء بعد الآن ، أنا هنا رهن إشارتك".
خالت أنها في كابوس مرعب ، إرتبكت كطفلة صغيرة ، زائغة البصر ، مشوّشة العقل ، لا تفقه ما يدور حولها ، تمنت في اعماقها لو ان فريزر رجل اقل فظاظة وخشونة ، لماذا لا يخاطبها بهدوء وروية ، ويعاملها بإحترام يليق بمشاعرها ؟ إنها تكن له إعجابا دفينا صادقا رغم تصرفاته وسلوكه ، ألا توجد طريقة ما تمكّنها من التفاهم معه ، وبحث كل الأمور بنضج وعمق ؟ هل كتب لها أن تستمر في عراك مرهق معه ، لا تتوصل الى اية نتيجة حاسمة؟
رأت وجهه يكفهر كليلة شتاء عاصفة ، وكادت عيناه تنفجران حمما ، لا سبيل الى إختراق هذه الحواجز الهائلة ، لتعتصم بالصمت والصبر ، والأمل بغد مشرق بعد هبوب العواصف وزمجرة الرعد.
غرز عينيه في وجهها ، ثم طوّقها بذراعيه ، فاطرقت برأسها توجّسا ، راح يعانقها عناقا طويلا صامتا ، إسترخت وهي تشعر ببعض الدفء ، وبحرارة منعشة مفاجئة ، ما اروعها لحظة ، وما اجملها وهي تذوب كقطعة ثلج ، وتنبت وردة مفتحة البراعم والأكمام تتيه بين أجنحة النسائم ،وتنثر عطرها مع إطلالة الفجر .
أفاقت من حلمها وهي تشعر به يدفع بها أرضا ، ويبتعد عنها ، أصيبت بالذهول ، مرتعدة الفرائص ، مضطربة .
خرج من الخيمة ، مسرعا ، لا يلوي على شيء.
ما هذا الجنون الذي إستبد بها ؟ سالت نفسها منهكة يائسة ، إنها تحب فريزر ولا يمكنها ان تحبه ، إنه يمثل كل ما تكرهه من صفات مشارب ، ومع ذلك ، كانت تتملكها مشاعر متضاربة إتجاهه تأججت في داخلها عواطف غريبة لا تمر بها وهي في صحبة مارك ، رغم إحترامها له ، وتقديرها لمواهبه.
وادركت كوري وهي تستلقي على أرض الخيمة أنها لن تقوى على طرد شبح فريزر من ذهنها حتى ولو الغت الرحلة ، واقفلت راجعة الى منزلها ، كانه قدر محتوم لا سبيل الى رده أو تجاوزه.
أهملت طعام الغداء ذلك اليوم ، ولم يبحث عنها أحد من الرجال ، حتى فريزر إختفى عن الأنظار ، وتركها وحيدة في خيمتها تضرب أخماسا بأسداس.
ومرت ساعة مرهقة ، مليئة بالقلق ، ثم سمعت صوتا يناديها من الخارج:
" كوري؟".
ثم أطل براسه ، فهتفت:
" مارك؟ ما هذه المفاجأة؟".
" هل أنت بخير ؟".
" نعم الحمد لله".
ظل واقفا خارج الخيمة مكتفيا بمد راسه عبر فتحة المدخل.
" تغيّبت عن الغداء".
فإستندت الى مرفقها:
" كنت أعاني من صداع أليم ، يمكنك الدخول يا مارك".
قال بإلتياع:
" لا... هل أنت متأكدة من أن كل شيء على ما يرام يا كوري؟ ألم يسبّب لك بويد بعض الأذى ".
فضحكت قائلة:
" أنت تكفلت بحمايتي ، ولم أشكرك على عملك النبيل حتى الآن".
أجاب وكأنه يعاني من قلق ما:
" كنت قتلته لو تجرأ على خدشك ، وماذا عن فريزر؟ هل عمد فريزر الى..( وتجمّدت الكلمات في حنجرته)".
قالت تطمئنه قدر المستطاع:
" أنا بخير يا مارك ، اقسم لك".
ومرت ثلاثة ايام باهتة ، عادية ، غير أن كوري ظلت متوترة الأعصاب حائرة ، كان فريزر يتجاهلها ويعتصم بالصمت أمامها، وواظبا على تقاسم خيمة واحدة ، يقضيان فيها ثماني ساعات من النوم لا تفصل بينهما مسافة تذكر ، ومع ذلك لم يشعر بوجودها ولو لحظة واحدة.
قامت كوري بكل ما يترتب عليها ، إلتقطت الصور وأعدّت وجبات الطعام ، وصرفت الأمسيات قرب نار المخيم تتحدث الى الرجال ، وكان مارك رفيقها الدائم، حيث حمدت الله أكثر من مرة على صداقته وإخلاصه ، وما ان تلتقي ببويد حتى تجده يشيح بوجهه عنها ، وكأنه ينفذ وامر فريزر بعدم الإقتراب منها ، وهو لا يفعل ذلك ، خاطبت نفسها ، حرصا على مصلحتها ، بل حماية لنفسه.
اصبح صمت فريزر طبيعيا ، إعتادت عليه وقبّلته ، وبدات تعامله بالمثل ، لا تتحدث اليه إلا عند الضرورة ، وبإختصار شديد ، وعندما يهبط الليل لم تكن توحي بأي إستياء أو أرق يقلق نومها .
وما ان تلفظ بإسمها في اليوم الرابع ، حتى أصيبت بالذهول والدهشة المريبة ، إكتفى بالقول:
" هل من جديد يا كوري؟".
كان ينظر اليها بإمتعاض ، ثم إنفرجت شفتاه عن إبتسامة شاحبة ولمحت في عينيه بريقا خافتا يزيده جاذبية ، وظهرت اسنانه بيضاء قوية ، تزين وجها لوحته الشمس بسمرة داكنة ، وبانت رقبته مستقيمة ، وسط ياقة إنفتحت عن صدر عارم عريض.
عجزت عن محو صورته من مخيلتها ، هجمت ملامحه بعفوية تلقائية وإستقرت في ذاكرتها ، خالته سيقترب منها ويلمسها برقة ورشاقة لم تعهدها من قبل.
كم حدّثت نفسها بتجاهله ودفن ذكراه الى الأبد خلال الأيام الفائتة ، لا يمكنها بناء أي مستقبل مع هذا الرجل بل ستجد نفسها تحيا بائسة ، تعاني الوحشة والشقاء والعذاب ، لتطرد شبحه مرة والى الأبد ، إنه رجل لن يتوانى عن تدميرها وسحق كل آمالها الفتية.
وصمت عقلها منزويا يجرجر اذيال الهزيمة ، ها هو فريزر يقف أمامها بكل رجولته وشخصيته الطاغية ، فإستسلمت لعواطفها وغرائزها ترمقه بعينين تشتعلان بلون بنفسجي حالم ، همست:
" مرحبا يا فريزر".
" يبدوعليك االإرهاق".
قالت بتمهل :
" لم أتوقف عن العمل لحظة واحدة".
" وإسترحنا من المشاكل ، والنزهات المنفردة".
تلقت سخريته بكبرياء وأناة ، كان يتمعن في وجهها يكبت قهقهته الشهيرة.
اجابته بعد طول عناء:
" انك على حق ، لم اقم بنزهة واحدة".
فتابع سخريته:
" لا بد أنك قررت الإخلاد للراحة ، والكف عن خوض المغامرات".
نظرت اليه بإستفزاز:
" وما الذي تعنيه بالضبط؟".
" أعني أنك تحتاجين الى تجديد نشاطك ، والقيام بنزهة قصيرة ".
سألته:
" هل ننوي الإنتقال الى موقع آخر؟".
" لا ، لم نستكمل عملنا هنا".
" إذن لا أفهم أي نوع من النزهة يا فريزر؟".
" نزهة الى قلب الصحراء ، ونبيت الليل هناك".
إضطربت قليلا وهي تستفسر :
" تريد إختيار مجموعة صغيرة للذهاب معك؟".
وقال بصوت عذب:
" يمكنك قول ذلك ، مجموعة مكوّنة من شخصين".
" تعني انا وأنت... ولا أحد سوانا".
" تماما".
إنطلقت الكلمات من فمها كطلقات نارية:
" لا ، هذا مستحيل ، ولماذا أنا بالذات؟".
" لأنني في حاجة الى مصور ".
هزت براسها معترضة ، محتجة:
" لا ، لن أذهب معك".
فالحّ قائلا:
" نعم ، نعم".
ارادت أن تصرخ ملء صوتها ، وتتوسل اليه ليعفيها من هذه التجربة المرة ، ألا يفهم هذا الرجل شيئا ، الا يدرك عذابها ، أم أنه يفهم كل شيء ، ويتمتع بتجريدها من كل اسلحتها وأسرارها؟ صاحت:
" يمكن لمارك أن يأتي معنا ".
وسمعت إصراره:
" انت وأنا فقط يا كوري".
لن يفوقها عنادا!
لوى فمه هازئا وقال:
" إذن أنت تموتين خوفا مني يا كوري لاتيمر".
إنها لم تكن خائفة منه ، بل ان مشاعرها وعواطفها هي التي كانت ترعبها وتقلقها ، كيف ستذهب معه وحيدة الى قلب الصحراء ، وتقاوم إغرائه وإنجذابها الى شخصيته ؟ لا ، لا يمكنها الذهاب ، لا لن تذهب ، شمخت برأسها معلنة :
" لا تخدع نفسك يا فريزر ، أنا لا أخاف منك ، كل ما في الأمر انني لا اشعر برغبة في لتنزه خارج المخيم.
تبدلت ملامحه ، ولمحت في وجهه هبوب عاصفة مدمرة ، عنيفة لا تبقي ولا تذر ، قال لها بإصرار حاسم :
" نغادر غدا مع شروق الشمس".






  #14  
قديم 03-16-2013, 01:52 AM
 
9- حاولت أن تنسى انها تغرس نبتة شقائها مع هذا الحب ، سيكون لها متسع من الوقت لتفكر بذلك ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة مع من تحب.

إنبلخ الفجر يضيء أطراف المخيم المتثائب ، ووقف بيتر بجانب سيارة الجيب لتلقي تعليمات فريزر الأخيرة ، فهو سيتولى مسؤولية الإشراف على العمل في غياب القائد ، وبرز مارك من خيمته يحوم حول السيارة ، كالح الوجه ، كئيب المظهر ، أحست كوري أنه يتمنى لو يستطيع منعها من الذهاب ، لكنه إختفى بإلقاء تحية الوداع ، موصيا إياها بالإحتياط والحذر.
كان الفضاء يستحم بشعاع يوم جديد عندما غادرت السيارة المخيم ، شعرت كوري بلسعة برد خفيفة ، فتلحفت ببطانية زوّدها بها فريزر ، جلست صامتة على الطرف الأقصى من المقعد ، لا تدري ما تخبئه لها الأيام المقبلة ، وخامرها إحساس غريب بتطورات جديدة ستقلب حياتها رأسا على عقب .
إعتصم فريزر بالصمت أيضا ، يقود السيارة فوق منبطح متعرج مليء بالحفر ، يحتاج الى تركيز تام ، وراحت كوري بين الفينة والأخرى تختلس النظرات اليه ، بدا كما توقعته دائما صارما ، حازما ، مسيطرا على زمام الأمور.
منتديات ليلاس
فكرت في الحياة الزوجية معه ، وبما تنطوي عليه ، لم يخامرها شك أنه سيكون الشريك المهيمن ، ولكن زوجته ، إذا كانت تحبه ، ستجد سعادة في العيش مع رجل بهذه الصفات ، إذ أن شخصيته المهيمنة تعني أيضا الأمان المادي والنفسي ، والإطمئنان الى قدرته على معالجة أية مشكلة طارئة.
هل تقبل زوجته الجانب السيء من طبيعته ؟ ولم تتردد كوري في الإجابة على سؤالها بنعم كبيرة ، إنه يخفي وراء هذا التفوق العالي حنانا عميقا ، حارا ، اوهكذا إرتأت كوري أن تتصوره.... زوجا محبا ، يفيض عاطفة وحنانا.
" هل تستغرقين في أحلامك؟".
رن صوته كالجرس في تلك السكينة ، فنظرت اليه مندهشة ، كانت واثقة من إنهماكه في التركيز على الطريق الصعب ، فلم يتبادر الى ذهنها أنه يعبأ بها ، يا لقوة ملاحظته وحدة ذكائه.
قالت له:
" كنت أفكر في هذه الصحراء وغرابتها".
علّق يطمئنها:
" إنها حقا صحراء غريبة ".
ولم يفت كوري ان الحديث لم يكن يدور حول الصحراء ، القت نظرة من النافذة وقالت:
كل هذه الأعشاب ، والمستنقعات ، كنت اتوقع مجرد بحار من الرمل".
قال متمهلا:
" وتوجد رمال أيضا ، وبكثرة وغزارة ، ولكن من الصحيح القول أن التنوّع هو سمة هذه الصحراء ، وهذا ما يعجز عن فهمه اللذين لم يسبق لهم المجيء الى هنا ".
إستطردت ، وهي ترى سربا من الظباء يعدو فوق العشب اليابس بحركات منتظمة:
" كم كان والدي سيعجب بهذا المشهد".
فوافق بصوت هادىء ، متعاطف :
" لا شك في ذلك".
سألته دون ان تلتفت اليه:
" أنت لا تكرهه إذن؟".
" لم اكرهه في حياتي ، إختلفنا في الراي ، ولكن إحترامي له ظل كما هو ( ولمست يده ذراعها ) إنظري يا كوري ، هل شاهدت ذلك الفيل؟".
بلعت ريقها :
" ما اغباني ، خلته في البداية صخرة من الصخور".
" إنه فيل".
إزدادت إهتماما :
" هل هو خطر ؟".
" في بعض الأحيان ، إن خطره يتوقف على كيفية تصرفنا".
هل يحدثها بعبارات مبطنة مرة أخرى ؟ لم تعد تبالي ، إنها تعرف الآن مدى إعجابها به ، ورغبتها في إختراق اسراره الدفينة ، وهي تعيش لحظات مليئة بالمفاجآت والإبتهاج والتوقع.
وشعرت باصابعه تلتف بقوة حول ذراعها وكأنه يقرأ أفكارها :
" تمتعي بهذه الأيام النادرة يا كوري".
ولاحت إبتسامة خفية فوق شفتيه ، فسرت في فؤادها غبطة عارمة :
" هذا ما أنوي فعله".
وتبدلت الأجواء بعد ذلك ، لم يعد محتما عليها الإستمرار في الحديث بل اخذت الأمور تبدو طبيعية ، عفوية ، وزال أي توتر أوشعور بالضغط والتكلف ، كان فريزر يعرف الصحراء جيدا فراح يدلّها على اشياء جديدة من الصعب أن تتبيّنها وحدها .
إزدادت الشمس سطوعا ، ترسل أشعتها الحارقة فوق الشجيرات والأعشاب والرمال ، وتوالت المشاهد الطبيعية أمام عيني كوري ، زرافات وفيلة ، ظباء ، وقطعان من الوعول ذات القرون الحادة ، القوية.
وتراءى في البعيد صف من التلال الواطئة، تعانقها أكوام هائلة من الصخور ، وبدا فريزر يتجه مباشرة نحو الصخور ، هتف بعد قليل :
" هل الكاميرا جاهزة؟".
أوقف السيارة على مقربة من الصخور ، وامسك بيدها يساعدها على السير فوق الرمل الناعم ، لم ترفض مساعدته ، مع انها كانت قادرة على تدبّر أمرها.
وها هو بثقة عارمة جازمة يشير الى الرسوم الصخرية ، تلك التي داعبت أحلام والدها ، وشغلت ايامه ، وملكت جوارحه ، حبست كوري أنفاسها ، وهي لا تكاد تصدق عينيها.
إنها تراها الان كما هي منحوتة ، بارزة، رائعة ، توقفت طويلا امام المشهد الأول ، الذي يظهر مجموعة من الصيادين يطاردون جاموسا.
كانت هناك رسوم عديدة ، يروي كل منها قصة مختلفة ، ولم تتمالك من إبداء إعجابها بمهارة هذا الفن القديم وهي تمعن النظر بدقة وكأنها في حلم جميل .
مضى بعض الوقت قبل ان تتذكر آلة التصوير المتدلّية من كتفها ، وإنكبت تلتقط الصور بلهفة وشغف وحماس.
وحان وقت إستئناف الرحلة ، حيث توغّلا في قلب الصحراء أبعد فابعد ، وعثرت على مزيد من الصخور والرسوم ، وتابعت إلتقاط الصور بينما كان فريزر منهمكا في امور أخرى.

إلتفتت كوري حولها ، منتبهة الى إقتراب المساء ، وإمتداد الظلال ، سيهبط الظلام بعد فترة وجيزة وهما على بعد أميال من المخيم ، كانت تعرف منذ البداية ، انهما سيقضيان الليل وحيدين في الصحراء ، ولكن معرفتها أصبحت الان واقعا ملموسا داهما.
أوقف فريزر السيارة قرب كومة من الصخور ، واطفأ المحرك ، وأعلن :
" سننصب الخيمة ، ونبيت الليلة هنا ".
وافقت بوجّس :
" نعم ، إنها بقعة ملائمة ".
حدجها قائلا :
" ماذا دهاك ؟ يبدو عليك القلق يا كوري".
ردّت بسرعة:
" لا تكن سخيفا".
قالت مبتعدة عنه:
" نعم ، لا يوجد ما يدعو الى القلق ، الم يسبق لنا ان تقاسمنا خيمة واحدة ؟ يكاد الظلام يداهمنا ، فلنبدأ بنصب الخيمة يا فريزر".
راته يكبت ضحكة خبيثة ، إنه يفهم مشاعرها ، فكّرت بحزن ولا سبيل االى إخفائها عنه.
وسمعته يقول موافقا وهو يتجه نحو السيارة:
" إنها فكرة صائبة".
نصب الخيمة بسرعة فائقة ، وأوقد النار لإتقاء لسعات البرد ، بدت الخيمة صغيرة ، موحشة معزولة ، فوق بقعة شبه قاحلة ، تحيط بها الرمال من كل جانب ، رمال مترامية في كل إتجاه الى ما لا نهاية .
حمل فريزر صندوقا ثقيلا من السيارة ، ورماه بجانبها ، عرفت كوري أنه يحتوي مآكل متعددة.
كان الليل يرخي سدوله ، وهما يتناولان طعامهما ، وفوجئت كوري بشهيتها ، وإلتهامها الأكل إلتهاما ، رغم إعداد فريزر لهذه الوجبة المرتجلة ، المكونة من لحوم المعلبات المالحة.
غمرتها الطمأنينة ، وهي تجلس قرب النار ذات الهسهسة المتناغمة والسنة اللهب المتراصة ، إنها ليلة ستظل محفورة في ذاكرتها مدى الحياة ، غدا عندما تعود الى منزلها ، والدها والمدينة وضوضاءها ، ستحملها أجنحة الخيال الى هذه البقعة بخيمتها الصغيرة ، ونارها الدافئة ، وستغرورق عيناها بالدموع وهي تستعيد قصة حبها الجامح ، المجنون.
نعم ، إنها تحب فريزر ، وهي تدرك ذلك الآن ، منعها عنادها وكبرياؤها من الإعتراف بهذه الحقيقة قبل هذه اللحظة ، خالت مشاعرها في ذلك الحين مجرد نزوة عابرة لا تلبث أن تزول ، إنها تحب فريزر ليس لانه شخص جذاب فقط ، بل لأسباب أخرى كثيرة ، تعشق قوته ، وحنوّه ، وتحب عقله الحاد الذكاء وإستقامته وأمانته.
تحبه كما لم يسبق لها أن أحبت احدا من قبل ، كم تبدو علاقتها بصديقها أريك سطحية وتافهة أمام هذا الحب الجارف ، الصادق ، لم يعد اريك أكثر من ظل باهت لا يحتل حيزا من وجودها.
ستحب فريزر الى الأبد ، هذا ما أدركته الان ، وأدركت أنها تغرس بنتة شقائها مع هذا الحب ، إذ أنها لا تعني له شيئا ، لم يبادلها عواطفها ، ولا يفكر إلا في رغباته الخاصة.
حاولت طرد شبح الشقاء من مخيلتها ، سيكون لديها متسع من الوقت لمعاناة كل ذلك في المستقبل ، أما الآن فعليها إقتناص هذه الليلة النادرة والتنعم بوجودها مع الرجل الذي تحب.
راحا يتجاذبان أطراف الحديث ، وإكتشفت كوري صفات كثيرة مشتركة تجمعهما، كلاهما يحبان العيش في الهواء الطلق ، والتمتع بجمال الطبيعة ، يستمتعان بالألحان الموسيقية نفسها ، ويهويان مطالعة الكتب عينها ، حدّثها فريزر عن مشاريع بالنسبة الى مزرعته ، ومتاعب تربية الأغنام وإيجابياتها أيضا ، وظلت صامتة تصغي بينما يروي لها أحلامه وآماله ، وجدت غبطة عارمة في الإصغاء اليه يسترسل في الكلام ، فتمنّت لو تمكث معه قرب النار الى الأبد.
ثم كف عن الكلام ، غارقا في تفكير عميق ، وسمعته يسالها برقّة:
" وما هي مشاريعك يا كوري؟ لا بد انك تتوقين الى إستئناف عملك ، والعودة الى عالم الأضواء والتالق".
همست ، تخنق غصّة:
" هذا ما يراه الجمهور من عالم الأزياء ، ولا علاقة له بالواقع".
ألحّ قائلا:
" أنت تتوقين الى العودة".
أرادت أن تقول له : ( كلا ، لا أرغب في العودة ، وعلى الأقل ليس الى العالم الذي عرفته ، اريد الذهاب معك الى مزرعتك والعيش وإياك طول العمر ) كيف ستكون ردّة فعله ؟ هل يحتقرها ويسخر منها ؟ أم يتجاهلها ويمضي في سبيله لا يلوي على شيء ؟ لا تستطيع تحمل تجاهله وإنقطاعه عنها ، وقالت بصوت مرتفع:
" هذه هي مهنتي يا فريزر".
تمهّل في الجواب ، ورأته يحمل قطعة من الخشب ثم يرمي بها فوق لهب النيران ، وخرجت الكلمات من فمه بتأن وأسى ، فأدركت إساءة فهمها لنواياه وعواطفه :
" نعم عليك الإهتمام بعملك كما عليّ الإهتمام بعملي".
وسألته وكأنها لا تدري مغزى عبارتها :
" هل تظن أننا سنلتقي ثانية؟".
نهض واقفا ، يحدق في البعيد:
" أنا لا أتردد على معارض الأزياء ، تقدّم الليل يا كوري ، هيا بنا الى النوم".
سبقته الى الخيمة ، تلك كانت عادتها ، وكان يتمهل قليلا في الخارج الى أن تخلع ثيابها وتأوي الى فراشها ، أما في تلك الليلة فلم تشعر باي دافع الى لإسراع ، والحذر من العيون المتربصة ، تعمّدت أن تخلع كل قطعة من ثيابها ببطء وهدوء ، وكأنها وحيدة في غرفتها لا يقلقها أحد ، ولا تتوجس خيفة من هجوم مفاجىء ، وسمعت وقع خطواته الوثيدة تقترب من الخيمة ، وها هو يدخل ويمضي الى زاويته ، إستدارت صوبه ، لم يتحرك ، وباشر بإعداد فراشه رابط الجاش فاتر الأحاسيس ( يا له من ثعلب مخادع) خاطبت كوري نفسها ، إرتدت ملابس النوم ، وهو مطرق الراس ، يرفض رفع بصره أو الإيحاء بأي إهتمام.
إقتربت منه بدلال أنثوي ، وقلب خافق ، كادت تلتصق به ، توقعت أن يذوب الجليد ، ويجذبها نحوه بحنّو وشغف ، لكنها سمعته يزمجر صارخا:
" عودي الى مكانك ، كفى خبثا ومراوغة".
وصاحت بصوت جريح:
" ما الذي تعنيه يا فريزر؟".
" أنا اعرفك جيدا ، وأعرف مؤامراتك والاعيبك ، تآمرت عليّ ، وتسللت الى رحلتي في ثياب رجل ثم دبّرت مكيدة للإيقاع بين مارك وبويد ، وماذا تحيكين الآن من مكائد ؟".
إسودّت الدنيا في وجهها ،وهتفت:
" يا لك من وغد وقح ، أخرج من الخيمة الان ".
وراته يندفع الى الخارج كالثور الهائج.
لم يعد الى الخيمة إلا بعد أن تكومت في فراشها ، وظن انها تغط في نوم عميق ، وأحست به ياوي الى فراشه بهدوء ، ظلت مستيقظة يؤرقها قلق عاصف ، يا لها من فتاة غبية ، ها هي تتعرض للغهانة ، مرة تلو المرة ، ومع ذلك يضطرم حبه في فؤادها ، وتهيم عشقا برجل فظ ، متحجر القلب.
وشعرت بحركة خفيفة حول فراشها ، بإنزلاق شيء ما ، حملقت في الظلام ، وكادت ان تصرخ مذعورة لولا أن صوتا في داخلها منعها من إرتكاب حماقة كبرى.
كانت أفعى طويلة ملساء تتمدد قربها ، إنها افعى سامة تدعى الكوبرا.
عليها الإحتفاظ بهدوء اعصابها ، عن اية حركة ستؤدي الى عواقب وخيمة.
هل توقظ فريزر ؟وكيف دون أن تجفل الكوبرا ؟ لا بد لها من التصرف بحذر شديد إذ أن زلّة واحدة تقضي عليها إلتفّت الأفعى منزلقة نحوها ، فتجمد الم في عروقها ، ارادت أن تمسك الأفعى وتقذفها بعيدا ، أرادت ان تصرخ ملء حنجرتها ، ولكنها كانت تدرك مغبة أعمال طائشة كهذه.
همست :
" فريزر".
إستيقظ لتوه ، نظر اليها مستفهما.
" ماذا؟".
تابعت همسها ، مشيرة الى الأفعى:
" صه ، كوبرا".
تمتم بهدوء:
" لا تتحركي ، سأتولى أمرها".
تناول عصا كان يحتفظ بها ، وإنقض على الفعى يشبعها ضربا ثم رماها عن الفراش وسحق رأسها على الأرض ،وحملها بطرف عصاه الى خارج الخيمة جثة هامدة.
وعاد بعد قليل وكوري لا تزال ترتجف ذعرا ، سألها بلهجة حارة صادقة:
" هل أنت بخير يا كوري؟".
نظرت اليه ، وفغرت فمها لا تستطيع التفوه بكلمة ، سقطت ارضا مولولة ، محطمة الأعصاب .
رفعها بيديه القوييتين ، مردّدا :
" كوري.... كوري ، لا تخافي ، لا حاجة الى كل هذا الآن"
كان وجهه باهرا ، نبيلا لا أثر للإزدراء أو السخرية في ثناياه ، وتمتمت:
" ليلة البارحة..".
" اعرف ، تصرفت بغضب".
سالته بإستغراب:
" لماذا غضبت؟ ماذا فعلت لأثير غضبك؟".
" لا شيء يا عزيزتي ، كنت رائعة وجميلة كعادتك".
" وماذا بعد؟".
" سأشرح لك كل شيء في وقت لاحق".
وعانقها بحرارة وكأنه يكفر عن كل ذنوبه ، ويعتذر لها مبديا أسفه لعنجهيته ، وتصرفاته الفظة ، وكلماته النابية ، وتهمه الباطلة.
نهضا صباح اليوم التالي إنسانين جديدين ، وجلسا يتناولان طعام الفطور ، ويحتسيان القهوة ، والشمس تطل براسها فوق الافق البعيد ، مرسلة اشعة دافئة ، منعشة ، لم يتبادلا سوى بعض العبارات المقتضبة ، كان الحب الذي يجمعهما أبلغ بيانا وأرقى تعبيرا من أية كلمات ، مهما سمت معانيها.
وتأكدت كوري أن الندم لن يزورها بعد الآن ، ولن تعرف للأسف مكانا في قلبها.
ولم يتبادر الى ذهنها ، إلا بعد وقت طويل ، ان فريزر لم يقل لها انه يحبها بعد أن أعترفت بحبها له.
تابعا رحلتهما وسط الصحراء، وإنطلقت بهما العربة فوق كثبان الرمال والنباتات الشائكة ، وفجأة أطفأ فريزر المحرك وترجل من السيارة ، إعتقدت كوري أنه يبحث عن شجيرات وارفة الظلال لإتقاء الحر الحارق الذي أخذ يندلع من تلك الشمس الساطعة وهي تتوسط الفضاء ، قال لها :
" إنتظري هنا ، ساعود بعد لحظة".
راته يحث الخطى نحو أجمة من الشجار ، ويدور حولها كأنه يفتش عن شيء ، ولم يلبث أن قفل عائدا ، وفتح لها باب السيارة لتترجل ، نظرت اليه مندهشة ، لا تجرؤ على الإستفسار عن معنى كل ذلك
مشت وراءه الى الأجمة، وكانت الحرارة حارقة تكوي نعليها كيّا ، وتابع فريزر المسير غير عابىء بظل شجرة عارية ، ففطنت الى أنه لا يفكر في الحر الخانق الان.
لم يقع نظرها على الصخور الى أن أصبحت على بعد خطوات منها ، إستدار فريزر وأومأ اليها بالتقدم .
لم يقل شيئا ، لكن عينيه تألقتا ببريق غريب ، اثار إستغرابها وزادها حيرة ، جمدت مكانها تجيل النظر حولها ، هدا روعها وغمرها شعور عارم بتوقع مفاجأة سارة طالما حلمت بها ، أمسك فريزر بيدها ، ليعبرا ممرا ضيقا بين الصخور ، يؤدي الى كهف شبه مظلم.
كانت أكوام من الحجارة تحجب المدخل ، فكادت تتعثر وهي تتبين معالم درب ضيق كسته العشاب والنباتات الشائكة ، ضغط فريزر على يدها يساعدها ، ويجرّها الى الأمام.
وها هما يقفان داخل الكهف ، خفق قلبها دهشة ، مبهرة لا تصدق عينيها.
كانت رسوم الحيوانات الصخرية مطابقة لوصف والدها لها... منظر صيد يغطي حائطا باكمله ، وأدركت سر توق والدها ، وهيامه بهذه الرسوم وهي تلمس الدليل القاطع لمس اليد.
وراحت عيناها تتنقلان بين رسوم حيوانات متعددة ، متنوعة ، بارزة الأطراف ، واضحة التفاصيل ، تكاد تقفز من مكانها بعفوية طبيعية رشيقة الحركة ، سريعة العدو.



رمقت فريزر ببصرها ، كان يراقبها وفي عينيه ألف سؤال ، عجزت عن النطق أو التعبير عن مشاعرها الجياشة ، تبدلت ملامحه وإرتسمت فوق ثغره إبتسامة دافئة ، عذبة ، وطوق منكبيها بذراعه مؤكدا إعتزازه بها، وإغتباطه بمشاطرتها هذه اللحظات النادرة.
عاد الى العربة لجلب ىلة التصوير ، وإلتقطت كوري عددا هائلا من الصور ، وتمنت لو تستطيع الإتصال بوالدها ، وإبلاغه نبأ إكتمال حلم حياته وعمله.
جلست في العربة تطير فرحا وسعادة ، ترقب فريزر وراء المقود متوجها بها في طريق العودة ، تململت في مقعدها ، تسأله وهي تعرف الجواب سلفا :
" هل أتيت بي الى هنا للعثور على الرسوم الصخرية؟".
" نعم".
إستطردت:
" إذن كنت تؤمن منذ البداية بوجودها؟".
فأجاب مبتسما:
" إن والدك رجل عنيد يا كوري ، وهو ايضا حكيم وداهية ، كنت واثقا من نظريته وبعد نظره ، ولم يخب ظني ".
وصلا الى أطراف المخيم ، ورات فريزر يوقف العربة وسط دائرة من الأشجار ، طلب منها إلتقاط بعض الصور في تلك البقعة دون ان يوضح لها مغزاها او اهميتها ، وإنكبت على عملها وهي مدركة أن الفيلم في الكاميرا شارف على نهايته ، ووقف فريزر يدلي برايه ، ويشير عليها بإلتقاط هذه الصورة أو تلك.
وفجأة سمعت حركة ثقيلة ، ووتا عميقا كالبرق ، إلتفتت مذعورة فرأت فيلا هائجا يهجم عليهما ، أسرع فريزر يجرها من يدها للفرار قبل فوات الأوان.
وأطلقت ساقيها للريح راكضة صوب العربة ، سقطت آلة التصوير من يدها فوق خرة ناتئة ، وتناثرت شظاياها فوق الرمال ، أرادت ان تعود لعلها تنقذ الفيلم الذي يضم شريطه حلم والدها ومحور حياته وعمله ، غير ان فريزر دفعها الى الأمام ، وهو يعرف أن تعرّض الفيلم للضوء قضى عليه وافسده.
ابدى فريزر أسفه وهو يدير محرك السيارة ، لم يكن في وضع يسمح له بالعودة الان ، بدأ الطقس يتغير ، وتجمعت سحب قاتمة تنذر بعاصفة رهيبة ،وهما قرب المخيم الان ، وكادت الرحلة تنتهي ، لن يهدر فريزر مزيدا من وقته الثمين ، ويريد مغادرة الصحراء قبل أن يقع ضحية تطوّرات مباغتة.
إنضما الى الرجال في المخيم ، وإنصرف فريزر الى اعماله المتعددة، لاحظت إهماله وتجاهله لها ، وغرقه في أحاديث خاصة مع المجموعة ، يا لبؤسها وشقائها ، ماذا تفعل الآن ؟ وقعت في حب رجل غريب الأطوار ، وأعترفت له بصدق مشاعرها الدفينة ، وها هو يمر أمامها وكأنها شخص عادي ، لا يعبأ بها ، ولا يبالي بأعابها المرهقة ، وإضطرابها وقلقها.
أوت الى فراشها في وقت مبكر ، ولم يزرها النوم إلا برهة وجيزة ، ظلت مؤرقة ، تشعر بالم موجع وعذاب نفسي طاغ ، ودخل فريزر الى الخيمة في ساعة متأخرة حيث خلع ثيابه بسرعة، وغط في نوم عميق مطمئن البال ، لا يعكر صفو ليلته شيء مطلقا.
نهضت باح اليوم التالي ، فاخبرها الاخرون ان فريزر ذهب قبل إنبلاج الفجر الى مكان ما خارج المخيم ، ظلت امتة ، تتأجج في داخلها نيران الغيظ والحيرة.
تقدم منها مارك يلقي التحية بخجل وإحترام ، ودعاها للسير معه في نوهة قصيرة ، لم ترفض بل قفز قلبها فرحا ، إن مارك صديق مخلص تعتمد عليه ، وترتاح الى رفقته ، وما أن سارا بضع خطوات حتى توقف فجأة ، واطرق براسه ، وبغريزة الأنثى توقعت كل كلمة سينطق بها ، وما لبث أن سالها بعفوية مدهشة:
" كوري.... كوري هل تتزوجينني؟".
أجابته بلطف وكياسة:
" مارك ، يا صديقي العزيز ، اتمنى من أعماق قلبي أن أقول نعم ، ولكنني لا أستطيع".
إحتضن يدها برقّة:
" ساوفر لك كل السعادة والأمان".
" أعرف ذلك".
يا ليتها لم تقع في حب فريزر ، خاطبت نفسها ، إن مارك أكثر لطفا واشد نبلا من أي رجل عرفته ، ولكانت أحبته حبا جما لولا شبح فريزر الذي لا يبارحها ، إن مارك يمثل كل الصفات التي تتمناها في الزوج المثالي الذي تحلم به.
ولكنها تحب شخصا آخر ، ولا يجوز لها أن تظلم مارك وتخدعه ، وقال بصوت مضطرب:
" كوري".
" مارك ، لا استطيع ، انا آسفة".
" هناك شخص آخر ( وعندما لم تجبه تابع بحدّة ) فريزر ، اليس كذلك؟".
إغرورقت عيناها بالدموع يمزقها صراع حاد ، وإزداد مارك عنفا :
" إن فريزر لا يليق بك يا كوري".
" لا يليق...".
" إنه لا يؤمن بالزواج".
قالت متنهدة:
" انا اعرف هذا ".
جذبها نحوه برفق:
" إذن.... لن تقضي حياتك وحيدة ، إنني أحبك يا كوري".
إعتصمت بالصمت ، وإستسلم مارك للأمر الواقع ، قفلا عائدين الى المخيم ، وكأن رابطا خفيا كان يشدّهما الى بعضهما إنقطع فجأة ، كانا يسيران على ارض المخيم بوجل ، وتوجس ، وإلتفت مارك نحوها:
" وداعا يا كوري ، لا أعتقد اننا سنلتقي ثانية ، علينا الإستعداد الآن للرحيل من هذا المكان والرجوع الى المدينة ".
أرادت كوري ان توضح مشاعرها الحقيقية إتجاهه ، وتؤكد مدى إعجابها به وإعتزازها بداقته ، ثم فطنت الى وجود فريزر يقف على بعد أمتار منهما يراقبهما بحذر وترقب ، راحت تنادي اسمه، وقد أذهلها بعودته الى االمخيم :
" فريزر ... لم أتوقع عودتك بهذه السرعة".
إكتفى بهزة من رأسه ، وتوجه الى خيمته عابس الوجه ، متثاقل الخطى ، ثم قفل راجعا ، وسمعته يعطي أوامره الى الرجال بحزم الأمتعة ، والإستعداد للرحيل خلال ساعة من الزمن.





  #15  
قديم 03-16-2013, 01:55 AM
 
و هاهو الجزء الاخير
وها هي تقود سيارتها وحيدة ، تعبر منعطف الجبل الحاد ، مسرعة قلقة ، تنظر الى ذلك الضباب المتكوم فوق القمة، وكأنه يذكّرها بفريزر ، وغموضه وإستعلائه ، وكيفية وداعه لها بكلمات جافة مقتضبة ، تفوح عنجهية وتكلّفا.
دخلت المنزل فهبّ والدها من كرسيه يرحب بها ، ويعانقها بفرح وعطف أبوي ، وبعد ان طمأنته عن نفسها ، وهدأت من روعه لإكتشافه سبب غيابها الحقيقي ، اخذت تشرح له مأساة الرسوم الصخرية ، وتحطّم آلة التصوير ، وتلف الفيلم ، أصيب بخيبة الأمل ، ثم لم يلب ثان إستعاد مرحه وحيويته ، وهي تروي له كيفية إكتشافها للرسوم ، نسي الصور الفوتوغرافية ، وضياعها في حادث مؤسف ، وغمرته سعادة لا توصف ، لتأكده اخيرا من وجود الرسوم الصخرية ، وتحوّل حلمه الى حقيقة ملموسة.
اتت على ذكر فريزر مرة واحدة، وبعد مرور أسبوع على عودتها ، لم تشبع فضول والدها ، وتعطشه للإطلاع على أخبار رجل كان صديقا له في غابر الأيام ، كان فريزر موضوعا مؤلما حاولت تجنّب الخوض فيه ، أو الإيحاء لوالدها بما يضج في داخلها من أحاسيس ومعاناة.
خرجت ذات صباح الى المدينة تتجول في أسواقها ، وتنتقل من مكان الى آخر ، وكأنها تهيم على وجهها دون هدف او غاية ، قررت دفن أحزانها في ضوضاء المدينة ، وصخبها ، بعيدا عن الأجواء الهادئة التي تحملها عن التفكير بقصة حبها الناقصة ، وكانت لا تزال حائرة في موقفها من مهنتها كعارضة أزياء ، تارة تعقد العزم على إستئنافها ، وطورا تتردد وتقرر الإنتظار حتى تنجلي الأمور ، وتسيطر على مخاوفها واعصابها المتوترة.
عادت قبل المغيب تقود سيارتها نحو منزلها ن رأت سيارة طويلة فضية امام المنزل لم يقع عليها نظرها من قبل ، وظنت ان أحد الأشخاص اتى لزيارة والدها.
منتديات ليلاس
ترامت الى أذنيها الأصوات من غرفة الجلوس ، وسارت نحو الباب ثم تجمدت في مكانها ، لم تتبين معالم الزائر ، غير أن قلبها حدّثها بهويته.
خطر لها أن تدير ظهرها ، وتفر الى مكان آمن تختبىء فيه ، وخطت تهمّ بالإبتعاد عن الباب ، فسمعت والدها يناديها:
" كوري ".
اجابته بتافف:
" نعم يا ابي؟".
" عندنا زائر ".
دخلت غرفة الجلوس ببطء شديد ، واحست بالوهن يتسرب في قدميها ، والدماء تتجمد في عروقها.
إستدار نحوها بوجهه الأسمر ، وبعينيه الضاحكتين:
" مرحبا كوري".
فردّت بصوت خافت :
"مرحبا يا فريزر".
لماذا اتى الى هنا ؟ لم يسبق له أن فكر في زيارة والدها ، لماذا الآن بالذات ؟ هل جاء ليضاعف عذابها؟
وهتف والدها وكانه يقرا أفكارها :
" لقد جلب لنا فريزر هدية".
ردّدت الكلمة كالصدى:
" هدية؟".
" هدية خاصة جدا".
هدية خاصة جدا ، ما الذي يعنيه والدها ؟
أشار والدها الى الطاولة في الزاوية ، فرمقتها بإرهاق ، وخالجها شعور داخلي أنها تعرف ما ينتظرها.
تبعثرت صور الرسوم الصخرية على الطاولة ، مبرزة تفاصيلها الدقيقة ، وتبزّ صورها فنا ودقة.
كانا يراقبانها بصمت ، وكأن الغرفة تشهد حدثا خرقا ، تنعقد امامه الألسنة ، ونهض والدها من مقعده ، يستأذن بالذهاب الى مكتبه.
إستبد بها الإضطراب وهي ترى والدها يغادر الغرفة ، ثم سألته:
" أنت إلتقطت هذه الصور؟".
هز راسه موافقا ، معتدا بنفسه.
وبلعت ريقها :
" شكرا يا فريزر ، يا له من عمل رائع".
" هذا اقل ما يمكنني القيام به بعد ذلك الحادث المؤسف".
" كنت تعرف مدى أهمية هذه الرسوم بالنسبة الى والدي ( وفكرت قليلا وهي تستطرد) ولكن بإستطاعتك إرسال الصور بالبريد ، لماذا قطعت كل هذه المسافة لجلبها؟".
وقال بحرارة وجدّية:
" لأنني اردت يا عزيزتي أن أرى فرح والد زوجة المستقبل بنفسي".
خفق قلبها طربا:
" فريزر ، ما الذي تقوله ؟ أنت لا تعني ...".
" نعم انا أعني كل كلمة اقولها ، وها انا أسالك رسميا ، وأطلب يدك للزواج ، هل تقبلين الزواج مني؟".
" نعم ، نعم ، كيف يمكنني أن أرفض ( ثم فكرت قليلا ) ولكن اين موقفك من النساء ونظرتك الضيقة اليهن؟".
إبتسم بحنو :
" هذا كان رايي الى أن إلتقيت بك ، لم اقرر الوقوع في حبك ، يشهد الله انني قاومت الشعور طويلا ، ولكن دون فائدة".
عانقها عناق العاشق المتيم ، ثم رفع راسه قائلا:
" هيا بنا نزف النبأ السعيد لوالدك ، إنه ينتظرنا بفارغ الصبر".

تمت
وللامانة نفلتها من عند
لكاتب:
نيو فراولة

 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
يستحق المشاهدة : سَجّلْ حَظِو~رك باسم رواية انمي احببتها من روايات عيون العرب ..~ ᴙǫȥαᶅч Mahou The Aotako 577 12-19-2018 05:40 AM
سلسله روايات عبير فتاه ابكت القمر أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 5 06-19-2012 11:58 AM
رواية نور الكون رواية جديدة من روايات سعوديه رواية نور الكون الحب الساكن أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 07-03-2011 03:30 PM
روايات اجاثا كريستي / رواية الطائرة المفقودة شاهي تحميل كتب مجانية, مراجع للتحميل 7 12-09-2008 03:19 PM


الساعة الآن 02:43 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011