الفصـل الثامـن ˺خــــاص˹
قبل عام و نيف ...
/
فكر أليستر أن خطته الجنونية بدت أكثر منطقية في رأسه منها الآن على أرض الواقع ...
قفز ذلك الخاطر لذهنه المشوش بالألم ، بينما ينازع دون يأس لإبعاد القدم التي كانت تدوس رأسه و تسحقه على الأرض بعنف !!
انحنى مهاجمه لمجال بصره ، فرأى أليستر وجه الشاب الشرس ذي الأنف المعقوف و كأنه يعاني من كسر ما ،
و من خلفه تتراقص نجوم سماء هذه الليلة لامعة و صافية !
المنظر المتباين بقبحه و جمال خلفيته حفز ذهنه ضد الدوار و الاختناق ،
فراح يصارع للحفاظ على صلابته و تماسكه رغم أن حلقه و أنفه قد امتلآ بالغبار و رائحة الزقاق القذر !
_قلها ...
صاح الفتى الشرس متفاخراً أمام زمرته التي التفت حوله ، و تابع بإزدراء :
_اعترف أنك خسرت أمام سيزار العظيم ، و أني مسحت بك الأرض حرفياً كالممسحة !!
أبعد قدمه الثقيلة عن وجهه ، كما لو كان يسهل عليه اعترافه المهين !
فعب أليستر من الهواء جرعة كبيرة مرتاحاً لتدفقه عبر رئتيه رغم رائحته النتنة ،
أدار رأسه إلى الأمام لينظر في وجه خصمه و رفاقه من حوله ،
و التقط أنفاسه عدة ثوان شاعراً بآلام الضرب المبرح في جميع أنحاء جسده أشد وضوحاً الآن !
طوَى ساقه دون أن يتحرك من وضعيته متمدداً على ظهره فوق الأرض القذرة ،
و عوضاً عن إسماعهم الاعتراف الذي ينتظرون ، خاطب أليستر الفتى المتفاخر بصوت ساخر رغم إنهاكه :
_طبعاً ... لقد احتجت لأربعة يقاتلون بجانبك لتحصل على هذه النتيجة !
انعدام حس العدل و غياب مفهوم شرف القتال لدى تلك الجماعة ما كان شيئاً مفاجئاً لأحد ،
لكن أليستر كان يأمل ألا تصل الأمور إلى هذا الحد ، و أن يتملص من هذه النتيجة بطريقة ما .... غباءٌ تام منه طبعاً !
و ماذا قد يصنع ضد خمس كتل عضلية شديدة العنف ؟!!
سارع المدعو سيزار إلى الدفاع عن كبريائه :
_الذي يعبث مع واحد منا .. عليه التعامل معنا جميعا ، كان عليك التفكير بهذا ملياً قبل القدوم إلى هنا .... و الآن أعد النقود !!
سكن البرود أليستر تماماً ، و ابتسم بإستخفاف وهن :
_أجبرني !
هز سيزار كتفيه باستهزاء غاضب :
_لم تطلب شيئا !
قالها ثم سدد له ركلة قوية على معدته ، تكور أليستر بعدها مخطوف الأنفاس من شدة الألم ....
و أقسم كاتماً تأوهه بأن يمسك لسانه بما يكفي لينفذ خطته كما يجب !
الآن كان الوقت المناسب لتعلم ضبط النفس و ابتلاع سلوكه المتمرد !
ما إن شعر بالقدرة على الكلام تعود إليه .. حتى تمتم بصلابة :
_لم آخذ سوى ما يعادل ما سرقتموه من المتجر ، إنه مال العجوز إغناسيو و قد أعدته إليه !
_أسمعتم هذا ؟!
تبجح سيزار من جديد وهو يتبادل نظرات السخرية مع جماعته ، و واصل متضاحكا :
_أعاد المال للعجوز ، كم هذا رقيق !
مال برأسه نحوه أكثر و أردف بابتسامة مستفزة :
_يا لك من كلب وفي لصاحبه !!
أرسلت عبارته موجة ضحك بين رفاقه الأربع ، بينما حدق فيه أليستر بملامح متحجرة يلوح فيها الغضب البارد !
اتسعت ابتسامة سيزار المستفزة وهو يقول كمن يحكي قصة لجمهور متأثر :
_إخلاصك مفهوم تماماً ..... الرجل وجدك ذات ليلة ترتعش وحيدا كجرو منبوذ بللّه المطر ، فأخذته الشفقة و آواك في بيته .. مازلت تقتات على إحسانه فكيف لا تكون وفياً له ؟!!
انقبض شيء ما في صدر أليستر شعر به يوازي قوة تلك الركلة قبل لحظات ، بينما ضجت المجموعة بالضحك ببلاهة من جديد !!
رغم التشبيه السخيف و العرض الساخر المستفز ... كانت هذه هي الحقيقة تقريباً ، و ليس يدري لما يكره نفسه بسببها !!
كان في الثانية عشرة حين دخل متجر إغناسيو يبحث عبثاً عن عمل .... صغيراً لكن حياة الشوارع قد صقلت طباعه و ذكاءه و جعلتهما أكثر حدة و يقضة بما يكفي ليتدبر أموره و يعتني بنفسه !
يشك أليستر في مدى صحة ذلك الآن .. لكان انتهى به الأمر كواحد من هؤلاء لو لم يمد له إغناسيو يد العون !!
اعتدل أليستر جالساً ببطء و حبس أنفاسه لموجة الألم التي طافت به ... تكلم أخيراً حين وثق بثبات صوته :
_لديه شريط مسجل !
كلماته الغريبة عن الموقف جعلت الضحك يتوقف ، قال واحد من رفاق سيزار :
_عما تتحدث .. ها ؟!
سعيداً بإنتباههم و إستعدادهم للإصغاء لأول مرة منذ بداية المساء ، تكلم أليستر باختصار :
_في المتجر كاميرا مراقبة مخفية صورتكم أثناء السرقة ، و شريط يظهر وجوهكم بوضوح بين يدي العجوز الآن !
صمت سيزار لحظة ثم أعلن بعجرفة :
_أنت يائس إلى حد اختراع الأكاذيب.
و تبعته بضع تأييدات من زملائه ... لكن جو التسلية و السخرية كان قد تبخر الآن !
واصل سيزار :
_لكانت الشرطة قد قبضت علينا لو أنّ ما تقوله صحيح !
أومأ أليستر برأسه نفياً فآلمته الحركة .. كانت هذه فرصته ، سيزار جبان كبير بحيث يمكن إقناعه بسهولة :
_إغناسيو لم يسلم الشريط للشرطة بعد ... يعتقد أن ثمة فرصة قائمة لإصلاح أنفسكم و أن هذه الفرصة ستضيع لو تم سجنكم !
_أي هراء هذا ؟!
هتف أحد الفتيان باستنكار ، و سخر سيزار الذي ميز الكلمات كشيء قد يتفوه به إغناسيو فعلياً :
_عجوز غبي ... أنقل له إمتناني لمشاعره المرهفة !
ابتسم أليستر عندها .. ابتسامة زادت من حنق سيزار الذي لم يكن يروقه كيف لازال صامداً هادئاً و كأنه هو المسيطر على الموقف !!
تحرك سيزار يدور من حوله يمطره بنظرات التحقير .. لكن حتى النظر إليه من علو لم يقلل من شأنه ،
بجلسته المتحدية الرافضة للإستسلام بدا أليستر كجندي مازال يبذل كل ما لديه في معركته .... و قد كان سيزار يراه أقوى منه و لا يطيق الاعتراف بذلك !!
_سأنقل إليه هذا ... و ستتغير مشاعره المرهفة تلك حال أن يرى ما فعلتم !
تجمدت ابتسامة سيزار الساخرة و اضطرب ، واصل أليستر بخفة و ثقة يحسد عليهما في موقف كهذا :
_أتعلم .... قد أطلب منه مقابل وفائي شريط التسجيل ذاك لأهديه للشرطة ، أو قد أذهب إليهم بنفسي و أرفع شكوى ..... فيصدف أني مواطن تعرض للاعتداء و يعرف أسماء مهاجميه و أين يقطنون !!
هدد سيزار بعصبية :
_سأقتلك إن فعلتها !
_ستكون مستمتعاً في السجن وقتها !
اكفهرت ملامح سيزار غضباُ و انقض على أليستر يسحبه من تلاليبه هاتفاً بحدة :
_إذا سأقتلك هنا و الآن .. ما رأيك بهذا أيها المتذاكي ؟!!
و اتبع القول بالفعل بأن أخرج المسدس الذي يحمله دوماً للتبجح ، و ألصقه بجبهة أليستر !!
لقد كان ذات المسدس الذي استخدمه في سرقة المتجر ... و زرع بواسطته الخوف في النفوس خلال مناسبات عديدة !
أرغم أليستر نفسه على المحافظة على الهدوء ، و تحدث إثر ذلك بتعقل :
_أنت ترتعد خوفاً من الشرطة لمجرد أنك سرقت سيزار ، ماذا ستفعل حين تقدم على شيء كالقتل ؟!
لم يجبه سيزار ...
و أيقن أليستر من تعبير وجهه العصبي بأن تهديده فارغ تماماً ، لقد كان متوتراً و يرتجل بحثاً عن حل !
_و ما الفرق ؟ إن كنت ستشي بي على أي حال أيها الجرذ الجبان !!
قبض أليستر على الذراع التي تصوب المسدس نحو رأسه و دفعها عنه ، شاعراً بغضبه يفلت منه :
_رأيت كيف تكون الشجاعة في مفهومك ..... و الآن أبعد هذا الشيء فأنت لا تخيف به أحداً ، أعرف أنك لن تطلق النار و ليس لديك الجرأة لتفعل !
صر سيزار على أسنانه بغيظ شديد ، كيف تسرب زمام السيطرة فجأة منه إلى أليستر ؟!! لكن لا ... اللعين لم يكن لحظة تحت سيطرته !!
لم تبدر منه أي نية في إعادة المسدس لجيبه ، فتجاهله أليستر قائلاً بصرامة :
_سنعقد إتفاقاً لا شيء يرغمني عليه سوى المحافظة على وعد قطعته ، لن أبلغ الشرطة و كذلك لن يفعل إغناسيو ، و في المقابل ستنسون أمر النقود و المتجر و الحي برمته ....
تبادلت وجوههم نظرات متوترة ... لمح فيها أليستر لمحة إذعان ... فعرف أنه قد ظفر بما أراد !
خطوة يجر وراءها أخرى ، ببطء و رتابة ... دخل أليستر الباب الجانبي للمتجر الصغير الذي كان مغلقاً مطفأ الأنوار تلك الساعة كحال كل بقعة من هذا الحي الفقير الهادئ.
فتح الباب الموصد بالمفتاح .. و عبر الممر الصغير الذي يفصل المتجر عن الجزء الخلفي للبناء الذي كان أيضاً بيتاً لإغناسيو و زوجته ، دون أن يتوقع رؤية أحد.
الساعة كانت متأخرة لحسن حظه .... شعر بالإنهاك و الألم الجسدي و بكآبة غريبة يسبح بها عوضاً عن الشعور بالرضا لنجاحه بإسترداد المال المسروق و إبقاء مجموعة سيزار بعيداً حتى إشعار آخر !
كان يصعد الدرج ببطء شارد الذهن حين أضيء النور في الممر خلفه فجأة ،
توقف أليستر في منتصف طريقه نحو الأعلى حيث غرفته التي استأجرها دون أن يخفف دفعه لإيجارها كل شهر عن شعوره بالتطفل على مالكيها !
لم يلتفت حين سمع صوت جوينيتا زوجة إغناسيو تخاطبه بطريقتها الأمومية الودود :
_هذا أنت أليستر .. ظننت أنني سمعت صوتاً ، لقد قلقت عليك حين تأخرت كل هذا الوقت.
_آسف لإيقاظك !
اعتذر أليستر بخفوت ، و هم بمتابعة طريقه صعوداً عبر الدرج حين أسرعت جوينيتا تقول :
_لا أظنك تناولت عشاءك بعد ، أليس كذلك ؟
شعر أليستر بتقلصات معدته لذكر الطعام ، كان جائعاً لكنه شعر بأنه مريض تقريباً .. أكثر ألماً و تعباً من أن يستطيع الأكل ... أجابها مع ذلك :
_بلى ..
قالت جوينيتا بحنان عكس طيبة قلبها و بساطة طبعها :
_سأسخن لك بعض الطعام إذا فلابد أنك تتضور جوعاً ... لقد حفظت حصتك من العشاء جانباً.
تصلب وجه أليستر فجأة إثر كلماتها ، و توسعت عيناه المثبتتان على الدرجات الممتدة أمامه ....
رنت عبارة سيزار الساخرة عن الإحسان و الشفقة في أذنيه ... تغذي غضبه على نفسه فتزيده همّاً و اختناقاً !
لكن هذا الغضب كان تفاهة في غير محلها ... هو لا يعيش على الإحسان أو الشفقة ،
لقد كان يعمل مع إغناسيو بقدر أي عامل و أكثر ، يسدد بأجره نفقات سكنه و طعامه البسيط ...
عقله أخبره بذلك مراراً لكنه عاجز عن الشعور بالارتياح كلما تعامل معه الزوجان كأنه فرد من الأسرة !
شعر أخيرا لما طال صمته بفظاظة وقفته هذه مديراً ظهره للمرأة الطيبة ...
فاستدار إليها يجيبها بلطف :
_سيكون هذا رائعاً .. شكراً جوينيتا.
ابتسم بتعب .. متوقعاً بوضوح ما ستكون عليه ردة فعلها عندما تلمح هيئته على ضوء الممر الشاحب ...
شهقت بحدة و ارتفعت يدها تغطي فمها ، بينما تطوف عيناها بذعر على وجهه المكدوم المدمى ، و ثيابه الممزقة و قد غطاه الغبار فاتسخ من رأسه حتى قدميه !
لم تنطق جوينيتا للحظات طويلة متسمرة في مكانها تحدق فيه ... فشعر بالاحراج تقريباً ، قال :
_سأصعد لأستحم أولاً ثم ....
قاطعته هاتفة بذعر :
_إلهي القدير ... ما الذي حدث لك أليستر ؟! انزل هنا دعني أرك بوضوح !!
لوى أليستر شفتيه بوجوم ، لابد و أنه بدا أسوأ بمراحل مما تصور !!
عادت جوينيتا تهتف قبل أن ينزل درجة حتى :
_كلا توقف .. اوه يا إلهي .. هل أنت واثق بأنك تستطيع السير ؟! ماذا حصل ؟ ... أصدمتك سيارة ؟!
قام أليستر بهبوط الدرج بسرعة و ثبات لم يكونا سهلين عليه بينما يؤكد :
_بالطبع أستطيع السير لقد عدت إلى المنزل على قدمي ..... كل ما في الأمر أني تشاجرت مع أحد الأشخاص !
حين هبط آخر درجة و وقف أمام جوينيتا يشرف على قامتها الممتلئة القصيرة ،
جعله تعبير وجهها يعتقد أنها كانت لتفضل حادث السيارة كإجابة !!
_ظننتك تركت هذه التصرفات ...
نطقتها بقلق و بدت خائبة الأمل أكثر منها خائفة ، ما جعله يشعر بالسوء فجأة !
لقد استغرق منه تهذيب حدته و شراسته الذين تعلمهما في حياة الشوارع سنواتاً من الاحتكاك بحكمة و طيبة الزوجين العجوزين ،
لكن ذلك نجح نهاية الأمر .. حتى أنهما كانا يعلنان فخورين في أحيان كثيرة بأنه أصبح فتىً مؤدباً !
بالرغم أن وصف إغناسيو و جوينيتا له بالأدب كتلميذ ابتدائية كان يزعجه ، لكنه كان سعيداً لتغيره نحو الأفضل ...
و شعر الآن أنه مدين لها بجواب ، قال بهدوء :
_يحدث ألا يملك المرء خياراً في كثير من الأحيان جوينيتا ... أنا لم أسعى لهذا.
تنهدت وهي تهز رأسها بأسف ثم قالت :
_تعال معي ...
تحركت إلى غرفة المعيشة الصغيرة التي تطل على الممر ، ثم أشارت إلى أريكة فسيحة في منتصفها مردفة :
_اجلس هنا .. سأجلب شيئا لتضعه على جروحك لعلك تشعر بالتحسن.
_لا لزوم لذلك ... سأكون بخير.
_لمرة واحدة فقط أليستر تحلى بشيء من الثقة !
نظر إليها مستغرباً عبارتها الغاضبة :
_لدي ثقة !
_كلا ... ليس لديك ، كلما حاول أحد أن يكون لطيفاً معك انكمشت مبتعدا ، أنت تشعر بإرتياح أكبر حين يكون من أمامك عدواً لا صديق !
لم يسبق لجوينيتا أن انتقدته بهذا الشكل ، جعله ذلك يتجهم :
_هذا غير صحيح .. أنا ....
بتر جملته متأوهاً حين باغته الألم إثر حركته التي قام بها للجلوس ، قال :
_حسنا مهما يكن .... لا أستطيع الجدال الآن ...
رق وجه جوينيتا الأسمر بتعاطف :
_انتظر لحظة سأجلب الدواء .. سيساعدك !
و اختفت قامتها القصيرة في الممر بسرعة ،
أسند أليستر رأسه إلى ظهر الأريكة ، و راح يفكر في كلامها الغريب ... أتكون تلك مشكلته حقا ؟!
عادت جوينيتا بعد دقائق ، تحمل منشفة صغيرة و وعاء رأى حين وضعته على الطاولة سائلاً أخضر بداخله .. اخترقت رائحته النفاذة أنفه على الفور !
غمست جوينيتا طرف المنشفة في الوعاء ثم رفعتها لتمسح بها خدوش وجهه بلطف .. حيث تجمدت بعض الدماء !
أطلق تأوهاً صغيراً حين أحرقه السائل اللاذع ، و جعد أنفه لرائحته ...
سأل وهو يدير رأسه جانباً :
_ما هذا الشيء ؟!
ابتسمت جوينيتا :
_هذا دواء عشبي خاص ، إنه لاذع و رائحته غير مريحة ... لكنه سيحول دون تورم وجهك و إسوداد كدماته صباح الغد ...
ربما لم تسود كدماته أو تتورم بالفعل ... لكنها كانت واضحة صباح اليوم التالي ،
كما أن الوجع في سائر أنحاء جسده أشعره كمن سقط من علو متحطماً و مهشماً عظامه !
تكبد مشقة لا بأس بها في ارتداء ملابسه ، و حين أنَّ كتفه تحت ضغط حقيبة المدرسة فكر جدياً في العودة للإستلقاء في فراشه ...
لولا أنه لم يرغب بتشجيع إقتراح جوينيتا بشأن الذهاب إلى المشفى !
حمل المبلغ المالي الذي كان قد خبأه أمس مباشرة قبل الذهاب لمواجهة سيزار ،
ثم غادر الغرفة الصغيرة ...
كان الممر خالياً ، آمناً له كي يهبط الدرج بكل بطء و هدوء ..
تناهى إلى سمعه أصوات من آخر الممر دلت على أن إغناسيو بدأ يعمل باكراً في متجره.
فتوجه أليستر إلى الباب الذي يفصل المتجر عن بقية المنزل ، فتحه و دخل بهدوء ...
كانت آلات الموسيقى التي هي تجارة العجوز ، تملأ كل ركن في المحل بمختلف الأنواع و الأشكال ..
مرتبة بطريقة رائعة للعرض ، و لامعة تحت إنارة الشمس النافذة من واجهة المتجر الزجاجية.
حط بصره على الغيتار الأسود المعلق على الحائط خلف منضدة البائع بإعجاب معتاد بتلك القطعة الجميلة ...
قبل أن يتابع البحث بعينيه عن إغناسيو في المكان حوله.
كان الباب الخارجي مغلقاً و مع ذلك ضوضاء شخص ما تأتي من المخزن الجانبي الصغير ..
تقدم أليستر إلى هناك لكن ذلك الشخص خرج قبل أن يصل إلى طاولة البائع التي يقع المخزن الصغير وراءها.
نظر إلى الرجل الستيني المتوسط الطول ، الذي كان شديد السمرة له شاربان و حاجبان كثيفان ،
و شعر غزاه الشيب ، و ملامح سمحة مبتسمة على الدوام !
بدا كبير السن لكن قوياً ، و في تلك اللحظة بالذات كان يضع صندوقاً كبيراً يحمله على المنضدة .. و بدا من الضجة التي أحدثها الصندوق أنه ثقيل الوزن.
_يوم مشرق ... أليس كذلك ؟!
لم يكن العجوز قد رفع رأسه عن صندوقه حين ألقى بتحيته تلك ، و لم يتساءل أليستر المعتاد على غرابته كيف لاحظه وهو لم ينظر إليه البتة !
تقدم أليستر أكثر حتى وقف أمامه تفصل بينهما طاولة البيع .. و وضع رزم النقود التي يحملها على الطاولة أمام إغناسيو.
فرفع الأخير رأسه إليه ، و ارتفع حاجباه الكثيفان دهشة دون أن تتغير ابتسامته :
_عجباً .. و ما الذي تريد شراءه بهذا المبلغ ؟!
_إنها نقودك المسروقة.
تضاعفت دهشة العجوز وهو يسأل :
_هل عثرت الشرطة على الفاعلين بهذه السرعة ؟
ثم ضحك مردفاً :
_يبدو أني سأدفع ضرائبي بحماس أكبر من اليوم فصاعدا !!
عبس أليستر ، لم يكن إغناسيو قد لمس المبلغ و لا اهتم به بأكثر من نظرة ،
و بدا من ابتسامته الواسعة و عينيه اللامعتين بالذكاء أنه يحضر لواحد من أحاديثه التي تنتهي دوما بإفراغ الشخص كل ما لديه ، و إدانته لنفسه بأخطاء لم يكن ليعترف بها مطلقاً !
يعلم أليستر أن تحت مظهره العجوز الودود كان يقبع داهية !!
_أخبرني مع ذلك .. لماذا سلّموا المال لك و ليس لي ؟!
_ليست الشرطة من أعاد المال ... أنا فعلت ذلك.
زال تعبير الدهشة عن وجه إغناسيو و ضاقت عيناه بطيبة .. بدا و كأنه كان يتوقع إجابته !
استند بذراعيه إلى طاولة البيع ، و أشار برأسه قائلاً :
_هل لهذا علاقة بما أصاب وجهك ؟!
_نوعاً ما ...
_و كيف حدث هذا ؟!
تململ أليستر بوقفته ، ذلك سؤال شامل ، وهو لم يكن يريد الخوض في أي تفاصيل :
_علي الذهاب الآن ... سأتأخر.
هز العجوز رأسه موافقا و قال :
_حسناً .. لكن أخبرني على الأقل لماذا فعلت ذلك ؟!
_فعلت ماذا ؟!
_فعلت هذا !
أشار بيده هذه المرة إلى وجهه المكدوم مواصلاً :
_هل إشفاقك على عجوز فقد كل مدخراته ما دفعك لتتصارع و خمسة من الشبان المثيرين للشغب ؟!
حاول أليستر ألا يتفاجأ من الثقة التي تكلم بها إغناسيو بشأن عددهم :
_و من أخبرك أني صارعت خمسة ؟! لم يتجاوز الأمر مشاحنة عادية مع واحد منهم.
أطلق العجوز ضحكة أخرى ثم قال متسليا :
_حقا ؟ أنت فتى قوي لتؤذى كل هذا القدر في شجار عادي ، و أنا لست غبياً لأصدق شيئا كهذا !
عقد أليستر حاجبيه و قال واجماً :
_ألا يمكنك أخذ المال و تجاوز الأمر فحسب ؟!
تلاشت لمحة التسلية من عيني العجوز و أطلت الجدية بدلاً منها ، لكنه حافظ على ابتسامته قائلاً :
_لما فعلت هذا ؟!
تنهد أليستر باستسلام ، و تحرك ليستند بظهره و مرفقيه إلى طاولة البيع ،
راقب صامتاً حركة الشارع الذي بدأ بالإستيقاظ من خلال واجهة المتجر الزجاجية ...
لما فعل هذا ؟! كان واثقاً أن باستطاعته الإجابة مباشرة .. لرد الدين !
لكنه لم يعد واثقاً إن كان ذلك صحيحاً كلياً .... جزء منه يشعر بأنه كان سيقدم على ما فعل حتى إن لم يكن مديناً لإغناسيو ... ربما لأنه تغير إلى هذا الحد !
قاطعه إغناسيو بسؤال تردد في ذهنه كثيراً :
_لماذا وظفتك لتعمل هنا ؟!
أدار أليستر رأسه إليه متفاجئاً ، فواصل العجوز وهو يعاود التنقيب في صندوقه :
_ربما كان عليك أن تسأل منذ سنوات !
_أنا أعرف الجواب.
تمتم أليستر بإستياء و قد عاودته أفكاره السابقة ، فقال العجوز :
_إذا أنت مخطئ .... ما الذي فكرت فيه في ذلك الوقت ؟ فكرت كم أثرت إعجابي ... كنت صغيراً و مررت بالعديد من أسباب الشقاء ، و مع ذلك أردت أن تكسب من جهدك متشبثاً بالصواب ، يضيع كثير من الناس الطريق بسهولة ... بينما كنت قانعاً بوجبة طعام واحدة طالما هي من كدك أنت !
ابتسم إغناسيو في وجه أليستر الذاهل من كلماته و أضاف :
_احرص أن تبقى كذلك دوما ، الحياة أسود و أبيض و ما من لون ثالث فيها .... مهما كانت المبررات !
صمت أليستر للحظات ، كما لو كان يقلب تلك الكلمات في رأسه ...
ثم تحرك منتصباً في وقفته ، و عدل وضع الحقيبة على كتفه ،
و حين دمدم شيئاً عن التأخير دون أن يعلق على كلام إغناسيو ، ازدادت ابتسامة الأخير اتساعاً ... و راقبه ينصرف بفهم تام لأفكاره في تلك اللحظة !
كان أليستر يقطع ممر المدرسة الذي ازدحم بالطلاب وقت استراحة الغداء بخطوات هادئة متعبة بعض الشيء ،
و تبعته الأعين بفضول حال مروره من أمامها !
حصل أن شاع عنه بأنه مثير للمتاعب ، ما صنع له شعبيته الغريبة هذه بين باقي التلاميذ ،
لكنه علم اليوم أن آثار الشجار البادية على وجهه ستؤكد للجميع صدق تلك الشائعات !
لم يهمه ذلك كثيراً ... فقلة من الناس هم من يعني رأيهم شيئاً بالنسبة إليه ،
لكنه وجد عبوسه يزداد مع ازدياد الأعين التي يشعر بها مصوبة بإتجاهه.
_أين كنت ؟! لم أرك مساء الأمس.
هتف رايان الذي ظهر أمامه فجأة قاطعاً عليه شروده ...
_لقد كنت في الجوار .. ما الأمر ، لما تحدق ؟
_ماذا أصاب وجهك ؟!
_سقطت عن الدرج.
_حسناً ... كما تشاء !
مط رايان شفتيه غير مبال بمدى لامنطقية الإجابة ،
ثم أعلن منزعجاً بينما يسير أمامه بمشية خلفية معكوسة ... بحيث يكون وجهاً لوجه أمام أليستر وهو يتحرك :
_دعنا ننتقل للعيش معاً !
توقف أليستر عن السير فجأة ، و التفت إليهما طالبان كانا يمران من جانبهما مدهوشين من العبارة ،
فقطب أليستر حاجبيه بحنق و حرج :
_هل أخبرك أحد بأنك تحتاج إلى إنتقاء كلماتك قبل أن تنطقها ؟!!
أدار رايان عينيه إلى الأعلى بتذمر قبل أن يقول :
_بالله عليك الآن .... أنا جاد كل الجدية ، أحتاج حاجة يائسة إلى الانتقال من الشقة الكارثية التي أعيش فيها !!
أومأ أليستر برأسه بينما يعود إلى مواصلة السير :
_ماذا فعل الآن ؟!
كانت تلك إشارة شبه معتادة ، فشرع رايان يتذمر من شريكه في السكن ،
قال بينما يقفان في الصف لشراء الغداء الذي لم يبدو مثيراً للشهية :
_و ما الذي لم يفعله ؟ إنه في التاسعة و العشرين و عاطل عن العمل ، لا يدفع الفواتير ، و لا يشتري أي طعام ، و سحقاً لم يسمع يوما بكلمة نظافة ، أما مواهبه فتقتصر على تحطيم صنابير المياه !!
ابتسم أليستر بعدم تصديق و قال وهو يأخذ صينية طعامه :
_حطم صنبور المياه مجدداً ؟!
تحركا إلى طاولتهما المعتادة ، و أكد رايان بينما يجلسان :
_اضطررت إلى الخروج من البيت سباحة !
هز أليستر رأسه وهو يفتح زجاجة العصير خاصته :
_آسف لأجلك ، لكني لا أجني ما يكفي لاستئجار شقة ...
_نصف شقة !
_لاستئجار نصف شقة ، ثم ما أدراك أني لن أكون أسوأ شريك سكن على الإطلاق ؟
تجهم وجه رايان :
_أعرف ذلك لأني أعيش مسبقاً مع هذا الشخص !
صمت بضع لحظات فيما ضجت قاعة الطعام حولهما بأحاديث التلاميذ و مشاكسات بعضهم لبعض ،
أضاف رايان بهدوء :
_أخشى أن يكون تيري براندون على حق ، لا أظنني ناجحاً جداً في تدبيري للأمور !
ارتفع حاجبا أليستر لكون هذا الاعتراف الأول من نوعه ،
فمنذ ترك رايان منزل عائلته بالتبني وهو يشقى بأسلوب حياة لم يعتده ،
رافضاً بعناد أي تدخل للمساعدة من أسرته ، سأله أليستر بتمهل :
_إذاً ... هل هذا يعني .. أنك ستعود إلى البيت ؟!
أسرع رايان ينفي بغضب :
_بالطبع لا ... لقد عنيت أن الأمر ليس سهلاً ، و أني أدرك الآن ما قصده تيري براندون في حينها !
تنهد أليستر موافقاً ...
الأمور لم تكن سهلة معهما أبداً ، و ليس هناك من إشارة على أنها ستتحسن مستقبلاً !
إن كان ثمة درس قد تعلمه أليستر مبكراً جداً فهو أن المال مسألة محورية في الحياة ... و حتى يجني المرء الكثير منه عليه أن يملك قدراً كافياً مسبقاً !
كل شيء يبدأ بالمال ...
و رايان كان يخوض في هذا البحر أول مرة ، و مع ذلك يبلي حسناً !
فقد تحول من كونه أصغر ابن ضمن عائلة محبة تغدقه بما يحتاج من الرعاية ،
إلى شاب مستقل بذاته يتابع دراسته و يتنقل من عمل جزئي سيئ إلى آخر أسوأ دون شكوى ،
و رغم أن أليستر راهن على أنه سينهار مستسلماً بعد وقت قصير ،
إلا أنه وجد من العناد و الكبرياء لدى رايان ما يكفي شعباً و يزيد ... فما كان الأخير لينسحب مهما حدث !
قال أليستر بعد برهة صمت :
_لكانت العروض الغنائية أسهل عمل لجني المال لو كنا بارعين.
اعترض رايان :
_نحن بارعان ... لكن الوغد صاحب الحانة تهرب من دفع النقود بهذه الحجة السخيفة !
عقد أليستر حاجبيه و فكر في كلامه برهة ثم سأل :
_إلى أي مدى تثق بهذا ؟!
_بماذا ؟!
قاطع حديثهما مرور ثلاثة فتيات من فرقة التشجيع من جوار طاولتهما ، إذ توقفن و ببادرة معتادة ألقيْن التحية على أليستر و رايان و هنَّ يبتسمن بإفراط !
رد أليستر التحية باقتضاب و دون إهتمام ، بينما بادلهن رايان الإبتسامة بأخرى متقنة جميلة خطفت أنفاسهن !
كان أليستر يعتقد أن معظم الفتيات يتأثرن برايان ،
فقد كان الفتى جذاباً بدرجة مفرطة .. و هو يستمتع بذلك !
كان متهكماً لاذعاً على نحو أنيق .. كما كان قوي البنية من دون ضخامة ،
وسيماً بشكل غريب إيطالي المظهر ، رغم عيونه الزرقاء و شعره الرملي الأطول من القصة العادية !
لم يكن أليستر يتمتع بجاذبية رايان نفسها ، لكنه كان حسن المظهر وسيماً بما يكفي ،
فقد كان طويل القامة يميل إلى النحافة دون ضعف ،
كما أن عينيه الرماديتين كانتا تجعلانه ذا حظوة عند الفتيات ...
طبعت نشأته الصعبة شيئا من القوة و الرزانة على ملامحه ،
لكن ذلك منحه سحراً إضافياً فحسب !
قال أليستر ساخراً من رايان الذي راح يتبع بنظراته مجموعة الفتيات المبتعدة :
_أتمنى لو تراك سارة الآن !
قطب رايان من الفكرة ، ثم تنحنح و كأنه يعود للجدية :
_دعك من هذا و أخبرني ... هل سنتدرب نهاية هذا الأسبوع أيضاً ؟
_لا تقل "أيضاً" كما لو كنا نفعل هذا طوال الوقت ، إن كنا نأمل في المشاركة في تجربة الأداء تلك دون إحراج أنفسنا فعلينا أن نتدرب !
كرر رايان ساخراً :
_إحراج أنفسنا ؟! هيا أليستر ... أنت تعلم مثلما أعلم أن لدينا فرصة كبيرة في الفوز !
صمت أليستر بضع لحظات قبل أن يقول بجدية :
_لا أوافقك ... لا أعتقد بأننا قريبان من الفوز حتى !
_أنت جاد ؟!
تساءل رايان و بدا مدهوشاً :
_و لما هذا ؟!
أسند أليستر رأسه إلى يده ، و شرح بمزيج من الضجر و الانزعاج :
_أظن أننا لا نملك غير الموهبة ، و في تجارب أداء لاستكشاف المواهب تقيمها أفضل شركة إنتاج و تسجيل ألا تعتقد بأن العديد من المغنين الموهبين سيتواجدون هناك ، و العديد منهم لن يكون بارعاً فحسب بل محترفاً و ذا خبرة أيضاً ... لا أستطيع أن أكون واثقاً مثلك !
تجهم رايان من جديد و قال متهكماً :
_أحسنت .. أرى بأنك تملك الروح المطلوبة !
تنهد أليستر :
_ربما ، لكني مازلت أعتقد أن علينا تقديم ما هو أفضل مما نقدمه الآن ... لا أعرف تحديدا ... لكن أشعر أن شيئا ما ينقصنا !
همهم رايان بإقتناع بعد لحظة صمت :
_ربما معك حق ...
أنَّ غيتار أليستر و دمدم هادراً ،
فبدا كما يصفه إغناسيو دوماً "و كأنه يتكلم" !
تحركت الأوتار تحت أنامله و انطلقت في بادئ الأمر كزفرة عميقة قبل أن تتحول نغماً كثيفاً ، جاوبه نغمٌ آخر غني الإيقاع من غيتار رايان ،
ثم تعالى حوار لحن متآلف متسلسل بين الإثنين ،
فدوَت الأنغام الواضحة الحادة من أحد الغيتارين ، و اصطَفَقَت مع الأنغام الخفيفة السريعة الصادرة من الآخر ..
و تعالت الموسيقى الجميلة في الشارع بشفافية يستحيل تجاهلها ...
سرعان ما تجمع عدد من المارة متوقفاً ، يستمعون إليهما بفضول و استحسان ،
و تشكلت حولهما حلقة من الناس من مختلف الأعمار ..
استهل رايان الغناء بصوته العميق بحلاوة و جهارة ،
متمايلاً بجذعه هازاً رأسه بتناغم مع اللحن الذي يعزفه بغيتاره ...
يتغنى و كأنه لا يغني ، بل تنساب كلماته منسلة إلى القلوب بخيلاء ...
و كحوار غيتاريهما المتوافق ..
رافقه أليستر في الغناء بصوت شجي صافي و نفس مديد ،
راح صوته الرخيم يتلون بمهارة كلحنه فتراه يخبو برقة طوراً و يصدح بقوة طوراً آخر ،
و كان لغنائه وقع في الروح أشبه بالسحر ... فكان يجسد به ما "تعشقه الأُذن" لحد مبهر !
و لم يكن خفياً الإنسان المختلف الذي يبدو عليه أليستر لحظة يعزف و يغني ،
فتصبح مراقبته وحدها متعة حقيقة ...
قريباً من الرصيف أمام متجر الآلات الموسيقية المتواضع حيث وقف الشابان يغنيان و يعزفان ،
توقفت تلك السيارة البيضاء الفاخرة ،
فبدت بمظهرها الذي يصرخ تناقضاً مع الحي المتواضع حولها .. دليلاً على أهمية و ثراء صاحبها ...
كانت سيارة مثلها -غريبة الطراز عن هذا الحي- لتجذب الأنظار عادة ،
لكن معظم هذه الأنظار كانت منجذبة الليلة إلى الثنائي الذي يغني بجمال يصعب اعتياده أو تفويته ..
داخل السيارة المنخفضة الزجاج ، راقب الرجلان العرض الغنائي مقيمين إياه على أنه أجمل من أن يقدم على جادة شارع مجهول ..
تكلم الرجل الأكبر سناً بينهما ، و قد التمعت عيناه بإعجاب أثناء متابعته للعرض الغنائي الصغير :
_من كان ليخمن هذا ؟ سعيد أنك سحبتني إلى هنا الليلة يا رفيقي.
ابتسم الرجل الآخر بإعتذار بينما يتابع معه غناء الشابين من نافذة السيارة و إحدى يديه مرتاحة على المقود ، قال :
_آسفٌ لإلحاحي السابق سيد مكفيل ... لكني أفخر بأن ترى ما رأيته أنا فيهما !
ضحك هيوغو مكفيل ، شاعراً أن شيئا من عنفوان شبابه المتألق يعود إليه بمجرد مراقبته لأليستر و رايان ، قبل أن يقول :
_لا عليك مارتيل ... الواقع أني لم أتوقع رؤية موهبة كهذه في بقعة فقيرة من هذا النوع ،
و مع ذلك ... مثل هؤلاء الناس أفضل من يجمع بين الموهبة و الشغف عادة ، و هذان الشابان هنا مسرة للأعين ستحبها الشاشة بالتأكيد ، يبدوان كما لو أنهما ولدا ليكونا نجمين !
أومأ مارتيل برأسه موافقاً ، ثم سأل بحماس غريب عليه .. فلم تكن تلك وظيفته ، و لا بالأمر الذي يعنيه بوجه شخصي ..
لكن الإسهام في ولادة نجم كانت حدثاً حماسياً حتماً :
_إذاً ... ماذا الآن ؟!
تحول هيوغو مكفيل إلى الجدية ، و مال بجذعه ليحملق بدقة من نافذة مارتيل المقابلة للرصيف حيث يغني أليستر و رايان ..
قال بلهجة خبير :
_على الأصهب التخلص من الغيتار ..
_من الأصهب ؟!
سأله مارتيل مقاطعاً ، ليجيب هيوغو مكفيل :
_الفتى ذو الشعر الطويل ... عليه ألا يعزف !
بدا الاستغراب على وجه مارتيل وهو يعدل نظارته و يلتفت لمكفيل يسأله :
_رايان ؟ و لما لا ؟!
كان يعلم أن ملاحظات مكفيل ليست عشوائية البتة ، و بالفعل وضح له الأخير مشيراً بيده :
_لأن قدرات زميله في العزف تتفوق عليه بوضوح ، و لا داعي لوضعه في مثل هذه المقارنة ...
صمت مكفيل لحظة متذكراً بانزعاج إصرار بعض النجوم ممن يتعامل معهم دوماً على ما لا يلائمهم بعناد ،
ثم واصل بعبارة أكثر إقناعاً :
_أخبره أن غناءه متميز بحيث يكون إجحافاً أن يرافقه هذا العزف العادي و التقليدي !
_حسنا ... و ماذا أيضاً ؟
رفع مكفيل حاجبيه مبتسماً بتسلية وهو يتأمل أليستر و رايان الذين يغنيان و يعزفان ظهراً لظهر و قد بدا عليهما الاستمتاع و الانسجام التام ،
كبح ذكرياته الخاصة التي استنهضاها ، قبل أن يتراجع في مقعده مستوياً في جلسته وهو يقول :
_نحتاج مغنياً آخر معهما !
استغراب مارتيل تحول هذه المرة لدهشة وهو يكرر :
_مغن آخر ؟!
ابتسم هيوغو مكفيل قائلاً :
_أجل .. مغن آخر ، فاثنان .. "كـالثنائي" ، لكن ثلاثة ... هممم .. ثلاثة أشبه "بـالصحبة" ، بفرقة شبابية و حفلة مصغرة ... حتى أني لأتخيل في هذه اللحظة الأساس الدعائي الذي قد نتبعه معهم ..
أخبرهما بأنه سيتعين عليهما إيجاد فرد آخر موهوب بقدرهما و يكون في عمر مقارب أيضاً ...
قل لهما أنهما إذا قدما إلى تجارب الأداء مع مستوى كهذا ، فسيسرني أن أنتج لهم أغنيتهم الأولى من فوري !
كان أليستر و رايان يختمان أغنيتهما الآن بعزف سلس جميل و همهمة منضبطة ...
مبتسمين للناس من حولهم الذين راح بعض الشباب المرحين منهم يهز برأسه راقصاً مع الألحان ،
بينما يصفق البعض الآخر بإعجاب ، و تتمتم فئة أخرى مستمتعة كلمات الأغنية معهم ..
حرك مارتيل السيارة مبتسماً ،
و قد قرر أن ينقل هذه المعلومة لرايان هذه الليلة ..
بعد أن يوصل مكفيل و ينتهي من بعض أعماله الأخرى ..
كان الوقت مساءً ...
مناسباً له ليتكاسل فوق الأريكة الجلدية المريحة في شقته ،
يستمتع بشيء من الموسيقى الهادئة مع كأس من النبيذ ،
و ربما يراجع بعض الأوراق المتعلقة بعميله الأخير أيضاً ...
لكن عوضاً عن الغرق في رفاهية شقته ، ها هو هنا الآن !
لم يصدق مارتيل مدى فظاعة المبنى الذي دخل إليه ،
كان قد قرر أنه قديم ، باهت الطلاء ، و سيئ بما يكفي من الخارج ... لكن ذلك كان قبل أن يرى داخله فيصدم !
لقد كان مخطئاً ... فالحال داخل المبنى كانت مروعة بحيث وجد صعوبة في تصديق أن أناساً و عائلاتاً يعيشون فيه فعلياً !
خنقته رائحة ما ، كانت من السوء بحيث استجلبت صداعاً فورياً لرأسه ،
و سار في الرواق الطويل الذي تزينت جدرانه المتشققة بكتابات كان بعضها عباراتاً نابية ، أشعرته بالإشمئزاز ... و بالأسى على صوفيا إذا اكتشفت كم هي محقة بقلقها على حال ابنها !
وقف مارتيل أمام الشقة المطلوبة و قرأ بصعوبة رقمها الذي يوشك أن يتلاشى ،
وقع قدميه أصدر إيقاعاً غريباً ما إن اقترب ليقرع الباب ...
فانخفض ببصره إلى الأرض و هاله أن يرى بركة ماء يكاد حذاءه الفاخر من ماركة "دي ميلتن" يغرق فيها !!
المياه كانت تطفح من أسفل باب الشقة ... فحاول أن يقف جانباً بينما يقرع الباب بقوة أوضحت مدى رغبته في الفرار من هذا المكان.
منظر الرجل الذي فتح الباب ليحدق فيه دون أن ينطق ، جعل مارتيل يقطب حاجبيه على الفور ،
فكر بأنه أحسن صنعاً حين لم يسمح لصوفيا بالمجيء معه ... كان ليغشى عليها الآن على أقل تقدير !
تبادل مارتيل النظرات مع الرجل الغريب ذي الملامح الكسولة بغباء ،
كان الرجل بشعر قصير مشعث و ذقن نامية ، يرتدي قميصاً داخلياً متسخاً فوق سروال رياضي فضفاض ... و يستقبل ضيفه بشطيرة هامبرغر نصف مأكولة في يده !
استغرق مارتيل لحظات لينطق :
_أريد رؤية رايان !
قالها و قد أخفق حتى في التحية بتهذيب ، سأله الرجل :
_رايان ؟ و ما هذا ؟!
ارتفع حاجب مارتيل وهو يقول :
_تقصد "من" هذا .... إنه الفتى الذي يشاركك السكن ، أهو موجود ؟!
لم يجبه الرجل ... بل اكتفى بأن استدار على عقبيه عائداً إلى الداخل ، تاركاً الباب مفتوحاً بإشارة فهم منها مارتيل أن عليه الدخول ...
مط مارتيل شفتيه باستغراب و عدل نظارته ،
ثم خطا بحذر فوق الأرضية الخشبية المغمورة بالمياه محاولاً عدم التفكير في ماهية أو نوع هذا التسرب !
كانت الشقة من الداخل صغيرة للغاية .. و بدت غرفة الجلوس كممر تقع على جهتيه المتقابلتين غرفتا نوم ، و يطل من زاويته ما بدا كمطبخ ..
و الرجل الذي فتح له الباب كان قد جلس أمام تلفاز قديم .. على أريكة ثنائية أشد قدماً !
عمت الفوضى من ملابس و بقايا أطعمة كل زاوية في الغرفة ،
و بدا لمارتيل و كأن إعصاراً قد ضرب الشقة ..
تبرع الرجل بأن أشار إلى حجرة رايان ، دون أن يرفع عينيه عن شاشة التلفاز !
و بالصمت ذاته .. خطا مارتيل فوق تلك الفوضى التي راح بعضها يسبح بالمياه الطافحة إلى الغرفة المعنيَّة ..
رفع يده بتلقائية ليقرع الباب استئذاناً قبل الدخول ،
ثم شعر بسخافة ذلك .. إذ كان من الصعب عليه أن ينظر إلى هذا المكب كمنزل فعلي للبشر !
أخفض يده و أدار مقبض الباب يفتحه بصمت عوضاً عن ذلك ....
لم يتفاجأ من صغر حجم الغرفة التي بالكاد استوعبت السرير الفردي و مكتب الدراسة القديم الوحيدين الذين حوتهما ...
كانت غرفة خانقة بحيث لو وقف الشخص في منتصفها لسهل عليه لمس جدرانها الأربع من مكانه !
لكن الذي بدا له غريباً كان مدى الترتيب الذي بدت عليه الحجرة مقارنة بالكارثة التي تحل في الخارج ...
ثم ذكر نفسه بأن رايان ابن صوفيا و تيري ... ما يجعل ميله إلى الترتيب و النظام في أشياءه غير مفاجئ البتة !
كان رايان جالساً بعبوس فوق سريره طاوياً ساقيه ،
منكباً بتركيز في دراسة مجموعة كتب أمامه .. يقرأ فيها ثم ينتقل لتدوين ما يقرأه في أوراق بين يديه ...
لم يرفع عينيه عن كتبه وهو يقول بعدائية :
_أريدك خارج غرفتي حالاً بيل ... و يكون أفضل لو تختفي للأبد هذه المرة !!
لم يتحرك مارتيل أو يقل شيئاً ، فرفع رايان عينيه ليرى سبب تَلَكُئه ..
كان أكثر من مستعد لإيضاح رأيه بـبيل في هذه اللحظة ،
و كان سيباشر بتعداد الأسباب التي لأجلها يحضر عليه الاقتراب من حجرته ...
لكنه تسمر مدهوشاً حين رأى أن الرجل الواقف عند بابه شخص آخر ..
شخص على النقيض تماماً من بيل ،
مهندم الثياب ، متأنق ببذلة بنية دون ربطة عنق ، كانت تمنحه بجانب نظاراته الطبية مظهراً وقوراً .. لم يفسده سوى ميْل شعره الأشقر الدائم إلى التجعد بفوضى ، و بريق عيونه الخضراء المتقدة بطباع تبدو نزقة أو متنقاضة أغلب الأوقات !
_مارتيل ؟!
أومأ مارتيل برأسه ثم أغلق الباب وراءه ،
استطاع أن يرى كيف تجهم رايان بعدم ارتياح حال أن رآه و أغمض عينيه لحظة كمن ضبط في موقف لم يكن يتمنى أن يُرى فيه !
ابتسم مارتيل له ، و قال بنبرة أوحت بصفاء نية :
_كيف حالك ؟ لم أرك منذ فترة.
_كيف حالي ؟!
قال رايان غاضباً وهو يرمي كتابه جانباً ثم واصل بسخرية :
_أنا واثق بأنك تستطيع أن ترى جيداً كيف هي حالي ...
لما لا تعفيني من أي محادثة و تذهب لترفع تقريرك إليهما في الحال ؟! سيكونان سعيدين جداً حين يعرفان أن ما أرسلاك للتحقق منه صحيح !
مال مارتيل برأسه جانباً محاولاً التعامل بهدوء مع سخط رايان المفاجئ :
_لا أفهمك ....
_بل تفهم جيداً مارتيل .... و هل ستخبرني أن هذه زيارة إجتماعية ؟!
عدل مارتيل نظارته بينما يخطو إلى مكتب دراسة رايان ،
سحب الكرسي ليجلس عليه حين بدا واضحاً أنه لن يتلقى دعوة ليتفضل بذلك !
ثم رفع كتاباً التقطه من الطاولة و راح يتصفحه دون إهتمام ، قال :
_بالطبع هي زيارة اجتماعية ، نحن أبناء عم !
هس رايان من بين أسنانه بغضب :
_أنا لست "براندون" بعد اليوم !
رفع مارتيل الكتاب الذي بين يديه ليُريه إياه :
_يقول اسمك شيئا آخر !
أخذ رايان نفساً عميقاً ليهدأ قبل أن يسأل :
_ماذا تريد ؟!
_لا شيء ، صدقني لست مهتماً بإقناعك بالعدول عما تفعل .... يمكنك أن تواصل دور المراهق المتمرد الذي ترك بيته قدرما تشاء ، فهذه مشكلتك مع والديك !
قطب رايان حاجبيه .. لم تعجبه الصورة التي قدمها مارتيل عنه ، لكنه لم يرغب بتفسير شيء له أو لأي أحد آخر ، قال بفظاظة :
_الأفضل لك ألّا تفعل ، و الآن .. لدي بحث مهم لأكتبه فهلّا عذرتني !
حدق به مارتيل لدقيقة قبل أن يسبل جفنيه و يقول بهدوء :
_صوفيا كانت تبكي حين اتصلت بي ..
لم تفاجئ رايان هذه الحقيقة ، فقد كان لديه توقع مسبق عن ذلك ..
لكن هذا لم يمنع شعوراً بالضيق بدأ في صدره ... والدته تبكي ؟!!
لقد مرت أشهر الآن و أعتقد أنها قد أصبحت أكثر اقتناعاً بالأمر و أقل بؤساً ..
لم يفهم لما قد تظل تبكي أو تحزن ؟! كان كل من والديه قد تجاوز الأمر تماماً بعد شهر فقط من إختفاء جوني !
و رغم شعوره بالسوء إلا أنه قد أحنقه في ذات الوقت أن تحزن أمه عليه أكثر مما حزنت على جوني وهو ابنها الحقيقي ... كان ذلك تقريباً .. أشبه بالخيانة في مفهومه !
عاد مارتيل يقول حين لم يجد منه أي تعليق :
_طلبت مني أن أتحدث معك ، أخبرتها بأننا لسنا على هذا القدر من الوفاق بحيث أؤثر عليك ، لكنها رجتني أن أحاول على أية حال !
هز رايان كتفيه بلامبالاة ظاهرية .. كانت صورة أمه المتألمة تضايقه أكثر مما قد يود الاعتراف به ، تمتم :
_كنت سأترك البيت يوماً على أي حال ، لست أرى ما المشكلة إن حدث ذلك ابكر قليلاً !
زفر مارتيل ساخراً قبل أن يقول :
_اوه أرجوك ! ... لا تجعلني ابدأ بسؤالك عما تخطط له للمستقبل ، لقد بلغت السابعة عشرة قبل بضعة أسابيع فقط .. ماذا ستفعل ؟ هل ستتخرج و تبدأ بوظيفة دائمة كنادل أو ربما يستهويك العمل كسائق للشاحنات ؟!
منحه رايان نظرة غير ودية ، قبل أن يلتقط كتابه مذكراً إياه :
_قلت بأنك لن تحاول اقناعي بأي شيء !
_حسناً .. كذلك لا تنتظر مني أن أوافق على تفاهات أنت نفسك لا تؤمن بها !
همهم رايان وهو يخفض رأسه في الكتاب أكثر عله يستعيد تركيزه :
_جيد .. إذا كنت قد انتهيت ، دعني أعمل !
_أنا لم ابدأ بعد.
قالها مارتيل و هو يميل بمقعده إلى الوراء قليلاً عاقداً ذراعيه ،
ثم أضاف بابتسامة ماكرة :
_و انتبه لما تطلبه ، فلدي شيء أطلعك عليه ... و أنا واثق بأنه سيعجبك !
_حقاً ؟ أتساءل ما هذا ؟!
تجاهل مارتيل سخريته :
_لما لا تخبرني سبب غضبك على والديك أولاً ؟!
_لما لا تقود نفسك خارجاً و تصفق الباب وراءك ؟!!
صمت مارتيل بضع لحظات ، محاولاً السيطرة على أعصابه .. ثم قال بهدوء زائف :
_أنت وقح لدرجة أرغب معها في ضربك .. و صدقني كنت لأفعل لو أني لا أضطر لتفسير هذا لصوفيا !
التوت شفتا رايان بابتسامة مستهزئة :
_تخشى والدتي إذاً ؟ لما لا تجرب حظك على أي حال ... و حاذر النظارة و أنت تفعل !
عقد مارتيل حاجبيه و ضيق عينيه .. يرمقه بنظرة فولاذية كجواب ،
استطاع رايان أن يبادله التحديق بضع لحظات قبل أن يستسلم و يدير عينيه متنهداً ، غمغم :
_آسف ..
لم يبدو كذلك البتة ، لكن تعبير مارتيل لانَ قليلاً :
_لما أنت دفاعي إلى هذا الحد ؟!
_ربما لأن جميع من حولي لا ينفك يخبرني كم تصرفي غبي و أحمق !
_لن أقول شيئاً ، أريد أن أعرف وحسب ... فلا أظنك تغادر منزل والديك دون سبب.
صمت رايان بضع لحظات ثم هز كتفيه بلامبالاة :
_ما من شيء ليقال ، هما ليسا والدي !
_فعلاً ؟!
استنكر مارتيل ، و بدا غاضباً لأول مرة منذ مجيئه ، استفزته لامبالاة رايان فاستطرد بحدة :
_ليسا والديك ؟! لمجرد أنهما لم يُنجباك ؟!
لقد عملا على رعايتك و تنشأتك ليجعلا منك الإنسان الذي أنت عليه الآن ...
كونهما قد تبنياك لم يمنعهما من معاملتك كابن حقيقي ،
مازال تيري يحوم حول مقر عملك ليَطْمَئن عليك فيُطمئن بدوره زوجته المهمومة ،
مازلت صوفيا تبكي أسى فراقها لك .. و كل ما قد تقوله بهذا الشأن هو .. "ليسا والدي" ؟!
أجهل كيف يمكنك أن تكون جاحداً إلى هذا الحد !!
قاوم رايان رغبة صبيانية بسد أذنيه بسبابتيه ، أو طرد مارتيل خارجاً ...
لطالما اعتقد ألّا أحد يلقي المواعظ كـمارتيل ..
الرجل موهوب بجعل المرء يشعر بالذنب و السوء حين لا يفترض به أن يشعر ، و تخيل أي أب مروع سيكونه حتماً !
تنهد قائلاً ببطء :
_حسناً .. هذا ليس السبب ، أنا لست غاضباً من اكتشافي بأني ابنهما بالتبني ، كنت غاضباً قبلها بوقت طويل ... ذلك عقد الأمور و حسب.
_ما الأمر إذاً ؟! ما هو هذا الذي يجعلك تبقى غاضباً كل هذه الفترة و غير قادر على مسامحتهما ؟!
راح رايان يطرق طرف قلمه على السطح الصلب للكتاب الذي في يده ، و بانزعاج تام سأل :
_أتصمت و تغلق هذا الموضوع إذا أجبتك ؟!
أومأ مارتيل برأسه إيجاباً ،
و راقب ملامح رايان تفقد سخريتها و غضبها شيئاً فشيئاً ، بينما يحدق أمامه في الفراغ.
_كنت السبب في اختفاء جوني ...
ابتدأ رايان يقول غافلاً عن الحيرة و الإستغراب الذين انعقد لهما حاجبا مارتيل ..
فاختفاء جوني أمر مرت عليه أربع سنوات تقريبا و لم يعرف الأخير علاقته بالموضوع !
أردف رايان بنبرة شاردة :
_أعلم ذلك .. و هما يعلمان أيضا ، لكنهما كما العادة يقرران التخلي عن دور الأبوين الصالحين هذا حين يتعلق الأمر بـجوني ... تفضيلهما الواضح لي كان دوماً يغضبني لكنه كان محتملاً بطريقة ما ... أما واقع أن جوني بخلافي هو ابنهما الحقيقي فقد غير كل شيء ..
التفت إلى مارتيل بمزيج من الحيرة و السخط ، و استطرد :
_إن ذلك غير منطقي البتة مارتيل ، يبقى جوني مختفياً لأربع سنوات دون أن يعلم أحد عنه شيئاً فلا يباليان ،
بينما كل هذا النواح لأجل مغادرتي البيت و رفضي مخاطبتهما رغم أننا في المدينة نفسها و نرى بعضنا أأعجبني ذلك أم لا ؟!
لم يعرف مارتيل المتفاجئ ما يقول ، و راح يتمتم :
_ربما لديهما أسباب و ...
قاطعه رايان و قد استعاد غضبه :
_إن كان ثمة أسباب فهما لا يرغبان بمشاركتها ، و أنا لست مهتماً فالوضع برمته غير سوي ، أريد الابتعاد فحسب ... و عليهما تقبل ذلك !
أراد مارتيل أن يخبره كم أن تصرفه مبالغ فيه ، لكنه شعر أن رايان لم يطلعه إلا على جزء من القصة و ليس له أن يحكم من خلاله ، قال :
_حسناً ، لكنك أنت أيضاً ...
لكنه قوطع مجدداً :
_كلا مارتيل ... قلت بأنك ستترك الأمر !
هم مارتيل بأن يعترض لكن رايان سبقه إلى الكلام مستطرداً :
_و قد تبدو لك هذه الحياة سيئة و مروعة كونك ناجحاً ميسوراً جدا لكنها ليست كذلك .. ثق بي .. أنا أعرف ما أفعل فانسى هذا الموضوع !
حملقا ببعضهما للحظة ، و لم يستطع مارتيل -تحت نظرات رايان المصرة على الرفض- منع نفسه من التعاطف مع والديه ... لاشك و أنهما قد عانيا لسنوات فعناد الفتى كارثة !
أطلق زفرة استسلام ، و رفع يديه مؤكداً ذلك بينما يتراجع في مقعده ،
فاسترخى رايان و قال :
_دورك إذاً .. قل ما لديك و أسرع رجاء ، فلدي وظيفة لأنتهي منها قبل انقضاء الليل.
ابتسم مارتيل قليلاً حين تذكر موضوع مكفيل و اتفاقه معه ،
نحى ما سمعه عن ذهنه مؤقتاً ... ثم شرع يخبره بما جرى باكراً هذا المساء ...
×× الرجاء عدم الرد ~