لم يلبث الخبر أن وصل إلى الوالد .. ما أن وصل الخبر ..
حتى حل كالبرق صاعقا إياه بقوة .. فقد عقله جرَّاءَ الصدمة ..
انطلق مذعورا إلى ذلك المنزل الذي يتوسط القرية .. يلحق به ابنه" أوكي " صامتا ..
بينما رجعت الأخت الصغرى " مياكي " إلى المنزل بعد هنيهة لما رأت حال والدها حين وصول الخبر إليه ..
ذهب مترجيا إلى منزل كبير القرية : " أرجوكم .. ابنتي في خطر ..يجب أن نذهب هناك لمساعدتها .. ! "
وصل ذلك النداء إلى جميع الحاضرين في تلك الساعة المتأخرة من الليل ..
لم يرد أحد منهم أن يخذله .. أخذ الجميع يعد العدة للإنطلاق ..
لكن صوتا أجشا قاطعهم فجأة : ماذا هناك يا ناغاساكي .. ؟
خرج كبير القرية من منزله ثائرا متهوجا يراقب المشهد غاضبا .. قبل أن يصيح فيهم معاتبا :
ما الذي تفعلونه أيها الأغبياء ؟! هل تصدقون أن فتاة صغيرة مثل " ابنة ناغاساكي " يمكنها أن تتوجه إلى تلك القلعة أو حتى تفكر في ذلك ؟! ظننت أنكم أكثر عقلا من ذلك .. ما الذي تفعلونه .. ؟! ترغبون بالذهاب إلى هناك ؟! أنتم ؟!
تنهد بغضب : هيا أقلعوا عن هذا التفكير الساذج .. ! لا قوة لكم به مهما فعلتم .. ! ولن تخرجوا من هناك أحياء .. !
لكن والدها تقدم منه مصرا : ولكن ماذا عن ابنتي .. !!
-لا داعي للقلق .. ثق بي يا رجل وستكون بخير .. بذمتي ستعود لك سالمة..
ظلت كامي تنظر إلى ذلك الشخص الغريب الذي يتقدمها .. الذي لا تزال لا تعرف عنه سوى الاسم وعلاقة مجهولة مع والدها .. لكن لا يزال أمل في الخروج من هذه المتاهة المظلمة من الممرات قائما في داخلها ..
سألته في أمل :
من أين طريق الخروج.. ؟!
-لا يوجد طريق للخروج ..
-كيف ؟؟!! ولكن الباب الذي دخلت منه ......
-ذلك الباب يفتح من جهة واحدة ..
صمتت وطأطأت برأسها .. ثم عادت لتقول في إصرار :
ألا تعرفون أي طريق آخر للخروج ؟!
ظل صامتا لبعض الوقت .. وتعلق الحوار برهة .. يئست من سماع الجواب ..
ثم قطع صوته الصمت فجأة وهو يتوقف عن السير : هناك طريق واحد للفرار..
انفرجت أساريرها وابتسمت بسعادة ..
ثم قالت بحماس : هل يمكن أن تدلني عليه .. ؟
وكان لا يزال متوقفا في مكانه ,، التفت إلى كامي التي كانت وراءه ثم قال : حسنا .. اتبعيني ..
التزمت أمره وسارت خلفه برضى ..
لم تعد تخاف المصير .. شعرت أنها تثق به .. كان يجب أن تثق به .. لأنه كان أملها الوحيد .. سَهَتْ عن العالم من حولها .. تلك المشاهد القبيحة عن جانِبَيْها ،، لم تعد تراها .. لقد كانت منغمسة في التفكير ..
كانت لا تزال تفكر فيه .. سيمون .. كيف يمكن .. ؟؟
" لقد وثقت بك ... "
أدى بهما السير المتواصل في تلك المتاهة المظلمة إلى درج ضيق متهالك مؤد إلى أعلى .. كان يتقدمها .. الصمت لا يزال يعم المكان .. عدا صرير الدرجات الخشبية المتآكلة وصوت الريح التي تخترق الشبابيك وبضعة أصوات أخرى كالوطاويط المحلقة في الأرجاء ..
ومن ذلك الدرج .. ممر واسع طويل لا يختلف عن سابقه اللهم أن كان هذا أقدم عهدا وأبلى منظرا ..
وراء ذلك درج ثان ..
لم تعلم بالضبط كم استمر ذلك الوضع .. وهما يصولان ويجولان في الممرات المظلمة .. حتى توقف أمام باب خشبي قضى عليه العهد .. دفعه بهدوء ليصدر صريرا مزعجا أصدر صدى في الممر ..
وأخيرا دخلا إلى هناك ..
ألقت نظرة على الغرفة الصغيرة التي كانت بداخلها .. لم تر بها سوى نافذة عالية غاية في الصغر وجدرانا قديمة العهد توشك على الوقوع .. وعدا ذلك ..
لمحت بعد غير قليل من الوقت حجرا ثقيل مطبق على أحد تلك الجدران .. وفي أسفله حلقة ربط بها حبل يتدلى طرفه الآخر في ركن ثان من الغرفة ماراً من خلال بَكَرَةٍ في السطح ..
وقبل أن تستطيع التفكير أكثر أو التساؤل عن سبب وجودها في ذلك المكان.. كان تسوغارو قد أخذ مكانه مسرعا عند النهاية الثانية للحبل ..
ثم قال لها : << هذا هو المخرج الوحيد الذي أعرفه .. وراء ذلك الحجر فتحة صغيرة تؤدي بك إلى ممر .. من خلاله يمكنك الخروج .. سوف أقوم الآن برفع الحجر من خلال سحب هذا الحبل .. وما إن ينزاح تَمُرِّينَ أنتِ في الممر بسرعة ..وبعد ذلك .. >>
وحين طال صمته سألته : << وبعد ذلك .. ؟
-لا أعلم ... لم يسبق لي أن ذهبت أبعد .. >>
نظرت إليه في شيء من الاستغراب والفضول مع الشك .. : ولكن ما الذي يبقيك هنا حتى الآن .. ؟ لماذا لا تهربون من هذا الجحيم بينما هنالك مخرج .. ؟>>
تنهد وهو يستعيد ذكريات الماضي : << لقد حدث ذلك منذ فترة ،، إنها قصة .. قصة طويلة .. ولا شك في أنك ستعرفينها يوما ما .. >>
وفي تلك اللحظة تناهت إلى أسماعهما أصوات غريبة .. تشبه عويل الذئاب.. أو الصياح ..
أخذت الفتاة تتسائل وقلبها يدق بشدة .. عندئذ كان الآخر يضغط بكل قوته على ذلك الحبل .. ثم قال بصوت حازم حين رأى الحجر ينزاح بالكاد .. :
هيا .. لا يوجد وقت لتضيعيه .. !
لكنها لم تتحرك ..
ظَلَّت واقفة بدون استجابة لما قاله ..
فجأة شعرت بالعجز ..
شعرت بالضعف ..
تأنيب الضمير أخذ يحرق قلبها ويزيدها ألماً على آلامها ..
شعرت عندها برغبة جامحة في البكاء ..
أرادت أن تبكي لتعبر عن مشاعرها ..
قالت بصوت يتخلله الحزن :
" أنا ... عمي ... أنا لا أقدر ... "
قال لها متعاطفا وقد أفلتت يداه ما كان يمسك به :
" كامي ... "
عند إذ صرخت وكأنها تكلم نفسها أكثر مما تكلمه : " ما الذي فعلته.. ؟! بل ما الي حققته .. ؟!
لم أستطع فعل شيء ... لقد وعدت الخالة أن أعيد لها طفلها .. ولكنني لم أفعل .. عرضت حياة الجميع للخطر .. لم أستطع منعه عن القرية ولو لليلة .. وثقت به كل ذلك الوقت .. وفي الأخير أكتشف أنه .... "
أحست بأنها لم تقدر على الإكمال .. غصة قوية بحلقها منعتها من ذلك ..
أكملت وقد بللت الدموع خديها : " ما هي الجدوى من كل هذا ؟! أنا لا أفعل شيئا سوى الهروب من الواقع ... "
تمالكت نفسها بعد أن كادت تدخل نوبة بكاء هيستيرية حادة ..
لكنه تقدم منها ورَبَّتَ على كتفها بحنان أَبَوِّيّْ ..
<< كامي .. أنا أعلم بِمَ تحسين الآن .. لقد شعرنا جميعا بهذا الشعور في وقت ما .. حتى أنا .. ولكنني الآن واثق .. أنكِ مهما ظننتي ومهما كانت فكرتك عن نفسك .. فاعلمي جيدا .. أنه يمكنك أن تكوني أفضل من ذلك .. وأنا واثق من أنك سترجعين هنا يوما ما .. وثقي .. أنك سترجعين يوما ما بعد أن تصبحي أكثر قوة وشجاعة ..
أنت يمكنك أن تفعلي الكثير .. يمكنك أن تخلصي أناكا .. من الخطر المحدق بها في كل وقت .. يمكنك أن تتغلبي عليه .. أنت لا تزالين في بداية الطريق.. >>
واتبع ذلك بابتسامة واثقة مطمئنة ..
وقد أعطت الكلمات مفعولها المنتظر .. توقفت الفتاة عن البكاء ونظرت إليه بنظرة جادة .. شعرت بما كان يرمي إليه ..
<< لقد فهمت ما ترمي إليه ... أنا ... أشكرك .. >>
في تلك اللحظة شعرت بالشجاعة .. أحست بأن كلماته تلك أدخلت الثقة في نفسها ..
شعر بالسعادة لأن أثر عليها ذلك التأثير .. كان سيعود إلى مكانه من جديد .. ولكنه توقف ورجع إليها مرة أخرى .. وأدخل يده في ثيابه ثم أخرج منه صندوقا صغيرة مقفلا بإحكام بقفل منيع .. وقال بصوت أكثر هدوئا .. :
<< هذا هو ما يرغب فيه سيمون .. احتفظي به .. >>
اخذته منه وهي مندهشة .. فقال .. :
<< أنت الآن كفؤٌ لذلك >>
ثم أعطاها ظرفا صغيرا مكتوب عليه بحبر اختفى بشكل غير كلي :
<< وأرجو أن تعطي هذه لوالدك .. >>
أخذت قطرات العرق تتقاطر من يديه وهو يشد ذلك الحجر الثقيل إلى أعلى..
وعندما انزاح قليلا .. استعدت كامي لمواجهة مصيرها .. عرفت أنه الإختيار الوحيد .. وتذكرت والديها .. لا بد أنهما قلقان عليها الآن ..
وتذكرت آكي المسكينة .. أخذت تتساءل عَمَّ تقول لها .. ولكنها قررت أن لا تخفض ذراعيها لهذه الأفكار متناسية ما ينبغي أن تفعله ..
وتذكرت سيمون ..
سيمون .. أية حبال صداقة وأية مشاعر تلك التي كانت تكنها له ؟!
" سيمون .. لسوف أرجع ثانية .. أرجوك انتظرني .. "
ثم التفتت ناحية تسوغارو .. وقالت :
<< أشكرك يا عم على المساعدة .. أعدك أن يبقى ذلك الصندوق بأمان عندي .. وأعدك أن أرجع ..
-حافظي عليه من أجلي .. >>