في مرتع الوحوش غدا - الموتة الثانية
تخلل مسامعه حديث دانتي مع ويلسون والذي كان سيأخذ ويليام الى غرفته، فأشاح ببصره جهتهما، لتقع نظراته على نظرات ويليام التائهة، ويهمس بدهشة "انه ويليام!"
.
.
.
اندفع نحوه حيث حركه سيل من العواطف، فقد أصبح له اخ أكبر لا تفصله عنه سوى خطوات قليلة، تبعثر كل ما بداخله من كلام حين تناهى كلام ويليام الى مسامعه:
- اكمل المسير ويلسون..
- كما تريد سيد ويليام..
خبى بريق ابتسامته وهو يرى ازدياد المسافة بينه وبين ويليام، وكأن ويليام يعد الحواجز ويحصن ذاته منه، بينما كان الآخر في صراع مع ذاته بعدما ارتسمت ملامح جايدن اللطيفة عميقاً في ذاكرته، وشيء ما في ابتسامته المشرقة كان قد واسى وحشته، استغرب شيئاً وهو تلون عيني جايدن بلونين مختلفين، حيث كان أحدهما اخضراً كما عيني ويليام ووالده والاخرى باللون العسلي، نفض كل ما جال رأسه لحظتها ليصب تفكيره في السؤال الأهم وهو هل سيستنفد ما توغل بداخله من حقد تجاه والده على براءة جايدن؟
كان متنفسه الوحيد هو البيانو، وها هو يجلس امامه وقد انسابت يداه على المفاتيح بتلقائية، مفرغاً ما بروحه المثقلة من احزان، يعزف ذكراها على صورة سيمفونية تواسي احاسيسه وانحداراتها المباغتة، يحتاج سيمفونية والدته ليستعيد الطمأنينة التي خلا منها عالمه الكئيب..
بينما كان جايدن يجول في القصر بحثاً عن ما يسليه في وحدته، تخللت سيمفونية ويليام مسامعه، انها ذاتها السيمفونية التي علمته اياها زوالين في الميتم، اخذ يسير الى حيث يجثم ويليام مقتاداً بالألحان وطيف روزالين الذي استحضرته الموسيقى، سكنت خطواته وهو يرى الشخص الذي يشكل الالحان، لكأن طيف روزالين اخذ يهمس في اذنه حاثاً إياه على الاقتراب، فدنا من ويليام بخطوات رشيقة ليرخي بكفه على مفاتيح البيانو واخذ يعزف ألحانه التي تداخلت مع الحان ويليام في صورة متجانسة، توقف ويليام عن العزف بعد ان شعر بجايدن، ليتوقف الاخر ايضاً وقبل ان يتحدث مبرراً لفعلته، شهد عودة ويليام للعزف وهو يسدل بجفنيه على عينيه الخضراوين بهدوء وكأنه يرحب به، ابتسم بسعادة غامرة وعادت انامله لتداعب مفاتيح البيانو، ليشكل الاثنان الحاناً متناغمة تتغنى بها عواطفهما، كانا يستشعران وجودها مع كل نغمة يصدرها البيان، متناسيان واقعهما ومتمسكان بلاواقع روزالين التي رحلت مخلفة منصبها كقائدة للأوركسترا لهما ليتشاركاه..
" لفنا دفء موسيقاك.. وجمعنا بكيف لا ندري امي"
تدور عجلة الزمن، فتزدان الحياة، تزهر من ثم تثمر مشاعر ألفة آن قطافها، والمخاوف تصدح في كوامن من عاش السلام الداخلي طويلاً، ومع كل لحظة سعيدة يعيشها يتساءل في نفسه ان كان القطاف سينتهي وستتحول جنائن البهجة التي غرس نفسه بها الى صحراء قاحلة، فهل سيحل اليقين محل الشكوك البائسة؟ ام ستندثر المخاوف ويعيش في سلام سرمدي؟
مرت ثلاثة اعوام مذ دخل جايدن القصر وأصبح من اسياده، ثلاثة اعوام وقد توارت اشباح الحزن التي كانت تحوم حول القصر بعد رحيل روزالين، ثلاثة اعوام وقد فتح القصر ابوابه مرحباً بالطيور التي غردت بنشوة السعادة، وفي حديقة القصر وعلى العشب الاخضر الذي يشع ببهجة وحيوية الربيع، يُسمع صوت صليل سيفان اشتبكا في قتال محتدم، حيث كان الاخوان يتبارزان وكل منهما يرتدي بذلة مبارزة بيضاء وقد حمى رأسه بخوذة المبارزة، هتف ويليام وهو بالكاد يلتقط انفاسه:
- لا تتهاون في القتال معي.. طبق كل ما تعلمته في الأمس!
- لا تندم على كلامك لاحقاً ويلي!
قالها جايدن وانقض على ويليام بسيفه، وبحركة رشيقة من ويليام تفادى السيف الا انه سكن مكانه بعد ان أحس بألم في صدره، لقد انفعل كثيراً في القتال، حط راحة كفه على صدره وكاد السيف ينفلت من يده إلا انه احكم بقبضته عليه على صوت جايدن:
- ويل؟ ماذا حدث لك؟ هل انت بخير؟!
دنا جايدن منه وأوشك على خلع خوذته، فاشهر ويليام بسيفه ليلامس صدر جايدن في محاولة لتمويه ما حل بقلبه من ألم:
- لقد نلت منك!
- ويل! ليس عدلاً لقد غششت..
- كيف غششت وانت من فقد تركيزه!
وخلع خوذته ليظهر شعره الكستنائي المبلل بعدها وبعض من الخصل التصقت بجبينه، اخذ يتنفس بعمق وهو يقول:
- لنكتفي بهذا القدر من المبارزة اليوم..
- لن افقد تركيزي في المرة القادمة ولو شارفتَ على الموت!
وخلع خوذته بانزعاج ليحس بذراع ويليام تجره معها للأرض حيث استلقى الاثنان على العشب، قهقه ويليام وقال:
- اجاد انت؟! لن يكون لك اخ أكبر بعدها!
- فليكن أيها الغشاش!
وأحس بويليام ينقض عليه ليتعارك الاثنان على العشب الذي لون بذلتيهما بالأخضر، اخذا يتقلبان على العشب حتى استقرا امام حذاء ويلسون:
- ما هذا يا سيداي الصغيران.. هذه ليست اخلاق النبلاء!
هب ويليام واقفاً على ساقيه ومد ذراعه لجايدن ليشده نحوه وقال وهو يضع كفه الآخر على كتف ويلسون:
- اهتم بشؤونك ويلسون..
- المعذرة سيد ويليام.. لكنني جئت لإخباركما ان وقت تجهيزكما للحفل قد حان..
وهل يعد جنون منهما ان يقفا امام صورة روزالين بأبهى حلة وهما يخاطبانها؟ فيقول ويليام بنشوة من اشتهى الحياة اخيراً:
- امي لقد اتممت اليوم عامي الخامس عشر كما تعلمين.. لكنني لن احتفل بعيد مولدي فاليوم سيتم الاحتفال بي كوريث آل ادموند الرسمي!
ويقول جايدن وقد تجلى الاستياء على معالم وجهه:
- امي! لن يسمح لي بحضور الحفل لأنني دون السن اللازم لذلك..
رد عليه ويليام وقد طوق كتفه بذراعه:
- الم اقل لك بأني سأسمح لك بدخول الحفل لدقائق..
- وما الذي سأجنيه من هذه الدقائق ان كنت انت من سيستمتع بالحفل كاملاً!
- وكيف لصاحب الحفل ان لا يحضره كاملاً!
داهم حديثهما دخول ويلسون بعد بضع خبطات على الباب، يحمل بين يديه صندوقين فاخرين، وقف امامها وقال برسميته المعهودة:
- اعتذر عن المقاطعة سيداي.. لقد امرني السيد ريتشارد بإعطائكما هذين الصندوقين..
اخذ ويليام صندوقاً وكذلك فعل جايدن، وما ان فتحا الصندوقين حتى اخرس مداركهما بريق ما بداخله، انه دبوس على شكل بيغاسوس الحصان المجنح فضي اللون، وقد رصع بشيء من الالماس، اخرجا الدبوسين من الصندوقين وساعدهما ويلسون في وضعهما على أحد أطراف بذلتيهما الأنيقتين، قال جايدن والحماس يشع من عينيه:
- فلنذهب لنشكر ابي.. ارجوك ويلي!
- لا داعي لأن تذهبا لقد جئتكما بنفسي..
قالها ريتشارد الذي يقف بأرستقراطية على مقربة من باب القاعة خلفه حشد من الخدم، ليستقطب انظار الاخوين ودهشتهما، هرع جايدن نحوه بينما سار ويليام على مهله ليقفا امامه مباشرة، كانت نظرات جايدن معلقة بريتشارد بسرور واضح فشفافية مشاعره كصندوق زجاجي يُرى ما بداخله وإن كان الصندوق مؤصداً، وعلى النقيض تماماً كان ويليام الذي يجيد ستر مشاعره فلا يتجلى على تعابيره سوى السكون البارد، ربت ريتشارد على رأسيهما بحنو وقال:
- هل اعجبتكما الهدية؟
- نعم!
اجتمعت الكلمة في نبرتين مختلفتين، فقد كانت نبرة جايدن بالغة السعادة بينما كانت نبرة ويليام تخلو من أية اضافات، هادئة جليدية كما اعتادها والده منه، استطرد ريتشارد:
- الحصان المجنح بيغاسوس هو رمز تناقله اجداد آل ادموند يرمز الى القوة والعدالة.. له القدرة على تحويل الشر الى الخير وآن الاوان ان تحصلا على بيغاسوس خاص بكما..
كان يخاطبهما وهو يستمتع بالذهول يكتسح انظارهما، وقال منهياً حديثه مخاطباً لصورة روزالين هذه المرة:
- لقد كبر ابنانا روزا وقد حصلا على رمز العائلة الخاص بهما..
تلفظ بسخط منزوع الرحمة وبظهر كفه اخذ يمسح على خدها بتهديد:
- تعلمين ما عليكِ فعله صحيح؟
تقف قبالته في عنفوان خبثها وحيوية شرها، لم يتحرك منها سوى شفتاها وهي تقول بنبرة حازمة:
- أجل سيدي!
دنا من اذنها ليهمس بصوته الخشن وكفه يتخلل خصل شعرها:
- لن اغفر لأي خطأ..
انتشل كفه من شعرها ليدفع بها للخلف ويتوجه لمن كان بجانبها، الشخص الذي ان كان المكر ليتجلى على هيئة بشر فقد تجلى على هيئته، قبض على فكه بعنف كاد يخلعه معه:
- اخذوا ما ليس لهم وكذلك سنفعل نحن.. احضرا لي الطفل..
وزمجر:
- اي خطأ ونهايتكما ستكون على يدي قبل ان ترحمكما مشنقة الشرطة!
تراقصت ابتسامة عابثة على ثغريهما، وبرقت عيناهما المتعطشة للون الدم، وقالا بذات الصوت:
- حاضر سيدي!
وهل لبذخ الاثرياء من حدود؟ فقد توشح القصر بوشاح الترف بسبب ليلة واحدة، وبسبب ليلة واحدة أصبح كل ركن منه ينبض بالفخامة، ليس الامر وكأنه لم يكن كذلك في السابق، الا ان حدث تتويج الوريث يقتضي صب سيول من الاموال لتضفي الواناً وبهجة على ما بهت لونه وانتزعت وقائع الحزن الذي حل بالقصر بهجته، استقبلت قاعة الحفل في القصر فوجاً من الضيوف، وكاد التوتر يكبل ساقي ويليام الذي لم يعتد مخالطة هذا العدد الهائل من الاشخاص بحكم مرضه، صاح صوت تردد صداه في القاعة:
- فليرحب الجميع بوريث آل ادموند.. ويليام جاي ادموند!
سكنت بعدها الحركة، وخرست الافواه واخذت العيون تترقب دخول الوريث المنتظر، من ثم فتحت ابواب القاعة لمن اتم عامه الخامس عشر تواً، وقد كلل ثغره ابتسامة توتر، استمد قواه من نظرات والده الفخورة، وسار الى حيث يقف والده واذناه تلتقطان كلمات التهاني، كان اول حدث من نوعه في حياته بدى في بدايته صامداً متماسكاً وان اعلن قلبه احتياجه لروزالين معه، الا ان رؤيته لجديه والدي روزالين كان قد فتح ابواب ذكراها المؤصدة فغاص في بحر من الذكريات التي سالت على خديه لاحقاً كدموع شجية..
وكما وعد ويليام جايدن، فقد سمح له بدخول الحفل في وقت لاحق، لم يكن حضور جايدن اقل صخباً من حضور ويليام، فقصة ابن آل ادموند المتبنى كان لها وقع من الفضول في اقارب ومعارف العائلة، دخل وبين يديه الكمان ليقف على مقربة من ويليام الذي استقر امام البيانو، تلاقت نظراتهما المشجعة لبعض، تلاها صوت انغام الموسيقى التي بدأا في نسجها ليهيمن صداها على قلوب من حضر الحفل..
- هل التقطتنا اية كاميرات مراقبة؟
- أجل سيدتي وتم التصرف بها..
- جيد!
وراحت تتحدث عبر جهاز اللاسلكي:
- إلى اثنان.. تمت السيطرة على غرفة المراقبة بنجاح.. حَوِل
- إلى ثلاثة.. عمل رائع لا تنسي ايقاف كافة كاميرات المراقبة.. حَوِل
- إلى اثنان..سأفعل! هل فرقتك مستعدة للمهمة التالية؟.. حَوِل
- إلى ثلاثة.. نحن على أتم الاستعداد! حَوِل
اغلقت الجهاز وزجرت بمن معها آمرة:
- فلتوقفوا عمل جميع كاميرات المراقبة.. وابحثوا عن سبيل لإطفاء اجهزة اللاسلكي الخاصة بحرس الباحة الخلفية للقصر!
جاءها صوت بعد دقائق يقول:
- تم إيقاف عمل كاميرات المراقبة..
وصوت آخر يقول:
- المعذرة سيدتي.. لم نجد اي وسيلة لإطفاء أجهزة اللاسلكي..
ضربت بقبضتها على الجدار بامتعاض:
- اللعنة! صلني بكاميرا الباحة الخلفية..
- حاضر سيدتي!
وما هي إلا ثواني حتى ظهرت لها صورة الباحة الخلفية على أكبر شاشة في غرفة المراقبة، أخذت تشير بسبابتها وهي تعد الحرس الموجودين في الصورة:
- ليسوا بالكثير.. اعتقد أننا سننجح في هذا!
التقطت جهاز اللاسلكي الخاص بها وتحدثت:
- إلى اثنان.. حصل تغيير في الخطة.. لم نتمكن من إطفاء أجهزة اللاسلكي الخاصة بالحرس.. حَوِل
- إلى ثلاثة.. اطلعيني على التعليمات الحديثة.. حَوِل
- إلى اثنان.. الحرس معدودون في الباحة الخلفية.. عليكم بالهجوم دفعة واحدة قبل ان يتمكن اي من حرس الباحة الخلفية الوصول الى بقية حرس القصر.. حَوِل
- إلى ثلاثة.. تم استلام التعليمات بنجاح.. حِوِل
أنهى محادثته معها وغير موجة البث في اللاسلكي ليقول:
- فليتأهب الجميع حصل تغيير في الخطة.. اتخذوا مواضعكم ولا تجذبوا الانتباه.. اهجموا في وقت واحد عند اشارتي وليكن اول اهدافكم اجهزة اللاسلكي الخاصة بالحرس..
واتخذ موضعه حيث تم تطويق الباحة الخلفية بعدد رجال فاق عدد الحرس، قرب جهاز اللاسلكي من فمه وقال بحماس دموي خافت:
- حان وقت العرض!
تقاذف الرجال من مواضعهم في لحظة، والتحم الطرفان في لحظة تلتها، وبحكم العدد لم يصمد الحرس طويلاً بعد ان حلت عليهم زوبعة خرساء بغير احتساب، وغلف سكون الليل الباحة الخلفية بعد انتهاء المهمة البكماء..
دخل غرفته ورمى بحقيبة الكمان على الأريكة وقد نال الاستياء منه، ما من أحد يعاتبه على ذلك فالجميع منشغل بحفل التتويج، لا يزال سطوع انوار الحفل يتلألأ في مخيلته كمنبع ضوء يخرجه من عتمة الضجر، انتصب أمام المرآة واخذ يبعثر خصلات شعره بفوضوية، استرق بريق دبوس بيغاسوس انظاره، اخذ يعبث به وعيناه تبرقان بذات بريقه، قاطع تأملاته طرقات على الباب، فقال وعيناه على الباب:
- تفضل..
فُتح الباب، ودخل أحد الخدم مطرقاً برأسه وقال:
- سيد جايدن السيد ويليام يطلب رؤيتك في الباحة الخلفية..
تجلت الدهشة على ملامحه وقال بلهفة:
- ماذا؟ ويل يطلب رؤيتي.. هل سيسمح لي بإكمال الحفل حتى النهاية؟
لم يجد بداً من الذهاب، اطلق العنان لساقيه خارجاً من الغرفة لا بل من القصر الداخلي بأكمله وهو يعيد تسريح شعره بكفيه في عجلة من امره، بينما توغل الخادم داخل الغرفة واخرج مظروفاً صغيراً من جيب سترته ليضعه على الطاولة التي تقبع في منتصف الغرفة، وتسحب خارجاً بعدها..
وصل الى وجهته دون ان يلحظه احد من الخدم، ثمة ما اثار ريبته في المكان، اخذ يشيح ببصره يمنةً ويسرة عله يلتقط هالة ويليام، لاح امامه شبح شخص شق طريقه في الغيهب، مقترباً منه تنصب عليه الاضواء كاشفة عن ملامحه تدريجياً، سار للخلف بخطوات مترنحة وهو يتبين ملامح الخبث امامه:
- مرحباً أيها الصغير!
قالها الشخص بتهكم لينقض عليه كانقضاض أسد على فريسة لا حول لها ولا قوة، استنشق جايدن مخدراً قوياً بعدها سرى موازياً لمجرى الدم في جسده، فخارت قواه وأصابه الضعف لينهار مغشياً عليه بين يدي الخبيث..
كان ينتصف قاعة الحفل كنجم لامع، يأتيه الناس لينعموا بقليل من لمعانه مباركين له التتويج، لم يردع نفسه من الاستمتاع بكل دقيقة في الحفل، فقد وجد نفسه يقف امام بركة عكست صورته حين كان كسيراً تعيساً تحوم حوله اطياف الحرن، فنفض تلك الصورة من البركة لتظهر عليها صورته التي أحب وقد أحاط به كم من البشر الذين جاؤوا لمشاطرته وعائلته فرحة التتويج، كان يتلقى كلمات التهاني عن يمينه وعن شماله والابتسامة لم تفارق محياه إلا حين لمح رئيس الخدم يدنو من والده هامساً في اذنه، مما جعل الصدمة تعيد تشكيل تعابير وجه والده، الذي هرع خارجاً من القاعة دون ان ينبس ببنت شفة..
حل التوجس بأطرافه، ما الذي قد يدفع والده لترك الحفل في عجلة من امره وقد اكتسح التوتر معالمه؟ لم يركد مكانه طويلاً فقد شعر انه بركوده هذا سيغرق في وحل من الافكار السوداء، لذا سار متتبعاً خطى والده خالعاً رداء السعادة دون علم، وتاركاً الحفل وراءه..
وفي مكتب ريتشارد:
- هذا ما عثرنا عليه في غرفته سيد ريتشارد..
كان المتحدث دانتي خادم جايدن الخاص، والذي اعطى المظروف الذي عثر عليه في غرفة جايدن لريتشارد، استلم ريتشارد المظروف وفتحه بيدان مرتعشتان لتقع عيناه على المكتوب بداخله، تصاعدت ابخرة انفاسه المتوترة لهول ما قرأ، وضرب الطاولة امامه بجل ما اوتي من قوة مفرغاً شحنة الغضب التي اجتاحته وهو يصرخ:
- اللعنة!
شعر بالطاقة تسلب من ساقيه في لحظة، ليجد نفسه جاثماً على مقعده وقد التقى كفاه على ثغره في لحظة اخرى، وقال بصوت مرتجف:
- كيف حدث هذا؟
أجابه رئيس الخدم:
- سيطروا على غرفة المراقبة وتسللوا لداخل القصر سيدي..
اطرق برأسه داساً اياه بين يديه وهو يهمس بانكسار:
- ماذا عساي أن أفعل كاميليا؟
عاد لرفع رأسه من جديد وقد زفر بشدة محاولاً التمسك برباطة جأشه:
- لا يزال الحفل قائماً ولا اريد لأي من الضيوف أن يعلم بأمر اختطاف جايدن.. هل هذا مفهوم؟!
وشعر بمقبض الباب يدار ليفتح الباب على مصارعيه بجنون، كجنون العاصفة التي داهمت احاسيس الشخص الذي قام بفتحه، والذي كان يتنفس بعمق وقد اتسعت حدقتاه بصدمة مما التقطته اذناه، هتف ريتشارد الذي انتصب واقفاً على ساقيه من جديد:
- ويليام!
اقترب ويليام من ريتشارد بخطى غير ثابته وقد سبب له الانفعال من الألم ما عصر بقلبه السقيم، ونطقت شفتاه بوهن:
- ما الذي تقصده بالاختطاف؟ اين هو جايدن؟
وصرخ بجل طاقته:
- أين هو اخي؟!
كانت عينا ريتشارد على المظروف لا يريد لويليام قراءته، حين قال في محاولة يائسة لترويض جموح ويليام:
- هدء من روعك بني..
لحظ ويليام توتر والده وهو يرى المظروف، لذا اندفع نحوه غير آبه بمن التم حوله من الخدم واخذ الورقة الصغيرة التي كانت عليه، لتقع عينيه على مضمونها فيقرأه " الرقاقة مقابل ابنك.. حَكِم عقلك ولا تتواصل مع الشرطة فمصير ابنك بين يدينا" وما ان استوعب ما قرأه حتى احاد ببصره جهة والده وزجر:
- من هؤلاء.. من يكونون؟ ولماذا اخذوا اخي؟!
سكن مكانه وهو يرى انكسار والده، ولكأنه استدرك تواً ان جايدن لم يعد في القصر، ليس هذا فقط بل لا أحد يعلم اين هو الآن، وتحدث بهستيرية نافياً لواقعه:
- انتم تكذبون! انها مزحة صحيح؟ لقد اخبركم جايدن ان تفعلوا هذا كرد اعتبار لإخراجي له من الحفل أليس كذلك؟
واخذت مقلتاه تجوبان المكان بحثاً عن مجيب لتساؤلاته، ثم دلف خارجاً بعد ان لم يتلقى جواباً وهو يقول:
- سأجده بنفسي واخبره ان مزحته ليست مضحكة!
واقتاده جموحه إلى غرفة جايدن، وقد لحق به بعض من الخدم في مقدمتهم ويلسون الذي كان يكرر عباراته:
- سيد ويليام فلتهدأ ارجوك.. هذا مضر بصحتك..!
دفع ويليام باب الغرفة وهو يشعر بقلبه يتأوه ألماً، اخذ يبحث عن طيف جايدن بعينين يائستين، واستقر في منتصف الغرفة بعد ان اشتد ألمه فقد طوقته ذكرى معرفته لخبر وفاة روزالين، لقد عاش هذه الاحداث سلفاً ولم يتمنى ان يعيشها مجدداً، الا ان الحياة فرضت عليه عيشها من جديد، هز برأسه نفياً وهو يتمتم بذبول:
- لا لم يمت! جايدن لم يمت!
هاجمته بعدها اطياف الظلام بغتة جارةً اياه الى هاوية قدره المظلم، فاسدل جفنيه على عينيه مطاوعاً لها وسكن جسده على أرضية الغرفة..
لم يكن يلحق بالنجوم إلا أنه طالها وأصبح يمضي معها في فضاء شاسع، لم يدرك أن كونه في مستوى النجوم له سلبياته كما له إيجابيات، وها هو ذا يقاسي أشنع سلبياته، وقد سلب من حياته كيتيم وحياته كنجم، ليسكن بائساً في زنزانة تفوح منها رائحة الدماء وروائح جثث جرذان مقيتة..
يااه واخيراً انتيهت من كتابة الفصل
لا تنسوني من ردودكم المشجعة وتعلقاتكم الجميلة
واقدم شكراً خاصاً لمن ساندني خلف الكواليس :ha3:
مَن أكونْ وَمن يَكونونْ؟
وَلِما مِن أحلاميْ جَردوني؟
مِن واقِعي المُشرِق انتَشلوني؟
أليزرَعوني فِي غاباتِ خُبثِهم؟
وَيسقوني من كؤوسِ مَكرِهم؟
وَيشبِعوني مِن شَرهم فِيفيضَ بِداخلي وأصبحَ واحِداً مِنهم؟