ماركُوس ويندسور ..
قبل سبعِ سنوات..
على وقع زخّات المطَر اللؤلؤية التي تقطعُ سكون الصباح , مشى ماركوس في شوارِع لندن الهادئة..
أطفالٌ من المدرسة المُجاوِرة كانوا يلعبون تحت المطر بسعادة غامِرة..
كان ماركوس ينظُر إليهم في حُنو , فلطالَما تعلّق قلبه بالأطفال , ملائكة الرحمَة على الأرض ..
وقفت سيدة عند بوابة المدرسَة , وحين لمحها الصغار أسرعوا إلى الداخِل , إلا واحِدة تلاشت ابتِسامتها ووقفت تنظُر إليهم لبعض الوقت ..
نفضت ملابِسها وانحنَت لتحمِل أسمالها , فاقترب منها ماركوس سائلاً..
_ألن تذهبي؟!
أوجست منه خيفةً..
_لا أستطِيع!
_ولِم؟
سأل مُبتسِماً بلُطفٍ مما جعلها تقول بخفوت..
_إن ذهبتُ معهُم فستوبخُني آنِستي ..
سألها..
_ ما اسمُك؟
_ليليان..
_أين والِدتُك؟
أجابَتْ بعد وهلة..
_أخي يقُول أن الآنِسة تهتمُ بنا حتى تعُود والِدتي..
وأردفت ببشاشة..
_هو يعمَلُ جاهِدَاً من أجلِها.. لكِنها إن غضِبت صبّت غضبها عليه..
_ ماذا يعمل أخوك؟!
حينها التزمت الصمتَ التام , رفعت يدها لتُمسِك بأطرَاف ثوبها البالي وركضت بعِيداً
, تارِكةً الرجل يقِف في حِيرة..
*~
زيارته كانت للسيَاحَة , لكِنها أخذت مُنعطفاً آخر بعد رؤية الفتاة..
كُلما مشى ماركوس في طُرقات أحد الأحياء الفقيرة ..
وجد جوراً بين جنباتها , وجد إجحافاً في حق أهلها..
إذ أغلبُ سُكانها أطفال بؤساء أتعبتهُم الحياة وهم لم يصلوا سِن المتاعِب بعد
أصحابُ أعيُن بها انكِسار , وأوجه تهلّلت بابتِسَامة تُحَول الشوكَ ريحاناً..
ماركُوس طبِيب مُخٍ وأعصَاب.. بعد كُل عملِية تتكلّل بالنجَاح كان الرجل يسألُ مريضه عمّا سيفعله بعدما يخرُج من المشفى..
مُعظَم الرِجال فكّروا بالعودة لعملهم رغم عدم رغبتهم بمُزاوَلة أي عمل
الأغلبِية من كِبار السِن أرادُوا أن يكمِلوا حياتهم في راحة وطمأنينة
كما أنهُم وصفوا العالم بأنّه "قذِر وحقِير" دُون أن يُفكِروا في أنهم هُم من جعلوه على هذا الحَال..
لكِن الأطفال .. كانت لهُم آمالٌ تنبِض بالحياة والإنسانِية , كانت لهُم رؤيَة مُشرِقة للحيَاة
دون أن يُفكِروا بالرّاحة الأبدية التي تمنّاها غيرُهم ..
مما جعل ماركُوس مسرُوراً ..
مُدرِكاً أن العالم سيكُون أفضَل بعد بضعَة عُقُود , حين يكبرُون ..
*~
مع مضِيِ الأعوَام.. حقق ماركوس حُلما كان يجول في خاطِره , وأقام مبنى أشبه ما يكُون بملجأ لهؤلاء الأطفال , كان هذا بعدما قابل –شون- الذي تآلفت أفكاره مع أفكار ماركوس..
شون علّم الشباب رميَ الرصاص , وعلّم ماركوس الأصغرُ سِناً أساسيّات التمريض..
وحين اشتّد ساعِدهُم وباتوا شباباً لا يعتمدون على غيرهم , أكملوا مُهِمة الرجُلين على نِطاق أوسع من الأحياء , تعلموا كيف يحتالون على أغنياء الشعب حتى يُساعِدوا الفُقراء مِنهُم..
ومع الأيام أصبح مُعتاداً موت شخص حتى ينعم عشرةٌ بالأمان.. كان ماركوس يؤمِن بهذا المبدأ مبدأ أن الشخص الذي يُطِهر العالم , لابُد أن تتسِخ يداه , وعلى ضوئه سارت مُنظمة باكرا..
أتى عامٌ كثُرت فيه الدّيون على أصحَاب المُنظمَة , وأصاب الفقر أنحاءها, وبدأ ماركوس يرى ما بناهُ ينهارُ شيئاً فشيئاً..
قام أعضاءُ باكرَا بجمع ما استطاعوا من الأموال , كما أن الشُرطَة قد قبضت على بعضهم بتُهمة الاحتيال , بعدها .. طلب ماركوس من أخيه أن يقرضه المال , بحجة أنه سيبدأُ لتوه ببناء الملجأ ..
لكِن ماثيو أجاب بأن الاعتناء بأطفالٍ لم يعرِفوا أباً أو أُمَاً مسؤولية كبيرة , ودارَت مُناقشات حادَةٌ بينهُما , مع استمرار ماركوس بإخفاء سره , دون أن يعلم أن ماثيو لديه أسبابُه كذلِك..
في الواقِع.. شعر ماركوس ببعضِ الإهانة في كلام شقيقه العفوي , كون الأخير لا يعلم بأن الملجأ قد أُسِسَ فعلاً ,أخيراً اختلف الأخوان , كُلٌ يُدافِع عن وجهَة نظره..
حينها قرّر ماركوس أن يُفْني روحاً عزيزة لأجل أرواحٍ أعَز..
هو يعلم أن ابنةً وزوجةً تنتظِران ماثيو , وبقتلِه فلن تموتَ روحٌ واحِدة بل ثلاث !
لكِن القلبَ يحتضِر !
والمشاعِر احتارَت..
إما أن يمُوت شقيقه الغالي..
أو يمُوت الحُلم الذي أفنى فيه الليالي..
اتخذَت الفتاتان مكاناً هادِئاً في الحرم الجامِعِي , أتكَأت سام رأسها على باطِن كفها وهي لا تفقه شيئاً مما تُقولُه ألِين , كانت تتحدّث عن مواضِيع عدِيدَة في الوقت نفسه , وتتنقّلُ بينها بسُرعَة مُربِكة ..
أبعدَت سام خُصلات شعرها السوداء التي تدّلت حين أخفضت رأسها ليستنِد إلى ذراعيها الموضوعتان على الطاوِلة ..
أطلقت تنهِيدة سئمة وراحت تستعِيدُ ما حدث ليلةَ أمس..
بردٌ قارِص .. غيومٌ داكِنة .. خطواتٌ مُتثاقِلة .. رؤيةٌ ضبابِيةٌ عميَاء ..
كانت سام تُسرِع في خُطاها وتلتحِف بوشاحِها علّه يقِيها لسعات البرد الذي يسري في جسدِها , معطَفُها الأسوَدُ كانَ مُبللاً , مما جعلها تشعُر بأنه أثقلُ مرتين ..
بعضُ المارّة كانوا يركُضون مُسرعِين ؛ فالسماء تُنذِر بمطرٍ غزِير , أحسّت سام بأن كُل واحِدٍ منهم على وشك الاصطدام بها..
كانت مُشتّتة تماماً , مُتعبة للغايَة , وقدماها بالكَاد تحمِلانها ..
فتوقفت عند الرصِيف لما يُقارِب العشرَة دقائق آمِلة أن سيارَة أجرة قد تمُرُ من هُنا , أحسّت بقطرات المطر تتساقطُ مُجدّداً فعادَت سيراً على الأقدام وهي تلعَنُ كُل شيء..
تفكِيرُها السخِيف في نبش الماضِي..
فعلَة عمها التي لا تُغتَفَر..
ومشاعِرُها التي لا تقوَى على تصدِيق الأمر..
وكما هو مُعتاد لابُد أن ينتصِر العقل تحت عنوان المنطِق , ليمحو كُل فِكرة تُكذِب ما يجري..
ماركُوس قتَل ماثيُو..
والأخِير كانت يعلَم.. والِدتُها كذلِك كانت مُدرِكَة لكُلِ شيء لكِنها تسترَت على ماركوس..
لأنها لا تُريد أن توقِد شُعلة الحِقد بين سام وعمها! , رُبما؟!
كانَت أفكارُها في حالَة فوضى تامّة , كُلما تعمّقَت في فِكرة ما , قادها الطرِيق لغيرها , مما أدخلها في سِلسِلة مُتشابِكة , فاتخذت النوم مَهرَباً..
*~
انتبهَت على ألِين تلوح بيدها أمامها وعلى وجهها تعبِير لَوْم..
_كما تعلمِين.. أنا كنتُ أتحدّث !
اعتذرَت سام , بينما سألت ألين..
_فيمَ تُفكِرين؟
_بما أخبرتُكِ عنه بالأمس..
عبسَت ألِيْن في تعَاطُفٍ ثم قالت..
_وماذَا لو كان عمُك؟! , إنه لـشيءٌ تافِه تفكِيرُكِ بسببٍ مُقنِع..
الرجَال لا يملِكُون مُبرِراً لأغلب الحماقات التي يقُومون بها..
قالت سام في جِدّية..
_الرِجَال حُثالة المُجتمع..
أومأت ألِين برأسِها في فخر , فابتسمت سام على مضض..
قاطَعت حدِيثهُما الناقِد عِبارَةٌ أتت مُبتهِجة ..
_صباحُ الخَير..
التفتت لتكُون مُقابِل فيكو..
_أهلاً..
بينما نظر الشاب إلى ألِين بعبوسٍ كالذي ظهرَ على وجهِها..
_لا تزالين معها..!
_لم لا تختفِي؟!
قالت ألِين بانزِعاج , فتنهدت سام بقِلة حيلة عالِمةً أن شجِارَ كلماتٍ سينشُب فوراً , لكِن فيكو تجاهَل الأمر على نحوٍ غير مُعتاد
وسار مُتابِعاً طِريقه بينما قصدَ أن يلوحَ لسام مُبتسِماً مع تجاهُلٍ تام للشقراء التي زفرت دون اهتِمام ..
بعدمَا رحَل فيكو عمّ الصمت بين الفتاتين , ألِين كانت تستعِيد كلام سام بالأمس ..
حين قالت صدِيقتُها وكُلها يأس أن : الشخص الذي أعاد لها الاطمئنان بالأمس هو نفسه الذي سلبه منها أعواماً !
فكّرَت ألِيْن في طرِيقَة تُبعِد سام عن كُل هذه الفوضى , ولم تجِد سوى المُوافَقة على اقتِراح صديقتها قبل بضعَة أيام , حين أخبرتها بأن والِدها إن كان في لندن فالبحثُ عنه سيكون أيسر قليلاً ..
وقابلتها ألِين برفض تام , وهي في قرارة نفسها تُريد ولا تُريد ..
هي تُصابُ بالارتباك لمُجرد تخيل فِكرة أن فُرصة مُقابلته ليست معدومة..
وبعد دقائقٍ طويلة من مشادّة بين ألِين ونفسها , قالت بشتات..
_سام.. ما رأيك .. أفكِر في أن أبحث عنه..
التفتت إليها سام بعينان بدت عليهما الحيرة والاستغراب , ثم قالت في شيء من الذهول..
_أنتِ تمزحين !
هزت ألِين برأسها نافِية..
_لا.. على الإطلاق .. حين أعدتُ التفكِير في كلامك أدركتُ أن حياتِي قد تتغير إلى الأفضل إن وجدتُ والِدي ..
عقّدَت سام حاجِبيها في تشكُك..
_ولكِن لماذا؟ تغيّرَ رأيُكِ بسُرعة غريبَة..
مالت الشقراء برأسها ..
_أعتبِر هذا رفضاً؟ أستطيع أن أساعِد نفسي بنفسي..
ابتسمَت سام..
_سأبحثُ عنه معك .. أعلم أنكِ كثيرة التِّيه..
مسَاء ذلِك اليوم .. أمام حدِيقة جون رايلي ..
استقرت السيارةُ على بعد بضعة أمتار من حِديقة المنزِل, أدارت أديل المفتاح ليتوقف صوت المُحرك ويعم الهدوء للحظة قبل أن تفتح الباب وتخرج , نظرت إلى المنزل بملامح فاتِرة..
ثم دارت بنظرها في المكان تبحثُ عن مكان مُناسب لإطلاق النَار على الرجُل..
ألقت الصهباء بجسدها على الكرسي الخلفِي في السيّارة , ثم نظرت إلى فيكو الجالس بجانبها وقالت..
_أحد الثلاثة الجُدد يُدعى براد , لقد أتى من فورِه ..
إنه ضخم وله عضلاتٌ مفتولة وصوتٌ غلِيظ , إنه عِملاق..
الثانِية فتاة يافِعة , تعامل معها والِدك بالطريقة الصعبة ..
تبقى صدِيقك .. أية أفكار حتى يأتي باللين؟
قال بصوتٍ مُنخفِض.. _لقد زارهُ ذاك المدعو بـ ديفيد وقال ما يقول دوماً ..
لكِن رايبرن واجهه برفضٍ قاطِع , كما أنه قال " لا أهتمُ أبداً "
_ وبعد؟
ابتسم ساخِراً ثم قال..
_لا شيء مُهِم , خرج ديفيد
تنهد رايبرن ثم أغلق النافِذة وتأكد من أننِي نائم ولم أسمع شيئاً..
ضحِك ثم أكمَل..
_سأتحدثُ معه .. قبل أن يفعل الزعيم..
ابتسمت في انتِشاء..
_يااه.. ستعُم الفوضى..
ثُم أردَفَت..
_قال الزعِيم أننا تأخرنَا كثِيرَاً هذا العام..
وقد تخسَر المُنظمَة إن لم نسرِع ونحضِر العضو الأخِير..
و... فيكو.. أنتَ مُشكِلة..
_أنا؟
تساءل في استغراب فأوضحت..
_يجب أن تتخلص من رهاب الدم ..
على حدِ علمِي.. أنتَ لم تولد به وإنما اكتسبته ,التخلص منه سيكون أسهل بكثير..
_هذه ليست مُشكلة آنِستي المُمَرِضة..
اعترضت..
_أنت هدفٌ سهل .. ولا تستطِيع أن تُطلِقَ النار أيضاً ..
_ماذا عنكِ؟
سألها مُتملمِلاً فابتسمت بفخر..
_ماذا تتوقع من شقيقة شار؟
كشّر بانزِعاج بينما ربطت شعرها الأحمر إلى الخلف..
ترجّل فيكو من السيارة حين تقدمت أديل نحو زقاق طويل مُتجاهلة تماماً الاثنين خلفها
فركضت ليليان برفقتِها قبل أن يتبعهم فيكو ..
*~
فتحت أديل باب السطح الذي أصدر صريراً مُزعِجاً للغاية , كان المكانُ مُبتلاً نتيجة المطر , وطبقاتُ الغُبار حالت طيناً ذا رائحة مُميزة..
تقدّمت صاحِبة الشعر الرملِي الباهِت نحو سورِ السطح وأتكَأت قناصتها عليه فعلّقت ليليان في حماسَة..
_ستُطلِق !
لكِن أديل قالت ببرودٍ يبعثُ على الملل..
_هو سيفعل..
رسم فيكو وجهَاً مُرتبِكاً..
_انسي الأمر..
_ سأتصِل بماركوس وأقول أن المُهِمة نجحت.. وحين آتي أريد أن أرى جُثةً في الحدِيقَة..
مضت دون اكتِراث , بينما تبدّل الارتِباكُ المصطنع من على وجه فيكو إلى ابتِسامَةٍ ساخِرة..
_ليليان .. ما رأيكِ بـ " إن أخبرتَ الشُرطة بشيء فلن تعيش حتى صباح الغد"؟
لوَت ليليان شفتها مُتعجِبة..
_أظنه.. ليس مُخِيفاً كِفاية.. كما أن تعابير وجهكَ لا تُساعِد..
_ اذهبي أنتِ .. سيُغشَى عليه فور رؤية صهباء بعيونٍ رمادِيّة وبشرة شاحِبة..
صدقيني أنتِ تبدِين كشبح من أسطورة ما..
عبست في استِنكار ونظَر فيكو صوب الرجل..
_انظرِي إليه.. يبدو كرجلٌ ينعمُ بحياة هادِئة لا يُعكِرُ صفوَها شيء , سيفعل المُستحِيل من أجل راحته..
عضّت على شفتيها كما تفعل حين تُفكِر..
_رُبما .. ما سنقُوله ليس بالشيء الصعب بقدر إقنَاع المُتبلِدة..
_هذه مُهِمتُكِ أنتِ..
*~
قام نِزاعٌ طويل بين ليليان وأديل انتهى باستسلام الأخيرة عن فكرة إقناعهما بأي شيء ..
حاولت أن تأخُذ القنّاصة من فيكو , لكِن الأخير هدَدها برمِيها في الأسفل ..
فأخرجت سكِيناً من حذائها وأصدرت تنهِيدة غاضِبة بينما قالت وهي تتجه إلى الباب..
_الزعِيم قال ’تخلصي منه’ , وأنا ببساطة سأتخلصُ منه..
ابتسمت ليليان في تسلِية وهي تقِف أمامها مانِعة الامرأة من العبور , بينما قال فيكو..
_لمَ تُقدِسين الأوامِر بهذا الشكل؟
قالت بعِناد..
_نحن نتحدّث عن مُهِمة أسندها إلي والِدكُ , ابقيا خارِج الأمر..
بدأ من حيثُ انتهَت..
_تماماً .. هو والِدي .. أعلم أنه سيرضى بابتِعاد المُحقِق عما يجري , حتى ولو كان حياً..
هو يُريد مُهِمة بأقل قدرٍ من الضحايَا..
تأففت..
_أنتُما أكبَر عَقبَة في طرِيقنا..
ثُم قالت بغير رضى..
حسنٌ .. سنُخِيفه , آه كم هذا مُثير للشفقة , وأنتَ ستتحمّل المسؤولية كامِلة..
عمّ الهدوء في جنبات باكرا , بعدما انتشر خبر انسحاب شون المُفاجئ , لم يظهر الأخير منذ ذلك الحين , مما ولّد الشكوك حول المصير الذي ينتظره ..
كونه صاحَب ماركوس طوال السنوات السابِقة وهو الآن اختفى دون أن يظهر له أثر..
_أظن أنه مات !
قال أحدُهم , ثم أردف..
_أو جعلوه فاقِداً للذاكِرة وأخلوا سبيله..
سأل آخر بصوتٍ مبحوح..
_هل يستطيعون؟!
_ولم لا؟ تلك الفتاة قادِرة على فعل أي شيء..
_من؟
أجابه..
_ليليان..
*~
في غُرفةً شدِيدة الإضاءة , أمام طاوِلة سوداءَ ضخمة وقفت أدِيل برفقة فيكو وليليان
تفصلهم الطاوِلة عن ماركوس الذي اعتدل في وقفته بحاجبين معقودين..
_لا يزال حياً؟
أجابت ليليان بتعبير أسف زائف..
_أديل فضلت بقاءه .. حاولتُ وفيكو إقناعها بخطُورة الأمر ولكِنها..-
قاطعَتْ أديل الكِذبة الواضِحة..
_ اخرسِي , أستطيع أن أتخلص منه في غضون هذه الساعَة..
لم تتغير ملامِح الزعِيم وهو يتحدّث..
_انسي أمره .. فيكو .. غادِر الغُرفة..
حدّق بوالدِه مُتعجِباً في حين التفتت ليليان إليه قائلةً ببشاشة..
_لا تهتم .. سأخبرك بما سيقوله..
نظر ماركوس إلى الصهباء ..
_ بالمُناسبة .. أين شار؟
_لا أعلم .. أنا لا أراه كثيراً..
مشى فيكو باتجاه المخرج ومرّ من جانبه براد مُتوجِهاً صوب ماركوس , حدّق فيكو به لبرهة قبل أن يخرُج ..
كان براد ضخماً , أصلعاً أسمَر البشرَة , له عينان بُنيتان وبدا كمُلاكِم مُحترف ..
اتسعت ابتِسامَة ليليان وهي تُدلِي بترحِيب ودِيع , لم تجِد له إجابة سوى نظرة خاطِفة من الضخم الذي جلس على الأريكة السوداء..
أكمَلت أدْيل حدِيثها السابِق..
_سيدي .. الفتاة التي أشرت إليها غَادَرَت منزِل المُحقِق قبل وُصولنا..
ردّ باختِصار..
_إذاً سنحرص على ألا تلتقي بفيكو لبعض الوقت.. هذه لكِ..
قال موجِهاً عِبارته إلى ليليان , فأشارَت الفتاة إلى نفسها..
_هذه مُهِمة ... لي أنا؟
_اعتبريها كذلك إن شئت.. فقط احرصي على ألا يلتقي فيكو بـ سام ..
أنتِ تعرفينها ألَيسَ كذلِك؟
أجابت ليليان بالإيجاب وهي حقِيقَةَ تكذِب , خرجت وكُلها سعادة في حين كشّر براد في شيء من الخُبث وتبِعها من فورِه..
_أنتِ!
استدارت نحوه بابتِسامة , وحين كاد أن يتحدث قالت الفتاة وهي تأخُذ عصاةً خشبِية..
_هل تستطِيعُ كسرها؟!
أخذها منها مُستغرباً ثم كسرها إلى نصفين ورمى بها , بينما حدّقت ليليان به بانبهَار..
_يااه .. مهلاً.. سأجرِب الأمر بأخرى حديدية , رُبما ..-
وقبلَ أن تبدأ بالثرثَرة أوقفها..
_اسمعي.. سأعمل معكِ في المُهِمة .. ماذا تقولين؟
ابتسمت ..
_موافِقة .. فأنا لا أعلم من أين أبدأ..
قال بمكرٍ داخِلي..
_أنا أعلم.. هلّا أحضرتِ هاتِف فيكو ؟!
عقّدت حاجبيها للحظة قبل أن تقول..
_سآتي به .. دقائقٌ فقط..
*~
عادَت راكِضة ثم قالت وهي تمُّدُ الهاتِف بعدما التقطتْ أنفاسُها..
_إنه يبحثُ عني .. أياً كان ما تُريد فعله , أسرِع..
أمسك براد بالهاتِف وكتب التالِي ..
| أرُيدُ أن أراكِ .. غدَاً الساعة الحادِية عشرة مساءً.. |
_هلّا أريتني ما تكتُب؟
قالت وهي تقِف على أطراف أصابعها لكِنه أغلق الهاتِف بابتِسامة
ثم قال وهو ينظُر إلى الشاب الذي يمشي باتجاههما ببطء..
_انتهينا..
وحين أقدم فيكو نحوهما هشّم براد الهاتِف بيديه فقط ..
حينها وقف الشاب يرمُقهما بنظراتٍ غاضِبة , احتدّت عيناه حين تقدم صوب ليليان التي كانت تُدلي بالثناء على قوة براد الجسدية , مُتجاهِلةً أن الحُطام تحت قدَميهَا كان لهاتِف فيكو -الثاني هذا الاسبوع..
زمجَر في غضب..
_ماذا فعلت؟ هل فقدت عقلك؟
قالت تُدافِع عن نفسها..
_كان هذا ضرُورياً..
قال في تبرُّم ..
_سُحقَاً.. من الأكثر حمَاقَة ..أنتِ أم الغوريلا بجانِبك؟
_هيه.. ارحَل عنا ..
اكتفى براد بقول هذه الكلِمات قبل أن يمشي مُبتعِداً وتلحق به الصهباء مُسرِعة..
سارت ليليان نحو منزلها بخطواتٍ سريعةٍ والبهجة تُشِع من عينيها ..
أدارت المفتَاح في القُفل ثم دخلت وأغلقت الباب خلفها..
وبينما هِي تمشي في الرواق الضيق سمعت صوت بُكاء طفلة , فخلعت حِذاءها على عجلٍ ثم ركضت نحو غُرفتها مُسرِعة ..
دخلَت غُرفة المعِيشة حيثُ كان شقيقُها –شار- مُستلقياً على الأريكة مُغمِضاً عينيه , فأجلسَت الطِفلة ذات الأربعَة أعوام أمام شاشة التِلفاز ..
وقفت أمامَ الشاب وهي تضرِب قدمها مع الأرض بعصبية وقالت بعُبُوس لكِن بنبرة هادِئة..
_كانت تبكِي ! , عليك أن تُظهِر بعض الاهتِمام..
نطَق بهدوء دون أن يفتح عينيه..
_إنها تبكِي حتى يُصيبها الملل ثُم تنام..
صاحَت..
_لكِن هذه قسوَة ..
أخذ نفساً عميقاً ثم فتح عيناه المُكتسيتين باللون الرّمادِي , وارتدَى قُبعة كانت مُلقاة بجانبه , لتُغطِي أعلى شعره الطويل , ووقف مُتجِهاً نحو الخارِج , فتساءلت ليليان في شيء من الاعتِياد المؤلِم..
_إلى أين؟!
_سأعُودُ فيما بعد..
أغلقَ الباب خلفه وظلت هي واقِفة مكانها لبضعة ثوانٍ .. أطفأت التلفاز ثُم دخلت غُرفتها في صمتٍ تام , وهي تحمِل الصغيرة بين يديها , جلستا على السرير , فقالَت ليليان باسِمة..
_ أتسمعِين حِكَايَة؟!
أومأت الصغِيرة برأسها في سعَادَة وتحدّثت..
_عَن ماذا؟!
فقالت ليليان..
_ عن الجانِب الآخر من قوس قُزَح..
ارتمت سام على سرِيرها دون إرهاق فعلِي , كانت تتنهّدُ بانزِعاج بين الحِين والآخر , وتُمسِك بهاتِفها لتُحدِق به لدقائق طولية ثم تضعه جانِباً ..
وكُلما اعترَاهَا الغضب غسلت وجهها بالماء البارِد , لأنها ترى في بُرُودته بلسماً يُشفي كُل وصب ..
على خِلاف جوليا التي كانت تقُول مُتعجِبة وأصابِعُها تُلاعِب أوتار غيثارها..
_ستمرضِين .. صدقِيني..
أدارت سام رأسها ناحِية الشابَة الصامِتة عادَةً , حينها سمعتا طرقاً على الباب فابتسمَت سام ثم استأذنَت من جوليا وخرجت..
كانت ألِين مُتكئة على الجِدار المُقابِل لباب الغُرفة ..
بدَت كمن ينتظِر سماع شيء , فابتدرت سام حدِيثها..
_فكّرتُ بأمر والدكِ طوِيلاً وإليكِ الحل..
أردفت..
_سنسألُ عنه في مركَز الشُرطَة .. مُحتمَل أنهم سيجِدُونه ..
نحن لسنا على يقِين من أنه في هذه المدِينة حتى !
_هذا مُحتمَل..
صمّتٌ قصِيرٌ ثَم..
_لدَي فِكرة .. أستطِيع أن أجعلكِ تسمعِين صوت والِدك !
ابتسمت ألِين في شيء من عدم التصدِيق ثم قالت..
_إنني أصغِي..
بادلتهَا سام ابتِسامَة..
_المنزِل الذي كنتُم تعِيشون به سابِقاً ..-
_انسَي .. يستحيل أن يكون هُناك .. لا أحد دخَله منذ تركته والِدتي..
تنهدَت ألِيْن في خيبَة أمل بينما أكملت سام بانزِعاج من مُقاطعتها..
_وهل قلتُ أنه هُناك؟ .. أتذكرُ أن المُجِيب الصوتِي للهاتِف كان بصوت والِدِك .. أليس كذلِك؟!
أشرَق وجهُ ألِين بابتِسامة ..
_أنتِ مُحِقَة .. أنا لم أفكِر بالأمر من قبل .. هل تظُنين أنه يعمل؟
لقد كان يعمَل في آخر مرة ذهبتُ فيها إلى المنزِل..
*المنزِل القدِيم الخاص بعائلة ألِيْن كان أنسَب للأخيرة من شقتها البالِية , لكِنها امتلكَت عملاً واستأجرَت الشقّة حتى تُثبِت لوالِدتها أنها لا تحتاجُ مُعِيناً , ولم تُدرِك أنه كان تحدِياً في نفسِها هِي فقط ! , وأن والِدتها لم تأبَه للأمر من الأساس..
أخرجت ألِين هاتِفها , وبحثت فيه لفترة , كانت تتمايل في سعَادَة وهي تُدندِن , فابتسَمت سام وهي تتكئ إلى الجِدار الأبيض , بعدها صاحت ألِين في سُرور في حين وضعت الهاتِف عند أذنها , وسُرعان ما قالت..
_إنه ..--
بترت ألِين عِبَارتها وهدأت ملامِح وجهها فجأة ..
كانت أقرَب للدهشَة , التأثُر , والحنِين , لكِنها كانت هادِئة..
كَان صوتُ والِدُها يحمِل من الدفء الكثِير , ما يكفِي ليجعلها تذرِف الدمُوع..
غطّت وجهها ثم جلسَت على الأرض وهي لا تزالُ مُستنِدَة إلى الحائط..
مُبَاشرةً مرّت بخاطِرهَا العِبارة القدِيمة من صاحِب العينين الزُمُرُديتين..
"المُثيرون للشفقة أمثالكِ يجب أن يعملوا بجدٍ أكبر , فالمجتمع ليسَ بحاجتهم ! "
وصوتٌ آخَر أتى من سِنين سابِقة..
| انظُر أبي .. نحنُ نملِكُ العينان نفسها .. |
| هذَا صحِيح .. لكِن عيناكِ أكثَر برِيقاً ..
إنهُما زُمُردِيتان صافِيتان ! |
تذكّرَت..
هو الذِي كان يتفقدُني بين شهر وآخر..
هو الذي ساعدنِي يومها , كان هو..
_أشكُرك..
ابتسمت بفرحَة وهي تقِف مُمسِكة بكتفي صدِيقتها..
_أتذكُرِين .. يومَ أخبرتُكِ عن الرجُل صاحِب المعطَف؟!
أكمَلت..
_في ذلِك الحين لم أعتقِد أنه شخصٌ حقِيقي..
ضحكة صغيرة..
_سام.. لقد كان أبي !
المُشكِلَةُ أن حَل اللُغزِ لابُدَ أن يأتِي مُتأخِراً للغايَة ..
وكأنه ينتظِر إيقاع الوقت حتى يَتِم .. حتى يضع قِطعة البازِل الأخِيرة..
وتكتَمِل الصورة ..