شُعاعُ الشمس أتى على هيئة لمعَة , بريقها يخبو بسبب الغيوم , البرَدُ يهبِط , الطرِيقُ خالٍ والوقتُ مُبكِر لسير إنسيّ.. الأرضُ ازدانت بثوبٍ أبيض من حَبّ العسجَد يتناثرُ بلّورِيَ الصفاءِ نقياً مع خطواته الرتيبة..
يشعُر أن جزءاً من روحه يُقتلَع مع كُلِ خطوة , هو لم يعرِف لِم لا يزالُ قادِراً على السير حتى , الحُمى المُشتعِلة في أنحاء جسده ورأسه تحديداً أفقدته الوعي بمُحيطه جزئياً , لم يكُن يشعُر بشيء سوى الألم , ولا شيء سوى الألم..
_ولكِن لِمَ؟ لماذا كُتِبَ علينا الفشلُ دائماً؟ كانت رُبعَ ساعة , فقط..
التفت إلى الفتاة خلفه ببضع خطوات , كان ليفضِل التِزام الصمت حينها , وهو ما فعله مُدرِكاً أنها ستبدأ بالبُكاء مجدداً , لطالَما نُعِت بأنه يزيد حال الأشخاص سوءاً إذا حاول أن يواسيهم !
صوتُها لم يعُد يصله , أغمَض عينيه , وسُرعان ما فتحهما حينما تراءى له المشهدُ المُروِع مرة أخرى , شاب وامرأة , كانا كلُ ما تطلبه الأمرُ لإطفاء شمعة الأمل , وقبل أن يُدرِك أحدٌ ما حدَث صعد الشابُ صاحِب الشعر الطويل لأعلى , بينما قُتِل لوك أمام عينيهما على يدِ الشابَة ذات الملامِح الجامِدة , غير مُكترِثة لصوتِ من ذابت روحها تتوسّل , وفي تبلّد ابتسَمت قصيرة الشعر كما لو كانَت تحمِل ضغينة..
الركضُ المُستمِر بينما يتخِذان الحذر رفيقاً كان مُتلِفاً للأعصاب , صوت الرصاصات غزيرٌ كمَطر , والقفزُ مسافة طابقين كان الحل الأمثل , ولو أن السقوط على العُشبِ لم يكُن بالألم الذي تخيله , لكنه كان كافياً لإيقاظ الإصابات التي تسبب بها براد سابقاً..
_ألا يبدُو الأمرُ غير منطقي بالمرة؟ وكأنما.. وكأنما
_يعلَم أحدهم بكُل خطوةٍ تُقدِمون عليها؟
أكمَل في هدوء , فأومأت برأسها حائرة لإدراكه حقيقة نجواها الباطنية
لاحظَت أنه تحدّث أخيراً , فسألت دون رغبة..
_هل أنتَ غاضِب مما حدث في الأيام السابِقة؟
أدخَل يديه في جيبه بينما قال..
_ أستطيع أن أقول أن هذه كانت أسوأ أيامٍ عشتُها..
_لا .. إنه فقط , تخيفني حقيقةُ أنكَ لا تزالُ محتفِظاً بهدوئك..
أظهِر بعض الجنون..
_ أفهم, كم سيكُون عظيماً .. فقط لو أتى بفائدة..
_دوماً ما تنطق بالحقيقة التي أكرهها..
في شيء من العبوسِ تمتمت في حين انحنَت تربِط حذائها الرياضي.
همهم وهو يلتفِت فاعتدلت بوقفتها..
_سأخبِرُك.. بما أننا لن نلتقي مُجدداً ..
التفتت إلى اليسار حيثُ كانت حافة الجُرف الذي ذكّرها بالأمر أساساً , بخطواتٍ بطيئة مشت نحوه , في حين سمعَت ما بدا لها تحذيراً..
دونَ أن تلتفِت قالت وهي تُشير للمسافة الصغيرة بين قدميها والمُنحدَر الذي يقودُ للهلاك..
_يستحيل أن تزِل قدمي هُنا.. هل يُذكِرُكَ هذا بشيء؟
هُناكَ قرب بناء باكرا , قبل عامٍ ونصف..
صمته كان إيجاباً , فتبسّمَت..
_كان يبكي رُبما لتردُد ورُبما لا , أنتَ صرخَتَ فيه غاضِباً
أخبرَك بأنه ما من معنى لحياته , أن كُل شيء انهار ثُم..
حرّكَت قدمها إلى الأمام تُحاكِي ما شهِدته سابِقاً , تُقاوِم رغبةً بداخلها , صوتٌ خفيض يهمِس لها , وكأنما اللغو الذي وُسوِس للشاب سابِقاً قد تملّكها , فجأة سحبَت قدمها في شيء من الفزع بعيداً عن هوة ما بعدها سوى ماءٌ وصخور , موتٌ حتمي , وفي أهدأ ما يكونُ سألها من يقِف عندَ الشجرة غير المُورِقة..
_لماذا أطلتِ الوقوف؟! ابقي بعيدة..
حياتي أقصَر من أن أرى الأشياء ذاتها مرتيْن..
مشَت نحوه ثُم قالت وهي تُدير وجهه نحوها..
_اخرَس, أنا .. كنتُ أتساءلُ فقط..
همسَت لنفسها وهي تبتعِد..
_ماذا سأفعل إذا تركتُ باكرا؟
اتكأ على الشجرة خلفه بينما تابعها ببصره , حتى إذا توقفت عن السير سألها..
_بالنسبة لما قلته سابِقاً.. أينَ كنتِ حينها؟
_كنتُ عِندَ النافِذة .. ما بين نائمة ومُستيقِظة , لذا لم أنظُر للأمر كما لو أنه حقيقي..
ابتَسمَت..
_حتى رأيتُك مُجدداً في ذاتِ المكان برفقَه الأشقر الأحمق, كان الزعيمُ معي..
تحدّثتُما عن أشياء عديدة لا أستحضِرها , لكن الفِكرة كانت أن أحدكما لم يملِك القوة لتغيير حال صديق..
ماركوس علّق بأنكَ شخصٌ يفعَل المُستحيل لمحو السواد , أنكَ ترُوق له
المُلاحظة التالية كانت أنكَ تعرِف كيف تستخدِم سلاحاً..
أمَر بتتبَعِ أثرك حتى انتَهت الأمورُ إلى هذا الوضع المُزري..
صمتٌ هيمَن على المكان.. تلاهُ تساؤل حائر..
_فقط..! لأنه –ظنّ- شيئاً , أرى مجنوناً يُحاول..-
التزَم الصمت مُجدداً وتساؤلٌ خطَر على باله فورَ أن تذكّر تلكَ الليلة.. بعدها أكمَل في نزق..
_ثم يتطور الأمرُ لأجِد نفسي مأسوراً كما لو كنتُ..
كان صوته ينخفِض شيئاً فشيئاً حتى حالَ همهمة فيها من المَقت الكثير , ابتِسامة هادئة ارتَسمَت على شفتي الصهباءِ وهي تُحاوِل محو صورة شار التي تمُر على خاطِرها كُلما تحدّثت مع رايبرن , قالت..
_إن ماركوس .. صدقني هو ليس بهذا السوء , إنه ينظُر للجانِب الأسود دون الأبيض كما أغلَب البشر
وأنت! لا تُخبرني بأنكَ ترى الأبيض فقط..
بانزِعاج رفع قلنسوة معطفه في حين قال..
كان يتذكّر .. يتذكّر.. بكُلِ تفصيل مهما كان سخيفاً , الخدَرُ الذي أصاب ذراعه المُمسِكة بالشاب صديقه , الهدوءُ حولهُما سوى من هدير الماءِ عنيفاً , الشمسُ الحارِقة تتوسطُ السماء وتُلقي بحرارتها المُحتدِمة عليهما..
’دريك’ كان إنساناً يعيشُ الحياة بحلوها ومُرِها , كان يتعشقُها بتكلف , عاشَ باسِماً يتباهى دوماً بالطلّة البهية التي يملِكها, وسامته وجاذبيته , حضوره المُلاحَظ , ورُبما.. لونُ شعره الذي يُغيره كُل شهرٍ وآخر.. هالةُ البهاءِ التي يملِكُها سحرَت الجميع بغضِ النظر عن شخصيته اللعوبة غير المسؤولة !
لرُبما استعادَ روحَه المُحِبة للحياة حين رأى الموت يترصّد سقوطه كي يتخطّفه..
علّ ذلك كان سبب توسله لشاهين بألا يُفلِته ... مُباشرةً قبلَ أن تزِل الكفُ إلى النِهاية الحتمية !
كانت لحظَةً فقط , جزُءٌ من الثانية انتهى بعده كُل شيء..
"أنا آسِف.."
ما المؤلم إلا تلك التفاصيل الصغيرة التي لازمتهم لأسابيعَ عديدة , حين يُخطئ أحدهم فيتلفظ بكلمة كانوا يُمازِحون بها الفقيد.. أو تأتي زلة لِسانٍ تُنادِي الشخص الخطأ باسمِ من لم يعد هنا ..
الصمتُ الذي يملكُ المكان بعدها كان أسوأ ما يكون..
أسوأ من مُراقبته للأمور كيفَ تتداعى..