بعد ربع ساعة تقريباً كان يوجين يجلس خلف المقود بينما إتخذ جين مكانه المُعتاد خلف مقعد السائق متجهين إلى أقرب مشفى في المدينة بعد أن عجز يوجين عن تغيير رأي سيده في الذهاب إلى القصر .. ولكنه على الأقل منعه من القيادة فهو قطعاً لن يسمح لجين أن يقود وهو يجلس فقط حتى وإن لم يرى جين أي إهانة في ذلك الأمر .
بعد مُدة قصيرة من الزمن كان كُل من يوجين وجين في المشفى بحيث كان جين يقف أمام تلك الغرفة وهو يراقب الطبيب الذي كان يقوم ببعض الفحوصات ليوجين الذي بدى هادئاً للغاية وقد كان يغمض عينيه بهدوء .. لم تمضي الكثير من الدقائق حتى إبتعد الطبيب عن يوجين الذي إعتدل في جلسته وأمسك بقميصه ليقوم بإرتدائه مما دفع جين للإنضمام إليهما داخل تلك الغرفة .. تحدث ذلك الطبيب بصوته العميق والذي بدى عليه الإنزعاج :" يوجين كم مرة علي أن أُنبهك على ضرورة إلتزامك بمواعيد الدواء وتناول وجبات طعام صحية وأن تتوقف عن إرهاق نفسك ؟"
إبتسم المعني بهدء ليتحدث :" حتى تشعر بالملل وتستلم عن إعطائي مثل هذه النصائح , الواقع أنا أتناول أدويتي كلها في الموعد المحدد و أهتم بوجبات الطعام "
تنهد الطبيب بتعب ليتحدث :" أخبرني إذن ماذا حدث لك ؟ لما ساءت صحتك إلى هذه الدرجة ؟ هلا توقفت إذن عن القيام بإجهاد قلبك وعقلك ؟ أنا واثق من أنك تفكر بأمور لا معنى لها طوال الوقت "
بدى الإنزعاج ولمحة من الحزن على وجه يوجين الذي تحدث بصوت خافت :" ليس وكأن الأمر بيدي دماغي لا يتوقف عن جلب الصداع لي "
في تلك اللحظة تدخل جين في حوارهما ليتحدث بهدوء نادر ما يتحلى به :" سيدي الطبيب هل إعطاءه إجازة عن العمل سيشكل حلاً ما ؟"
أومأ الطبيب سلباً وهو يجيب :" الواقع لا , لإن الأمر غير مرتبط بالمجهود الجسدي الذي يقوم به بقدر إرتباطه بالمجهود الذهني و النفسي .. وبكل حال أتوقع أن أراك هنا في نهاية الأسبوع لإنك ستقضيها في المشفى "
توسعت عيناه بدهشة وهو يتحدث :" أأنت جاد ؟ أرجوك أيها الطبيب لا يمكنني قضاء ثلاث أيام كاملة هُنا .. هذا هو المستحيل بعينه "
هم الطبيب بالإجابة لولا صوت جين الساخر :" إذن يبدوا أن المستحيل سيصبح واقعاً في نهاية هذا الأسبوع "
نظر يوجين له وهو يبتلع رمقه بتردد قبل أن يتحدث :" لا , أنتما ستقضيان علي هكذا أرجوكما .. أعدكما لن أبذل أي مجهود في المستقبل القريب "
حرك الطبيب رأسه سلباً ليتحدث بحزم :" أعتذر أيها الشاب ولكن بقائك في المشفى أصبح ضرورياً جداً "
حول يوجين نظره إلى جين الذي قطب حاجبيه وهو يتحدث :" قطعاً لن أساعدك يو .. أنت بحاجة لذلك "
أخفض رأسه وهو يتنفس بعمق بعد أن وقف ليتحدث بصوت مخنوق :" لا يهم إذن هل نعود للمنزل الآن ؟"
أومأ جين بهدوء إلا أن صوت الطبيب أوقفهما :" مهلاً عليك أن تلقي بكل أدويتك السابقة بالقمامة وتتناول هذا الدواء .. إنه أقوى قليلاً من سابقه .. ويفضل أن تراجع الطبيب الخاص بالرئة حتى تتأكد من عدم تعارض هذا الدواء أو تفاعله مع أي من أدويتك الخاصة بالربو "
تحدث بإنزعاج :" ومن قال أن الربو بحاجة لدواء كل ما في الأمر إن إنقطعت أنفاسي أستخدم ذلك البخاخ لإستعادتها "
وضع الطبيب يده على رأسه وكأنه لا أمل من محدثه بينما أمسك جين يوجين وأخذه إلى طبيب الخاص بالرئة بالإجبار .
بعد ما يقارب الساعتين في تلك المدينة الطبية ها هما صديقانا أخيراً في طريق عودتهما للمنزل .. كان وجه يوجين شاحب كما أن تقاطيع وجهه كانت متجهمة ومنزعجة .. بينما كان جين ينظر إليه وهو يكتم ضحكته فهو حقاً لا يعلم كيف لم يكتشف مُسبقاً أن صديقه هذا يستطيع التصرف كالأطفال تماماً!
نظر يوجين له بإنزعاج شديد ليتحدث بصوت منخفض :" لماذا تبتسم ؟ بل كأنك تريد الضحك .. لا يوجد ما يضحك أبداً "
أفلت جين ضحكته تلك لتتجهم ملامح يوجين أكثر بينما توقف الأول عن الضحك وهو يقول :" أُقسم بأن إبنك لن يرسم هذه التعابير على وجهه عند ذهابه للمشفى "
أجابه بهدوء :" هو سيكون خائفاً لا منزعجاً .. بكل حال لا يوجد لدي ما أخشاه ( وبسخرية ) : ففي النهاية لم يتبقى لدي الكثير من الوقت لأحياه "
ظهر الإنزعاج على وجه جين هذه المرة ليتحدث :" فقط أغلق فمك , لا أحد يعلم متى سيموت ؟ وأيضاً ( حول نبرته للسخرية الشديدة ) : أريد رؤية وجهك عندما تُخبر إينوري أنك ستقضي عطلة الأسبوع في المشفى ! "
إبتلع رمقه بتردد وشيء من الخوف ليتحدث :" سيدي , لا يمكن لإينوري أن تعلم بذلك .. أُقسم بأنها ستشعر بالقلق الشديد وقد تقرر البقاء معي ولن يتمكن أي طبيب في العالم تبديل رأيها "
إحتدت نظراته قليلاً قبل أن يتحدث :" أوضح كلامك أكثر , ماذا سوف تُخبرها إذن "
إبتسم بتوتر ليتحدث :" سيدي أيمكنك أن تقوم بخدمة ما لي ؟ أعني .. هذه المرة الأولى والأخيرة قطعاً التي سأطلب منك أي طلب أعدك "
بقي جين يحدق بعينا يوجين عن طريق تلك المرآة وهي يفكر إن كان عليه المُخاطرة وقبول تقديم تلك الخدمة ولكن ... حقاً يوجين لم يطلب أي شيء من جين منذ أن إلتقيا لأول مرة .. مرت دقيقة كاملة قبل أن يتحدث يوجين مرة أخرى ولكن بهدوء :" إنسى الأمر فحسب , أنا آسف سيدي "
شد على قبضة يده اليُمنى ليتحدث وهو يشد على كل حرف ينطق به :" لا تقرر أنني رفضت الأمر من عقلك البليد هذا يوجين .. أخبرني ماذا تريد ؟"
إبتلع رمقه قبل أن يتحدث :" أخبر إينوري أنك قُمت بإلغاء عطلتي لنهاية هذا الأسبوع وأنك فقط ستسمح لي بأن أوصلها للمنزل إن هي رغبت بذلك في الصباح الباكر "
رسم إبتسامة على وجهه قبل أن يتحدث :" وأن أتلقى أنا التوبيخ وربما لكمة منها .. ثق بي يو أنت ستكون مدين لي بالكثير حينها "
إبتسم يوجين بهدوء وهو يومأ برأسه إيجاباً دون أن يجيبه .
كان جين يجلس يجلس خلف مكتبه وقد بدى أنهُ منهمك في الدراسة بينما كان يوجين يقف بهدوء في إحدى الزوايا وهو ينظر بشرود إلى الأمام الكثير من الذكريات و الأفكار اللتين تسابقتا على إنتهاشه وتمزيقه بل وربما قتله لمئات المرات .. صزت قرع الباب الخارجي لجناح جين أيقظه من شروده كما جعل مالك الجناح ينهض وهو يلقي بما في يديه من كتب .. توجه كلاهما إلى الغرفة المخصصة للجلوس ليذهب جين ويجلس على إحدى الآرائك بينما فتح يوجين الباب ليطل منه كبير الأسرة وابنيه البغيظيين .. وقف جين حينها وهو يرسم على وجهه إبتسامة مُجبرة فهو لم يتحدث مع أحدهم منذ أن علم بأنه مُتبنى حتى أنه لم يعد يجتمع معهم على مائدة الطعام ويتحاشى رؤية أي أحد منهم بكل الوسائل المُمكنة .. تقدم كبير الأسرة أولاً للدخول ولكنه قبل ذلك ألقى نظرة على يوجين الذي كانت عيناه تحذرانه وإبناه بصمت بل هو يقسم بأن لون عينيه في هذه اللحظة لم يعد أزرق صافٍ كصفاء مياه المحيط ونقائها بل تحولتا لأزرق داكن كما لو أن عاصفة ما غطت ذلك المُحيط وأظلمته .. لم يتمكن من أن يرمقه بنظرة حادة لإنه يعلم تماماً أن تلك النظرة لن تساوي قوته مُطلقاً .. شعر جين بتلك الأجواء المشحونة بالرغم من أنهُ لم يكن قادراً على رؤية عينا يوجين ونظرته تلك ليتحدث بتوتر :" رجاءاً تفضلوا بالدخول ."
ما إن أنهى جين تلك الجُملة حتى إبتعد يوجين عن أمامهم وقد أخفى تلك النظرة تماماً وعادت ملامحه الهادئة و الباردة لتغطي وجهه .. بينما دخل الثلاثة إلى الداخل وجلسوا على الأريكة المُقابلة لجين ويوجين الذي وقف خلف سيده وقد إبتسم بسخرية عند رؤيته لوجه ديريك المغتاظ .. الصمت حل على المكان برمته .. بالنسبة لجين فقد كان متوتر للغاية أما ديريك ويوجين فيبدوا أن مُشاجرة ما وقعت بينهما ولكن بلغة العيون بينما أليكسس لازال مُستمتعاً بكل ما يحدث حوله وأخيراً قرر ماكس كسر ذلك الصمت وهو يتحدث بصوت عميق :" عزيزي جين .. لماذا قررت حبس نفسك في هذا الجناح ؟ أنا لم أُخبرك بالحقيقة لتعزل نفسك عنا .. لكنك أصبحت رجلاً وبعد أسبوع سيعلن عن أمر خطبتك بآنجلي لذلك ظننت أنه سيكون من الأفضل لك معرفة الحقيقة "
صمت كبير الأسرة في إنتظار رد من مُحدثه إلى أن الأخير أخفض رأسه فقط ليكمل ديريك ما بدأ والده به :" أنت جين عشت معنا مُنذ أن كُنت طفلاً في الثالثة من عمرك .. ربما لسنا أشقاء ولكننا إخوة بعد كل شيء تماما ككريستيان و آنجلي صحيح ؟"
ظهرت إبتسامة حزينة على شفتيه .. إنه يتمنى حقاً أن يُصدق كلامه ذاك ولكن مقارنة علاقته معهما وعلاقة كريستيان بآنجلي فاشلة بكل المقاييس فهما لم يحاولا أن يفعلا أي شيء مما فعله كريس لآنجلي .
في تلك اللحظة نطق أليكسس بنبرة حاول إبعادها قدر الإمكان عن السخرية :" يبدوا لي أنه لا يصدق كلامنا يا ابي .. فقط أخبرني ماذا تريد أن نفعل حتى تبعد غيمة الحُزن هذه عن وجهك ؟"
تحدث بصوت كسير :" من هُما والداي الحقيقين ؟ ولماذا قمت بتبني بالرغم من أنك تملك إبنان ؟ "
أخفض يوجين رأسه وقد بدى أن رعشة قوية إجتاحت جسده بينما إبتسم ماكس بسخرية وهو يرمق يوجين بنظرة متشفية إلا أنه تحدث بهدوء :" سنُناقش هذه المسألة بعد إمتحناتك الثانوية أو يُمكنك أن تُجبر يوجين على إخبارك فأنا والحاكم طلبنا منه إخبارك ولكنه من رفض بحجة أن الوقت غير مُلائم "
ختم جُملته تلك وهو يرسم إبتسامة خبيثة على شفتيه وقد رُسمت ذات الإبتسامة على وجه أليكسس وديريك لينهضوا ويغادروا الجناح .. كان الصمت القاتل يحلق بالأجواء بينما بدى على يوجين الشحوب الشديد وكأن الحياة بدئت تخرج من جسده .. قطع ذلك الصمت صوت جين الحزين :" إذن كُنت أنت تعرف كل شيء عني .. طوال هذه السنين وأنت تخدعني "
تراجع إلى الخلف عِدة خطوات قبل أن يتحدث بصوت مخنوق تماماً :" لا , سيدي .. أنا .. "
زمجر بغضب شديد :" أغلق فمك , لا أريد أن أستمع إلى أي حرف منك "
إبتلع رمقه بصعوبة وهو يرى سيده يقف وينظر إليه بغضب شديد ممزوج بالكره و الحقد .. تمتم بتلك اللحظ بصوت خائر القوى :" أرجوك سيدي .. لا ..."
تحدث بكل ما يحمله من قسوة :" أغلقه واغرب عن وجهي .. لا أريد رؤيتك أمامي الآن "
أغلق عينيه بإستسلام ولكن سرعان ما رُسمت إبتسامة لطيفة على وجهه جعلت الشاب الغاضب يرفع أحد حاجبيه بإستنكار تام وهو يتمتم بغضب :" ما هو الشيء الذي يدفعك لرسم هذه الإبتسامة البلهاء الآن ! "
فتح عينيه وقد بان بهما سكون غريب .. بقي جين يحدق بهما وكأنها المرة الأولى التي يرى يوجين .. بل هي حقاً المرة الأولى التي يرى بها عينا يوجين خالية من أي تعبير مثل التردد أو الخوف أو القلق ولكن لمسة الحزن والألم يستحيل أن تختفي من عينيه .. تحدث يوجين بهدوء وتلك الإبتسامة لاتزال تزين وجهه :" أيرغب سيدي بمعرفة الحقيقة كاملة الآن ؟"
لا يعلم كيف ولكن غضبه تبخر بالكامل وهو يشعر بقلق ما يعصف به ولكنه وبالرغم من ذلك أومأ بالموافقة !
تقلصت إبتسامة يوجين قليلاً ليتحدث :" إذن سيدي هناك أمران قبل أن أخبرك .. الأول عدني بأنك ومهما كانت مشاعرك أو إضطرابك أو صدمتك أو حتى غضبك وحزنك أن تكون في المركز الأول في دراستك لهذا العام أو على الأقل أحد الثلاثة الأوائل بالمملكة كلها "
قطب حاجبيه بإنزعاج شديد ليتحدث :" ألا ترى معي أنه ثاني أمر تعطيني إياه لهذا اليوم ! ولكن لا تقلق فأنا لا أنوي حقاً أن أضيع أحد هذه المقاعد "
ضحك بخفة قبل أن يتحدث :" حسناً الطلب الذي طلبته منك صباحاً سيتم إلغائه تلقائياً فلا تقلق .. لن تضطر أن تُخبر إينوري بأي شيء ."
تحولت ملامح وجهه للحيرة قبل أن يخرج يوجين هاتفه النقال ويرسل رسالة ما لشخص لم يتمكن جين من معرفة محتوى الرسالة أو متلقيها .. أعاد يوجين هاتفه إلى جيبه ليزفر الهواء وهو يتحدث بنبرة مُزجت بها السعادة والحزن في آن واحد :" سيدي لم يعد هنالك مجال لتراجع الآن .. أخبرتك صباحاً أنني لم أُخفي أي شيء عنك إلا من أجل سعادتك .. أنا أخفيت عنك ثلاث أسرار الأول هو أنك مُتبنى .. الثاني هو من هي أسرتك الحقيقة والسبب في تبنيك من قبل السيد ماكس أما السر الثالث فهو يتعلق بك ربما ولكن ليس من الضروري معرفته وفقط أنا وعمي ماكس من نعلم بشأن هذا السر .. أعتذر ولكن السر الثالث سيرافقني إلى قبري .. فهو يخصني قبل أن يخصك .. وثق بي معرفته لن تجلب لك إلا الحزن و الشقاء وربما تدمر حياتك بسببه لذلك مهما حاول عمي إغاظتك بأمره فلا تحاول إكتشافه أو سؤاله عنه .. أخبره فقط أنك لست بحاجة لمعرفة أي شيء ."
تحدث بحنق :" ولكنك قلت أن ذلك السر يخصني بطريقة ما .. فلماذا سيدمر حياتي ؟"
أخفض رأسه وهو يجيبه بهدوء :" أرجوك لا تُجبرني على الإجابة .. فقط انا أخبرتك بوجود ذلك السر حتى لا تسمح لعمي بإستفزازك وهو يخبرك انني أخفيت عنك أمراً ورحلت دون أن أخبرك به .. فضولك سيقودك لمعرفته ومن ثم ... أنت سترتكب حماقة بكل تأكيد أو أن روحك قد تتحطم .. وقطعاً أنا لا أريد لذلك أن يحدث لاسيما أنني لن أكون موجوداً لمنعه أو منعك "
بالرغم من أن الفضول بدء يحثه على إيجاد وسيلة تجعل يوجين يعترف بها عن ذلك السر الثالث ولكن جملته الأخيرة ألجمته تماماً عن التفكير ليتحدث بحذر :" إلى أين ستذهب ؟"
ضحك بخفة وقد حافظ على إبتسامة واسعة لا تتناسب وما سيدلي به الآن :" سيدي مهمتي هي إخبارك بالسر الثاني فقط .. ستنتهي مهمتي عند إخبارك به الآن .. ومن ثُم أين سيذهب قاتل حُكم عليه بالإعدام برأيك إلا إلى ساحة الإعدام والفناء من الوجود ؟"
إبتلع رمقه بحذر وقلق ليتحدث بصوت مخنوق :" لكن أنا لم أتزوج من آنجلي بعد ولم ..."
قاطعه بلطف ليوضح الأمر:" أنا من طلب منهم إبقائي حتى أراك رجلاً لديه أسرة وقادر على تدبير أموره بنفسه .. وإلا لكانت نهايتي منذ أن كُنت طفلاً في السابعة من عمري .. ولكن بقي هنالك شرط قائم إن علم سيدي بالحقيقة قبل ذلك الوقت سيتم تقديم موعد الإعدام ( صمت وهو يراقب وجه جين الذي بدء الرعب يظهر عليه ليردف بهدوء ) : غداً صباحاً سنذهب إلى قصر الحاكم .. ستقرر أي طريقة سيتم إعدامي بها .. وفي المساء سيتم تنفيذ الحُكم "
ظهرت الصدمة على وجه جين الذي بقي يحدق بيوجين بعدم تصديق .. كيف يقول كل ذلك دون أن يرف له جفن ؟ هل فقد عقله ؟ إنه يتحدث عن إعدامه بكل سهولة وأريحية .. ألم يفكر بإينوري ؟ بصغيره الذي لم يكمل عامه الأول بعد ؟
صوت يوجين أيقظ جين من أفكاره :" سيدي لا مجال لتراجع الآن لقد اخبرت الحاكم بالفعل .. والآن حان الوقت لتعلم الحقيقة كاملة "
حرك راسه نفياً ليتحدث بإنفعال :" ولماذا أخبرته ؟ لماذا لم تُخبرني أولاً أنه سيتم تقديم موعد إعدامك إن أخبرتني ؟ تباً .. أخبره أنك لم تُخبرني بأي شيء "
تنفس يوجين بعمق قبل أن يتحدث :" عندما كنت في الخامسة من عمري صدر ظامر من سيدي الحاكم أن يتم سجني في القصر مع القيام بالكثير من الأعمال الشاقة حتى أكمل السابعة ليتم قتلي .. والسبب كما تعلم أنني كُنت السبب في الحريق الذي إبتلع سعادة أسرتنا وسعادتي بالتأكيد .. لقد إندلعت النيران من غرفة شقيقي الأصغر والتهمت بقية القصر .. أنا قامت أمي بإنقاذي .. لقد أخرجتني مع أحد الخدم عندما علقت هي بين النيران ( أغمض عينيه بألم وظهرت نبرة الحُزن واضحة في صوته ) : لم ارى أبي أو شقيقي الأصغر .. لكنني علمت بأن لا أحد نجى من ذلك الحريق الهائل .. بكل حال تم تقيدي وإرسالي إلى إحدى الزنزانات في القصر وبدئت بالعمل هناك .. وعندما أكملت السابعة من عمري جاء عمي إلي للمرة الأولى وأخبرني أنه قام بترميم القصر وبدء بالسكن فيه هو وأبنائه وأنه من يدير شركة الأسرة الآن .. فأنا بالتأكيد لن أرث أي شيء فالقاتل يحرم من حقه بالإرث .. ولكن الأهم من ذلك هو أنه أخبرني بأمر كُنت أنا أجهله .. أخبرني عن أن احد أفراد أسرتي لازال حياً وأنني ..."
لم يستطع أن يكمل كلامه بسبب يد جين التي وضعت على فمه .. نظر له بقليل من التساؤل ولكنه صُدم بتلك الدموع التي كانت تخرج من عينيه دون توقف أو إنقطاع .. تحدث جين بصوت حاول قدر الإمكان منعه من الإرتجاف :" لا تُكمل .. أنا لا أريد أن أعرف المزيد رجاءاً .. يكفي .. تباً لماذا تم خداعي بهذه الطريقة ؟ هو قام بتبني فقط لإنني الوريث الشرعي لهذه الأسرة صحيح ؟ وأنت لماذا قُمت بخدمتي أجب ؟ "
أبعد جين يده عن فم يوجين الذي أخفض رأسه إلا أن جين أردف بشيء من السخرية :" هل رغبت بإراحة ضميرك مثلاً ؟ لقد حاولت قتلي أنا في المقام الأول صحيح ؟ تباً إن كان الحريق إندلع من غرفتي فكيف بقيت أنا على قيد الحياة ؟"
تحدث بصعوبة بالغة ودون أن يرفع رأسه :" أبي .. أنقذك وأخرجك من الحريق .. ولكن حروقه كانت بليغة لذلك مات بعدها بفترة وجيزة "
شد على قبضة يده بقوة :" جيد , هل إرتاح ضميرك الآن ؟ لقد خدمتني وأصبحت الشخص الوحيد الذي أشعر بالأمان برفقته .. ولكنك كنت تفعل ذلك لإجلك .. هل شعرت بالندم بعد رحيل والداي وقررت مساعدتي ؟ أنت قمت بخيانتي وخيانة كل معنى للأخوة ! "
أخفض يوجين رأسه أكثر وهو يغمض عينيه ولو أنه تمكن لكان وضع يديه على أذنيه حتى لا يستمع للمزيد من تلك الكلمات التي أصابته وطعنته بلا رحمة ولكن هو عليه أن يستمع لها .. على قلبه أن يتحطم ويُقتل مئات المرات لإنه يدرك تماما أن قلب شقيقه الآن يتألم ويأن .
عاد صوت جين الغاضب ليتحدث بنبرة أوضحت للشخص الذي لم يرفع رأسه لمواجهته أنه يبكي وأنه على وشك الإنهيار :" لم يكن عليك القدوم وخدمتي .. لقد كان عليك المُحافظة على آخر ذرة من أخوتك لي وتختفي من حياتي بعد ما فعلته ... وربما أنت فقط شعرت بالإحباط لإنك لم تتمكن من قتلي وبحكم أنني كنت طفلاً لم اشعر بلوعة الحرمان و الفراق الأبدي .. لذلك أتيت إلى هنا وجعلتني أتعلق بك حتى تشعرني بمرارة فقدان شخص أحبه أكثر من نفسي صحيح ؟ ( وبصراخ ) : تباً لك يوجين .. لقد كان عليك الموت في ذلك الحريق .. أو على الأقل كان عليك أن تكون ميتاً بحُكم الإعدام قبل أن أرى وجهك أو أعلم عنك أي شيء .. ربما حينها فقط لو علمت انه كان لدي شقيق وقد أُعدم لشعرت بشيء من الحزن .. ربما حينها كُنت لأسامحك وأنسى أنك من قتل والداي في محاولة لقتلي أنا ( إنهار أرضاً ليتحدث بصوت ضعيف ) : أليس هذا مُثيراً للسخرية ؟ الشخص الذي إدعى أنه حارسي هو ذاته من حاول التخلص مني "
لم يعد يقوى على قول المزيد ليس لإن كلماته المُعاتبة قد خانته ولكن لإنه لم يعد قادراً أن فتح عينيه فقد سقط مغشياً عليه .
تحرك الشاب الآخر والذي لم تتبين ملامح وجهه ولم ينطق بحرف واحد من سيده ليحمله برفق ويضعه على سريره ومن ثم يبدل له ثيابه بأخرى مريحة ويطفئ أنوار تلك الغرفة التي غرقت في الظلام تقدم ناحية ذلك السرير وهو ينظر لسيده بهدوء قبل أن يمد ذراعه لتلامس وجهه وترجع بعد الخصل المُتمردة إلى خلف أذنه ليتحدث أخيراً بنبرة كسيرة و خائرة القوى تماماً بينما أظهر ضوء القمر تلك الإبتسامة الحزينة التي رُسمت على شفتيه :" آسف لكل هذا الألم الذي سببته لك .. أنا حقاً كان علي أن أُبقي علاقتي معك سطحية .. آسف سيدي .. آسف أخي .. لكن غداً مساءاً سينتهي هذا العذاب .. بالنسبة لي على الأقل .. وبالنسبة لك بما أنني سأختفي "
إقترب أكثر وهو يطبع قبلة حانية على جبين شقيقه ليبتعد بعدها عنه وقد بدئت دموعه التي كانت تلمع تحت ضوء القمر بالإنفجار ليرمي بجسده على سريره في المرفق المخصص له ويغط في نوم عميق هروبا من كل شيء يؤذيه .
وفي مكان آخر حيث كانت علامات الصدمة و المُعارضة واضحة في أعين الجميع فقد كان الحاكم يجلس على عرشه بإرتياح ظاهر يخفي خلفه ما يشعر به حقاً بعد أن فجر تلك القُنبلة التي جعلت ألسن الجميع تتوقف عن النطق .. ولكن وأخيراً تحرر لسانها من تلك الصدمة التي ألجمتها بالوقت ذاته التي تحررت دموعه الحارقة لتصرخ بغضب :" وبأي حق تقرر تغيير موعد الإعدام للغد ؟"
نظر لها ببرود ليتحدث :" تعلمين منذ اليوم الذي أصبحتي زوجته به انه سيعدم فلا تبدأي بالبكاء الآن ! أنتي من وافق على ذلك بالرغم من أنكِ كنتي فتاة راشدة وقعت في حب شخص حكم عليه بالإعدام ولهذا أنا لا أشعر بالشفقة إتجاهك ولكن ما كان عليكما إقتراف غلطة كإحضار الصغير إلى هذا العالم .. فهو سيعيش ما تبقى من عمره وحيداً بلا أم أو أب "
إحتدت نظراتها أكثر لتتحدث بغضب عارم :" طفلي لم يكن غلطة .. وحتى لو رحل يوجين فأنا سأبقى بجانبه وإن كنت تظن أنك ستجبرني على الزواج بشخص آخر فأنا أقسم لك أنني سأقتل طفلي ومن ثم سأقتل نفسي ويمكنك حينها تحمل ذنب هذه الأسرة !"
نزل من عرشه ليقوم بصفعها بقوة جعلتها تسقط أرضاً وهو يزمجر بغضب :" أنا هو الحاكم وأنا من يقرر .. توقفي عن تهديدك الفارغ هذا إينوري .. لا تظني ولو للحظة بأنني سأتردد بقتلك وإبنك ايضاً وإخفائكم عن الوجود فأنتي مُنذ الأساس من سببتي لي العار "
إبتسمت بوهن لتتحدث :" حقاً ؟ وماذا عن كل ذلك اللطف الذي عاملتني به خلال الفترة الماضية ؟ ماذا عن وعدك بأنك لن تؤذي حفيدك ؟ أأنا من سبب لك العار أم تصرفاتك هي التي تجعلني أخجل منك ؟ تباً .. تباً ( نهضت وهي تسمح لدموعها بتبليل خدها المتورم لتصرخ ) : لا بأس قُم بإعدامه غداً وابعد طفلي عني .. واتركني حينها كجثة هامدة بلا روح .. أهذا ما تسعى إليه أبي ؟ أهذا ما سيرضي جلالتك ؟ ألهذا السبب أنجبتماني إلى هذه الحياة ؟"
أراد أن يصفعها مجدداً ولكن يد ذلك الشاب أوقفته ليتحدث :" لا عمي , أعتذر ولكن لن أسمح لك بصفع أختي مرتين .. أعلم أنها إبنتك ولكن ... انا حتى لم أفهم .. لماذا عليك أن تعدمه غداً ؟ هو لم يرتكب أي غلطة صحيح ؟"
إبتسم الحاكم بسخرية وهو يعود لعرشه :" لا يجدر بالمُتطفلين ان يتدخلوا بشؤون عائلية .. عليك أن تكون سعيداً أنني أسمح لك بحضور هذه الإجتماعات أساساً "
أخفض كريستيان رأسه وهو ينحني .. بينما تحدثت الملكة بقوة وشيء من الحقد:" وماذا تعني بذلك ؟ أنت تقوم بإيذاء صغيراي .. إبني ليس مُتطفلاً إنه صغيري أنا .. يكفي أنك أفسدت حياته والآن تُريد إفساد حياة صغيرتي .. أنت حقاً لا يهمك أي شيء ( وجهت نظرها لآنجلي التي كانت تبكي ) : فقط لو أن الموقف قد تم عكسه .. لما تصرفت بالطريقة ذاتها "
لتغادر تلك القاعة بعد أن جعل كلامها شهقات آنجلي ترتفع أكثر أما كريستيان فقد ساعد إينوري على النهوض ليغادرا القاعة ايضاً خلف والدتهما .. في تلك اللحظة إنهارت آنجلي لتسقط على الارض الباردة وتبدأ بالبكاء بشدة فهي الآن لا تبكي فقط لأجل إينوري وأسرتها التي ستتحطم في الغد بل لإنها شعرت أن هنالك فجوة كبيرة قد اُحدثت بينها وبين أخويها .