2- ضميرٌ وحنكة ، ثم ماذا ..!؟
ما من مخلوق نشأ علىْ ضلالة أو مُلوث الفؤاد ، كلٌ منّا بجوفه بذرة الخير ، إما أن تنمو وتثمر إنسانًا يحيى على الفضيلة ، وإما أن تُعكر صفوها قَسوةُ الظروف ، فيغدو شخصًا شغله الشاغل الاقتصاصُ لما واجهه ، لكن هذا ليسَ ولن يكون عُذرًا لارتكابِ الأخطاء ، فيجبُ على الإنسان الحرصُ على فِطرة الخير والحفاظ علىْ سريرته نقية طاهرة من الحقدِ والكراهية العمياء !
###
حَسنا ... كما كُنتُ أقولُ ، تقدمتُ إلى الأمام ومن ثم انتهىْ كُل شيء .. أو هذا ما تهيأ ليْ مبدأيًّا ..!
بطبيعة الحال .. أيّ مجرم يُلقى القبض عليهِ يَتمّ احتجازه ريثما يَنظر القُضاةُ بشأنِه ، وهكذا فقد بقيتُ حبيسًا ثلاثةَ أسابيعَ ولم يَخطر ببالي إلا أنها آخر أيام حَياتيْ ، فماذا يستحق شخصٌ أمضى سنينَ طويلةً يؤذيْ الخليقةَ ويُزهقُ أرواحهمْ أقلّ من الهلاكِ !؟ أُقرّ بأننيْ شعرتُ بدوارٍ حادٍ حينما أُطلِق الحكمُ خِلاف ما كُنتُ أتوقعهُ تمامًا !!! كانَ ذلك السّجن المؤبد وليسَ الموتَ ! بعد تفكيريَ العميق فيْ ذلك أجدُ أنَّ القاضيَ لربما تأثر بتسليميَ لنفسي وتعاطَف معي ! لكننيْ سرعانَ ما تناسيتُ ذلكَ حيثُ سمعتُ أنَّ الشُرطة قَد أعلنت للصحافةِ أنهُ تمّ القبضُ عليّ من قبلهمْ والحقيقة غيرُ ذلك !! غيظٌ شديدٌ تملكنيْ وقتها وشيءٌ من مشاعر الندم اجتاحت كِيانيْ لما أقدمتُ عليهِ ، فهمْ في النهاية لم يستحقوا ما قُمتُ به من تضحيةٍ كادت توديْ بحياتي لأجلهم والناسِ إن غضضتُ الطرف عنْ تأثيرِ ذلك إيجابًا على نفسي ! ذلك تفكيرٌ خاطئ بالتأكيد ، لكن مَن يهتم !! سُرعانَ ما أغابَ ذلك عنْ ذِهني بصيص أمل التاحَ ليْ واحساسُ سعادة رُغم ضآلته فإننيْ لم أعهدهُ ولمْ أُجربهُ منذُ زمنٍ طويلٍ جدًا ، إذا إننيْ أخيرًا استطعتُ اتخاذَ قرارٍ أشارَ عليّ قلبيْ به ، لا عَقلي الذيْ لوثهُ أصحابُ النفوسِ الدنيئة !
###
حانَ الوقت .... الوقتُ الذي سأدخُل فيهِ مُستقرّي للسنواتِ القادمة ، سجنٌ غاية في الضخامة ، نسيتُ اسمهُ لكنه يَقعُ في الأرجنتين – أمريكا الجنوبية !
الشرطيّ الذيْ رافقني إلى هُناكَ قالَ لي بطريقةٍ غير مباشرةٍ أنّ القاضيْ اختارَ ليَ أفضل سجنٍ يمكننيْ الذهابُ إليه وأنَّ الوضعَ لن يكونَ بذاكَ السوء ، تفاءلتُ قليلاً بذلك ، لكنيْ حالما وصلتُ ورأيتُ تلكَ العلبة المعدنية الصدئة التيْ سأوضع فيها رغبتُ في لكمِ ذاك المنافق وتهشيمَ وجهه حتىْ النخاع ، فإذا اعتُبر هذا المكانُ جيّدًا فما الحال في بقية السجون !!؟
فيْ ساعةٍ إلى ساعتينِ تمتّ الإجراءاتُ اللازمة ، استلمتُ الزيّ الرسمي الذيْ يثقب العين بلونه البرتقاليّ الصارخ ! ثمّ أُخذتُ إلى قسمٍ مكتظٍ بالمساجين الذينَ آلت بهمُ الحال إلى هذا المكان ، رُحت انظر إليهمْ بينما أسير خلف الحارسِ المأمورِ بأخذيْ إلى زنزانتيْ ، أشخاصٌ بقمةِ القذارة لا تدري إن كانوا مصنفين من ضِمن البشر !! شَعرتُ وهم يحدقون بي بتلكَ العيون الجاحظة المخيفة أننيْ أسير وسطَ حشودٍ تعانيْ مجاعة لمْ ترَ طعامًا منذ أشهر ! وشعرتُ أيضًا أنني ملكٌ على عرش الوسامة إن قورنتُ بهذه المسوخ ، لكن اتضح ليْ جليّا كونيْ سأصبح مثلهم إن أمضيتُ بقية حياتي هُناك !
###
وُضعتُ في زنزانةٍ مزدوجة مع شابٍّ في حواليْ الثامنة والعشرين ، أي في مثل عمريْ وقتها تقريبًا ، إسمه كيلر باراناس ، اسم غليظٌ بالنسبة لشابٍّ مثله ، فهو يمتلكُ جسدًا متوسط الطولِ ومتناسقًا ، ببشرةٍ حنطية وشعرٍ وعيونٍ كستنائيةِ اللون ، شخصٌ في مثل مظهره البريء لابدّ وأن يكونَ غاية في الخبث ويمتلكُ حسّا اجراميّا فذًا لكيّ يوجد في مثلِ هذا المكان ، فهو محكومٌ عليه بالسجن لستة عشرة سنةٍ قضىْ منها الأولى حتى الآن ، لكن للحق أقول أنه حسنُ المعشر ويتحدث مع من الآخرين وكأنه يعرفهم منذُ زمنٍ ، لذا فقد كُنتُ أستمتع بعض الشيءِ في الحديث معه ، فباعتزازٍ وفخر شديدين كانَ يُحدثني عنْ مغامراتِه الإجرامية في نهبِ البنوكِ وقصورِ الأغنياء ، وكيفَ أنّ الحال آلت بهِ إلى هُنا بسبب خطأٍ أحمق اركبه أحد رفاقه وليسَ لضعفه أو قله حيلته أو ما شابه ! وكانَ دومًا ما يختمُ أحاديثه بعبارة :
_ أوه يا رجل ! إنكَ لهديةٌ عظيمةٌ منَ الإله ! سعيدٌ لأنني حصلتُ علىْ من أحكي له مغامراتيْ المثيرة !
لطالما سَخِر مني لأنني كتومٌ ولم أُخبره إلا بالقليل عن نفسي ، ففي رأيه أنني لا أتكلم عنْ تاريخيَ الإجراميّ لكونهِ مُخجلاً ، على الرغم من أنهُ عكسُ ذلك تمامًا وإلا لما حكَم عليّ بالسجنِ المؤبد ! فأنا لا أحبّ استرجاعه على الأطلاق ، وأودّ لو أتمكنُ مِن نسيانِه نهائيّا وأبدًا ! !
###
كانَ موقِع زنزانتيْ مميزًا بعض الشيء ، فهو مقابلٌ لزنزانةٍ تحوي اثنين مِن أفظع المجرمين الذين عرفهم الأمريكانُ في العقد المنصرم ، ريموند وباركر ! من يراهما يظنّ للوهلة الأولى أنهما كهلانِ أفسدت العراقة بزيادةٍ تعابير وجهيهما القبيحة ، لكنْ بطريقة أو بأُخرى شهوتهما الجنونية للإجرام تمدهما بالشباب ليبقيا على قيد الحياةِ كما يبدو ، الأول ضخم الجثة كالعملاق ، ذو عينينِ يُطلّ منهما الشر ، بشفتينِ غليظتينِ وأنفٍ ضخمٍ مُفلطح ، أمّا الآخرفيتمثلُ فيه معنىْ عبارة " جلد على عظم " ، لهُ شعرٌ أسودٌ فاحِم يصلُ إلى كتفيه وعينانِ جاحظتانِ تكادانِ تخرجان مِن رأسه ، طويلٌ بشكلٍ ملحوظٍ وخفيفُ الحركة كالقردة !
عرفت مِن تصرفاتهما الغريبة على مدىْ أسبوعٍ بأنهما يخططان لأمرٍ خطير لا شكّ في أنه الهربْ ! بُحتُ بما يجول فيْ خاطري لـكيلر فأخبرني بأنه يفكر بالشيء ذاتِه ، وسُرعان ما تحققنا مِن ظننا ، فقد أصبحا فيْ كُل ليلة يعريانِ فُتحة التهويةِ من غطائها خلالَ الساعةِ التي لا يوجدُ فيها حراسٌ يجوبونَ هُنا وهناك ، ما بينَ الساعة التاسعة والعاشرة مساءً يَخرجُ جميعُ الحراس من القسم لغاية لا أدريْ ما هيْ ، ثمّ يعودونَ لإحصاء المساجينِ ، يقومُ هذانِ الإثنانِ بمحاولةِ قصّ القضبانِ الفولاذية التي يبلغُ عددها أربعةً ، استنتجتُ أنهما ينويانِ عبورَ تمديداتِ التهوية إلى المستودعِ ، وِمن هُناكَ يكسران البابَ الذي يحولُ بينهما وبينَ الحرية المزعومة ، كانا يعملانِ بجدّ طوال ثلاثةِ أسابيعٍ أُخرىْ ، ففي بعضِ اللياليْ يكونُ القسمُ شديد الصَّخب فيستطيعان العمل في تلكَ الساعةِ كاملةً ، وفيْ ليالٍ أُخرى يكونُ القسمُ هادئًا فلا يستطيعانِ العمل إلا لبضعِ دقائق ثم يعيدانِ غطاءَ فُتحةِ التهوية إلى مكانِه وكأن شيئًا لم يكن ، وفيْ كُل تلك المدة كنتُ أنا وكيلر نراقبهما بصمتٍ رغبةً منّا في معرفةِ كيف سينتهيْ الأمر ، كما أن ذلكما الإثنين كانا يهدداننا باستمرارٍ بالقتل إن أفسدنا خطتهما ، علىْ العمومْ فإنّ الوشايةَ بهما لن تكونَ ذات نفعٍ إذ أن أحدًا لن يعطينا من وقتِه دقيقة !
انتهىْ ريموند وباركر مِن قصّ قضبانِ فتحة التهوية وعقدا العزم على الهربِ فيْ الليلة التالية ، ويا لتصاريف القدر ! إن لم يُكتب لهما الهربُ فإنهما لنْ يهربا مهما فعلا ، فتلك الليلة بالذات لمْ تكن ليلة عادية ! !
إنّ أحد الشخصياتِ المهمة كان يزمعُ القيامَ بزيارة لذاك السجن ، وقد أُمر الحراسُ بتجهيزِ وترتيبِ كُلّ شيءٍ بحيث لا يبدو رئيسُ السجن في موقف محرجٍ إن حدث وخرج أي أمرٍ عنِ السيطرة .....
###
حانتِ الساعة التاسعةُ وخرجَ جميع الحراسِ مِن القسم ، حينئذٍ تحرك كلٌ مِن ريموند وباركر ، بدأ أحدهما بإزالة غطاءِ فتحة التهوية والقضبان المقصوصة ، بينما الآخر يعدّ دمىً مِن الأكياسِ البلاستيكية وأوراقِ الجرائدِ لتمنحهما بعض الوقت بظنِ الحراس أنها ما هيْ إلى السجينان ولكن نائمان تحتَ الأغطية ، تمددتُ وكيلر على سريريْ ونحنُ نراقبهما ، بدىْ ذلكَ الأخير كما لو أنه يستمتعُ بالأمر ، اعترتني للحظةٍ رغبة شديدة بالضحكِ حينما صاح باركر بعصبية فينا :
_ راقِبا المكان ولا تجلسا هكذا دونَ فِعل أيّ شيءٍ مفيد !!
ردّ عليهِ صديقي بسخرية :
_ ما رأيكَ أن تأتيْ وتضربنا أيَضًا !؟ لا علاقة لنا بهذا فاستدر وتابع عملكَ !
انتهىْ الإثنان من تجهيزاتهما في غضون عشر دقائق ، وبدأ ريموند بالصعود والدخولِ في الفتحة ، ولكن بسبب ضخامته المفرطة علقَ فيها لبضع ثوانٍ عاجزًا عنِ الحراك ، حتىْ سحبه رفيقه بقوةٍ وأخرجه ، كان مشهدًا طريفًا بحق ! اقترحَ باركر أن يدهن ريموند جسده بشيءٍ من زيت الشعر ، فذلكَ سيساعدهُ على عبور الفتحة ، بدت فكرة مقززة ! لكنهما لم يملكا الوقت للتفكير بذلك ! فعل ريموند ما اقترحه رفيقه بسرعةٍ شديدة وشرع في دخولِ الفتحة ، أجدىْ ذلكَ الزيت نفعًا لكن تقدمه كانَ بطيئًا ! حينها استثيرت حاستيْ السادسة التي لطالما ميزتني عنِ الخليقة ، منبه أثق به يجنبني المتاعِب على الدوام ، وهو السبب في رغبة المنظمات الإجرامية فيْ انضماميْ إليهم !
صحتُ موجهًأ كلامْ لريموند وباركر :
_ أنتما ! إن أردتما تجنب المتاعب فأعيدا كُل شيءٍ كما كانَ وحالاً ، أكملا فيما بعد !!
انتفض باركر مِن مكانه وأسرع صوبَ بابِ الزنزانةِ ليتفقد ما إذا كان أحدهمْ قادمًا ، لكنّ البهو كان فارغًا تمامًا ، فبصق باركر على الأرضيّة معبرًا عن اقتضابه وتكلمْ بحنق :
_ إنْ كُنت تشعر بالغيرة فافعل كما نفعلُ ولا تعطلنا !!!
من ثمّ عاد إلى وضعيته السابقة ، فيما ريموند لا يزال يكافح ليعبر الفتحة ...
وما هي إلا ثوانٍ قلالٌ حتى فُتح الباب المؤديْ إلى قسمنا ودخل مِنه ضابطٌ وبرفقته حارسان ليتفقدوا المكان بغية الحرصِ على سيرِ كُل شيءٍ بالشكل الصحيح ، فارتبكَ باركر وراح يتخبطُ في مكانه كالمجنون لا يدريْ ما يصنع !! بطبيعة الحالِ تمّ الإمساكُ بـباركر وشريكه الضخم ريموند وأخذهما خارجًا بواسطةِ عدد مِن الحراسِ للتحقيق معهما ، في أثناءِ خروجهما صاح كيلر قائلاً :
_ نصَحَكُما !!
بعدها التفتَ إليّ وأردف ضاحكًا :
_لمَ لمْ تذكُر ليْ شيئًا عن حنكتكَ قبلاً !!؟