4- مسرحُ الألغامِ
أنْ يكونَ لديكَ هدفٌ تَسعىْ إليه مُختلف عن أنْ تَضَع هذا الهدَف نُصُب عينيكَ بينما تَفقِدُ الإحساسَ بكُلّ ما هُو ثانويٌّ مِن حولكَ ،
هذا تمامًا ما حدث لي عندما أمست الحرّية قابَ قوسيْن مني ، ما عاد غيرها يشغل تفكيري في ذلك الوقت ..
ما كُنتُ أسكتُ به غريزتي المُتعطشةَ لأن أعدُو دونما توقّفٍ كقطٍّ أسودَ يجلبُ التشاؤمَ فيرمقُ من حوله بغطرسة ثم يُتابع طريقه بلا أدنى قَيد يعوقه ، وعِندما كُنت أقنعُ نفسي بأنني أصبحتُ أكثر نقاءً واستقرارًا وراحة ... كُل ذلك ما عادَ إلا تُرّهات صَدرتْ عن شخصٍ مَسلوبِ القرار .. أعني ... إنسانٌ لم يرَ سماء ما خارج القُضبان مِن فترةٍ ليست بقصيرة وقُدّمت لهُ الحرّية على طبقٍ مِن فضةٍ أسَيبقى على ما هُو عليه ..؟ أم ستُضرم نيران فؤادهِ وتُعاوده الحياة بمَنظورٍ جديد !؟
أستطيع القوْل إنني أقدمتُ على انتزاع حُرّيتي بثمنٍ بخس ! الانسلالُ داخِل تِلك المنظمةِ أو أيًّا كانت لم يَكن بحاجةٍ لتلك المشقّةِ التيْ ظننتُ أنني سأتكبدّها ، فأنّى لمُجرمين أن يَستنكروا وُجودَ مُجرمٍ آخرَ بينهم !؟ رُغم أنّ ذلك كانَ في صالحيْ إلا أنه غزاني بضيقٍ شديدٍ اجتهدتُّ حتّى دسستُه عميقًا في داخلي ...
لم يَكن ذلك المكان مبنىً مُتصدّعًا في أرضٍ جرداءَ كما للكثيرينَ أن يَظنّوا ... بل كانَ عِبارة عن قصرٍ شديد الضخامة .. شديدِ الجمَال من المركز وحتى الحدائقِ التي تحيطُ به ، والجَديرُ بالذّكر أنّه قابعٌ في قلبِ المدينة !!
حرِصتُ حِرصًا لا مُتناهيًا عِند دخولي إلى هُناك ألا أُثير الريبةَ فيْ نُفوسِ مَن كانوا حولي فكنتُ حذرًا جدًا في تصرّفاتي وأحسبُ ألف حِساب لكلِّ كلمةٍ تَخرج مِن شَفَتيّ ، وخصصتُ بذلك بِضعة أشخاصٍ كانتْ لهمُ الأولوية في اكتشافِ أننيْ لستُ سيّدهم "جون أكرويد" ، أوّلهم مُدير الأعمالِ أو الساعدُ الأيمن يُدعى "نيل" ، وهوَ شابٌّ ثلاثينيٌّ طَويلُ القامةِ مُرتبُ الهِندام داكِن الشعرِ يَرتدي نظاراتٍ طبيّةً مُضحكة مُستديرة العَدسات ، وكانَ شديد الاهتمامِ بالنظافةِ لِدرجة مُزعجة ،، أمّا الآخرُ فزيرُ نِساءٍ مِن الدرجةِ الأولى .. شابٌّ في عَقده الثالثِ أيضًا وعلى قَدرٍ لا بأسَ به مِن الجاذبية ، يُنادونه باسم "شارك" ، كانَ شخصًا غايةً في الخُبث ، دهيًّا بطريقتِهِ الخاصّة ، ما أمكنَ أحدًا التنبّؤ بِما كانَ يُفكّر به عندما يُحيط امرأةً ما بذراعيه ويُعلّق نظره في الأرضِ شارِد الذهن وعلىْ شفتيه ما هوَ أقربُ إلى نصف دائرةٍ مِنهُ إلى ابتسامة ، أمّا ما أثارَ حقًّا الرّعب في قلبي لهنيهةٍ كَهلٌ منحني الظّهر مُغتضِنُ الملامح تجاوَز الستّين مِن عُمره ، هِندامُه كما رُعاةُ البقر .. عِندما صاحَ لدى رؤيَتِه لي للمرة الأولىْ :
ثمّ أعطاني ظهرهُ وذهب ، كانَ ذلكَ "العجوز بوب" كَما يُنادونه ، لمْ أفهم للوهلة الأولى ما الغرض الذي كان يؤدّيه في ذلكَ المكان ، أخيرًا .. المرأةُ "أوليفيا" ، شابّةٌ جميلةٌ بطريقةٍ مُغرية ، تملكُ شعرًا قصيرًا بُنيّا مِن أعلاهُ وحتى نِصفِه والباقيْ أشقرُ مِن أثر صَبغةٍ قديمة ، ولها عيونٌ عسليةٌ واسِعةٌ تَعكِسُ خبثًا لا مُتناهيًا ، كانتْ تِلك خليلةَ جون أكرويد ، أي خليلتي ، ويالقرفِ وقع تِلك الكلمةِ على مسمعيْ ، عِندما كانت تقتربُ منّي يقشعرُّ جَسَدي في اشمئزازٍ شديد .. وأبتعدُ عنِ المكانِ مُتظاهِرًا أنني لم أرَها ، ولكم حمَدتُ الإله على كوني لا أتأثّرُ أمام إغراءِ النسَاء !!
أمضيْتُ يوميَ الأوّل اسستكشِفُ القصرَ بذريعةِ تفقّد الوضع بعد غيابٍ دامَ بِضعة أسابيع ، كانَ ذلك شاقّا نوعًا ما ولكن ليسَ صَعبًا ، بدا الأمر وكأنني اتجوّلُ في قصرٍ يخصّ عائلةً مِن الطبقة الارستقراطيّة ، الأثاثُ فاخرٌ والتنسيقُ راقٍ مِن الطابقِ الأرضيّ وحتّى الخامس ، كُلّ ذلك مِلكٌ لتاجرِ مُخدّرات ! مما جَعلني أبدأ التفكيرَ في أن أُصبِحَ كذلكَ أيضًا !! على كُل حال ! دخلتُ في أثناءِ جوْلتي حجرةً فسيحةً مملوءة بمُختلف وسائل الترفيهْ ، وكانت شبهَ خالية ، نظرتُ لإحدىْ النواحي حيثُ "تنس الطاولة" فرأيتُ مرأةً صَهباءَ ذاتَ شعرٍ أحمرٍ صارِخ ووجهٍ يَنضحُ حيوية ليسَ لها مثيل ، وكانت تلعبُ بحماسٍ طُفوليّ ، أظنُّ أنّ اسمها كان لارا أو كلارا أو شيئًا مِن هذا القبيل ، وفي الجهةِ المقابلة مِن الطاولةِ طِفلٌ لم يتجاوزِ العاشِرةَ مِن عُمره لا شيءَ فيهِ يُميّزه عن بقيةِ الأطفال سوىْ كآبةٍ يُناضِل بيأسٍ لإخفائها في عينيهِ الناعِستين ، كانَ يُحاوِل بجدٍّ مُجاراةَ غريمتهِ التيْ لمْ تُراعِ كَونهُ أصغر سِنًّا مِنها حتّى إذا أحرزَت نُقطةً صاحَ بغيظٍ :
- هذا ليسَ عَدلاً أنتِ تلعبينَ بِسُرعة !!
فَتُطلق كلارا ضَحِكاتٍ رنّانةً وتدفعُهُ لمُتابعةِ اللعب ..
اقتربتُ مِنهما واضِعًا يديّ في جيوبِ بِنطاليْ .. ما إن لاحَظتنيْ كلارا حَتّى تركت المضربَ واستقامت في وقفتِها قائلةً باندفاع :
- مساءُ الخير يا زعيم ، مرحبًا بعودتك سالمًا !
كُنت قد ضَجِرتً حقًا مِن تلك العبارة التي سمعتها مرارًا وتكرارًا مِن كُلّ شخصٍ صادفتُه في ذلك القصر المُزدحمْ ، فأومأتُ برأسي في صَمتٍ مُصوّبًا نظريْ نحوَ الطفل الذي لمْ أرَ غيره في المكان ، بادلني النظر لِثوانٍ بتمعّنٍ غريبْ ثم حوّل نظره لكلارا قائلاً :
- سأذهبُ لأقرأ القِصص المُصوّرة التي أحضرها لي العمّ ذو النظّارات .
- بربّك ألا تملُّ مِنها !!
- قِراءَتُها أكثرُ مُتعةً مِن اللعبِ معكِ أيّتها القبيحة .
أنهىْ جُملتهُ في فُتورٍ وانصرفَ مُسرعًا ، استدارت كلارا مُقتربةً منّي وهي تُتمتمْ "تبًّا لك!" ، ثمَّ قالت موجّهةً كلامها لي بتأنٍ واستعطافٍ لا يليقانِ بمَظهرها :
- أرجوْ أن تتفهّم الموقِف جون ، أعلمُ أنكَ تكرهُ الأطفال ولكنَّ هذا الطفل ليسَ لهُ مأوىً إلا هذا المَكانْ ، إنّه ابن "آجنس" ، وقَد أُخِذتْ إلى مَركزٍ لإعادةِ التأهيل كي تتخلصَ مِن الإدمان ، سأعتنيْ بِه لبعضِ الوقتِ حتّى تَعودَ أمّه وتتكفّلَ بأمره ، أرجوكَ ألا تأمُر بطرده !
هكذا هَمستُ لها وأنا أهمُّ بالذهاب ، لم يَشغل باليْ أمرُ هذا الطِّفل بقدر ما أشغلني جهْلي بالسّبب الذي جَعلها تُناديني بـ "جون" بدلاً مِن "سيّدي" أو "زعيم" أو ما شابَه ، وما زادَ استهجاني أكثر فأكثر .. عِندما أنهيْتُ جولتيْ وقصدتُ جناحيْ كيْ أرتاحَ وأنامَ فوجدتُ تلك المرأة الصّهباء نفسها في حُجرةِ النوْمِ تُرتّبها وتُعطّرها بعبق "اللافندر" المريحِ للأعصاب ... لماذا هيَ بالذات التيْ تفعلُ ذلك دونَ الخادِمات اللاتيْ يَعجُّ المكانُ بهنّ !؟؟
بطبيعَةِ الحالِ فقَد تظاهَرتُ أننيْ لا أعبأُ بِوُجودِها فاسْتلقيْتُ على سريرٍ مائيٍ كبيرٍ يَتوسّطُ الغرفة وأغْمَضتُ عينيَّ أو تظاهَرتُ بذلكَ بينَما أُراقِب تحرّكاتِها خِلسة ...
كانت تتَوقّف عمّا تَفعله بينَ الفينةِ والأُخرى فتنظرُ إليّ .. بدت لي كأنّما تنتظرُ منّي قوْل شيءٍ ما ، آثرتُ الصمت بالتأكيدِ فأنا حقًّا لم أعلمْ ما الذيْ يَجدر بيَ قوْله !
انتهتْ في غُضونِ سَبعِ دقائقَ ثمّ قالت بهُدوء :
- سَأنصَرِف الآن تُصبِحُ على خَير .
فتحتُ عينيّ وتبعتُها بِنظري حتّى أغلقت البابَ بعدَ خُروجِها ..
وكما اتّفقتُ مع تِلك المرأة "لويز" مِن العدالةِ العالمية ، كلّما اختليتُ بنفسيَ أتّصِلُ بها لأُعلمها بما حَصَلتُ عليهِ مِن معلوماتٍ عن طَريقِ هاتِفٍ عازِل للإشارةِ الكهرومغناطيسيّة كانت قَد أعطَتنيْ إياهُ مُسبقًا ، ما إنْ هَممتُ بالضغطِ على زرِّ الاتصَالِ حتّى داهَمتني حاسّتي بِشعورٍ يُخبرني أنّ الوَضع مِن حولي عيْرُ مُطمئِن ، فدسستُ الهاتِف تحتَ الوسادةِ ووثبتُ بخفّةٍ عنِ السّرير قَاصِدًا بخُطىً غيرِ مَسموعةٍ بابَ الحُجرةِ ، فتحتُهُ بسرعةٍ خاطفةٍ فكانتْ كلارا أماميْ مُباشرةً والجليُّ مِن انحناءَتِها مُحاولتُها اسْتراقَ السّمع ، بادلتنيْ نظراتيَ الحادَّةَ بنظَراتٍ مُرتبكةٍ وقد ازدردتْ ريقها مِرارًا ... وانقضتْ بِضعُ ثوانٍ مِن الصّمتِ حتّى كَسرتُه بسُؤالٍ واضح:
- ييه ..! آسِفة آسِفة ... !
كرّرت عِباراتِ الأَسَفِ كَثيرًا بِلعثمةٍ بينما تتَراجَعُ إلىْ الخلفِ حتّى بَلغتْ بابَ الجَناحِ ففتحتهُ وخرجتْ مُسرعة ، تَبِعتُ خُطاها إلىْ الباب نَفسِه لأُقفِله بالمِفتاحِ وجلُّ تفكيريْ بتلكَ المُزعجةِ وكيفَ أنّه مِن الواضِح شكّها بهويّتي ...
مِن ثمَّ تراءىْ إلى باليْ احتمالُ أنها قد دسَّت أجهِزةَ تَنصّتٍ فيْ مَكانٍ ما مِن الجناح .. لكنْ بَعد أن فكّرتُ بالأمرِ قليلاً سُرعانَ ما نفيتُه فلو أنّها فَعلت ذلكَ لما كلّفت نفسَها عَناء مُحاوَلةِ استراقِ السّمع ، فأجريتُ اتّصالي مُطمئنّ البالِ مِن ثمَّ أرحتُ عينيْ بِنومٍ مُتقطعٍ تاركًا التفكير فيْ أمر كلارا لما بعدُ .
تلاحقت أَحداثٌ جديدةٌ جَعلتنيْ أُعيدُ حِساباتيْ فأَصبحتُ أرىْ ما أنا مُقدِمٌ عليهِ مِن مَنظورٍ جديد ..
فيْ الصباحِ عِند العاشرةِ تقريبًا .. دُعيتُ مِن قِبَل أوليفيا للتنزّهِ فيْ الحَديقةِ الخلفيةِ للقصرِ بِدعوىْ أنَّ الجوَّ الجَميلَ والنسيمَ العليلَ هما الأنسبُ لابتداءِ المرءِ يوْمَه ، لمْ ألمِسْ فيها أيَّ صدقٍ إنّما مُجرّدُ كَلماتٍ مُنمّقة ، ومَع هذا فقد قبلتُ وخرجتُ برِفقتِها ، كانَ هُناكَ غيْرُنا حواليْ خمسةَ عشَر شخصًا آخر مِن قاطِني القَصرِ أصْحابِ المَصالحِ معَ جون أُكرويد ، بعضُهم جالسونَ قُربَ مَسبحٍ كبيرٍ وآخرونَ حوْلَ طاوِلاتٍ مُوزّعةٍ هُنا وهُناكَ أمّا البقية فيَتمشّونَ علىْ الممرّاتِ الرُّخاميّة التيْ تمتدّ بينَ شُجيْراتِ الزينةِ والأزهارِ المُتنوّعة .. أَلقىْ بَعضٌ مِنهم عليّ تحيةَ الصّباحِ بينَما أجلسُ علىْ كُرسيٍّ مُتأرجحٍ وإلىْ جانبيْ أوليفيا التيْ كانتْ تَبردُ أظافِرها وتُدندنْ . لمْ تمُرّ بالكادِ دقيقتانِ حتّى جاءنيْ "نيل" وبدأَ يَسردُ عليّ بنبرةٍ خاليةٍ مِن التعبيرِ تفاصِيل عَن سلسلةٍ مِن الصّفقاتِ التيْ يُفترضُ أن أقومَ بهَا مَعَ تُجّارٍ مُهمينَ ابتداءً مِن الأسبوعِ القادِم ، لمْ أكُن مُنصِتًا كمَا يجبُ إنّما تظاهرتُ بذلك فالنيّةُ كانتْ أنّ بقائي في ذلكَ القصْر لنْ يَدومَ لأكثرَ مِن ثلاثةِ أوْ أربعةِ أيّامٍ ، بقيَ نيل يَتَحدّث رُبُع ساعةٍ كاملةً بلا توَقف ، وكأنّه آلةٌ مُبرمجة .. حتّى إذا انتهىْ سألنيْ بلا تغييرٍ فيْ نبرتهِ إنْ كُنتُ أحتاجُ إلى شيءٍ .. فأشرتُ لهُ بالانصرافِ ، ولمْ يَكد يذهبُ حتّى أَقبل إليّ آخرُ على سجيّةٍ مُناقِضةٍ ، الشّابُّ "شارك" ، كانَ شَعرهُ الذيْ يَصلُ لرقبتِه مُبعثرًا قليلاً ويرتديْ قميصًا مُبهرجًا مَفتوحَ الأزرار ، إلا أنّ ذلك المظهرَ الخاليَ مِن الذوْقِ لمْ يُنقِص شيْئًا مِن مَلاحتِه حسَبَ معاييرِ النِّسوةِ .
هَتَف بعد أنْ أخرجَ سيجارةً مِن جيبِ بِنطالِه وأشعلهَا :
- صَباحُ الخير سيّد جون ، كيفَ الحَال !؟ ... أوه .. ولكِ أيضًا "أولّيْ" ، أرجُو أنكِ قد نمتِ جيّدًا... ووحدكِ !
لمْ استطِع مَنعَ نفسيْ مِن الالتفاتِ بِسُخريةٍ إلىْ أوليفيا التيْ رَمقت شاركْ بِنظراتٍ حارقةٍ مِن بينِ أسنانِها :
ضَحِكَ الأخير ضِحكةً صاخبةً رأيْتُها بلا معنىً ، ثُمّ استدارَ وذَهبَ ناحيةَ المَسْبح ...
انتبهتُ فجأةً للمرأةِ التيْ سببتْ ليْ في الليلةِ السّابقةِ إزعاجًا كبيرًا .. أعنيْ كلارا ، كانتْ تَجلسُ إلىْ طاوِلةٍ تَبعدُ عن مَكانِ جُلوسيْ خمسَ عشرةَ خُطوَةً تقريبًا .. تقرأُ مَجلّة ، لكنْ سُرعانَ ما غضضتُ الطرفَ عنها إثرَ شُعورٍ فظيعٍ راودنيْ وقُشعريرةٍ شديدةٍ هزتنيْ مِنَ الداخِل ... انتفضتُ بِسُرعةٍ خاطِفةٍ عنِ الكرسيّ .. وما هيّ إلا ثانيةٌ واحِدةٌ أو أقلّ وإذا بجَميعِ مَن كانوا في الحَديقَةِ يَنتفِضونَ كَما فَعلتُ حيثُ سُمِع دويٌّ كما الرّعد ...
التفتُّ خلفي وتحديدًا إلىْ المكانِ الذيْ كُنتُ أجلسُ فيه ، نَهَضتْ أوليفيَا تِلقائيًّا عِندما رأَت ما رأيْتُ ، ثُقبٌ ضيّقٌ يَخترقُ المَقعَد بالضّبط في الموضعِ الذيْ كُنتُ أُسنِدُ رأسيْ إليه ، ورصاصةٌ نُحاسيّةُ اللونِ مُستقرّةٌ علىْ الأرضِ خلفَ الكُرسيّ .
بدأَ الكثيرونَ بالتوَافُدِ ليروا مَاذا حّدّث ، بينمَا رُحتُ أتلفّتُ هُنا وهُناكَ فإحساسيْ بالخَطَرِ لم يَزَلْ مُتّقِدًا ، عندَئذٍ أَقبلتِ كلارا مُسرِعةً وصَاحَت بالموْجودينَ :
- مَاذا تَظُنّونَ أنّكُم فاعِلون !؟ هيّا إلىْ الداخِل فالمكانُ خَطِرٌ هُنا !
ثمَّ اقتربتْ مِنّي ودَفَعتنيْ بِذراعيْها نَحوَ البابِ وهيَ تَستَعجِلُني بالدّخول .
عُقِد فورًا اجتماعٌ لمُناقشةِ مَا حَدث .. اتّفق فيهِ كُلّ الحاضرين أنّ ذلكَ كَانَ مِن فِعلِ شَخصٍ أوْ أشخاصَ يُضمِرونَ الحِقد لـجون أكرويد ، أمّا أنا فكَانَ ليْ رأيٌ مُخالِف احتَفظتُ بهِ لنفسيْ ، فالحريُّ بهِمُ النظر فيْ براءَةِ مَن هُم فيْ الجِوار قَبلَ تَوجيهِ التُّهَمِ لِمنْ هُم في الخارِج ، وعِندما فكّرتُ بالأمْرِ مِن هذهِ النّاحيةِ أوّلُ شخصٍ خطَرَ فيْ باليْ هيْ المرأَةُ أوليفيا ، فدَعوَتُها ليْ للخروجِ بتِلكَ الطريقةِ يُثيرُ الريبةَ إذ لمْ أجِد سببًا مُقنِعًا يَدفَعُها لفِعل ذلكَ سوَىْ اغتِياليْ ، حتّى الجوّ فيْ ذلكَ اليَومِ لم يَكنْ جميلاً جدًا كَما قالت بلْ كانَ رطْبًا وبالكادِ استشعرتُ هواءً يَهُبّ !
بينَما كُنتُ غارِقًا فيْ التّفكيرِ شَعرتُ بشيءٍ ما يُمسِكُ قميصيْ ويَسحَبُه لأسْفَل ، فنظرتُ لأجِد الطّفل الذيْ رأيتهُ سابقًا بصُحبةِ كلارا ، كانَ يُنادينيْ مُنذُ فترةٍ لكنْ لمْ أنتبِه لهُ ...
- هَل أنتَ بِخيْرٍ يا عمّ ؟
أومأتُ لهُ بالإيجابِ ، عندَئذٍ أشارَ ليَ بإصبعِ يدهِ السّبابةِ أنْ أنخَفِضَ لمُستواهُ ففعلتُ .. قالَ بِصوْتٍ أقربَ للهَمسْ :
- في هَذا القصْر رجُلٌ اسمُه "شارك" إنّهُ لا يُحبّك !
سَكَتَ قليلاً ثُمّ أردَف :
- ليْسَ هُوَ فحسْب ، بَل هُنالك كَثيرونَ في هَذا القَصرِ لا يُحبّونك ...
- لقد أَخبرنيْ بِذلكَ العمُّ المُسنُّ بوبْ كيْ أُحذّركَ .
- حَسنًا فَهِمت ، ولكنْ أبقِ هذا سرًّا بيننا ، اتفقنا ؟
قُلتُ ذلكَ وأنا أُربّت علىْ رأسِهِ فأومأ مُوافِقًا وهوَ يَبتَسِم ابتسَامةً طُفوليّةً ثُمَّ ذَهَب راكِضًا ..
أنا لمْ أفهمِ السبب الذي يَدفعُ جون لإسكانِ ذلكَ الكمِّ مِن الأشخاصِ في قَصرهِ ، كانَ علىْ شخصٍ مِثله توقّعُ الغدر كنتيجَةٍ مُحتَملةٍ .
أدركتُ ساعتَها أننيْ في خَطرٍ لأننيْ جون أكرويْد ولأننيْ لستُ جون أكرويد !
عِندما حلَّ المسْاءُ توَجّهتُ إلىْ جناحيْ كيْ أرتاحَ قليلاً مِن الضغط الذيْ ازدادَ علىْ كاهِليْ ، لأجِد المرأةَ كلارا تنتظِرنيْ جَالسةً علىْ السرير تَهُزّ قدَميْها بِنفادِ صَبر .. وقبل أن أقوْل أيّةَ كَلِمةٍ توجّهَت إليّ بسُؤالٍ مُباشِر :