1- ضَميرٌ صَحا بَعدَ سُباتٍ ..
في منظور أي كاتب شغوف بخيالاته .. ما أعذب كتابة الكلمات الأولى من أي حكاية ، فلا هو ولا غيره على دراية إلى أين ستحمله هذه الكلمات وأينَ ستحط به ...!
أما بالنسبة لإنسان كسير أُجبر على اعتلاء رياح حكاية ما كان بيدهِ ابتداؤها .. فالأمر مختلف بكل تأكيد .. وهذا ما حدت معي تمامًا .. كانت تلك تجربة مريرة على مدى سنوات طِوال ، أبسط ما يمكنني وصفها به .. هو انها قد حطمت قلبي دونما رحمة وحولته... إلى فتاتٍ تناثرت هنا وهناك ، حتى أضحت تداسُ بأقدام المارة منَ العامّة وعَبرة السبيل ، وأولئكَ الذينَ يتحكمون بالخليقة تحت اسم – العدالة – لا يدركونَ حقيقة أنهم حثالة المجتمع ولا أحد غيرهم ...!
قلبي الذي لا أكذب حينما أقول أنه كان فيما مضى غضًا رقيقًا أبيض ، لستُ على دراية ما إذا احتفظ بسجيته أم لا ؛ بعد احتكاكه بكل تِلك الملوثات ، الحكم على هذه الناحية ليس لي على أي حال !
.
.
كانت بداية الجحيم الحقيقي ، والأمر الأصعب في تجربتي على نهايات ديسمبر .. كأنها تخبرني بنهاية حقبة وبداية أخرى في حياتيْ ، لا أستطيع إعطاءها اسم نقطة التحول الكبرى ، فمسيرتي كانت مليئة بنقاط تحولٍ .. أغلبها إما أليمة أو مزعجة ...
خرجتُ منَ مسكني ، مشيتُ ومشيتُ.... ومشيت ، هائمًا على وجهي في الطرقات... مكسور الخاطر مهزوز الكيان ، أجهل ماذا أصنع ! كُنت مدمرًا كُليًا ، ليسَ ماديًّا وإنما معنويًّا ، أُبصر الناس من حوليْ بغشاء شبه شفاف يغطيْ عينيّ ويجعلني أزدريهم ... أكرههم ... جميعًا بلا استثناء ، أنظر إليهم على أنهم نبلاءٌ مزيفون ، يختبئونَ خلف أقنعة نظيفة يصنعونها بأيديهم القذرة ، كالحرابيْ التي تتلون لئلا تلحظها الفريسة المنشودة ، فما إن تُصبح في المرمى حتى تكشف الحرباء عن نفسها وتنقض دونما شفقة ...!
كنتُ قد خسرتُ من كان فؤادي به ينبض ، منَ كان فؤادي بمرأى ابتسامته يتخطى كُل ما حلّ بهِ منَ غمٍّ ويُنشِد أغانيَ كُلها عذوبة وحَلاوة .. أُكرهت على تركه.... أو بمعنىً أصحَ: هُو أُكره على تركي... كُلما استرْجَعت ذاكرتي .. ذاك المشهد الأليم الذي كُنت فيه أُراقِب توأمي الروحيّ يبتعد شيئًا فشيئًا حتى تلاشى مِنَ ناظِريّ ، سِكينٌ تمزق جوفي المثقل بالبؤس والضراء ..!
بعدها... أغمضتُ كلتا عينيّ ، وأرخيتُ العنانَ لجسديْ كي يصنع ما اشتهاه كِياني منَ بعدِ كُل تلكَ الصدمات المتتالية والموجعة ، بلا بصيرةٍ أو ضميرٍ حيّ يُنبهني بفداحةِ الأخطاءِ التي ارتكبها ، علّني إذا شغلت نفسي بأمورٍ كتلك سأنسى كُل شيء....... ويَلتئمُ جرحُ قلبي ، حتى ولو خلّف ندبة ! هذا إذا التأمَ أصلاً ....!!!
آهٍ... لا يزالُ الندمُ حَتى اللحظةِ يُخالجنيْ ويأبىْ الانتفاء إلى اللا عودة ! لمْ ولنَ أنسىْ طامةً كادتَ تُفقِدنيْ عقليْ حينما فتحتُ تِلكما العينينِ اللتين يُطلقُ عليهما إسمُ الضميرِ بعد سُباتٍ دامَ خمسَ سَنواتٍ مُتتابِعةٍ ، رأيتُ شيئًا كُنتُ أُبصِره باستمرارٍ طَوالَ كُلِّ تِلكَ السنواتِ ، لكننيْ لمْ أقِف عندهُ وأُدقّق إلا لحظتَها ، رأيتُ اسميْ... مَكتوبًا بخطٍّ عريضٍ ، وعلى الصفحةِ الأولىْ منَ الجريْدةِ الأكثرَ شُهرَة فيْ البِلاد :
ســوتـــر ديـــنلســـونَ ، مُـــجرِمُ العـــصَر ، فيْ أَقـــلّ مِن سِـــتِّ سَـــنواتٍ !
مَعه صورةٌ واضِحةٌ ليْ كُتِب تحتها : مِئةُ ألف مِنَ الدولاراتِ لمَنْ يُسَلمهُ للشُرطَةِ أو يُقدِّمُ َمَعلومةً موثوقةً عَن مكـانِهِ !
هَمسْتُ لا إرادِيًّا بَعد قِراءتيْ – أو بالأحرى التِهاميْ – للخَبر كامِلاً :
- أليْستْ مِئةُ ألفِ دولارٍ مُستَحقّاتٍ مُبالغًا جدّا فيها مِنْ أجَلِ شَخصٍ مِثليْ !؟ نَكِرة أَوصَلتْ نفسَها بِقَدميهـا إلىْ مآلٍ كَهذا لا تُساويْ حَتى قِرشًا واحِدًا !!!!
رَاحَت اَفكاريْ تتخَبّطُ كأوّراقِ شَجرٍ يَابِسةٍ لا حِيلةَ لها أنْ تَبقىْ سَاكِنةً فيْ خَضمٍ عَاصِفةٍ هَوّجاءٍ... مَا الذيْ فعلتُه بنفسِيْ!؟؟ مَا الذيْ اقتَرَفْتْهْ يَداي !؟؟ أَصبَحتُ وَحشًا ! أزهَقتُ أَرواحًا بريئَةً ! وأَسْهَمتُ... فيْ الدّمارِ وَالفَسَادِ !!
اسْتَرجَعتُ كًلّ ما مَررتُ بِهِ منذُ أصْبَحتُ أُدرِكُ مَا يَدورُ حَوليْ وحَتّى اللحظة ! مَا فعَلتُهُ لهؤلاءِ البَشَر ، كَانَ حَصادَ ما فعَلوهُ بيْ فيْ كُلِّ تِلكَ السنواتِ ، هُمُ الوحوشُ وليسَ أنا ..!!
لمْ أَقوىْ علىْ البَقـَاءِ واقِفًا فوقَ أرضِ ذاكَ المَنزِل الذيْ اتّخذتُهُ ورِفاقيْ مَقرًّا لنـا ، ومَركَزًا لبَدءِ عَمليّاتِنا .. انحَنتْ رُكْبَتايَ فَجَثوتُ على الأرْضِيّةِ ، وأَمْسَكتُ رأسيْ بِكِلتا يديّ فّقدْ باتَ يُؤلِمنيْ بشِدّة ... رُحْتُ أَصرخُ بِهَستيريةٍ :
- ولكِن مَا ذَنبُ تِلكَ الفتاةِ التيْ اعتَرَضتْ طَريقيْ خطأً !!؟ ...مَا ذَنبُ ذلكَ الحـارِسِ الذيْ أخلصَ لِعَمَلِه حَتىْ آخِر رَمق !!؟ مَا ذنبهمْ جميْعًا ؟! لّقد قَتَلتٌهمْ بيَديَّ هـاتَينَ ! لَقَد قَتَلتُهمْ !!!
سُرعـَانَ مَا انتَصَبتُ واقِفًا ، اتَّخذتُ قرارًا مَا كُنتُ مُسْتعِدًّا لِتغييرِهِ مَهمَا حَصَلْ! صَحيحٌ أنَّنيْ كَانَ مُشوشًا وَقتَهَا ، إلا أننيْ وَلِأوّلِ مَرّةٍ فيْ حَياتيْ ، اسْتَمعتُ لِقلبيْ الذيْ أَشَارَ عليَّ بِمَا أَفعَلْ .
خَرَجتُ مِنَ الغُرفةِ التيْ كُنتُ فيهـَا مُتجِهًا مُباشَرةً صَوبَ بابِ البَيْتِ ، إلا أنَّ يَد أحَدِ رِفاقيْ – والذيْ كَانتْ رائِحَتُه شديدةَ النتانَةِ – أَمسَكَ بِرُدفيَ الأيْسَرِ مِنَ الخَلفِ فَجَعَلنيْ ألتَفِتُ لهُ ، بدأَ يَتَحدَّثُ وَيَتَحدثُ ، وَأنا أَنظُرُ لِثَغرِهِ الذيْ يَتَحرّكُ ، دونَ أنْ أَسْتوعِبَ كَلِمةً وَاحِدةً ممَا يَقولْ !! كَأننيْ لمْ أَعُد أَفْهَمُ اللُغةَ التيْ نَتَكلّمُها ! اسْتَطَعتُ – بِصُعوبةٍ – الإمْساكَ بِبِضعِ كَلمْاتٍ مِنْ حَديثِه مَكّنتنيْ مِنَ فَهمِ ما كَانَ يَتَفوهُ بهِ لِدقائِقَ " نَذهَبُ ..... سَطوْ ......تومَاسَ ... شَرِكةٌ ..... شَاحِنَتنا ... مَصْرِف . . . "
صَرَختُ بهِ :
- إليكَ عنّيْ أيّهـَا المُتعفنْ !!
لمْ يَسْتمِع لِما قُلتُه بَل قالْ شيئًا... لا أَدريْ مَا هُوَ ، لكنّهُ بدى كأنّهُ يُعنّفنيْ ، لمْ أّتمالَكْ نفسيْ فَدَفعتُهُ بِكُل ما لديَّ مِنَ قُوةٍ فَسَقطَ أَرضًا وَراحَ يَتَأوهُ أَلمًا ، بَرحتُ مَكانيْ وَخَرجتُ مِنَ البيتِ ، جَريتُ.. كَما لمْ أجرِ مِن قَبل ، مَن يرانيْ يَظنُّ أنَّ المَوتَ يَلحَقُ بيْ ، لَعلّيْ كُنتُ أُريدُ الوُصولَ إلىْ مُبتغَايْ قَبلْ أنْ أُعيدَ التّفكيرَ فيمَا أنَا مُقدِمٌ عليهِ وأُغيّرَ رأييْ ، أَدركتُ أننيْ أَجريْ نَحوَ مَصيرٍ مَحتومٍ.. سَيُغيّرُ حَياتيْ ويَلعبُ بِها ليَقلِبهـَا رأسًا علىْ عَقِبْ ... بالتّأكيدِ إلىْ الأسوءِ إِن فكّرتُ بذلكَ مِن ناحِيةِ بَدنيْ .. ومُستَقبليْ كذلكَ ، أمّا مِن ناحيةِ نَفسيتيْ وضَميريْ ، فَسَيَجِدانِ راحةً ورخَاءً انعَدمَا مِن حَياتيْ لـسَنَواتٍ طِوالْ !
أَوصَلتنيْ سـَاقايَ إلىْ أَقربِ مَخفَرِ شُرطةٍ للحيّ ، دَخلتُهُ بِقَدمٍ للإمامِ وأُخرى للخلف ، أَوشَكتُ عَلىْ إعادةِ النظِر بِخطوتيْ التالِيةَ لكننيْ مَنَعتُ نَفسيْ عنْ فِعلِ ذلكَ ، تَقدّمتُ للأمامِ ومِن ثمّ ........!