التصنِيف: خيال , دراما..
الدراما تصنيف ثاِبت
نِصفُ ابتِسامة !
بقيتُ الصباحَ بأكمله مستلقياً على سريري , لم أخطِط لقضاء أول يومٍ لي خارِج السجن في مكانٍ غير فراشي الوثير , شعرتُ بأنني لم أنَم على سرِير منذ سنين طويلة , والواقِع أنه عامٌ واحِد قضيته خلفَ القُضبان !
منذُ عام .. كنتُ قد رأيتُ شاباً سميناً يعبثُ بأداةٍ حادة مع صديقتي ’أوليفيا’ كانت تصرُخ ذُعراً , وأنا ضربتُه على مؤِخرة رأسه وظهره عِدة ضربات قبل أن أستوعِب أنني ألقيتُه فاقِداً الوعي باستِخدام مضرب البيسبول , قِيل أنه أصيب بأضرارٍ خطِرة في عموده الفقري وتمّ نقله خارِج البلاد حتى يتلقى العِلاج , بعدها بيومٍ أو اثنين وجدتُ نفسي مُقيداً وتم أخذي إلى زنزانة بارِدة بحُجة أنّي بحاجة لإعادة تأهيل..
سمعتُ طرقاً خافِتاً على نافِذتي ففتحتِها وأنا أتثاءب لأجِد صديقة طفولتي ’إيفا’ , لوحَت لي بابتِسامة هادئة..
_سعيدة بخرُوجِك.. مُبارَك..
بابتِسامةٍ شكرتُها بينما سِرنا طويلاً بعد عبارتها:
صادَف أن عبرنا أشجاراً عدِيدة كُنا نقضي مُعظَم طُفولتنا تحت ظلِها مرة وفوق أغصانها أخرى.. انقطَع عنا صخبُ السيارات فكأنما دخلنا بُعداً غير الذي نعرفه..
أتتني الصيحَةُ مُبتهِجة , مُتزامِنة مع هبوط ’ديفيد’ من غُصنِ شجرة بجانبي..
رشقَ ديفيد إيفا ببعض تعليقات ساخِرة وتجاوبت معه في مُحاولةٍ لإعادة روح البهجة إلى ’قلبي الميت’ كما يدعوه , لم أكُن أشعُر بشيء سوى الغرابة , شيءٌ ما خاطئ..
شيءٌ ما.. ببساطة لا ينتمي !
مذُ خرجتُ من زِنزانة النعيم-الجحيمية وأنا أشعُر بأنّي ضائع..
أراقِبُ الأمور تتداعى في هدوء , وذاك الصوتُ الخفيض في عقلي يكتفي بالتعليق في قِمة الرزانة , بأن ما يحدُث حولي خاطئٌ حتماً..
أدركتُ كم كان حدسِي مُصيباً حين توقف ديفيد عن الحديث والسيرِ مُرتبِكاً التفتُ إلى مسقطِ بصره لتستقبلني أوليفيا بتلويحة , اتّجَهت نحوي بينما ابتَسمتُ لها لثوانٍ فقط قبل أن ألحَظ الإنسان الذي يقِفُ خلفها , العفريت الذي سحبني إلى غور الهاوية..
كان ’آندريه’ الفتى الذي هاجمتُه سابِقاً يقِفُ باسِماً , بدا الأمرُ كسُخرية أو محاولة للتلاعُب بأعصابي , أو إتلافها تماماً , التفتُ إلى الرفاق ليقابلوني بنظرة عجيبة لم أفهمها..
_هل أنـَت جاد؟ لماذا تظهرُ هنا؟ لماذا لا زلتَ على قيدِ الحياة من الأساس !
صرختُ به غاضِباً فابتَسم! لماذا يبتَسِم؟ لماذا هو مُصِرٌ على إثارة أعصابي بهذا الشكل؟
هو قد غدا نحيفاً للغاية , لكِنه لا زال يحتفِظ بتقاسِيم وجهه التي توحي توحي بالخُبثِ والدهاء..
تحدّث ببرُودٍ تام بينما وقف صوبي , فوراً أمسكتُه من تلاليب قميصه , شعرتُ برغبةٍ عارِمة في تهشيم وجهه , لهيبُ غضبٍ اتّقَدَ في داخِلي حين قلتُ مُهدِداً بنبرةٍ قاسِية لم أألفها..
_أستطِيع أن أرسِلكَ إلى المشفى مرة أخرى..
رأيتُ الرُعبَ في عينيه للحظة , لكِنه مسحه بسُرعةٍ وهو يُخبرني بأنني لستُ قادِراً على تكرار ما حدث , كرِهتُ كونه مُحِقاً تماماً , بغضتُ نفسي حين أرخيتُ قبضتي وتنهّدت , ثم شعرتُ بشخصٍ يُبعدُني عنه , كانت أوليفيا تسحبُني حتى اختفينا عن أنظار المجموعة لنقِف قُربَ النافورة البهية قريباً من الطريق..
_ماذا حلّ بِك؟ لا تتصرّف بخشونةٍ هكذا , حاول أن تفهَم الأمور..
صدقني لقد تغير , هو ليس كما بدا !
بمُنتهى التبلّد نطَقت , فحاولتُ أن أبدو هادِئاً قدرَ المُستطاع وأنا أجيب..
_أفهَم الأمور؟ ليفي , بجدِية.. ذاكَ الشابُ دمّر حياتي..
أمسكَت بخُصلة من خُصلات شعرها الأشقر ثم قالت بنفسِ نبرتها المُستفِزة..
_أنتَ هاجَمته بعُنفٍ مُبالَغ في بادئ الأمر..
قلتُ أرجوها الصمت, كُل ما بِداخلي كذّب مُحاولاتها لجعلي مُخطِئاً مُتنمِراً , لكِنها أكملَت وكأنها تلُومُني..
_أنتَ دائماً هكذا , تتصرّفُ دون تفكير , هذا ما زجّ بِك في السجن أساساً..
تعجّبتُ من قُدرتي على ضبطِ أعصابي حينها , فبالرغم من النبرة التي خرجت أضعَف مما ينبغي , أنا استطعتُ أن أغادِر بابتِسامة قهرٍ على وجهي..
ولكِن ماذا حدثَ في غيابي؟!
أوليفيا لم تكُن الوحيدة ! الجميع كان يُعامِلُني على أساس ’المُتنمِّر’
زُملائي تجنبوا الحدِيث معي لفترات , ديفيد لم يعُد يُكلِمني إلا حين نكون وحدنا..
لقد كرِهتُ هذا! , تِلكَ النظرات كانت تُشعرُني بالاشمئزاز..
صرتُ أقضي معظَم وقتي في المنزِل مع أنقى البشرِ قلباً , جدتي..
رُبما قضاءُ بعض الوقت مع كِبار السن يمحو ضبابية الحياة لتبين الرؤى..
هم يعرِفون كُل شيء , لقد عاشوا الحياة طولاً وعرضاً , لأعينهم قُدرة على تمييز الظلامِ والنور..
بينما أنا في دوامة حيثُ لا أحدَ يعلَمُ بوجودي..
لا أرى , لا أسمع , لا أتكلّم..
يهوي كُل ما حولي إلى الجحيم فيما أراقِب من أعلى..
لستُ قادِراً على استِساغة لُعبَة الصداقة الزائفة هذه , سئمتُ منها حقيقةً..
ولم يعُد هُناكَ ما يُثير الاهتِمام..
صباحَ يومٍ مُمطِر بلا غزارة خرجت , زخّات المطر بعثتْ فيّ دافِعاً لمُغادرة المنزل , دون هدفِ الذهاب إلى المُحاضرة الصباحية , توجهتُ إلى جدوَل الماء الذي يفصِل مدينتا الصغيرة عن أخرى , جلستُ على طرِف الجدول بينما كنتُ أفكِر باللاشيء , لا شيء في الواقِع خطَرَ على بالي حينها..
كانَت لحظة طمأنينة وسكُون تام..
أخفضَت إيفا مظلتها ثم جلسَت بجانِبي , تبادَلنا حدِيثاً اعتِيادياً , سألتني عن جدَتي فأجبتُ أنها بخير , ولم أعرِف عمّن أسألُها فأنا لم أرَ أحد أفراد عائلتها قبلاً , صمتنا لدقائق رامِين ببصرِنا إلى زُرقة المياه , حتى همهمت بهدوئها المُعتاد..
_أوليفيا.. ’لماذا تفعَلُ هذا؟’ , تساءلتَ مِراراً صحيح؟
_رُبما هي فقط خائفة ,أو شيءٌ آخر..
فهي قد أصبَحت مولعةً بأندريه منذ زُارته حين عودته من المشفى..
أدرتُ رأسي نحوها بحواجِب معقودة فضحِكَت..
_’ما الذي أفعله هُنا؟’ أنتَ تقول..
برقَت عيناها العسلية حين قالت بِبشاشة..
_ليس تخمِيناً.. أنا أسمعُها بوضوح..
ضحِكتُ وأنا أظُن أنها تُمَازِحُني , لكِن عِبارتها راودتني فجأة..
_هل تعرِف ما كان سيحدُث لو لم تقُم بضربِ أندريه قبل عام؟
بانفِعالٍ وقفتُ بينما أحاطت بي نبرتُها يتبعُها صداها..
لِلحظَةٍ لم أشعُر بوجودي , ليس على الأرضِ التي أعرِفها ..
لوهلةٍ حاطتني هالَة غريبة لا تَبُث فيّ سوَى الرُعب..
ضعُفَت أنفاسي لثوانٍ.. حتى شعرتُ أنّي أسقُطُ بعُنفٍ إلى الواقِع..
أخذتُ نفساً عميقاً , كنتُ مرعُوباً مما حدَث , كانت إيفا تنظُر نحوي بابتِسامة , تأكدتُ حينها من أنّي أكرهُ الابتِسامات , فالابتِسامة قد فقدَت الجانِب المعنوي الذي كانت تحمِله , أصبَحت لها ماهِية أخرى..
تمتمتُ بعد فترة من الصمت , كنتُ أحاوِل أن أرتِب ما رأيته حينها , ألقت إيفا بنفسها على الأرض المُخضرة وهي تقول بينما أغمضَت عينيها..
_بالطبعِ لن تكون.. أتعرِف لماذا؟
مُباشرةً تحدثتُ بعدم رغبتي بالمعرِفة , ضحِكَت..
_أنتَ جبان.. لقد رأيتُ الجانِب الآخر مِراراً..
_نعم.. لكُلِ حدَث احتِمالاتٌ أخرى.. إنه أساسُ السؤال اللعين ’ ماذا لو؟’
بدا الأمرُ غير حقيقي بالمرّة , أنا لم أفهَم شيئاً , لستُ أحتوي هذا القدر من الذكاءِ بداخلي حتى أفهَم تلميحاتها , لم أنبس ببنت شفة , كانت تقولُ أن استِغرابي أمرٌ غريب..
وكأنما لم تُحطِّم حدود الغرابة قبل قليل..
_هذا قاسٍ , لماذا تستخدِم ’ماذا’ بدلاً عن ’من’؟
إجابتي لم تصلها , ربما لأنّي لم أملِكها من الأساس.. وحين ملّت صمتي قالت..
_عزيزي ميشيل.. هل تُريد العودَة لتصحيح الخطأ؟
هل استِخدامها كلِمة خطأ للماضي يجعل ما يحدُث الآن صحيحاً؟
تباً , يومِي لم يبدأ هادئاً ثم انحدَر , إني في القاع من الأساس..
الشيءُ العويص العجيب أنّي أغوصُ إلى ما تحتَ القاع..
لا شيء يبدو منطِقياً.. لا شيء على الإطلاق..
_لا.. لستُ راضياً عن أي شيء الآن..
ألقيتُ بإجابتي الجافة من أي شيء سوى السخط..
لكِن كان لابُد وأن أنتكِس تحت قولها..
_أحقاً.. هذا مُخالِفٌ لما بداخلك.. من السيئ أن تخطو فوق مشاعرك..
اتسعَت عيناي مع هذه العِبارة , لأستوعِب أنّي أقِف في جنحُ الليل عندَ الرصيف الخالِ من المارة سوانا .. وآندريه ..
تردّدتُ وأنا أشاهِد السكين الحادَ يشغلُ كفّه , كان أن انتبه لوجودي خلف ضحيته..
_حري بكَ أن تتظاهَر بأنك لم ترَ شيئاً..
شدّدتُ قبضتي على المضرَب في يدي واستدَرتُ..
_ميشيل , أرجوك.. لا تذهَب..
صرخَة باكِية تردّدت في مُحيطي , نحوَهُم ركضتْ , وبِداخلي صوتان مُتناقِضان..
لكِن الصوتَ الذي دوى أكثر كان يُؤذِن بالألم , في الحالات جميعها.. أنا سأتألم..
أنا لستُ شخصاً لطيفاً على الإطلاق , لا أدري لِم أقدِم على هذا من الأساس ..
احتِراماً لسنوات صداقتنا؟! , بالرغم من أنّي لا أحترِم شيئاً..
رُبما كُل ما يحدُث عِقابٌ لي على سوءِ أخلاقي الدائم !
وسط عاصِفة الارتِباكِ هذه كنتُ واثِقاً من شيء واحِد : أنّي الخاسِر ولو انتصرت..
لِم أقومُ بضرب الفتى الآن؟
لماذا.. لم أتجنّب ظهره هذه المرة أيضاً؟!!