عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات و قصص الانمي

روايات و قصص الانمي روايات انمي, قصص انمي, رواية انمي, أنمي, انيمي, روايات انمي عيون العرب

Like Tree335Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #46  
قديم 05-19-2014, 02:20 PM
 


.
.
.





‎بايرن منشن‎

اعذرني على قلة انتباهي، شكرا لك

‏-


الفصل بعد لحظات....

.
.
.

‏
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس
  #47  
قديم 05-19-2014, 08:52 PM
 
أعلن استسلامي... -_-"


خط النت غير معقول هذا اليوم
سأحاول انزال الفصل غدا، و اعتذر للجميع

مساء سعيدا
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس
  #48  
قديم 05-22-2014, 09:53 AM
 
.














.


- الفصــل الثانــي -



ارتفعت شمس يوليو الحارة قبل ساعتين فقط عن خط الأفق، ومع ذلك ضجت مدينة (فلاندرس) بالحركة.
كانت الحياة في عاصمة (الأسياد) تبدأ باكرا جدا، فلا يعرف أهلها التكاسل أو الخمول حتى أيام الصيف.

جالت بنا سيارة داكنة النوافذ عبر طريق شديد التنظيم، اصطفت على جانبيه أبنية شاهقة تتشابه في تناقض بياضها العاجي، مع زرقة نوافذها الشديدة، كما يتفرد كل منها بتصميم هندسي خلاب.
وكان يقابلنا كل عدة أمتار، عمود طويل أشبه بالمسلة، ينتهي طرفه المدبب بألواح زجاجية هائلة الحجم، تبرع البروفيسور إيستن بإخباري أنها (مصادر الطاقة الشمسية) للمدينة.

رأينا بعض المارة، والكثير من السيارات، لكن المشهد برمته بدا لي آليا، غير طبيعي.
أشحت ببصري عن النافذة حين لاح لي علم (الأسياد) بلونه الأبيض الشهير، وشعاره الأزرق الممثل لشكل هندسي، وهو يرفرف أعلى مبنى حكومي ضخم.
شعرت بالضيق والاختناق كما لم أظن يوما بأنني قد أشعر عند مغادرتي للسجن.

اشمأززت من طريقة العيش المسماة بالمثالية في هذه المدينة،
بدا الناس وهم يعملون أو يعبرون الشوارع، أشبه بقطع الآلات.
لا وقفات أو أحاديث جانبية فيما بينهم، لا ضحك أو لهو أطفال، ولا يرى في الأنحاء أي عجوز متباطئ، أو مراهق متسكع!

لم تكن العاصمة بهذا الشكل الرمزي، الخاضع للنظام حين كنت طفلا، بدا وكأن (الأسياد) أخذوا يزدادون سلطة وعنجهية بمرور الأعوام!
جعل التفكير في ذلك، شيئا خامدا في أعماقي يتحرك باضطراب، ورحت أتمنى أن تصل هذه السيارة إلى وجهتها بأسرع وقت ممكن.

كنت قد تقبلت -على مدى السنين- واقع أني قضية خاسرة، لكن رؤية الحد الذي نمى إليه نفوذ (الأسياد)، ضايقني بشكل مفاجئ، وقد ظننتني غير معرض للأذى بعد الآن.

"ألا تعجبك المدينة؟"

سألني البروفيسور إيستن، وبدا أنه كان يراقب انفعالات وجهي، فأجبته باقتضاب:
"إنها مقفرة!"

ارتفع حاجبا إيستن باستغراب، ما ذكرني بعواقب عبارتي هذه، إذا بدت كإهانة (للأسياد).

"مقفرة كيف؟"

استفسر وعيناه البنيتان تلمعان بحذر واهتمام، لكني لم أجد في نفسي -في تلك اللحظة- المقدرة على إدعاء البلاهة، أو تصحيح تعبيري بواحد أكثر إطراء وتبجيلا.
وعوضا عن ذلك، عدلت وضع النظارة أمام عيني، وأجبته بهدوء:
"لم أرى أي شجرة، ولا نبتة واحدة حتى... تبدو هذه المدينة باردة، جرداء، لا تحمل شيئا من روح الطبيعة."

لاشك أن هذه كانت أطول عبارة أتفوه بها منذ أمد بعيد.
استغرق إيستن في الضحك للحظات، بحيث تساءلت أي حس دعابة ملتوي يمتلكه إلى جانب خصاله الفريدة الأخرى!
قال أخيرا:
"روح الطبيعة؟! أنسى أحيانا أنك ابن آلان تيسلر الشاعر.. أظنها علة في جيناتك للأسف."

لم أتكبد أي جهد لإخفاء الإستياء الذي ارتسم على وجهي، بينما أحدجه بنظرة نارية.
الاستهزاء بوالدي كان أحد الأشياء الغير متقبلة من طرفي، وكان إيستن عالما بهذا،
ولعل رد فعلي هذه المرة جاء باهتا، مقارنة بما كان سيحصل لو أني سمعت شيئا كهذا في السجن.

لم أحاول يوما أن أخدع نفسي، وما كنت لأبدأ بذلك الآن.
لقد جعلتني حياة الراحة والرفاهية التي تذوقتها خارج السجن، أرغب بفعل أي شيء كي أحافظ عليها وأمتنع عن العودة إلى جحيمي السابق.
كانت تلك حقيقة ذاتي الأنانية الجديدة، مهما أشعرتني بالعار والخزي، تبقى الحقيقة التي لا أستطيع تجميلها حتى لنفسي... كنت ضعيفا وكرهت ذلك!

راح إيستن يواصل كلامه متغافلا عن عدم اصغائي إليه،
عدت إلى التحديق عبر النافذة حين راح يشرح شيئا عن نظام التهوية في المدينة، وكيف ينتج الأكسجين النقي، كما لا تفعل أي شجرة في هذا العالم.
تجهم وجهي، واستمررت أتجاهله بما يشبه الوقاحة.
ما كان ثمة شيء يمكن أن يقوله فيغير رأيي.
والواقع أن (الأسياد) لم يعودوا يخدعون أحدا بشعاراتهم الجميلة، أو أعلامهم البيضاء دليل نقائهم.

كانت بداية تاريخهم بالفعل صفحة ناصعة في عالم مظلم.
فقبل أكثر من مئة عام، أوشك العالم على الغرق في أردى المصائر.
اشتعلت الحروب في كل بقعة، معظم الناس كانوا متعطشين للسيادة والثروة،
بينما كان آخرون مهووسين بالتمييز والتفرقة الغير عقلانية.
ماتت أعداد لا تحصى من الناس، فقرا وجوعا ومرضا، واقتتل البقية حتى كادوا يفنون بعضهم بعضا.
نمى اليأس وتفشى في تلك الحقبة، وبدا وكأن الجحيم حل على الأرض!
وبعدها بخمسين عاما -حسب تاريخ (الأسياد)- كان ظهورهم الأول.
مجموعة من العلماء العباقرة، سخروا ذكاءهم وإنجازاتهم لإنقاذ ما تبقى من البشرية، حملوا الدواء للمرضى، وأمنوا الطعام، وأشاعوا جوا من السلام.
أقبل الناس إليهم بلهفة وبجلوهم كمخلصين، أما الفئة القليلة التي اعترضتهم، فقد سحقت بسهولة.
يحكي الناس تخمينا، بأن أولائك الرجال ظلوا مختبئين خلال الفترة السوداء، حتى طوروا بعلمهم قوة كافية لانقاذ العالم.
سلمهم الناس قيادة أمورهم، و امتدت سنوات من السلام والتعمير دليلا على قوة العلم وتأثيره.
لم يدم ذلك الرخاء، فسرعان ما انجرف العلماء وراء غرورهم، وأخذهم جنون العظمة، استموا (بالأسياد)، ومنحوا أنفسهم سلطة إلهية وجب على الجميع طاعتها دون نقاش!

شكلوا نمطا للعيش اعتمادا على العقل فقط، وقد كانوا يؤمنون أن العاطفة سبب الخراب الذي أوشك أن يحل بالإنسان.
وصنفت أجهزتهم البشر درجتين حسب قدراتهم العقلية والجسدية، فسمي كل من يعاني مشكلة وراثية لا يمكن حلها (بالمعيوب)، وتم لفظه خارج رعاية (الأسياد) وحياتهم المثالية.

ورغم أن الكثيرين لم يحتملوا أن ينتزع أفراد أسرهم منهم حسب قانون مجحف، إلا أن الأوان كان قد فات للإعتراض، قوة (الأسياد) بلغت درجة لا تقهر.
أصبحوا ببساطة... حقيقة لا خيار سوى التعايش معها.
تماما كما أناضل أنا لأفعل...





‏غمرني ضوء قوي فور دخولي القاعة الفاخرة، البيضاء ككل شيء ينتمي إلى (الأسياد)، فأسرعت إلى رسم أفضل تعبير حيادي استطعته على وجهي.
أما الابتسام، فلم يكن ضمن خياراتي وقد نسيت معناه منذ زمن طويل.

نزلت الدرج، وما لبثت أن بدأت في ما أصبح جولات متشابهة ومتكررة من الاجتماعات، والحفلات.

يحدث الأمر ذاته كل يوم. استيقظ، ارتدي ملابسي، أتجول وسط أناس غرباء مبتهجين.
استمع إلى خطاب ترحيب بي، وأقابله بالشكر. أرتدي بعد المغيب ثياب المساء، وأحضر حفلة عشاء، ثم أعود إلى شقتي، ويستمر نظام روتيني مستنزف للطاقة.

حافظت على رزانتي في هذه الاجتماعات الموجب علي خلالها رسم صورة دعائية عني، كما حافظت على احترامي لكل شيء.
كنت أظهر في غاية الانسجام والسرور. أما حين انفرد بنفسي في شقتي الخاوية، فقد كنت أغدو في غاية التعاسة عندما أفكر بالأثر الذي تركته في الناس.

يمكن للمرء أن يحس بنظرة الفرح الحقيقي في وجوه البعض عند رؤيتي، لكنه يرى الغضب مختبئا خلف هذا الانتشاء عند (المعيوبين) خاصة.

قبل ليلة، و للحظات دامت دقائق، وقفت في منتصف الساحة أمام المبنى الحكومي الضخم، المكروه لدي منذ أول نظرة!
ولأنه لا (معيوب) يرقى لدخول قاعة اجتماعات، جمع عدد كبير من (المعيوبين) العاملين في المدينة، وحشدوا في تلك الساحة إجباريا.
لم يطلب مني قول شيء لهم، انتهيت إلى رفع يدي كتحية صامتة فحسب.
أما حين هتفوا باسمي، فقد شعرت أن هتافهم هذا هو أقرب إلى صرخة الثأر مما هو صيحة ترحيب!
أدرك تماما بأنني لا أمتلك أي وسيلة كي أغير هذا الأمر.
لا ينجح أي عرض للتهذيب والولاء، مهما كان واقعيا، في قلب هذا الاتجاه.
سياسة استعباد (المعيوبين) كانت أمرا لا يمكن تجميله مهما قيل من كلمات!


شعرت أنني أتحول سريعا إلى شيء لا أعرفه أو أفهمه، ضعت في حاضري هذا، أكثر مما ضعت خلال الثلاثة عشرة عاما الأخيرة.


أعطاني البروفيسور إيستن بعض الحبوب المساعدة على النوم حين بدأ الأرق يترك أثره على ذهني، كما ردات فعلي السليمة.
لكنها لم تجد نفعا. لم أشعر أني بخير.
كنت استسلم للنوم، لكن الكوابيس التي تزايدت عددا وكثافة كانت سرعان ما توقظني.
وتساءلت مرارا إن كانت هذه الحياة حقا أفضل من عذابي السابق؟


بلغت حافة اليأس عند وصولي إلى آخر يوم في الأسبوع.
كانت الحفلة المقامة هذه المرة في قاعة الاحتفالات بقصر (الأسياد) رائعة بشكل لا مثيل له.
السقف البالغ ارتفاعه أربعين قدما كان عبارة عن سماء ليلية، بدت نجومها كتلك البادية في ساحة السجن.
تغمر الأضواء الباهرة المدينة، لهذا يتعذر على المرء رؤية النجوم فيها، لكنهم تدبروا أمر ذلك هذه الليلة.

رأيت شرارات ملونة تطوف في منتصف المسافة ما بين إيوان القصر وسقفه، وكأنها شهب متناثرة، لكني عجزت عن رؤية الشيء الذي يصنعها.
أما طاولات العشاء التقليدية، فقد كانت عامرة حتى آخرها بمختلف أنواع الطعام والشراب.
وجدت كذلك مساحة كبيرة مرصوفة بالبلاط في وسط الإيوان صلحت لكل شيء، بدءا من حلبة رقص، أو مسرح يستطيع الفنانون أن يأدوا فيه، بالإضافة إلى أنها كانت مكانا مناسبا للقاء ضيوف الطبقة الراقية.

لم أبذل أي مجهود للاختلاط مع الناس، منذ اجتماعي الأول كان الآخرون هم من بذلوا هذا المجهود.
ولم أعرف ماذا صنع أو قال (الأسياد) عني، لكني كنت الشخص الذي لا يريد أحد تفويت فرصة رؤيته في الحفلة.
مثلت دور الشاب الودود، أما الواقع، لم يثر أبناء الطبقة المتزلفة والمتملقة اهتمامي في شيء، بل كانوا مجرد أشياء تلهيني عن دقائق الوحدة القليلة التي أسرقها لنفسي.


"إلى متى سيستمر هذا؟"

"ساعة أخرى بعد وتنتهي."

أجابني البروفيسور إيستن مطمئنا، كان يعلم تماما كما أعلم أن الحفلة ستمتد أكثر من ذلك بكثير.
كذب، ومع هذا شعرت بنفوري منه يتقلص بعض الشيء، تقديرا لمحاولته الساذجة هذه للتخفيف عني!
نظرت إلى ساعة اليد الفضية التي ارتديتها كجزء من هندامي الجديد، وهمهمت محاولا إقناع نفسي:
"بعد ساعة؟ لا بأس."

رحت أواسي نفسي... بإمكاني إحتمال بضع ساعات أخرى، شارف الأمر على الانتهاء. لقد سبق ومررت بأوضاع أشد فتكا.

ما كان الأمر ليبدو بهذا السوء لو لم تكن الجدران مغطاة بصوري الفتوغرافية الضخمة وكأني نجم مشهور، والناس الزائفة حولي تلتمع أناقة وتبرق تصنعا، وجل إهتمامهم قد انحصر في كيفية قضائهم وقتا ممتعا.
كان الجو الإحتفالي المبهر هذا برمته غريبا علي حتى التوتر، وأسبوع واحد لم يكف لكي أعتاده.
ذلك بفضل السنوات التي عشت خلالها بعيدا عن الناس، أتخبط في العتمة والألم، وانغمس في الجانب المظلم من الحياة، حتى نسيت كيف يكون العيش السوي تحت الأنوار.
بدوت كمن انتقل فجأة إلى عالم آخر... عالم أصبح السجين التعيس فيه رمزا مبجلا!

وكأن إيستن قرأ انعكاس أفكاري على صفحة وجهي، إذ أسرع يقول:
"إنك عديم الصبر مع الدعاية والإعلان داغن، رغم أنك لست ابن عائلة مشهورة فحسب، بل تملك وجها وتأثيرا مناسبين أيضا."

لم أحب يوما الإنخراض في حديث طبيعي مع إيستن مهما كان نوعه، فلم يكن يروقني التظاهر حيث لا شيء يجبرني.
عمدت إلى تجاهل تعليقه وسألته:
"ماذا تريد مني أن أفعل الآن؟"
أشار بيده إلى الجموع التي تتحرك وتثرثر وهو يقول:
"الدعاية.. الدعاية، وماذا تظن يا داغن؟"

لويت فمي كاتما تكشيرة انزعاج، استعدت لسبب ما في هذه اللحظة كل شعور سلبي لدي ضده، ابتلعت تلك الملاحظة ثم هززت رأسي قائلا:
"كما تريد."

مضيت في السير حتى اختفيت عن ناظريه بين الحضور.
أخذت كأس عصير من إحدى الطاولات، وانتقيت بقعة بعيدة عن الآخرين لأقف فيها،
متجاهلا تعليمات إيستن، وممتنا لأن الأعين لم تكن تلاحقني بهذه الكثافة الآن بعد مرور أسبوع.


"أراك تحتفل بمفردك، ألا تود أن يشاركك أحد؟"

لم أكلف نفسي عناء الالتفات نحو مصدر الصوت، بل استمررت في التحديق بكوب العصير في يدي، متمنيا لو يتحول بمعجزة إلى شراب كحولي عتيق، يسمم عقلي كما ينبغي، عل أفكاره المزعجة تختفي للحظة.
كل ما أردته هو الانفراد بنفسي في هذه الزاوية، بعيدا عن جلبة الناس المستمتعين بوقتهم من حولي.
يا لهذا السؤال السخيف! هل يبدو علي أني أحتفل؟

"ألم يقل لك أحد من قبل أن على المرء أن يبحث عمن يشاركه البهجة؟"

ألا تزال هنا! أليس واضحا أني لا أرغب في حديث اجتماعي؟

"أود الانضمام إليك فهل تمانع؟"

كنت أمانع.
لكن إصرار الصوت الأنثوي جعلني على الأقل التفت نحوه، محاولا لجم غضب راح يتزايد ليشكل ضغطا داخل رأسي.
فوجئت أول الأمر بأن الفتاة بدت أصغر بكثير مما توقعت، في حوالي التاسعة عشرة، وترتدي فستانا أسود كان -مقارنة بالبهرجة السائدة في الحفل- بسيطا، كما انسدل شعرها الداكن كوشاح حريري حول وجهها وكتفيها.

"مساء الخير!"

قالتها وابتسمت، فبدا وجهها ساحر الجمال، وبدت عيناها الخضراوتين شقيتين، تحيط بهما رموش سوداء كثيفة، عينان لم أر لهما مثيلا من قبل.

استندت على الحائط خلفي، ونظرت إليها بغطرسة متعمدة، دون أن أفهم دافعا لسلوكي هذا، عدا الضيق القاتل داخلي.

"اسمعي آنسة.."

"كلويه!"

أكملت بنعومة وهي تنظر إلي مباشرة، تنهدت وكررت وراءها والقنوط باد علي:
"كلويه، لا أقصد أن أكون فظا.."

"لا تكن كذلك إذا."

فكرت بأن علي أن أتصرف بفظاظة حقا إن رغبت في أن تتركني وشأني، قلت:
"لم يكن نهاري جيدا يا كلويه..."

فتمتمت:
"إذا قد يتغير حظك الآن.. داغن."

لويت فمي بسخرية، يستحيل أن تبدو معرفتها باسمي شيئا مؤثرا إذا كان هذا ما تعنيه. أجبتها:
"لا أعتقد بأن حظي سيتغير، شكرا لك ولكن.."


اقترحت سريعا:
"ما رأيك في الرقص؟"

حاربت ارتفاع حاجبي اللاإرادي كرد فعل، ثم اعتذرت:
"في الواقع أفضل ألا.."

"دعنا نتحدث إذا، لن آخذ من وقتك الكثير."

رمقتها بغضب، ولكن ما خطبها وهذا الالحاح؟ لماذا لا تتركني أكمل جملة واحدة حتى؟
ابتسمت من جديد، فلانت تعابير وجهي لتغدو أقل قسوة، ما ذنبها إن كان مزاجي كحياتي، سيئا ومريرا؟!
الأمر أن آخر ما كنت أحتاجه الآن هو التقرب من فتاة لم أرها قط في حياتي.

"أنت مكتئب."

نطقت بلهجة تقريرية، فهززت رأسي بتهذيب قائلا:
"هذا صحيح، لقد حاولت تحذيرك بأن رفقتي ليست ممتعة."

أمالت كلويه رأسها قليلا وهي تنظر إلي، فيما راح شعرها يلتمع بلون بنفسجي داكن بسبب الإنارة القوية في القاعة.

"أتشعر بصعوبة النفاق؟"

أحسست بشحوب وجهي المفاجئ إثر عبارتها. أردفت بابتسامة طبيعية:
"لابد وأن ذلك مرهق بالنسبة لك."

تجاوزت صدمتي كفاية لأسألها:
"عما تتحدثين؟"

انسحبت ابتسامتها، وتغضن جبينها قليلا، فبدت جادة، قالت:
"نحب أن نصدق بأنك مجبر."

لم يشرح كلامها أي شيء، فعقدت حاجبي منتظرا المزيد، واصلت:
"هل فكرت كيف يبدو الوضع للناس؟ أعني.. وقوفك إلى جانبهم؟ نحن نفضل أن نصدق بأنك مجبر، فالخيار الآخر مؤلم إلى حد لا يحتمل."

نظرت إليها متسائلا بغرابة.. هل كانت واعية لعاقبة ما تتفوه به؟!
منعت نفسي بصعوبة، من الالتفات لأتأكد بأن أحدا لم يسمعها. وسألت:
"ما الذي تريدينه؟"

تحدثت بسرعة كما لو أنها تخشى فقدان شجاعتها إن هي توقفت:
"إنهم يهددونك، أليس كذلك؟ هذا واضح، كما وأن عينيك تبرقان بشكل خارج عن المألوف، أنت تتعاطى شيئا، وهو في الغالب ما يجعلك متبلدا على هذا النحو!"

"عفوا؟!"

شعرت باستغرابي يتحول إلى ذهول، وعدلت وضع النظارة أمام عيني وكأن ذلك سيساعدني على الفهم.
التوى وجهها بتعبير يأس، لكنها سرعان ما ابتسمت بشكل مصطنع، كما لو أنها تحرص على تمثيل دور ما، قالت بما لم يناسب ابتسامتها الرقيقة المبتهجة:
"الدواء الذي تتناوله مغشوش، يدسون فيه شيئا يدخلك في حال من التبلد الحسي، إنها خطة محكمة يا داغن، أتمنى أن تكون واعيا بما يكفي كي تفهمني."

انتبهت في تلك اللحظة إلى أن أنظار بعض الضيوف، كانت مصوبة باتجاهنا بفضول.
وذلك كان دافع الفتاة لتؤدي دورا مشرقا، كي تظهر للناظر كما لو أنها مستمتعة بحديث ساذج معي.
مؤامرة؟!
انعقد حاجبي في محاولة للتركيز انتهت بمضاعفة الصداع في رأسي.
زفرت بقنوط، وحاولت مجاراة تمثيليتها بملامح أكثر ليونة، لا تثير الريبة.
"أنت تعلمين بأني لا أفهم حرفا واحدا مما تقولين، صحيح؟"

"تعجز عن التفكير بسبب العقار في دمك، استمع إلي.. تخلص من الدواء هذه الليلة، ثق بي."

لم ترقني طريقة حديثها إلي، كما لو أن معرفة قديمة تجمعنا، قلت:
"لا يمكنك أن تظهري أمامي فجأة مع معلومات كهذه، ثم تطلبي مني الثقة بك.. اكسبي هذه الثقة وقدمي شيئا ملموسا... من أنت؟!"

أطلقت كلويه ضحكة كما لو كانت في غاية الاستمتاع في حديث ودي... تمثيل آخر!
شعرت أن هذه الفتاة الغريبة الأطوار، محتالة، بارعة في الإدعاء... وربما الكذب أيضا!

"نحن في الجانب نفسه، أقله إذا كنت لا تريد فعلا أن تعادينا."

غمرتني الدهشة لدقيقة، ثم تمتمت:
"الجانب نفسه؟ هل افترض أن ذلك الجانب هو جانب التمرد، (وحارس المساء)؟!"

أومأت إيجابا، فأخفضت بصري إلى كوب العصير في يدي من جديد حين استوعبت ما ترمي إليه أخيرا.‏ فقدت اهتمامي فجأة، وتمتمت لاويا شفتي بسخرية:
"يالمضيعة الوقت الكبيرة! الدواء الوحيد الذي أتناوله هو علاج (للإبيلبسيا). لست مجبرا على شيء، فلتفهمي أن هذا خياري، طريقة حياتي الجديدة... وأنصحك يا كلويه بتجاوز خرافات الأبطال هذه فلا منفعة منها!"

لم يبد على وجهها الاستياء، لكني لمسته في نبرة صوتها حين قالت متحدية:
"وهل كان والدك أيضا حكاية خرافية؟ لا تكن أعمى يا داغن، فإذا كنت مصابا بمرض مزمن حقا، كيف لم يتم تصنيفك (كمعيوب)؟!"

زفرت بيأس، لم يكن بمقدوري التركيز كفاية لتقليب الأمر في رأسي النابض بالألم، كما وأني لم استشعر وجود فرق على أي حال.

"ازعجتني بما يكفي، خذي أفكارك وتساؤلاتك العجيبة هذه إلى من يهمه الأمر... ولعلمك، يمكنك أن تلهي قليلا بفكرة التمرد أو المقاومة، لكن العواقب ستكون وخيمة، ومؤسف أن غيرك من سيذرف الدموع وقتها!"

التمعت عيونها الخضراء بغضب وهمست:
"أنت حقير بقدرهم!"

هززت كتفي بغير اكتراث، وعلقت:
"مهما كان ما يسعدك.. فقط امضي."

"من الجيد أن والدك قد قتل قبل زمن طويل، إذ أنه كان ليموت خزيا منك في هذه اللحظة!"

تصلب وجهي بشكل مفاجئ، واكتسى بالقسوة بينما أميل باتجاهها بحدة... لم نعد نتظاهر بأي شيء الآن!
نطقت ضاغطا بعنف على كل حرف:
"لا شيء يبرر ما تفوهت به... لا شيء! أتريدين أن تعرفي معنى الحقارة الحقيقي؟"

أرجعت رأسي إلى الوراء قليلا، وقابلت تحديقها الصامت بتكشيرة قاسية أخرى:
"ماذا سيحدث لو علم الطرف الخاطئ بحديثنا اللطيف هذا أيتها المتمردة الصغيرة؟"

طالبتني بثبات:
"لما لا تخبرهم إذا؟ وتخسر القدر الضئيل المتبقي من إحترامك لنفسك."

موجة عنيفة من الألم نبضت في رأسي، ما جعلني أتخلى عن رغبتي في الجدال،
كان أي انفعال أمر به ينعكس علي سلبا منذ فترة نسيت قياسها.. لم أكن بخير البتة.

أطلقت تنهيدة، وعدت استند على الحائط مرخيا رأسي، ومغمضا عيني عل الألم يخف، همست:
"أتريدينني ألا ألقي الخطاب يوم التأسيس؟"

شعرت بنبرة صوتها تخفت برقة:
"بقدر ما أريد أن أثق بقدرتك على فعل هذا يا داغن، بقدر ما أأسف على عدم منحك فرصة المحاولة."

فتحت عيني وتطلعت إلى الفتاة بحيرة، فلا شيء كان صحيحا أو صائبا حول وجودها في هذه الحفلة، أو كلامها الجريء الذي قابلتني به دون مقدمات.
(حارس المساء) ... هل تعمل لدى (حارس المساء) حقا؟! وما معنى إدعائها المعرفة بخطة (الأسياد) بخصوصي؟

لمحت من زاوية عيني، البروفيسور إيستن وهو يتقدم صوبنا من بين الحضور، فأسرعت إلى اتخاذ وقفة أكثر إهتماما، همست لها:
"فسري ذلك."

أردت أن أفهم أكبر قدر ممكن من لغز هذه الفتاة،
همست تسألني في المقابل:
"ألن تشي بي؟"

نظرت إلى وجهها الفتي، المشعة ملامحه بالشجاعة الدافئة، وعلمت أني لم أكن لأفعل شيئا كهذا قط،
بالرغم من كل شيء... لم أكن لأرتكب خيانة من هذا النوع.

"كلا."

ابتسمت وبدا عليها التأثر بالصدق الذي نطقت به كلمتي هذه.
أصبح إيستن على بعد خطوات قليلة عنا، فعدت أهمس:
"لم ينته حديثنا بعد، لنرقص كما طلبت."

تسللت أنغام الموسيقى من بين الضباب المخيم على تركيزي، وتوقف إيستن مكانه يراقب، بينما أبعد كلويه و أتجه نحو حلبة الرقص.

لم أتعلم سوى رقصات قليلة في صغري، وهي الرقصات المتناسبة مع أنغام الكمان والمزمار، أي تلك التي تتطلب جهدا كبيرا لتأديتها.
وبالتالي شعرت بألا شيء يمكنني عمله مع الموسيقى الهادئة والحالمة هذه.

أمسكت بكلويه، وتحركنا بشكل دائري، دون أن نخطو أي خطوة أبدا.
أمكننا أن نفعل ذلك بفضل قرص دوار مثبت على الأرض.
لم أعتد أن ألمس أحدا على هذا النحو، أبقيتها على مسافة ذراع مني أثناء مراقصتها.
بقينا هادئين لفترة، لكن كلويه عادت للكلام بصوت متوتر.
"لقد تماديت كثيرا، أنا آسفة، اعتقدت أني سأتمكن من معالجة الأمر، وأنه ليس بهذا السوء، وها أنا أوشك أن أسبب مشكلة.."

صمتت فجأة.
كل ما كنت أفكر فيه لحظتها هو احتمال أن تكون على حق.
رفعت رأسي قليلا والتقيت بعيني إيستن التين تراقبانني بابتسامة متألقة على نحو غريب!
تتبعت كلويه اتجاه بصري، ثم سألت:
"لما تتجنبه؟ لا يبدو شخصا سيئا."

أخبرتها بسخرية:
"يمكن للمظاهر أن تخدع أحيانا."

كان البروفسور إيستن بشعره الرمادي اللامع، رجلا متحضرا قد بورك بتلك النظرة المخادعة للشخص الذي يلعب دور الطبيب في المسلسلات الميلودرامية.
الأمر الذي كان متلائما مع مواهبه في تلطيف شخصيته، وكسب الثقة بسهولة.

قالت كلويه تخرجني من أفكاري فجأة:
"أنت بطيء بسبب دواء (الأسياد).. عدني أن تتخلص منه، الأوضاع تتأزم ولم يعد لدينا وقت.. نحن بحاجتك."

حركت رأسي بسرعة من جهة إلى أخرى، لكن لم يبد أن أحدا قد سمعنا.
انشغل إيستن بمحادثة مجموعة من الناس، كما أن الراقصين و الراقصات الذين يدورون حولنا كانوا إما ثملين جدا،
أو أنهم كانوا يريدون إظهار براعتهم!

"آسفة!"

يجدر بها أن تكون آسفة بالفعل، لأن هذه البقعة ليست بالمكان المناسب للتعبير عن أفكار كهذه.
قلت لها:
"وفري هذا لفرصة أفضل وأصغي إلي.. سأتخلى عن الدواء الليلة وأخاطر باحتمال الإصابة بنوبة صرع، لكني أفعل هذا لأعرف ما يجري حولي فحسب... لا أعدك بأي خطط للتمرد، ومازلت عند رأيي."
حملت قسمات وجه كلويه الفتي، جدية أكبر من عمرها حين أجابتني:
"لن تختبئ إذا ما تجاوزت عائقك الأكبر، أنا أؤمن بك داغن تيسلر."

توقفت رقصتنا، وابتسمت لي ابتسامتها الساحرة وهي تقول:
"سأراك قريبا."

"سنرى بشأن هذا، حاذري كلويه."

تصافحنا وما لبثت أن انحنت قليلا، -وهو أمر رائج لدى أبناء الطبقة الراقية هذه الأيام- قبل أن تستدير وتبتعد، غافلة عن حجم الشك الذي زرعته بداخلي.
.









.
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس
  #49  
قديم 05-22-2014, 10:00 AM
 
.




















(2)








لم تغادر تلك الفتاة وكلامها الغريب رأسي لبقية المساء، قلبت حديثها في ذهني بقدر ما استطعت طوال الطريق إلى شقتي.
لكن الصداع في رأسي صعب علي التفكير باستقامة، بدا وكأنه يزداد طرديا مع محاولاتي لفك الغموض.

التفت بارتياب، ما إن شعرت بالباب ينزلق مغلقا من خلفي، لكن تلك الحركة سببت لي ألما حادا في رأسي.
أخذت أنفاسا عميقة، وتركت الألم يمضي، ثم نظرت إلى الحائط الزجاجي لغرفة نومي.
كان الظلام مخيما في الخارج، لم أستطع أن أرى سوى انعكاس صورتي على الزجاج.
رأيت شابا غريبا، يظهر فاخرا ببذلته الرسمية، شعره الأشقر الجعد بدا وكأن الشمس لوحته بحيث غدا داكنا بلون الكراميل،
أما وجهه، فكان فارغا، شاحبا ومنهكا،
عيناه -من خلف النظارة- هما الوحيدتان اللتان أضفتا حياة على قسمات وجهه الخاوية،
بحيث كانتا تبرقان على نحو يكاد يكون غير طبيعي.
بدت الصورة وكأنها لرجل ضائع، انعكاس لشخص فقد ذاته!
شعرت بموجة اضطراب في أعماقي..

سمعت أصواتا في الممر، فحولت نظري إلى الغرفة من جديد.
انزلق الباب منفتحا، لتعبر من خلاله امرأة في أوائل العقد الثالث من العمر.
كانت ترتدي رداء رماديا من قطعة واحدة، وقد عقدت شعرها الأسود الكثيف خلف رأسها.

دفعت بعربة طعام دائرية ممتلئة إلى وسط الغرفة، وضغطت بصمت، زرا معدا في أحد جوانبها، فانفصل عن الطاولة مقعد مريح.
تحركت المرأة لتقف جانبا بذات الصمت، بدا وكأنها تنتظر أي تعليمات إضافية لتنفذها.
خمنت أنها من (المعيوبين) من طريقة عرج ساقها اليمنى، لم انتبه إليها قبل الليلة.
تأملت وجهها الداكن البشرة، ورأيت في عيونها الدعجاء واستقامة ظهرها وكتفيها، لمسة صلابة وكبرياء.. لا تتواجد لدى (المعيوبين) عادة.

"ما اسمك؟"

رمقتني بريبة، لم يكن يفترض بي أن أحدثها لأنها من الخدم، لكني شعرت برغبة في كسر كل القواعد الليلة،
كلويه ومن معها... شخص ما سرب لهم معلومات بشأن الدواء الذي أتناوله، شخص حولي غير مرئي، ولا يشك (الأسياد) بأمره.

"أخبريني، ما اسمك؟"

كررت سؤالي ومنحت مائدة العشاء المتحركة تلك، نظرة منعدمة الشهية.
رفعت المرأة ذقنها وأجابت بحذر:
"مينا."

بدت مشككة في دوافع سؤالي، فقلت:
"شكرا لك مينا، لكني لا أريد طعاما الليلة.. بإمكانك إعادته والانصراف."

سألتني بتردد، بينما أخلع نظارتي وألقيها فوق المنضدة بجوار السرير:
"وماذا عن الدواء سيدي؟"

قطبت جبيني للحظة، ثم خطوت حتى المائدة والتقطت حبتي الدواء الحمراوتين بعناية من فوق الطبق الصغير، تدبرت أمر إيهامها بأني بلعت الحبتين، ثم أخبرتها أن تنصرف.
وما إن فعلت، حتى تحركت لألقي الحبوب في المرحاض.

نزعت حذائي وسترتي وتركتهما على الأرض بإهمال، ثم ارتميت على السرير منهكا.
أمرت بإطفاء الضوء، واستلقيت ساكنا أحدق في سقف الغرفة المظلمة.

كنت قد قضيت فترة زمنية لم أحددها على ذلك النحو، قبل أن تبدأ لمحات متعرجة من الضوء بعبور مجال رؤيتي... اتسعت عيناي.
راح وهم من الألوان المضيئة يتراقص أمام ناظري، تماما كتلك الشهب التي رأيتها في قاعة الحفل... أربكني ذلك وشتتني.
ولم تمضي دقائق حتى شعرت بالخدر يكتسح أطرافي على نحو مألوف، وبطنين حاد يهاجم أذني بقسوة.

في مكان ما من عقلي السابح في حالة من الهذيان، أدركت بأني أمر بنوبة من الصرع، وهو الشيء الغير قابل للتصديق، فنوبات الصرع كانت متفاوتة لا تأتي إلا على فترات متقطعة. بدا لي -بشكل ضبابي- أنه من غير الممكن أن تباغتني نوبة فور تخلي عن الدواء!
شعرت بألم حاد لا يحتمل في رأسي، أبقاني واعيا طيلة الدقائق التي استغرقتها تلك النوبة.
ثم شعرت بأثرها يخفت، وبإحساس بالغثيان والسقم يتصاعد بدلا عنها.
تقلصت معدتي في محاولة لنفض ما تحتويه، فحاولت النهوض، لكن صعب علي تحريك أطرافي المخدرة، وفكرت أن هذه قطعا ليست واحدة من أفضل ليالي!

زحفت حتى حافة السرير، وأفرغت ما كان في جوفي على الأرض.
فكرت -بينما أرتعش بشدة- ألا علاقة للصرع بحالتي هذه، لقد كنت أعاني أعراض وقف الدواء المفاجئ.
دواء مغشوش... فكرت بصخب.. عقار للتبلد ممزوج بدواء مغشوش!

انقلبت على ظهري بمشقة بالغة.. وأغلق الألم عيني.
استرخت عضلاتي شيئا فشيئا، وتباطأت ضربات قلبي.
شعرت كمن يغرق في دوامة عميقة... قبل أن أغيب عن الوعي.



تجسدت الذكريات ببطء، مثل فقاعات تطفو على سطح بئر مظلمة بلا قرار.
وجه والدي مركزا على خطة يعمل عليها وباقي الثوار..
ضحك داريل وهو يعلق بسخريته المحببة على قدراتي في القتال..
جريي في أنحاء الغابة، قاصدا مخابئي المفضلة فيها..
ثم امتد الظلام..
وانحسر الدفء..

رأيت امرأة ذات وشاح.
حدقت إليها من الضفة الأخرى لنهر تتدفق مياهه المتموجة ممزوجة بالدم!
على الضفة المقابلة، وقفت المرأة بمواجهتي، بلا حراك، وجهها مخبأ بوشاح.
أمسكت بيدها قطعة قماش تينيا خضراء، ثم رفعتها تكريما لبحر الجثث والأجساد الملقاة عند قدميها.
كانت رائحة الموت تفوح في كل مكان.
همست المرأة:
"نحن بحاجتك."
سمعت كلماتها وكأنها نطقت بها داخل رأسي. ناديتها:
"من أنت؟"

لكن لم يصدر عني أي صوت.
تقدمت خطوة باتجاه النهر، رأيت مياهه بلون الدم، عميقة جدا، يتعذر علي اجتيازها.
عندما نظرت مجددا إلى المرأة ذات الوشاح، كانت الجثث والأجساد عند قدميها قد تضاعفت.
أصبحت الآن بالمئات، لا بل بالآلاف.
بعضها مازال حيا، يتلوى وهو يحتضر!
كان بمقدوري سماع أصداء الصرخات الحزينة للبشر المعذبين وهي تتردد عبر المياه!
اقتربت مني المرأة، مادة يديها النحيلتين، وكأنها تطلب المساعدة.
صرخت مجددا:
"من أنت؟!"

لم تجب المرأة، بل مدت يدها ونزعت الوشاح عن وجهها.
كانت رائعة الجمال، لكن أصغر سنا مما تخيلت، ربما في بداية العقد الثاني من عمرها، جميلة وقوية، مثل تمثال.
كان لديها عينان عميقتين حنونتين، وشعر حريري طويل أسود اللون، يتموج على كتفيها.
شعرت أني أعرفها... وأثق بها. لكن كيف؟ ولماذا؟

فجأة بدأ يشع منها ضوء أبيض.. ويزداد إشراقا.
ثم أخذ جسدها بأكمله يهتز بشدة، قبل أن يصدر صوت صاخب كالرعد، وتنفجر متحولة إلى آلاف الشظايا المنيرة!
استيقظت وأنا أصرخ. ووجدت نفسي بمفردي في غرفتي تحت ضوء النهار.. فحاولت أن اهدأ والتقط أنفاسي.

تلاشت ذكريات كابوسي بسرعة، وحل محلها صور من الماضي العنيف، تعرضي للركلات والبصاق، وللسعات النار..
اشتممت رائحة اللحم البشري المحترق، وسمعت هسيس الجلد المشوي، والصراخ الذي يرافقه، فتشنج جسدي كله بألم...
لمحات من الماضي كانت تمر أمام عيني مثل شريط فيديو!
يتعين علي أن أعترف بأني لم أستطع احتمال تصور الماضي بتفاصيله كلها، بل تصورت أشياء أخرى كثيرة.
تصورت بأني تعرضت علنا للإذلال، والتعذيب، والشنق.
تصورت كما فعلت ملايين المرات، الفرار إلى اللامكان وملاحقة ضباط الأمن لي.

أذكر أن الثوار لم يكونوا يفارقون ذاكرتي حتى في ذاك الوقت العصيب من حياتي، لكني مؤخرا.. لم أفكر بأولئك الذين أحببتهم كثيرا ورحلوا بكرامة،
لم أستطع رؤية موت والدي إلا في الكوابيس، ولم أستطع التركيز على الدافع الذي جعلني انفجر يومها بذلك الشكل، فأفجر الوضع معي.
ببساطة.. فكرت بنفسي فقط، وبما ينتظرني في المستقبل.

أحسست بالبرد بالرغم من حرارة الغرفة، وأخذتني ذاكرتي إلى البعيد هذه المرة.

تذكرت العلبة الخشبية في يدي الصبي الصغير وهو يراقب والده يحفر مخبأ لدفنها، شعرت بحرارة الشمس، بالعرق الذي تجففه النسمات المحملة برائحة الطبيعة الجبلية.
أمكنني رؤية ابتسامة آلان تيسلر الواثقة بي، وهو يمسح جبينه المندى بكمه المتسخ بالتراب.
"الآن... ستحمل السر معك بني وتحافظ عليه، أنا أعتمد عليك."

ترددت العبارة في رأسي مثل الطنين.. أيعقل أن هذا قرر قبل أكثر من ثلاثة عشر عاما؟!
أكان أبي يعلم... بطريقة ما، أني سأبقى حيا من بعده لأصون سره وطريقه؟!
أستبعد ذلك. أستبعده لأنه مستحيل، لكن الشيء الذي دفناه سويا أمر قد غاب عن ذاكرتي كل تلك السنوات.
أجل، غاب كل شيء عن ذهني، حتى سبب بقائي حيا وقد قتل كل من كانوا معي.
(خطة محكمة) كما قالت تلك الفتاة الغريبة.. زائرة كوابيسي الجديدة.

شعرت بالرغم من كل التشوش الذي يسببه لي المرض، بأن أفكاري صافية لأول مرة منذ سنوات!
الثوار كانوا الأقوى من بيننا.
هم الذين امتلكوا الجرأة وتحدوا (الأسياد) بالرغم من كل الأخطار، فتمكنوا بذلك من لي ذراعهم، فحتى القتل ما كان قادرا على تغيير الأثر الذي أحدثوه في الناس.
إنهم، أم لعله يجدر بي أن أقول نحن، تجسيد الأمل حيث لا أمل.
و الآن، فقط من أجل إظهار أنه حتى الأمل ما هو إلا وهم من الأوهام، تم العمل من أجل إظهار (ابن القائد)، رمزا يتعاون معهم طواعية.
لا أمل... العالم برمته تحت أيديهم... تلك كانت الرسالة الوحيدة التي أرادوني أن أوصلها!
ليست الخيانة.. بل أسوأ.. الاستسلام واليأس!

الإدراك ضربني مثل كرة من التحطيم، مثل مكبس ساحق، لم توجد صورة عنيفة كفاية لاحتواء قوة ما حدث لي في تلك اللحظة!
ما عدت أبدا الإنسان المطفأ الذي كنته، ولا أثر لأشلاء الجمود التي كنت قد تدبرت تغطية نفسي ببقاياها..

رأيت وجهين في رأسي، جنبا إلى جنب.
أحدهما وجهي، الأناني الذي تجهز لقتل كثير من الناس بجرائم الأخلاقيات المبررة، المعللة من طرف السلطة!
والوجه الآخر، كان لآلان تيسلر، لم يكن هناك شبه بين الوجهين، كانا كنهار مشرق وليل شديد السواد.
ما كان ثمة سبب كي يوجد شبه، آلان كان والدي، وأتقاسم معه سمات بيولوجية مشتركة.
كان لدينا نفس البشرة السمراء، والعيون السوداء ..بل وحتى ذات التقاطيع المميزة للوجه، وبرغم ذلك كله، انعدم في عيني وجود عنصر أساسي للتشابه.
كنت أتخيل في زمن مضى أن وجهي يعكس شيئا من وجهه، إلى حد ما.
ذلك في العشر سنوات الأولى من حياتي حين كنت قد اعتنقت اختياره، واتبعت خطاه.
سماتي الآن لم تتغير، ولكن بدا لي الأمر وقتها مختلفا، وكأن بعضا من حكمته قد وسمت تعابيري.
مقدارا ضئيلا من إنسانيته يمكن تتبعه في شكل فمي.
لمحات من صبره كانت واضحة على جبيني.
كل هذه التحسينات البالغة الصغر ضاعت في وجه الإنسان الغريب الذي أصبحته الآن..
لم يتبقى بداخلي شيء من شأنه أن يعكس السنوات التي قضيتها معه... مع معلمي المخلص، وأبي بكل الطرق المحتسبة.

في رأسي عينا آلان الرحيمة لم تكن تقاضيني، كنت أعرف أنه سيغفر لي هذا العمل الرهيب الذي أنا فاعله لأنه أحبني.
لأنه ظن أنني كنت أفضل مما أنا عليه، وسيظل .. حتى وأنا الآن أثبت خطأه.
لقد برهنت فداحة ثقته بي! بؤس هذه الحقيقة كان يحرق تقريبا بقدر النار التي كوتني لسعاتها مرات لا تحصى لأجل التعذيب.
كلويه... لماذا كان عليها أن توجد؟
لماذا كان عليها أن تخرب السلام الضئيل الذي حظيت به في هذه اللاحياة التي أعيشها؟!
دواء التبلد كان نعيما مرفها مقارنة بما أختبره الآن!


كان الوقت يدنو من الغروب، ونور الشفق الذهبي يتدفق من النافذة.
شعرت بأوهامي الذهنية تجرجرني من جديد، لتعيدني إلى تلك البئر العميقة التي خرجت منها.
قاومت هذا الإحساس، وحاولت إجبار عيني على البقاء مفتوحتين على بياض غرفتي.
حاولت الجلوس، لكني شعرت أن جسدي ثقيل كالإسمنت.
وبينما أتقلب، وجدت نفسي مجددا في مواجهة النافذة.
بعدما أشرق نور النهار، اختفى انعكاس صورتي عن الزجاج الداكن، لتحل مكانها سماء ذهبية محمرة، احتشدت فيها بضع غيمات في البعيد.
هيمنت واجهة ملكية واحدة على حقلي البصري، وسط محيط من البنايات والأبراج،
كان المبنى عبارة عن قلعة حجرية مهيبة، مع سور مثلم وارتفاع يعلو ثلاثمئة قدم.



رفعت نفسي على نحو أخرق للجلوس على السرير، فيما غزت الأوجاع رأسي، قاومت الألم المبرح وثبت نظري على البناء... قصر (الأسياد).
باغتني إحساس بالدوار والغثيان حين نهضت على قدمي، فانتظرت حتى مرت الأزمة،
ثم اقتربت من الزجاج الذي بدا من وراءه ضوء النهار الراحل، شعرت ببرودة الرخام تحت قدمي الحافيتين، واجتزت المسافة حتى الحائط الزجاجي مترنحا.
ترك إيقاف الدواء الفجائي أثره على عقلي فلم يكن أقل ضبابية من بصري.
شعرت كأني تحت الماء، أحاول شق طريقي عبر عالم لزج ومعتم!

في البعيد، كانت شمس الغروب تلامس بأشعتها الحمراء مدينة (فلاندرس)، ضغطت جبيني على الزجاج البارد.
كان ظلام الليلة الماضية معذبا، لذلك سرني رؤية الطيف الكامل لأشعة الشمس حتى وإن كانت تغوص الآن أسفل السفوح.
أغمضت عيني من شدة الانهاك والألم، لكن الظلام ابتلعني مجددا.
عادت إلي رؤيا مألوفة، الفتاة ذات الوشاح، والشعر الأسود الحريري.

كما الحلم السابق، كانت تقف على ضفة نهر من الدماء، ومحاطة بجثث وأجساد تتلوى.
تحدثت إلي بصوت متوسل:
"ساعدنا!"

سيطر علي إحساس بأن علي إنقاذها... إنقاذهم جميعا.
لاعبت شعرها الجميل رياح حارة، وهمست:
"الوقت ينفذ.. نحن بحاجتك."

فجأة، ومن دون سابق إنذار، انفجرت في عمود من النار يعمي الأبصار تصاعد عبر النهر، واجتاحنا نحن الاثنين.




فتحت عيني بصعوبة شاعرا بثقل في جفني، وجدت نفسي في غرفة مغمورة بالضوء.
كان الهواء عابقا برائحة الكحول الطبية الحادة، فيما تناهى إلى مسامعي صوت آلة يرافق إيقاع قلبي.
حاولت تحريك ذراعي اليمنى، لكن ألما واخزا منعني من ذلك.
نظرت إليها ورأيت إبرة مصل معلقة بساعدي. تسارع نبضي، فزادت الآلات من سرعتها، وراح طنينها يتسارع هو أيضا.
أين أنا؟ ماذا حدث؟!
شعرت بألم حاد في رأسي، فمددت يدي الأخرى بحذر، ولمست فروة رأسي، محاولا تحديد موقع الألم.
تحت شعري الأجعد، كانت كدمة متورمة لم أعرف سببها.

"استعدت وعيك أخيرا."

تحركت عيناي بصورة آلية نحو مصدر الصوت، كان إيستن جالسا إلى جانب سريري في مقعد أحمر وثير، بدا شكله غريبا وغير متناسق مع هذه الحجرة الصغيرة.
كان يحملق في شاشة صغيرة بحجم كتاب بين يديه، وبدا متضايقا بقدر ما قد يبدو شخص تحوم حوله ذبابة!
قليل من الضيق من طرفه، وصفاء ذهني لايزال كما كان، كيف؟!
أيعقل أنهم لم يكتشفوا أمر تخلي عن الدواء بعد؟!

أطفأ إيستن جهازه ثم رفع عينيه إلي... كلا، لقد كان يعرف.
كرر اسمي بتأنيب لطيف ساخر:
"داغن.. داغن.. داغن..."

عبرت رأسي فكرة عنيفة تصور ردي على سخريته، فيما هز هو رأسه وتابع ناظرا إلى عيني:
"إلى أي حد يمكن لشابة جميلة أن توقعك في المتاعب؟"

شعرت بالبرودة في أطرافي فجأة، ولأول مرة منذ سنوات.. ليس خشية على نفسي.














.
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس
  #50  
قديم 05-22-2014, 10:06 AM
 
.















‏-


كلي شكر للمميزة "
αкαмι ♪" على التصميم المذهل.


كما أحببت أن أنقل لكم امتناني للطريقة التي استقبلتموني بها،
ولتعليقاتكم الرائعة التي غمرتني سرورا.
الحماسة كانت تملأني منذ أول أسبوع، لكني اضطررت للتأخير في التكملة بسبب خطأ حدث ومسح الفصل على إثره... اعتذر على ذلك.

هذا كان الفصل الثاني، أتمنى أن يعجبكم، و أن أرى رأيكم الصريح فيه، الذي هو دافع لي لتقديم الأفضل.















.
__________________
-









أستغفر الله وأتوب اليه عدد ما ذكرهُ الذاكرون
و غفلَّ عن ذكرهُ الغافلون !

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 05:19 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011