· الفصل الرابع
[ في أحد المستشفيات الخاصة , تحديداً في غرفة لأحد المرضى ]
كان هُناك فتى مُستلقي على السرير بينما بانت على ملامحه التعب و الإنهاك , و قد كان جبينه يتعرقُ بكثرة , عقدَ حاجبيّه بانزعاج شديد ليفتح بعدها عينيّه العشبيتين بصعوبة , تأمل المكان الذي هو فيه باستغراب , لكن لم يلبث استغرابه دقائق حتى تذكر أنه قد فقد وعيّه بعد أن سقطت صديقته بين يديّه جُثَّةً هامدة !!
عادت مشاعره الغاضبة و الحاقدة لتحتل فكره و قلبه , حاول استجماع قوته لينهض , و قد علت الملامح الغاضبة وجهه , بعد أن نهض توجه للباب ليفتحه , لكن هناك من سبقه و فتحه , ليرى أمامه فتاة ترتدي زياً أبيض يبدو أنها ممرضة , وقد كانت ملامحها بريئة جداً , قطع تفكيره صوتها الرقيق لتقول بنبرة راجية :
- سيدي يجب أن تعود لفراشك فأنت تحتاج للراحة !!
لم تكن ردة فعله متوقعة أبداً , فقد دفعها بقوة من أمامه , لتتراجع هي للخلف بقوة فيصتدم ظهرها بالجدار خلفها , تأوهت بألم لكن هو لم يبالي بها و أكمل طريقه متوجهاً نحو مكتبِ الاستقبال , وقف حينها وقد وجّه حديثه للممرضة أمامه ليسأل بنبرة اختلطت فيها المشاعر فقد كانت شتان ما بين الغضب و الخوف :
- هل أتتكم هنا مريضة تُدعى " صوفي باركر " ؟
- انتظر لحظة !
نطقت بكلماتها هذه و وجهت عيناها للحاسوب أمامها و أصبحت تبحثُ عن ما يريد الفتى أمامها , بعد بحث دام دقيقتين , حدقت هي بعينيّه لتتحدث إليه بنبرة آسفة :
- أعتذر يا سيدي , لكنها حين جاءت هُنا كانت قد فارقت الحياة .
كلماتها تلك أُلقيت على " أوليفر " كالسهام التي اخترقت قلبه , اختفى بريقُ عينيّه من الصدمة تراجع للخلف ببطء ليستند على الجدار خلفه , لم تستطع رجليه حمله , جلس على الأرض ليتكأ بكوعيّه على ركبتيّه التي ثناها ناحيةَ صدره , بينما كان رأسه بين كفيّه , حسناً هو حتى الآن لم يستطع استيعاب كونها أُصيبت بطلقٍ ناريّ أمام عينيّه و لم يفعل لها شيء حتى يُصدم بخبر موتها , تحجرت الدموع في مُقلتيّه , لم يستطع البكاء ليخفف عن ثقل كاهله , شعرَ حينها بنغزاتٍ مؤلمة بقلبه , وضع يده على صدره و هو يشدُ قميصه بقوة , حتى قلبه لم و لن يتقبل موت صديقته هكذا , ظهرت ملامح الألم الشديد على محياه , استند على الجدار ليقف بصعوبة , لقد انهار تماماً من هذا الخبر , فكيف ل قلبه المريض أن يتحمل وطأةَ خبرٍ مثلُ هذا , تحامل على نفسه إلى أن وقف , مشى بخطواتٍ ثقيلة و قد أخفض رأسه ليتمتم بنبرة حملت بين طياتها حقدٌ مكبوت :
- أقسم لكِ يا " صوفي " أنني لن أذرفَ دمعةً واحدة لرحيلك حتى أنتقم .. أُقسم بذلك ...!
في المكان الذي اعتاد أن يرمي بهمومه و أحزانه , جلسَ هُناك و قد تعلقتا عينيّه العسليتيّن على البحر الهادئ , لقد خسرَ شخصاً آخر كانَ عزيزاَ على قلبه , متى ستكفُ الحياة عن سلبِ أرواح الذين أحبهم و تعلقت روحه بهم , لم يستطع منعَ دموعه من النزول , هيَ حتى لم تستأذنه , فقد شقت طريقها على خديّه بدون سابق إنذار , أسند رأسه على ركبته التي ثناها , بينما ساقه الأخرى ممددة .. ازدادت غزارة دموعه وقد تلاها صوتُ شهقاتٍ بدأت بالتعالي شيئاً فشيء , هُنا فقط هُو يسمح لنفسه بالإفصاح لمشاعره , يسمحُ لنفسه أن يكون ضعيفاً بعيداً عن مرأى الناس ..َ!
- ياه لم أتوقع أن أرى " دي " بحالةٍ كهذه أبداً !! , حقاً إنه يومُ سعدي .
نُطقت هذه الجملة بنبرة استفزازية , استطاعت أن تستفز صديقنا بنجاح , رفع رأسه و هو يصر على أسنانه بقوة , كتم شهقاته و مد يده ليمسح دموعه , لكن سبقته يدان ناعمتان جاءت من الخلف لتمسحها بدلاً منه , ابتعد عنها بشكل سريع ليقف بكبرياء مسلوب , نظرَ لعينيّها الرماديتيّن , لطالما أسرتهُ تلك العينيّن بجرأتها , أغمض عينيّه لولهة مُحاولاً تجاهل نظراتها , ليردف في محاولة استرداد كبريائه :
- هل هو مُخجل حقاً أن أبكي صديقاً لن يعود ..!
قالت جملته مخاطباً لها , لكن هو أيضاً أدرك أنه يوجه حديثه لنفسه .. لما يخجل من دموعٍ أُرغمت على النزول من أجل صديق رحل !!
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيّها و هي تحدق بعينيّه , إنها ممتلئة بالدموع , هو الآن يدوس على كبريائه بنفسه لأجلها , هل أحبها ؟ هل يفعل هذا لها حتى بعد موتها ؟
ياه " دي " لقد تغيرت كثيراً !
رُغم أنها تراه قد تخلى عن كبريائه باعترافه هذا .. إلا أن هذا كان مناقضاً لما يراه هُو .
- أتعلم ؟ لم أتوقع أنك تملكُ قلباً حتى !!
إنها مُصرة على استفزازه بحديثها , لكن هذه المرة لم يهتزَ لها , نظرَ لها بعينيّن خالية من الحياة ليست إلا ثواني حتى رُسمت على شفتيّه ابتسامة ساخرة و قد نطق بذاتِ نبرتها :
- أوه إيمي عزيزتي أنسيتِ القلب الذي أحبك في يومٍ من الأيام ؟
هبت نسمة باردة كبرود قلبها , ليتطاير شعرها الأسود الطويل من حولها , قطبت حاجبيّها بانزعاجٍ كبير من حديثه , حركت شفتيّها لتتحدث .. لكن قاطعها هو بنبرة قاسية :
- كفى لم أعد أريد سماع المزيد ..!
أغمضت عينيّها و تنهدت تنهيدة طويلة لتخرج الكلام معها و قد أبى الخروج قبلاً , عندما أحست به يمر بجانبها , همست بنبرة منكسرة , حاولت إخفائها لبرهة , لكن رغم العلاقة المشتتة بينهما , لا تريد رؤيته بهذه الحال :
- أرجوك ... لا تبكِ ثانيةً .
بالنسبة له أكمل طريقهُ و قد ارتدى رداء اللامبالاة ..!
[ باليومِ التالي ]
مع بدايةِ اليوم بكت السماءُ رِثاءً لحال الأرض و ساكنيها , أما بالنسبةِ لهم فقد كانوا يحملون مظلاتهم هروباً من دموعها , هم لا يُقَدِّرون كونها تبكي لأجلهم , لكن حين تجفُ دموعها يسخطون و يتمنونَ نزولها لدقائق , فقط لتروي قلوبهم الجافة ... كم هُم مناقضين لأنفسهم ..!
من بين أولئك البشر , كان أحدهم يمشي بلا مظلة , بينما يضعُ معطفه على رأسه مُحاولاً حماية نفسه من المطر بأي طريقة , وصلَ أخيراً لوجهته ... جلس على مقعد لانتظار حافلة تُقله إلى منزله , ريثما هو ينتظر سرح بتفكيره و قد أدخل يده في جيبِ معطفه الأسود , ليخرج منه بطاقة مبتلة , نظَرَ إليها بعمق , وقد كُتبَ عليها اسمٌ لإحدى الشركات العالمية و بخطٍ صغير اسمُ مؤسسها " جاكسون ويلسون " !
أغمضَ عينيّه و هو يكز على أسنانه متمتماً لنفسه :
- سحقاً له .. لما ظهرَ بشكلٍ مفاجئ !
قطع تفكيره وصول الحافلة , أعادَ البطاقة إلى جيبه , و نهض صاعداً الحافلة .
بعد مرور 15 دقيقة توقفت الحافلة أمام منزل لا بأس به , نزل منها ركضاً ليقف تحت سقف مدخل المنزل و أمام الباب , أدخل يده لجيب بنطاله لإخراج المفتاح .. لكن لم يجده بحث هنا و هناك .. لا جدوى , ضرب جبينه بخفه , فكيف له أن ينسى مفاتيح المنزل في المدرسة , طرق الباب بيأس منتظراً أن يفتحهُ أحدهم ..!
طال الانتظار و المطرُ أيضاً لم يتوقف , بدأ القلق يتسلل لقلبه , فأصبح يطرقُ الباب بقوة , و أخيراً فُتح .. لكن ما كان خلفه لم يكن المُتوقع !!
دماء !! .. دماء منتشرة في المكان مُشَكِلة برك قاتمة اللون بشكلٍ متفرق , وقف مشدوه العينيّن , تسمرت قدماه .. لم يستطع الحراك , لا يعلم ما الذي حصل !!!
- " ويل " ما بك ؟
صوتُ أخيه انتشله من مكانه الذي كان فيه , حدق به و بردهة المنزل التي كانت قبل قليل مملوءة بالدماء , لكن الآن هي خالية منها .. ما الذي يحدث بحق السماء !!
أمسكَ رأسه بتعب , و أكمل مسيره متجاهلاً مناداة أخيه له , صعد لغرفته بالطابق الثاني , فرمى جسده بإنهاكٍ على السرير .. هل يُعقل أنه تأثر بالذي حصلَ معه بالأمس ؟ لا يُعقل فهو يملكُ قلباً قوي , أغمضَ عينيّه و هو يعيد لنفسه ما حدث في اليوم السابق .
" بين أنصاص الثانية دوى صوتُ طلقٍ ناري ..
مهلاً لحظة !!
رصاصة اخترقت صدر " صوفي " لتصرخ هي بصوتٍ متألم حد النخاع !! , لتليها صرخةُ " أوليفر " المصدوم مما حدث فجأة و بدون سابق إنذار .
وجه " ويل " ناظريه ل"روبرت " بشكلٍ سريع و هو مصدوم كيف له أن يفعل ذلك بهذه السرعة !! , لكن ما زاد صدمته هو أن " روبرت " لم يحرك ساكناً و قد كان مثل الجميع مصدوم !!
إذاً من الفاعل ؟
وقف بشموخ و رداءٌ أسود يكتسيه من رأسه إلى أخمص قدميه , لم يكن هناك يعكسُ سواده سوى عينيّه الفيروزيتيّن , وقف على شرفة الغرفة و قد أنزل سلاحه بعد أن أصاب هدفه , ابتسم من خلف قناعه برضا , وبانت على عينيّه الحدة ..!
صرخ " ويل " بعد أن أفاق من صدمته :
- من أنت !!!
صوتُ ضحكه ملأ الأرجاء , توقف بعدها عن الضحك ليردف و هو يرمي ببطاقة ل"ويل" :
- إن أردتني فتعال لمقابلتي هناك .
أمسك " ويل " بالبطاقة و هو ينظر لمحتواها , اتسعت عيناه بصدمة , ثم عاد بناظريّه للشبح الأسود , و الذي ما إن رأى ردة فعل " ويل " لوح بيده مودعاً :
- لقد أتممتُ مهمتي , سأرحل .
و قفز هارباً !!!
" ويل " ما زال تحت تأثير صدمته الأخيرة و البطاقة بين يديّه , أما بالنسبة ل " أوليفر " فقد خرَ فاقداً للوعي بجانب " صوفي " .
بعد مدة من الزمن أفاق " ويل " من صدمته , جالَ ببصره في المكان , تفاجأ بعدم وجود " روبرت " , أراد أن يتحرك بحثاً عنه لكن قاطعه رنين هاتفه , أخرجه من جيبه و أجاب بشكلٍ سريع , صمتَ للحظة و أردف بعد صمته :
- جيد .. لكن " صوفي باركر " أصيبت .. و أيضاً " أوليفر " فقد وعيه , أحتاج لدعم .
أغلق الخط و لم يطل انتظاره حتى جاء الدعم ليحمل كلاً من " صوفي " و " أوليفر" و شريك " روبرت " معهما . "
عاد للواقع و هو يمسك رأسه بألم , ظهور الشبح الأسود و معرفته بوالده يجعله مشتت الذهن , ثم بعد ذلك يشغله أمر صديقه و تلك الفتاة !!!
رأسه سينفجر بالتأكيد من التفكير في كُلِ ذلك !!
7:00 مساءً
" ويل , ستيف , دينيس , بيل "
جلس الأربعة في ذات المكتب السابق على الأرائك :
- إذاً نحن الآن ينقصنا عضوان ؟
نطق بصوته الرزين و نبرته الهادئة بكلامه ذلك , ليجيبه مساعده الذي كان يجلس بجواره :
- كما قلتُ سابقاً , " إيثان " مصاب , لكن " أوليفر " أظن أنه ذهب لحداد " صوفي " في لندن .
- ما صلة " أوليفر " ب " صوفي " ؟
هكذا تحدث " ويل " متسائلاً عن صلة القرابة بينهما ؟
أجابه " بيل " و كأنه كان ينتظر سؤالاً كهذا :
- قيل أنها ابنةُ خالته .
أصدر " ويل " صوتاً دلالةً أنه فهم الوضع , ليتحدث " ستيف " بنبرة تتخللها الجدية :
- لقد بدأ وقتُ الجدِ يا رفاق !
ثم أردف : ذلك الشخص الغامض الذي قام بقتل " صوفي " علينا إيجاده بأي طريقة !
عض " ويل " شفتيّه و عينيّه شاردتيّن , بينما عينا " دينيس " الذي بقيَ صامتاً طول الجلسة , كانت مصوبة تجاهه و كأنه ينتظرُ منه شيئاً لقوله , لكن طال انتظاره و لم يتحدث " ويل " فقال بنفاذ صبر :
- ويليام ألا تعرف عنه شيء ؟ فأنت كنت هناك عندما ظهر ؟
وجه كلاً من " ستيف " و " بيل " ناظريّه ناحية " ويل " , بينما الأخير حاول التماسك قليلاً فهو لم يكن بخير منذُ حادثة الأمس , أخيراً هز رأسه نافياً و وقف :
- أنا أستأذن , فلستُ على ما يرام !
احتدت عينيّن " دينيس " و قد حملت نظرات شك و ريبه نحو " ويل " , وقد غادر الأخير الغرفة بعد جملته الأخيرة .
بعد خروجه نطق " دينيس " بسرعة و ثقة :
- إن له علاقة ب" جاكسون ويلسون " !
عقد " بيل " حاجبيّه بتساؤل :
- من ؟ " ويليام" ؟ أو الرجل الغامض ؟
- أنا أقصدُ الأخير
- و كيف عرفت ؟
" ستيف " نطق بكلماته هذه و كأنه يشكُ بشيءٍ هو الآخر .
- ويليام يعلمُ أيضاً !
· انتهى .
الأسئلة : · " أوليفر " و تغيره , وفكرة الانتقام , و هل حقاً سينتقم أم أنها فقط لحظة غضب ؟ · " دي " أو لنقل " دينيس " و ظهور تلك الفتاة فجأة , ثم اختلاط مشاعر الحب و العداوة في حديثهما , ما انطباعكم عن هذا ؟ · الشبح الأسود وظهوره المفاجئ و معه " جاكسون ويلسون " الذي فقط ظهر اسمه , ما اعتقادكم بشأنهما ؟ · و أخيراً " دينيس " و شكه ب " ويل" و علاقته ب " جاك ويلسون " ؟