08-09-2014, 02:30 AM
|
|
و أهداني الشّمس للذّكرى : : لطالَما راقني الهدوء حتى أنّني تعمّدتُّ السّكن بمفردي في منطقة عصريّةٍ ريفيّةِ الأجواء , حيث يقبع مَنزِلي الصّغير بين سكنَين ؛ كنت قد تأكّدتُّ مُسبَقاً مِن كونِ أحدِهما غير مسكون , و الثاني لرجل أعمال دائم التّرحال مع زوجته ,فكأنما منزله مهجور هو الآخر. لِذا أحسستُ أنّ كلّ إزعاج العالَم قد داهم حياتي حين قرّر أحدٌ ما-مِن حيث لا أدري-الانتقالَ إلى البيت المُجاوِر! أطلَلتُ مِن النّافذة , أراقِب كلَّ تلك السّيّارات المُحَمّلة بأثاث فارِهٍ, أَوحى لي كمُّه بأن العائلة الوافدة ستكون متعدِّدة الأفراد. حتّى أنّه يوجد ألعاب , ممّا عَنى وجودَ أطفال ...و بالتّالي صَخْب! كدتُّ استدير صافعةً شبّاكي لإغلاقه, حين لفتَت انتباهي سيّارة مُحمَّلة بعِشقي الأبديّ...كُتُب! إذاً , لديهم مكتبة؟! تساءلتُ متى وجدوا أو سيجدون الوقت لقراءة كلّ الحروف التي ضمّتها تلك الأسفار الكثيرة...و بحماسٍ فكرتُ أنّني مَن يمتلك الوقت! لا شيء يشغلني بعد عودتي من العمل فليس هنالك زوج يضايقني بمزاجيّته أو أطفال يُصدِّعونني بمُتطلَّباتهم أو حتى رفيقاتٌ ألتزم بمواعيد خروجٍ معهنّ مالمانعُ إذاً من التّعرُّف على هؤلاء الجيران, لاستعارة بعض الكتب أحياناً؟ على الأقل سيخفّف هذا مِن وطْأة احتلالهم سَكِينةَ أجوائيَ . طرقتُ الباب عليهم بعد فترة مُناسبة من انتقالهم, و عرّفتُ نفسي على مَن بدا مِن هيئتِه مسؤولاً للخدم. طلبتُ لقاء أصحاب المنزل, فاقتادني إلى غرفة ضيوف واسعة تعكس الثّراء على أصوله, وغابَ قليلاً ثم عاد طالباً إليّ أن أتبعه نحو حُجرة ما. مثلما استغربت مِن كونهم لَم يُكلِّفوا أنفسهم المجيء لمُلاقاتي؛ ارتحت لدَعَة غير مُتوَقّعة سادَت حنايا المكان,عزَيتُها إلى كَونِ الأطفال في المدرسة. عندها -وقد خطروا لي-فكرت أنّهم لَم يثيروا أيّ ضجيج في الجِوار حتّى اليوم. فُتِح لي بابُ الغرفة المنشودة, و تُرِكتُ لأشهدَ لوحةً و لا أحلى: مكتبة عملاقة من الخشب الفاخِر ,تنوء بشتّى الألوان المُتَطاولة المَنضودة جنباً إلى جنب! دخلتُ بانبهار , و أنا أرفعُ رأسي لمواكَبَةِ طولها , و أميلُ به لمُحاكاةِ عرضها, حتى انتبهت أخيراً إلى الكُرسي ذي العجلات,يشغله رجلٌ طاعنٌ في السّنّ, تاجُه الفضّة شعراً مصفّفاً.وجهه المُجعّد رَؤوف الملامح,رغم الهيبة تَلوحُ هالَةً مِن أناقة. ابتدرني بابتسامة وترحيب وَقور: -أهلاً بالآنسة. أُخبِرتُ بأنك جارتي من المنزل المُجاوِر كانت تلكَ بدايةَ حديثٍ ماتِع , وضح لي من خلاله أنّ ال"جنتل مان" العجوز أرملٌ أليم, فقد زوجته و أطفالَه الثلاثة في حادث مُرَوِّع, و عاش مِن بعدِها على ذكراهم. فهمتُ-بكلّ خجل من نفسي- أنّ الأطفال لن يثيروا لي إزعاجاً أبداً آخر الأمر,فهُم لَم يعودوا سوى ذكرى تتمثّل في ألعاب يحتفظُ بها جاري... و الذي أصبح صديقي المُفَضّل! لا أذهب إلى عملي قبل إيمائي بتحيّة عليه و هو بجانب نافذته يحتسي قهوة الصباح و يقرأ كتاباً ما لا آوي إلى بيتي بعد انتهاء دوامي إلاّ و ابتسامته المرحِّبة تستقبلني -من خلفِ الزّجاج- مع الكتاب لا يمضي يومان دون أن أزوره , أناقشه في آخر ما استعرتُه من مكتبته السّخيّة, أو أعيدُ ما لديّ و أستعير غيره, أو ربّما أحملُ له بعضاً مِن كنوزي الوَرَقيّة. ذات يوم طالعني عنوان شدّ انتباهي في تلك المكتبة الزّاخِرة ... "أُهديكَ الشَّمسَ للذّكرى" استخرجتُ الكتاب لأتأمّل الغلاف القديمَ ,مُبتسمةً لصورة حيواناتٍ ترتدي الملابس و تقف جنباً إلى جنب. قلّبتُ بين صفحاته المُصفرّة , وصوت الجار يتهادى كلحنِ ناي مجروح: -مِن كلّ كتب أطفالي-التي كانوا بارعين في تمزيقِها-لَم يَنجُ سوى هذا كنتُ دائماً أقرأ لهم تلك القصص حتى حفِظتُها مع شخصيّاتها,فزوجتي لَم تكُن تجيدُ-مثلي- تقليدَ صوت"الكلب مرملاد" أو "الكتكوت فيو" أو "الفهد جاغوار"... لَم أملِك إلاّ مُشاركتَه ضحكة حزينة و هو يتابع: -لكنّها كانت تُجيد توزيع محبّتِها و دُعابة روحِها, حين تنضمّ إلى جلسةَ القراء تراجعَ صوته كأنّ النّاي يُستَنزَف على مهل: -حقّاً ...رحلوا و أَهدَوني الشّمس للذّكرى استشعرتُ تعبَه , فدعوته للاستراحة في غرفة النّوم, حيث ساعده أحد الخدم على الاستلقاء, بينما اهتممتُ بتغطيته. : : مضيتُ في أحدِ الصّباحات إلى عملي والتّبَسُّمُ يسبقني نحو نافذته , فقط لأُقابَل بمقعد خالٍ -ذي عجلات ,فلا صديقي كان ,ولا كتابه و لا فنجان قهوته... فكّرت أنّ النّومُ أخَّرَهُ. عدتّ لبيتي ظهراً و تلاشت ابتسامتي , حين أرادت الالتقاءَ بمحيّاه و إذا بمقعده خالياً لا يزال. استبدَّ بي القلق , فسارعتُ لمنزله أطرق الباب, ليطالعني كبير الخدم مَهموماً . ابتدرني مِن فوره : -أهلاً بك آنستي. كنتُ بانتظارك. تعازيّ القلبيّة , فقد تُوفّي السّيّد في نومه. شرحَ لي تفاصيلَ لَم أركّز بها جيّداً ما بين صدمتي بالخبر , و إفاقَتي منها على شهقاتِ نشيجي, إلى أن بدأ بالحديث عن المكتبة-مفتاح صداقتي وجاري الجميل: -كلّفني ببيع كلّ مالديه من أغراض و أثاث, بما في ذلك المكتبة و محتوياتها, لأجلِ التّبرُّع بها إلى الجمعيّات الخيريّة, غير أنّه خصّكِ بهذا ناولني كتاب القصص القديم, الذي كان المرحوم يقرأه لصغارِه, فاستدرتُ مطأطئة , يُثقِل خطواتي مع أعماقي -لأوّل مرّة في حياتي-إحساسٌ عجيب بالخوف من الهدوء! منذ ذلك اليوم و أنا أُلَبّي دعوات زميلاتي في العمل, بالذهاب إلى السّوق أو النّادي, أو حتى إلى بيوتهن, و صرتُ أدعوهنّ بدوري. بِتّ أيضاً لا أمانعُ إظهار اهتمام خفيف لَبِق, بزميلٍ معيّن لطالما ألمَح لي عن رغبته بالارتباط , و كنتُ ألمح له عن رغبتي في البقاء وحيدة. سُئِلتُ صراحةً ذات يوم عن تغييري الجذريّ ابتسمتُ بحزن و تعَمُّق بينما جاري العجوز يطلُّ على بالي... تمتمتُ على مهل: -لأنّني ...أردتُّ أن يكون لي ...مَن أهديهِم الشّمس للذكرى يوماً ما |
|