فتح سايتو الباب بمفاتيحه و دخل إلى الشقة الصغيرة , نزع حذاءه عند المدخل و علق سترته على حمالة المعاطف و نادى :
كان هناك رجل أربعيني ذو شعر اسود مُسّرح بأناقة و قد جُدِّل للخلف يضع نظارات مستطيلة الشكل و له شارب محلوق بعناية
ـ تعال لقد طلبت البيتزا إنها لذيذة
قفز الشاب اليافع على الأريكة المقابلة للتلفاز أين تذاع مباراة كرة قدم أمريكية و جلس إلى جانب عمه و أخد قطعة من علبة البيتزا الموضوعة على الطاولة الصغيرة و التي تبعثرت فوقها قصاصات جرائد و صور لرجال غريبين و للميتم المحترق و لنتاشا و مارك !!
ـ ربما, لقد تحريت اليوم عملية سطو على مقهى غرب العاصمة, و التقطت كاميرات المراقبة صور أشخاص يمكن أن يكونوا من المنظمة.... بالمناسبة أين كنت هذا المساء, بحثت عنك و لم أجدك
ـ بصفتي ضابط شرطة و اعمل في قسم الجنايات فمن واجبي التحري في المواقف المماثلة لكن أكثر شيء دفعني للبحث في هده القضية هو رغبتك في إلقاء القبض على هذه العصابة
ـ أنا حقا ممتن لك عمي, إنني لا أطيق صبرا على اليوم الذي ارمي بهم في السجن ليلقوا عقابهم على كل ما ارتكبوه
ـ ... سيأتي ذلك اليوم قريبا...
لكن الدنيا ظالمة و لم تنصفني و لا تزال تستمتع و تتلذذ بتعذيبي و إذاقتي أبشع و أسوا ألم .
حصل ذلك عندما علم أفراد العصابة أن متحريا على وشك التقاعد رفقة ابن أخيه الشاب يسعيان لكشف مخططاتهما, و ما فعلوه كان متوقعا جدا..
استطيع تخيل ذلك الرجل الأصلع شاحب البشرة , ذو العينين الجاحظتين المحاطتين بتجاعيد طبعهما الزمن و هو يسند ذقنه على يديه المشبكتين و قد ارتكز بمرفقيه على المكتب , يمرر نظراته الباردة بين مجموعة من الرجال هزيلي الجسد يقفون أمامه ككومة أجساد
يابسة, ثم يصدر أمره و يقول جملته الشهيرة "تخلصوا منه"
كانت تلك آخر زيارة لساي لي و آخر مرة يُلوِّح لي مبتسما و هو يسير نحو سيارة الشرطة التي ركنها بعيدا عن الأنظار... و آخر لحظاته في دنيا الفناء !
لتخرج سيارة سوداء بالكامل من احد الأزقة وتنعطف انعطافا جنونيا مصدرة ذلك الصوت و كأن العجلات تتمزق و تتفسخ عندما تحتك بالطريق, امتدت ذراع من النافدة الأمامية و هي تصوب مسدسا نحو الشاب على الرصيف..
طلقة بعد طلقة بعد أخرى ليهوي بعدها ساي غارقا في بركة من الدم الغامق
الغريب في الأمر أنني لم اذرف و لا دمعة, حبست كل ذلك في جوفي و مزقت كل ما له صلة بالمشاعر, و بصريح العبارة قسا قلبي و اسودت شرايينه و ما عدت أرى أمامي سوى هالة من الانتقام المنشود.
لم استطع مقاومه تدفق الاندرنالين في عروقي و بتُ لا اسمه في فراغ راسي سوى
" سأنتقم... سأنتقم , لأجل أختي لأجل مارك , لأجل سايتو ,, و لأجل نفسي "
و مع نغمة الانتقام التي كانت تعزف داخل راسي باستمرار فعلت ما كان أي شخص سيفعله , أولا الهرب من المركز , و فعلا تمكنت من تسلق سور الحديقة و الفرار في ذلك الليل الحالك , كنت قد اكتسبت لياقة لا بأس بها و أنا بالميتم خاصة عندما اختلس محافظ الناس ثم اهرب , ببساطة كنت مدربة حتى قبل أن أجد المنظمة
أمضيت أياما و أشهرا طويلة قاسية جبت فيها كل الشوارع و بت في كل الأزقة و عشت التشرد بمرارته, و مثلما يقال رب صدفة خير من ألف ميعاد, جاءت الفريسة بقدميها إليَّ.
في يوم عادي من أيام الخريف الذي سينقضي قريبا و برد بدا يكثر زياراته معلنا عن اقتراب الشتاء و في جو جليدي كان ينخر عظامي و أنا بملابسي الخفيفة الرثة و حذائي البالي أتكوم عند زاوية احد المقاهي العريقة ,الثالثة بعد الظهر , المكان هادئ , و المارة يعبرون و يتحركون بسلام .
اقتربت سيارة سوداء منخفضة السقف و طويلة الهيكل نوعا ما , رُكنت عند المقهى تتبعها سيارتان بنفس اللون لكن ليس بنفس الأناقة , فقد بدا واضحا أن من يركب السيارة الأولى شخصية مرموقة أو ربما من كبار البلد و من جهة أخرى لنزول عدد من الرجال المطقمين بنظاراتهم السوداء و أحاطوا الرجل الذي سينزل من السيارة الفخمة و بالكاد تمكنت من رؤيته ...
و هنا, تمزق ذلك الهدوء عندما تقدم رجل غريب و هو يصرخ بكلام لم افهمه في البداية: " سأقتلك, اقسم أنني سأقتلك "
تبعثر الناس في كل مكان يصرخون يتراكضون بهلع و قد فتح الرجل الثائر سترته على مصرعيها كاشفا عن قنبلة موقوتة ربطها بخصره و مهددا بتفجير نفسه و تفجير المكان بمن فيه
بينما حام الرجال حول الرجل المسن الأصلع يحاولون حمايته و قد أهبوا أسلحتهم,
اخرج الرجل المهاجم مسدسه هو الآخر و صوبه نحوهم بينما أطلق رصاصة عشوائية في الهواء كتحذير و هو يضحك ضحكا هستيريا
ـ تعتقد أنني لن أقتلك... انظر إلى نفسك كيف تختبئ وراء هؤلاء الحثالة .... سأقتلك و سأخلص العالم منك
لكن يبدو أن احتفاله كان مبكرا إذ أطلق احد الحراس رصاصة نحو يده و افلت منه المسدس
تحرك الحارس المصوب نحوه لكنه صاح به:
ـ لا تحاول, خطوة أخرى و سأفجر المكان
فانسحب الشاب اليافع عن قراره
كنت أراقب كل شيء و أنا مختبئة عند جدار الزقاق بمشاعر مختلطة, تساءلت ما بال هذا الرجل و لما يود قتل الجميع و لماذا يحمي كل هؤلاء ذلك المسن الذي يتوسطهم و الذي لم يقل و لا كلمة و لم يبدو عليه الخوف أبدا !!
امتدت يد الرجل المهاجم نحو علبة صغيرة بها زر احمر و يمتد من أسفلها خيط كهربائي متصل بالقنبلة, مجرد ضغطة على الزر و سينفجر كل شيء
و عادت به نوبة الضحك الهستيرية و هو يمد إبهامه نحو الزر ليضغط, لكن...
..سُمع دوي طلقة تردد في المكان قطع حبال ضحكه, ارتبك الجميع مما حصل و لما هوى على الأرض تبين من أين أتت الرصاصة...
..كنت احمل المسدس بيدين مرتجفتين و قد جحظتُ بالجثة بفزع شديد
أخذت مسدسه الذي كان واقعا على الأرض و أطلقت عليه
فكرت لحظتها أن يا الاهي ماذا فعلت ؟!!...
غرق بصري حينها في بركة الدم تلك و مات العالم من حولي و كأنني فقدت كل حواسي و لم اشعر بشيء , كنت مخدرة بإبرة من الذهول و الفزع.
صوت مألوف.. صوت وحيد سمعته وسط الصمت الداخلي الذي كنت فيه ..
هل قضي علي؟..هل سأسجن؟.. حتما سيمسكون بي..
لكن ما حصل هو أنني سُحبت من طرف احدهم و دفعتُ بقوة إلى داخل السيارة, و هناك لم أرى شيئا و لا أتذكر ما حصل...
~ لكنني فهمت ما حصل عندما استيقظت بألم خفيف في راسي
دخل علي رجل شاب يحمل صينية الإفطار و وضعها إلى جانبي, أكثر من ثلاثة أشهر قاسية في الشوارع طبعا كنت جائعة فتناولت الطعام بلهفة, كنت أدسُّ اللقمة بعد الأخرى و ابتلع بصعوبة لسرعة أكلي, و ذلك الرجل يتأملني, ثم قال:
ـ لست اعلم أأقول انك محظوظة جدا أو أن حياتك انتهت..
توقفت عن الأكل و نظرت إليه و فمي ممتلئ بالطعام لكنني لم اهتم و واصلت الأكل اما هو فبقي يحملق بي بطريقة غريبة حقا!!