01-24-2015, 05:11 PM
|
|
الفصل السادس | | | | أشكركم لتشجيعكم الجميل و أتمنى أن يعجبكم الفصل الجديد ... ثعلب درمصرنجا (الجزء السادس) كعادة المرء ينافق ليحصل على مبتغاه حتى اذا تم له طلبه استحال جبارًا فى الأرض فإجترف ما اراد بحق من يريد, إنهم تجار الرقيق الذين ما زالوا يتربحون من رجسهم حتى يومنا هذا , يُغرون ضعاف الحيلة بكرمهم حتى اذا تحقق مرادهم و وقَّع الطلقاء مواثيق العبودية استحال الكرم شُحًا(1) و قساوةً و نقبت الرحمة لها عن طريقٍ غير سبيل سواد قلوبهم المتحجرة. جلست فى أحد اركان هذه الشاحنة كبيرة الحجم حقيرة الغرض تحاول انفي استخلاص الهواء النقي من أكناف الروائح الكريهة و تخفي عيناي براءة طفلٍ طفق يراقب أشكالًا و الوانًا من بنى أدم ممن ضاق بهم الحال و لم يجدوا مفرًا من واقعهم الا مكانًا حصدوه فى تلك الشاحنة التى تنقلهم الى المجهول. كان الهدوء يخَيِّم على الشاحنة التى ملئتها الأوساخ الا فى هدير محركها و استمر شبح الخوف يُضفي(2) بالهدوء على أفواه قليلي الحيلة من الركاب, هدوءًا جعل النعاس يتمكن من عقل طفلٍ صغير و يرسل فى مخيلته ذكريات ماضٍ جميل, و لكن دائمًا ما يعكر صفو الأحلام قساوة الواقع فقد قطع نعاسي صوتٌ هامسٌ متقطع يخرج من حنجرة غليظة . -"هلا صببت لى بعض الماء يا بني" تلفَّتُ حولي لأتبين مصدر الصوت و بذلت جهدًا ليس بالقليل لتمييز المتحدث , لقد كان عجوزًا فى سن متأخرة زري(3) الهيئة لا يتبين المرء على وجهه خبرة الكبار ولا مرح الصغار يُغشِي(4) رأسه بياض الشيب و و تتداخل التجاعيد لتشكل رسومًا من الآلام طُبِعَت على وجهه , كان ينظر اليَّ فى شقاءٍ و آلم و يداه ممدوتان نحو إبريقٍ من الفخار ثُبِت على حافةٍ من جوانب الشاحنة الذى لا تقوى يداه المرتعشتين على ولوجها(5) فيكتفي بمدها نحو هذا الإبريق طالبًا نعمه و ماؤه , بطبيعة إنسانيتي التي لازلت أحتفظ بها رغم كل الصعاب لم أطل التفكير فقد وجدت نفسي أكب الماء المتغير لونه الى السواد فى كوب من البلاستيك العفن الذي غصته(6) عوالم و فنون من الحشرات التى تصول و تجول فى بركة ماءٍ عكر داخل كوبٍ من البلاستيك البالي , سلمت الكوب للعجوز ليتعامل هو بدوره مع محتواه فوجدته يَعُب(7) ماءه غير مبالٍ بطعمه و لا بمظهره و الماء يفيض من فمه فيسيل على قطعة القماش البالية التى ستر بها جسده . هنأ العجوز بشربة ماء إنطلق صوته الغليظ بعدها من حنجرته مرة أخرى ليصل الى مسامعي دون غيري بسؤالٍ لم أعرف له جوابًا . – "ماذا آتى بك الى هنا ؟ ". فكرتُ قليلًا لأخْلُص الى ردٍ مناسب و لكن لم يهدني فكري لجوابٍ فأطلقت لساني فى ترددٍ من أمري –" فى الحقيقة .. لا أعرف ربما لأني أريد ..." قاطعني العجوز بتتابع اسألته – "أتعرف الى أين تٌقِلٌك هذه الشاحنة ؟!! " -" نعم فقد سمعت البعض يقول اننا سنُرسَل للعمل فى المصانع الكبيرة و سيُوَفَر لنا ما نحتاجه من طعامٍ و شراب و ربما نحصل على مأوى كبير ومن الأجر الوفير" ما لبست أن أنهيت جملتي تلك حتى سمعتها و عرفتها ... هذه الضحكة الشبيهة بالصراخ التى تفوح من أفواه كبار السن طيبي القلب فيخرج فيها الهواء ممزوجًا باللعاب تحوم(8) حولهما روائح الفم الكريهة , لم أتلقى حينها تعليق العجوز سريعًا كأنه يحاول تركيب جمله لتخرج كاملةً دون تقطيع قبل أن يستطرد -" انا ايضًا سمعت هذه الجملة من قرابة الثمانية و السبعين عامًا , ... لقد كنت طفلًا ربما في مثل حجمك الضئيل حين تفتحت عيناي على حقيقة واقعي الآليم فقد كنت أحس للآخرين فضلًا لا أملكه , وُلِدت و ترعرعت لا أعلم لي أمًا و لا ابًا و اشتدت بي الأهوال فبدلًا من أن يمد المجتمع يد العون لي بات يضطهدني و يلومني على ما لم أفعل ... ظل الحال حتى سطعت شمس ذلك اليوم الذي بِعت فيه ما أدري بما لا أعلمُ ... بعت حريتي و بتُّ أُباع و أُشترى مثل العبيد". أنهى العجوز حديثه مُفكرًا في آلام الماضي مُحرِكًا مشاعري التي ذكَّرَتْني بجمال خواطر الماضي التي أخشى عليها الضياع بين تلابيب ظلام المستقبل , كنت منصتًا مطرقًا لكل حرفٍ خارج من مخارج حروف العجوز فربما شعرت وجهًا للشبه بيننا و ربما كانت لي نفس آلامه و لكني بأي حالٍ من الأحوال لا اريد نفس النهاية التي أتلمسها في حال العجوز البائس الذي تحول وجهه الى نافورةٍ من الماء بفعل دموعه التي إنهمرت من عينيه كأنها تحاول أن تزيل آلام الماضي و كلل(9) الحاضر . كنت أطوق لأسمع منه عن كل يومٍ قضاه في حياته منذ التحاقه بالتجار فربما استطعت تفادى أخطاء ماضيه لو باح لي بمكتوم أسرارها, أسندت ظهري الى جانب الشاحنة لأتخذ من جانب العجوز مجلِسًا و هيأت نفسي لأصوب استفساراتي لمسامعه –"هل يمكنك أن تخبرني أكثر عنك .. ربما عن حياتك , ماضيك و اسمك تحديدًا؟" أطلق العجوز إبتسامة خفيفة قبل أن يجيب -" أظن أني لست أملك إسمًا .. او ربما إمتلكت واحدًا من قبل و لكن تراكم الآلام أطاح به في غياهب النسيان , و لا أعتقد ايضًا انك ستحتاج للقبك في هذا المكان اذا قبعت(10) فيه مثلي سنوات طوال". تعجبت من رده الغريب فربما ظننت كثيرًا أنه من الصعب على المرء أن ينسى اسمًا نودِيَ به طوال حياته , من شدة خوفي و اضطرابي من إجابته رددت همسًا اسمي فربما التقطه العقل و ثبَّته في بواطنه فلا يكون من سبيلٍ لنسيانه , و بقلق الأطفال من الأوهام أو ربما تكون صفة النزال داخل أكناني أخبرت العجوز بصوت متحدٍ – "بالنسبة لي لن أنسى إسمي مهما توالت علَّي مصائب العُمر" استطردت بنبرة زاد فيها التحدي و إرتفع فيها همسي "اسمي هو حسين نادالي من درمصرنجا ..." . كان صوتي مرتفعًا بعض الشئ فربما أردت أن افخر بنفسي حتى في أشد الأوقات قساوةً عليها أو ربما أردت التفاخر بوطني و إن كانت ألسنة العالم في ذلك الآن تزدريه , حقيقةً لم أجد سببًا مقنعًا و لكنها كانت رغبةً ملحةً تدفعني لذلك كان المشهد في الشاحنة مملوءً بالعجائب فها هو العجوز رفع رأسه ليشاهد طفلًا أشرق بحماسته في الظلام رغم هندامه المتسخ الممزق و قلة حيلته , وقف رافعًا صوته ناطقًا اسمه و مفتخرًا بوطنه و قد أحاط به هذا و ذاك يتعجبون من فعله المُحيِّر وسط شاحنةٍ لا يُشم منها الا ذلًا و هوانًا . كان العجوز يتمعن النظر في وجهي و ساد الصمت لحظات قطعها العجوز متسائلًا في دهشةٍ – " أنت من الدولة التي إحتلها الدنجيون ؟!!" -" نعم ... لا .. ربما لا أعرف فكل ما أدركته قبل رحيلي هو أن دولتي كانت في حالة الحرب البغيضة مع أخرى و لم يساعفني الحظ لأتيقن من يكون هذا العدو الحقير " -"نعم انهم الدنجيون فلعلي سمعت حديثًا عن ذلك الآمر منذ زمنٍ قريب و أدركت أن الدنجيون فعلوا بكم ما فعلوه بالكثير من الدول قبلكم فقد لقبوا أنفسهم لذلك الشر بالدولة التي لا تُهزم و ..." قاطعته متمتمًا بصوتٍ لا أعتقد أن مسامعه التقطته -"ربما يكون هذا تفسير لهروب جيشٍ و شعبٍ دون مواجهة خوفًا من ملاقاة حتفهم و لكن الخوف من الضلال و تصديق الأوهام لم يكن يومًا مُبررًا" , استطرد العجوز غير مكترثٍ بتمتمتي –" كل دول العالم تهابهم و تخشى ملاقاتهم فهم يملكون جيشًا زاحفًا مدمرًا و عتادًا(11) ليس بأقل منه فتكًا" , توقف العجوز قليلًا و كأنه يحاول أن يتبين أمرًا ما حوله ثم استطرد بلهجةٍ امتزج معها القلق –"ربما لا يسعنا الوقت لإكمال الحديث فتقريبًا نحن على أعتاب 'سيرفانتس هاوس' " –" 'شوربونرش هاوش' و ماذا تكون؟!!" –"انها 'سيرفانتس هاوس 'دار للخدم و مقرٌ لبيعهم لأصحاب المصانع و إجبارهم لفعل ما لا يطيقون ...أظن انها لفظة اجنبية ." . كنت صغيرًا في السن لأُميز هذا اللفظ من ذاك و أُحدد لغته أو قُل في حقيقة الأمر أني لم أعشق دراسة اللغات فربما يكون هذا اللفظ قد القت به مدرستي في الفصل على مسامعي عدة مرات أو يكون قد مرَّ علَّي في بعض إمتحانات اللغة الإنجليزية مراتٍ عديدة و لكني لم أكترث(12) به أو بغيره من الكلمات فقد كنت بليدًا في دراسة اللغات و لكني لم أكن بالفاشل أبدًا في مواد العلم و الرياضيات . عُدت لواقعي بعد وهلةٍ من تذكر الماضي لأجد أن الشاحنة قد توقفت و فم العجوز قد انقطع عن الحديث و يداه ممدوتان في خوفٍ و اضطراب الى باب الشاحنة محثًا اياي التزام السكون و قد لاح(13) على وجهه علامات خوفٍ مما سيكون... المرادفات : (1) شحًا : بخلًا (2) يُضفي : يُكسِب (3) زري : حقير (4) يُغشي : يُغطي (5) ولوج : وصول (6) غصت : ملئت (7) يعُب : يشرب (8) تحوم : تحلق (9) كلل : تعب / عناء (10) قبعت : انطويت (11) عتاد : سلاح (12) أكترث : أهتم (13) لاح : ظهر بقلمى / MnsMas خارج نطاق الرواية * في النهاية تذكيرٌ بسيط بمجمل ما وصل الى القارئ من معلومات : اسم البطل هو حسين نادالي طفل عمره عشرة سنوات من دولة تُسَمى "درمصرنجا" هرب سكانها من الحروب مع الدولة المعادية "دنجا" الى كل صوبٍ و كان من نصيب اسرة الطفل أن سكنت مخيمات اللاجئين على حدود دولة "بلباستر" المجاورة لدولتهم المُحتلة , يترك الطفل مخيمات اللاجئين فيصل الى "سيرفانتس هاوس" دار الخدم التي سنعلم عنها الكثير في قادم الرواية بإذن الله ,و الى أن القاكم أستودعكم في أمان الله... | | | | |
التعديل الأخير تم بواسطة mnsmas ; 01-24-2015 الساعة 08:51 PM |