| ثعلب درمصرنجا (الجزء الثامن)
كن ثعلبًا -"إنها ليلةٌ واحدةٌ و يكون للشهرتمامًا و لجحيمكم مكانًا ... لم يتبق أمامكم إلا مشترٍ واحد من أصحاب المتاجر و الشركات يبغي أحدكم و يُرسَلُ البقية الى مسواهم الأخير ." وقف هذا الضخم يبني بكلماته تلك في نفوسنا قصورًا من الرعب و الخوف... فلم يتبق من وجوه الذل القابعة في الدار غير أربعتنا نرقد منكسي الرؤوس ,فها هو أولهم مَجلسًا و أدناهم عمرًا, انه هذا الطفل الصغير الذي عانى الكثير من الآلام التي تتخلل الجسد فتفتك به و تقتحم النفوس فتدمرها تدميرًا على مدار شهرٍ كامل بل و واكب أيضًا سلسلةً من مشاهد الرعب و سفك الدماء حتى أصبح قلبه معتادٌ على صدمات الخوف و عينه قد إعتادت حمرة الدماء و ربما كان لمسامعه نصيبٌ جمٌ من إلتقاط ألفاظ التهديد و الوعيد, هذا الطفل الذي لا يعلم سبب إعراض هذا المشتري و ذاك عن شرائه فربما كان حجمه ضئيلًا لا يقوى على جهد الصناعة و ربما كان عقله صغيرًا لا يستوعب فنون النفاق لدى التجار..قد جلس عن يمينه هذا الأربعيني الذي استحال به الحال من الرفاهية المطلقة الى ذلٍ و هوان فقد عصفت به الأقدار و تراكمت عليه الديون و خسر من المال ما أفنى من شبابه في تلقيطه من هنا و إنفاقه هناك فلم يجد من الأمر مفر و لم يختر سبيل إلا الإلتحاق بموكب الهوان و بَيع نفسه لهؤلاء التجار لسداد ما استطاع من الديون بالتخلي عن أغلى ما يملكه انسان , راقبته منذ بداية الشهر, و رأيت كيف تحولت وسامة وجهه الى علامات ذلٍ رُسِمت على جبينه و كيف أصبح جسمه السمين نحيلًا حتى أنه ليكاد بطنه تلتصق بظهره من شدة الجوع , هو يتذكر أيام عزه التي كان لها زوالًا , يتذكر شبابه بمسكنه الذهبي و حريره الفضي و قصوره فائقة الحسن و الجمال و يتخلل هذه الذكريات آلام هذا الشهر و هوانه فكل يومٍ فيه نسبةً له أسوء من سابقه فقد رفض كل شارٍ شرائه متعللًا بإنعدام عهده مع المشقة و الكلل... ثالثنا كان هذا الشاب الذي لم أره واقفًا منذ وصولنا تلك الدار , كانت دائمًا له معاملةٌ خاصةٌ بيننا فلم يفارق هو كرسيه المتحرك الذي ينقله ببطئ يمينًا و شمالًا و يطلب في رفقٍ من أحدنا أن يجره الى وجهته إذا أُهلِكت يداه من جر عجلات كرسيه, حاول هذا الشاب في كل يومٍ من الشهر طرقًا مختلفةً من استئصال الكرامة و تثبيت المهانة و لكن كل محاولاته بائت بالفشل فكان من نصيبه غض البصر و الإهمال من كل مشترٍ و جبار , أيستطيع من يحتاج الخدمة هو نفسه أن يخدم غيره !! ...كان رابعنا هو ذلك العجوز طيب القلب الجالس على شمالي و الذي حاول على مدار شهرٍ كامل بكل السبل المتاحة إخفاء مهاراته عن عين المراقبين و فضل المكوث بجواري رغم ما تلمسته فيه من مهارةٍ و ذكاء لم أتلمس مثلها في غيره حتى من الشباب , و ربما أتقن هذا العجوز التمثيل إتقانًا بمرور و إنقضاء أيام هذا الشهر فقد كان أبكمًا أمام هذا الشاري و أصمًا أمام آخر حتى وصل به الحال و ربما لأول مرةٍ في حياته التي أفناها في تلك الدار أن ينقضي الشهر و تراه العين ضمن البائسين الذين يُخطَط لهم هلاكًا و جحيمًا...
بقيت ساعاتٌ و يصل هذا المشتري الأخير الذي سينقذ أحدنا من ملاقاة مصير الآخرين , إنها ساعات إنتظار المصير و التي دائمًا ما تكون في ثقلها على النفس أشد من المصير نفسه , فربما في هذه الساعات هدانا فكرنا أو فكر أحدنا الى التخلص من زميله البائس ليحصد هو عين المشتري الأخير و زاد قلقي حين وجدت العجوز منطوٍ بعيدًا و يداه تنزف إحمرار الدماء و قد خيل لي حينها أنه ربما إعتدى عليه أحد الشابين في الخفاء فالتزمت ركني و جلست القرفصاء خوفًا و رعبًا , مرَّت هذه الساعات الطوال على نفوسنا و عين كل منا تدور و تحوم لتقع مرة على الحراس أقوياء البنيان أو لتقع على ذلك الجدار البالي الذي أحاط بنا , و بينما نحن على ذلك الحال وصلت مسامعنا أصوات الترحيب و التهليل بهذا الرجل القادم لدارنا و كان لزامًا لذلك أن يُطِلَّ علينا الضخم بطلته المرعبة ليأمرنا بالوقوف في ذلك الصف الأخير الذي ربما يكون أخر مستقر في حياة ثلاثة منا ...
دخل هذا الرجل أبيض الوجه واسع العينين بدين الهيئة و الذي بدا عليه من شكل ملبسه أنه تاجرٌ من كبار التجار حينما وقع بصري عليه للوهلة الأولى قبل أن نوجه أعيننا صوب الرمال , ساد الصمت دقائق معدودة تيقنت فيها أن عينه تتفحصنا واحدًا تلو الأخر قبل أن يصيح فينا السيد هانز الذي وقف بجوار هذا المشتري كعادته. –"الحاج علي الدرمصرانجي يريد أن يعرف من هو أكثركم ذكائًا في فنون الرياضيات و الحساب و يود أن يطرح عليكم سؤالًا في الرياضيات من يجيبه يكون من نصيبه النجاة" .
كانت هذه الجملة كفيلة بأن تعيد معنوياتي الى السماء فقد كنت و كما ذكرت مميزًا في دراستي في الرياضيات فلم تستعصِ علَّي أي مسألة طوال فترة الدراسة بالإضافة الى أنه لا يخال لي أن هذا الأربعيني و ذاك الشاب ذو الكرسي المتحرك و معهم الرجل العجوز يُلِمون شيئًا بالحساب علاوةً على كل ذلك أني أذكر أن السيد هانز في حديثه ذكر هذا الإسم الذي كنت على وشك نسيان لفظته "الدرمصرانجي" , إنه إسم عائلة هذا التاجر مما يعني أن أصوله و ربما منشأه أيضًا كان في بلادي درمصرنجا ... منَّيت نفسي في هذه الدقائق التى سبقت السؤال و هيأت نفسي لأقابل سؤاله بإجاباتي ثم آتت تلك اللحظة التي يتبخر فيها كل ما حُفِظ داخل العقل و الفكر و تُستبدل محلها مشاعر الخوف و الرهبة.
بصوته الغليظ نقل الرجل الضخم السؤال من لسان الحاج علي الى مسامعنا . –"أسرعكم في الإجابة يفوز ... ما هو حاصل ضرب سبعة و أربعين و ثلاث مائة.. في.. ثلاثة و سبعين" , كنت مميزًا في الرياضيات و لكن لم أكن مميزًا في سرعة الإجابة على الأسئلة اللحظية فقد كنت أميل الى التريث قبل الإجابة , و مع هذه الأجواء التي تُشتِت العقل و الفكر لم يكن هناك سبيل لعقلي لحساب ناتجٍ و لا طريق للساني للنطق بأرقامٍ . ساد الصمت ألسنة الجميع وسط ترقبٍ من الحاج علي لتحصل أذنه على الجواب الصحيح من لسان الناجي المُقدّر منا....
مهما تقدم بي العمر و تدهور بي الحال أو راق لن أنسى تلك الجملة و لن أجعل لها سبيلًا خارج الذكريات , إنها جملةٌ قيلت همسًا لم تسمعها أُذنٌ على وجه هذا الكوكب غير أُذناي, صوت هامس قد صدر عن ملاكٍ نَدُر أن يرى المرء مثله في ظلام ذلك الكون , كان صوت هذا الملاك بالكاد يصل الى مسامعي و تستلقط أذناي حروفه بصعوبة و عسر –" الإجابة هي واحدٌ و ثلاثون و ثلاث مائةٍ و خمسةٌ و عشرون ألفًا .. أجب سريعًا على السؤال"
بدون تفكير في صحة الجواب ولا تقدير لعواقب الأمور و لمجرد ثقتي في ذلك العجوز الذي لم أجد منه إلا نورًا أضاء لي أيام شهرٍ معتم , أسرعت و كررت ما سمعَته أذني من جواب ليخرجه لساني بصوتٍ مسموع متردد تسمعه أذن الجميع...
أغلقت عيناي من شدة الخوف و الرهبة ليأخذ سمعي كل تركيزي و أنا أنتظر من حاسة السمع أن تلتقط التهنئة بالنجاة و لكن بدلًا من ذلك كان لحاسة اللمس دورها ذلك الحين فقد شعرت أنامل العجوز تداعب يدي اليسرى في خفاء و حذر لتضع في أكنانها قطعةً من القماش الملفوف المكعم و تحثني أصابعه لإحكام قبضتي عليها حتى لا تفلت , عادت حاسة السمع لتحصد دورها و إنتظرْتُ أن تنقل لي صوت السيد هانز أو الحاج علي يخبرني بصحة جوابي و لكن لم يكن لصوتيهما وجود فقد كان ما وصل مسامعي آنذاك صوتٌ مألوف عهدته طوال شهرٍ من الزمان و أحببته طول مكوثي في تلك الدار , إنه العجوز قرر أن ينطق الآن أمام ترقب الجميع و يقطع حبال الصمت. -" أظن الإجابة هي واحدٌ و أربعون و ثلاث مائةٍ و سبعةٌ و ثلاثون ألفًا"
إنه عقلي الصغير الذي طرح تلك الأسئلة و جلب لوجداني كل تلك الحيرة ,فما هذا الضلال العظيم!!, أيتحول المرء في لحظات الشدة ليخيب أمل طفل صغير فيه؟!! , طفل أحبه و وثق فيه منذ عرفه ,هل فضل هذا العجوز بعد كل تلك التضحية أخيرًا إكمال حياته و التضحية بحياة طفل صغير ؟! و لكن لما كل هذا و لما أخبرني صوته بهذا الجواب اذا كان لا يريد لي نجاةً ؟!! أيكون قد خشي أن أستطرد التفكير فيحصل عقلي على الجواب قبله ؟! فربما اراد تشتيتي بالجواب الخاطئ ليكون له فرصته في النجاة و يكون لي قدري من الهلاك !!..
.
.
ربما ثواني الوقت التي ساد فيها الصمت بعد جواب العجوز كانت كفيلة لأن تتحول فيها كل مشاعر الحب و الإحترام لذلك العجوز الى بغضٍ و كره.
- بعض الثواني في حياة الإنسان كفيلةٌ أن تُفقِدَه أعز الأخدان إن كان لعقله الوهم الخاطئ و لفكره جهل تقدير المواقف , ثوانٍ فقط يستطيع فيها هذا الإبليس أن يوسوس لك بعيوب أخاك فتمقته و يفيض قلبك كرهًا له ,و لكن الوقت وحده يكفل لك الندم على تلك الثوانِ المرار حينما يكون للصواب من عقلك إكتشاف...
سادت فترة الصمت وسط ترقبٍ من الجميع , جوابان منهما واحدٌ صحيح , ثلاثة بؤساء و معهم ناجٍ وحيد.
كانت عيناي مغلقتان و الأوهام ترفرف فوق عقلي و تحوم حينما تكلم السيد هانز –" كيف لم ندرِ بأن بيننا كتلة الذكاء هذه , هنيئًا لك يا حاج علي هذا الطفل الذكي"..
كادت مشاعر الفرح و السعادة تغمر قلبي لولا أنني تذكرت عجوزًا أطاح بنفسه تضحيةً في سبيلي, كنت أريد النظر اليه و تأمل الخير على وجهه فربما يكون الأخير من نوعه على هذه الكرة التي سادها الظلام , وددت كثيرًا في تلك اللحظات الحديث معه ربما على أقل تقدير لأشكره و لكن للأسف لم يُسمَح لي بالتفوه و لم تجد كلمات الإعجاب المحشورة لها طريقًا الى اللسان فكانت مجرد لحظاتٍ قضيتها في عجبٍ و إعجاب قبل أن يجرني الحراس نحو غرفةٍ بالجوار صائحين في بصوتهم المكروه –"هيا تقدم فقد دفع الحاج علي حقك من الأموال للدال و أنت الأن مسخر لخدمته متى شاء , اما رفاقك هؤلاء فلا شأن لك بهم فموعدهم مع المنية ليس ببعيد" تبع صوت الحراس صوت السيد هانز بهدوء قائلًا –"عندما أخرج مع الحاج علي نفذوا الأمر المُنتظر ..." , تعمدت التباطئ في الحركة إنتظارًا لخروج السيد هانز و الحاج علي لأتيقن ما هو منتظر الحدوث, كنت على وشك النظر للخلف لألقي نظرة وداع على العجوز قبل سماع ضجيج ثلاث طلقاتٍ متتالية من الرصاص كما صوتها في الأفلام و مسلسلات الخيال,فضلت ذلك الحين عدم النظر للوراء على مشهد الدماء الذي كان لعقلي تخيله و كان لقلبي خوفًا من منظره فقد تيقنت أين إستقرت كل رصاصة من هذه الرصاصات الثلاث, لم أتكلف الدموع على الشابين و لا حتى على ذلك الملاك العجوز فقد ذرفت الخيام من قبل أنهار الدموع على أبي فما عاد من موتته و لا نفعته في مسواه و لا زادتنا إلا آلامًا ,و لكنه كان قد طرق أبواب مداركي اسلوب جديد لا يحتاج الدموع بل يحتاج إطلاق الوعود و إستعمال الوعيد... إنه اسلوب الإنتقام الذي قررت إنتهاجه في تلك اللحظة لأجعل كل لحظةٍ في حياتي جحيمًا لأعدائي و كل ثانيةٍ في واقعي تخطيطًا لإنتقامي...
وضعني الحراس في غرفةٍ صغيرة إحتوت على إناء من الماء للإغتسال قبل الإلتحاق بالحاج علي بالخارج , تذكرت تلك القطعة من القماش و التي ما زالت قبضتي محمكة عليها خشية ضياعها فربما هي آخر ما لدي من رائحة العجوز, نظرتُ حولي لأتفقد المكان مخافة وجود عيون مراقبة و حال تأكدي من خلو المكان من بُغض الحراس فتحت قطعة القماش في حذرٍ شديد لتستقر عيناي على عطر الكلام.. -"اذا كنت تقرأ قطعة القماش هذه الآن فهذا يعني أنك نجوت من هذا الدار , و قد يعني هذا أيضًا أن كاتب هذا الكلام ربما وارى التراب و لكن لا حزن عليه و لا آهات فقد قضى من العمر نصيبه و رضي بقدره المحتوم,لقد كنت شقًا منك في صغري , طفلًا أحب الرياضيات و كره مواد اللغات و ما يسع انسان وارى التراب ان يساعدك بفعلٍ أو سؤال و لكنها أمنيةٌ تمنيتها لك بني و نصيحةٌ أخيرةٌ أتركها بين يديك –يموت العدل في عالم الظلام , فكن ثعلبًا ..." .
علَّي أن أعترف أن الخطأ كان حليفي حين ظننت أنه من الصعب على المرء أن يستخدم دمه ليكتب جملة الوداع لأمه و أخيه لأن الصعب حقًا أن يستخدم عجوزٌ مريض دماؤه العطرة ليكتب جملًا لطفلٍ عرفه شهرًا فقط في حياته, و ربما وصل عقلي تفسير رؤيتي للعجوز محاطًا بالدماء قبل ساعات, قرأت الجمل الحمراء في حزنٍ تام و عاهدت نفسي على الإنتقام و تنفيذ وصايا العجوز لي – و ان لم أفهم مرادها آنذاك- و لكن تطور الأحداث أزاح الغبار عن مخفيات الأسرار... فحقًا يموت العدل في عالم الظلام , تعيش الثعالب و تهلك الأغنام...
بقلمي / MnsMas | |