عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات و قصص الانمي > روايات الأنيمي المكتملة

Like Tree125Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع التقييم: تقييم الموضوع: 4 تصويتات, المعدل 5.00. انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 01-09-2015, 03:55 PM
 
Talking الزَّهــرَة الصامِتَــة

.











.




الزَّهــرَة الصامِتَــة



واحدة من اللحظات التي سترافق (زان) طوال حياته..
هي اللحظة التي وقعت فيها عيناه عليها أول مرة..
لايزال كل تفصيل منقوش في ذاكرته،
وكأن لاوعيه قد أدرك بشكل ما حينها، بـأنها واحدة من تلك اللقاءات التي تنقلب على إثرها حياة المرء كليًا..




كان (زان) يومها يندفع بين جموع الباعة والمشترين في الأسواق الفقيرة هاربًا..
مرتطمًا بعازف يغني لكسب الرزق في طريقه،
ومتجنبًا بالكاد الإصطدام بجرار بائعة عجوز أطلقت خلفه شتيمة كان ليتفاجئ بسماعها تصدر من امرأة في ظروف أخرى!

الأربعة الـذين راحوا يطاردونه لم يكونوا يتكبدون عناء شقّ طريقهم بين الزحــام مثله،
فالناس أخذوا يتفرقون مباشرة بعد نظرة واحدة يلقونها على هيئتهم المهيبة..
ويلحظون خلالها نوعية ملابسهم الفاخرة..
أو الغضب الطاغي على قسماتهم.

برشاقة قط، ودون أن يخفف من سرعة جريه،
قفز (زان) متـسلقًا السور الحجري، الفاصل بيـن مدينة (اسلبينيا) والغابة المحيطة بها،
ثم هبط في الجانب الآخر بسلاسة، قبل أن يعاود الجري مندفعًا عبر تلٍ مرتفع.
ألوان الغروب كانت قد صبغت السماء، وفي الأفق..
تمايلت أشجار (بولاو) الزرقاء مع الرياح كأمواج راقصة، تحت الأنوار الذهبية للشمس الراحلة.

توقف (زان) أسفل شجرة ضخمة، وترك جسده يستند على جذعها بينما يسترد انتظام أنفاسه.
"أين اختفى الوغد؟"
"هناك!"

الصيحة الأخيرة كانت قريبة جدًا، لكنه لم يختبئ أو يعاود الهرب،
بل اكتفى بأن انتصب في وقفته بصلابة، محدقًا في المجموعة المقتربة، العنيفة التعابير.

بخلاف رأيهم أو إعتقادهم الدائم.. ما كان (زان) يخافهم!
ولم يكن يجري هاربًا منهم قبل لحظات،
بل كان يقودهم بعيدًا عن منازل ومتاجر الجانب الفقير من المدينة،
فالمحرومون هناك من أمثاله يعانون بما يكفي..
ولم يُرِد أن يُجازِف بالتسبب بدمــار يلحق بالمنطقة التعيسة، أثناء موجة استعراضية للقوى، قد يقوم بها مطاردوه!

ما إن أصبح الأربـعة قريبين كفاية، حتى هتف أحدهم:
"أمسكت بك!"

ارتسمت ابتسامة ذئبية على وجهه، وبإيماءة من طرف يده.. كانت جذوع شجرة (بولاو) الشاحبة تمتد ملتفة حول قدميه وساقيه لتثبتهما بالأرض!
"اثبت هكذا.. سأجعلك تدفع ثمن جعلنا نطاردك كل هذه المسافة!"

لم يتـوتر (زان) أو يحاول محاربة قيوده،
رفع رأسه ببطء.. ومنح الأربعة نظرة كراهية خالصة.
تقدم أطولهم مقتربًا منه، قائلًا بنبرة تقـطر استهزاء:
"آه يا ابن عـمي الأبله! ألا تتعلم أبدًا؟ كم مرة يتوجب علينا تلقينك الدرس ذاته؟!"
"ذهنه بطيء الإستيعاب يا (كال).. إن أردت أن يفهم، فعليك أن تحفر انطباعًا أقوى عن العواقب في رأسه!"

ابتسم (كـال) لـصديقه، وقال دون أن تفارق عيناه عيني (زان):
"أتظن ذلك؟ إنه (منبوذ).. لا يسمح له بأن يطأ منطقتنا.. أين الصعوبة في استيعاب هذه الحـ...."

قطعت عبارته لكمة قوية مباغتة أصابت وجهه،
وكما أراد (زان) تمامًا.. فقد محـت تعبيري العجرفة والسخرية عن ملامـحه.. واستبدلتهما بالصدمة والألم!
أسرع رفيق (كال) يلوح بيده مرتبكًا، لتمتد مزيد من الجذوع مقيدة معصمي وذراعي (زان) هذه المرة... أحكم تقيده بشدة متداركًا خطأه السابق.

تشنجت عضلات (زان) وانقبضت استعدادًا لجرعة الألم المعتادة ما إن قابل لمعة العينين الداكنتين القاسيتين لقريبه..
مسح (كال) الدماء عن فمه مكفهر الملامح، ثم امتدت يده فجأة تجذب بعنف شعر (زان) المماثل في لونه البني لشعره.. حتى أصبح وجهاهما على بعد إنشات فقط.
كانا يتشاركان شبهًا كبيرًا في تقاسيم الوجه، ولَأَخطأ أي شخص يراهما الآن مفترضًا أنهما أخوة.
لولا تلك الفروقات الظاهرية في الملبس... والخفية الخاصة بحيازة القوى.. تلك الفروقات بالتحديد قد وضعت عالمًا كاملًا بينهما!
عينا (زان) العسليتين كانتا ناريتين صارمتين بنظرتهما، حتى واليد العليا الآن لـ(كال) الذي همس متوعدًا بشراسة:
"ستندم يا صاحب الدماء الملوثة!"

مقابلًا الابتسامة الخبيثة المنتصرة التي يعرف مضمونها جيدًا.. وعد (زان) نفسه ألا يصرخ أو يتأوه..
ألا يبدي أي ضعف..
لكن ذلك الوعد... كان شيئًا عصيّ التنفيذ..




لاحقًا.. وفيما جسده المتألم يتأرجح بين الوعي والـلاوعي.. تساءل (زان) إن كان اختراق القانون الغير معلن بتجاوز الحد الفاصل بين جانبي (الأماثل) و (المنبوذين) في المدينة، من أجل زيارة قبر والديه شيئًا يستحق تجشم هذه المشقّة!
ما كان (زان) يومًا شخصًا واهمًا، لذا يدرك جيدًا أن والديه قد رحلا... وأن حياته السابقة قد انتهت بوفاتهما..
لم يكن خطأه أن والدته (المنبوذة) قد أورثته دماءها الخالية من أي تفوق.. من أي قوى أو قدرات خاصة..
فحتى مع كون أبيه من أعتى (الأماثل).. بقي نصفه الموسوم بالضعف هــو السائد.. ما تسبب في نفيه من المنزل الذي ترعرع فيه.. إلى حيث يقطن أمثاله من (المنبوذين)!
سنوات قد مرت الآن.. تعلم (زان) خلالها أن يقسيَ قلبه.. ألا يهتم بأحد..
وألا يدع أحدًا يقترب منه.. بقي مغموسًا في قالب جليدي من الجفاء.. و متحجرًا صلبًا كالصخر!


ممددًا على أرض الغابة العشبية، بدا له القمر المكتمل أشبه بسوسنة طافية في بركة سوداء، ووجد أصوات حشرات الليل وحفيف أغصـان الأشجار الزرقاء مهدئي التأثير..

ضحكة موسيقية عذبة تناهت إلى أسماعه فجأة فنبَّهت حواسه المسترخية، اعتقد لوهلة بأنه توهمها... حتى سمعها ترن من جديد..
وبشكل أوضح هذه المرة، متبوعة بأصوات أطياف الغابة التي لا يمكن أن يخطئها!

أدار (زان) رأسه جهة الصوت، لم يحاول النهوض فقد كان يعرف من تجارب سابقة، بأن تأثير صعقات (كال) على جسده سيستمر لساعة أخرى على الأقل.


مستلقيًا على أرض الغابة غير قادر على الحراك... هناك ابصرها لأول مرة!
وميض القمر الشاحب كان يتسلل من بين الأشجار، ما سمح له برؤيتها بوضوح..
أطياف الغابة البرّاقة الألوان سبحت حولها في ابتهاج ومرح أكبر من المعتاد.. كانت شابة صغيرة السن، بعمر مقارب لعمره أو أصغر بقليل،
تحركت آتية نحوه بخطوات رشيقة مبتهجة، شعرها الفضي الكثيف منسدل بحرية على كتفيها، ويبدو تحت ضياء القمر كهالة نور تحيط بوجهها الدافئ.
ميّز اللحظة التي ابصرته فيها من الطريقة التي اتسعت فيها عيناها الزرقاوان..
وتوقفت عن المشي بغتة، وقد توتر جسدها بشيء من الخوف..
لاحظ أن عينيها كانتا نقيتين بريئتين.. لم تعكر صفوهما حياة العنف التي أفسدته..
وأكثر من ذلك، كانتا دافئتين لطيفتين!
لم يرغب بأن يفسد شيء تلك النظرة، أو يحولها إلى شيء قاسي، مرير مثله!

لعل أفكاره القاتمة قد انعكست على وجهه، فقد بدا وكأن الفتاة قد أجفلت فجأة متأثرة بها!
واحدة من أطياف الغابة الوردية البشرة والمدببة الأذنين، تكلمت بصوتها الجرسي وكأنها تجيب على سؤالٍ لم يُطرح:
"ليس مليئًا بالكراهية فحسب.. هو عنيف كذلك!"


أجفل (زان) إثر العبارة رغم علمه بصدقها، لم يتكلم.. ولم تتزحزح نظراته عن عيني الفتاة أيضًا..
كان مدركًا لمقدار الحقد والمقت الدفينين في أعماقه، وللقتامة التي تلون حياته.. فلم يستغرب العبارة.
أطياف الغابة كانت مخلوقات حساسة لكافة أنواع المشاعر، وتنفر بشكل خاص من النوع السلبي منها..
تساءل باهت مَرّ بخاطره مرافقًا هذه المعلومة.. أي نوع من المشاعر تنبعث من الفتاة لتلتف الأطياف حولها بهذه الطريقة؟!

توتر غريب ظهر على عيني الفتاة المُعَبّرَتين، استدارت بعده مغادرة المكان على عجل.. هاربة منه.. كما لو كان شيئًا مرعبًا قد يؤذيها.. والأطياف البّراقة الملونة تصحبها وكأنها تحرسها..




لم يكن (زان) قد نسي أمر تلك الفتاة كليًا، حين رآها مجددًا بعد أسبوع في ذات البقعة..
لربما كان متفاجئًا لمرأى شخص آخر غيره يلجأ إلى هدوء الغابة في هذا الوقت من النهار، مفضلًا خلوتها على صحبة الناس.. إلا أن إحساسه بالمفاجأة كان مظللًا بشعور آخر أقوى لحظتها... الفضول!

كان جالسًا على غصن مرتفع فوق إحدى الأشجار حين ابصرها تتجول برفقة أطياف الغابة تمامًا كالمرة الماضية..
الفرق الوحيد أنها بدت له الآن تحت ضوء النهار أكثر واقعية.. أكثر بشرية.. لا ذلك الكائن السامي المضيء كما تصور ليلتها!
لاحظ أن خطواتها تفتقد البهجة رغم رشاقتها، لم يعتقد بأنها ستلاحظه، فقد كان رأسها منخفضًا وكتفاها منحنيان... بدت له حزينة.. متألمة!
كتلك الليلة لم تكن تتكلم، لكن الأطياف راحت تخاطبها رغم ذلك:
"ليس أمرًا سيئًا أنكِ لا تملكين ذكريات سعيدة عنه.. ذلك يجعل رحيله أسهل."
"ربما كان عائلتك الوحيدة لكنه لم يكن يهتم."
"كيف يكون واجبًا أن تحبي من لا يحبك؟!"
"لم تريه منذ سنوات، وعلى الأرجح لم تكوني لتريه مجددًا، فأي فرق قد تحدثه وفاته؟!"

عند العبارة الأخيرة رآها (زان) ترفع بصرها، لتنظر إلى الطيف الأحمر الجميل الذي نطق الجملة باستياء..
لكن استياءها ما كان شيئًا عميقًا أو قاسيًا.. لقد بدت وديعة بغضبها ورقيقة تمامًا كالطيف الصغير الجميل، الذي كشر بظُرف.
قامته البالغة قدمين راحت تطفو أمامها مضيئة، وهو يتكلم:
"أجل نحن مخلوقات ودية أيتها (الزهرة الصامتة).. لكننا أصدقاؤك، ولا نريدكِ حزينة من أجل شخص لا يستحق!"

بحيرة تامة راقبها (زان) تلمس يد الطيف وتبتسم بحزن.. ابتسامة ردها لها الأخير.
مالت الفتاة برأسها جانبًا، ونظرت إلى الطيف بصمت للحظات ثم أطلقت تنهيدة.. فأومأ الطيف الصغير برأسه موافقًا:
"الفراق يكون صعبًا في البدء فقط... لكنه سيغدو أسهل مع مرور الوقت."

تتبعها (زان) ببصره وهي تبتعد حتى توارت عن ناظريه.
المشهد برمته بدا له غريبًا للغاية، وكأن محادثة كاملة قد دارت بين الفتاة والأطياف رغم أنها لم تنطق بحرف!
شَغَله غموض الفتاة وغرابتها... فوجد نفسه يقفز هابطًا عن الشجرة بعد برهة، وينطلق في إثرها بتردد... وفضول لم يعهده في ذاته...


- -

راقبها (زان)..
راقبها مطولًا، والأيام تنساب منه دون شعور..
على موجة من أَلَق كانت تتحرك دومًا، تحملها أقدامها في دروب المدينة، تتأمل الأشجار الجافة المشتاقة إلى الربيع، وتمرر يدها على جذوعها القاسية...
ثمة نسغ لامرئي يجري في أعماقها، يحمل الحياة والأمل!
ابتسامتها للعابرين... كانت تتسلل بين ثنايا اليأس والتعاسة، كحبات غيث لا يوقفها أحد، ولا يمتنع عن ارتشافها جسد!
لم تكن تتكلم مع هذا.. لم يرها مطلقًا إلا صامتة!
يخاطبها من يعرفها، فتبتسم له، ويكون محدثها راضيًا مسرورًا بحديث من طرف واحد رغم الصمت!

كان يقترب منها بقدر يستطيع أن يلمحها فيه ولا يزعجها أو ينبّهها لوجوده، فوجهها المؤطر بشعرها الفضي الناعم كان يدعوه دائمًا لتأملها عن قرب.
رفعت عينيها عن حبات الفاكهة التي كانت تنتقي منها حين خاطبها البائع..
حبات الفاكهة التي حظيت بنظرات عينيها الزرقاوتين المشرقتين...
صدمه إحساس مفاجئ بالحسرة... هل غدا يتمنى حقًا أن يحظى بنظرة؟!
مدت للبائع حبة فاكهة تناولها منها الرجل ثم شرع ينفذ طلبًا لم تنطقه، كما رأى (زان) غيره من الباعة يفعل دون استغراب.
لاتزال حيرته في أوجها برغم ما تعلمه من مراقبتها.. أيعقل أنها لا تحتاج أن تتكلم ليفهمها الآخرون؟!
لكن.. لتملك قدرة كهذه عليها أن تكون من (الأماثل) لا أن تعيش بين (المنبوذين)!

راقبها تستلم سلة الفاكهة وتنصرف، فمشى في إثرها متتبعًا..
شعر بنفسه كطفل صغير يتبع القمر، يلاحقه من شرفة لأخرى... ظانًا أن القمر يسير معه، وأنه في نهاية المطاف سيلتقطه بيديه!
ارتقت الدرجات الخلفية لواحد من المنازل القديمة المتشققة.. صعدت عاليًا وكأنما تثبت له أنها كالقمر بعيدة عن السبر وعصية على الغور!
استدارت حين وصلت أعلى الدرج وتوقفت لتنظر من فوق، إلى الساحة حيث الباعة والمارة... سبحت عيناها بين جموع الناس بتعبير هائم للحظات... وكأنها تستقي فكرًا أو إلهامًا!
ثم تحركت لتدخل المنزل ببطء وتختفي عن أنظاره..
واقفًا عند زاوية الطريق.. تنهد (زان) مرجعًا رأسه للخلف ومسبلًا جفنيه... تساءل كم بات مخبولًا في اليومين الماضيين، كي تتمحور ساعات نهاره كلها حول فتاة واحدة... صامتة!



- -


أحد أصعب الأيام التي مر بها، كان نهارًا لا يتمنى تغييره رغم أي شيء.. فقد احتوى وجودها بشكل استثنائي..


كان يسير متجولًا قرب سور المدينة الضخم، بعيدًا عن أهالي المنطقة كعادته..
الفتاة الغامضة كانت قد توجهت إلى الغابة، فلم يسمح لنفسه بأن يلحقها هذه المرة.
شاعرًا بسخف الإهتمام الذي راح يتشكل داخله اتجاهها، كان قد قرر تجاهلها كليًا.. معاندًا أفكاره التي لم تنفك تنزلق إليها رغمًا عنه!

لطالما اعتقد (زان) بأن قريبه (كال) أسوأ مجموعته.. فقد كان لديه ذلك الإستنتاج البديهي بأن البقية لم يكونوا ليزعجوا أنفسهم به.. وأنهم يسايرون قريبه بكراهية غير مبررة، ومقت عام يتشاركونه تجاه كل (منبوذ)!
لكنه أدرك بعدئذ وبغضب أعمى، أن اعتقاده ذاك خاطئ تمامًا..
فالأسوأ حتى من قريبه (كال).. كان فتيان (الأماثل) الثلاثة وهم يتوهجون حبورًا لإنفرادهم به اليوم!
في كل مرة حاولوا إساءة معاملته فيها، اعتاد (زان) أن يرد بتعليق شفهي لاذع.. وكان كلما أظهر لهم مدى صلابته، زاد عزمهم على تحطيمه!
ما بدأ كإنتقام بسيط لكونه (منبوذًا) جريئًا.. أصبح أمرًا بالغ الخطورة.. يأخذونه على محمل شخصي!

عبارات ساخرة.. متهكمة.. ومحتفلة بموقفه الضعيف راحت تصل مسامعه على نحو ضبابي..
تساءل (زان) إن كان قد فقد إحساسه بما حوله فجأة؟! فلم يسبق لهم أن باغتوه أو أخذوه على حين غرة في أي من اشتباكاتهم السابقة!
أراد أن يُعَنّف نفسه على غبائه.. فافتتانه الأحمق بالفتاة الغريبة شتته، وكان سبب وقفته هذه.. متورطًا في عراك آخر غير متكافئ الأطراف... إن أمكن تسمية تلقي الضربات دون تسديدها عراكًا!

عقد (زان) حاجبيه وأبقى تعبير وجهه قاسيًا خاليًا من أي ضعف كالعادة، فأنبأته نظراتهم بأن الأمر سيكون أصعب من المعتاد هذه المرة!
أحد الثلاثة.. -شاب أسمر نحيل الوجه، لم يهتم (زان) يومًا بمعرفة اسمه- راح يتباهى بقواه النارية على نحو تهديدي!
أصدر اللهب زئيرًا عندما هب تيار هوائي قوي.. فتراجع (زان) إلى الخلف، وحمى وجهه بذراعيه من اللهب.
ومن خلال الجدار الناري انقض عليه شكل بشري.. -الشاب الآخر-.. ورطمه بالجدار فاهتز من قوة الصدمة!
لم يعودوا يسخرون أو يستفزونه الآن.. بجدية تامة وجه إليه الشاب لكمة سحقت عظمة خده الأيسر، وضربه بركبته على معدته، فانحنى (زان) من شدة الألم لتستقبله لكمة أخرى في وجهه..
بصق (زان) دمًا.. واستطاع تفادي لكمة أخرى مترنحًا،
تراجع للوراء بتعثر حتى أصبح ظهره ملاصقًا للجدار الصخري لسور المدينة..

سريعًا جدًا.. أسرع مما استطاع عقله المتألم استيعابه، التف حول وسطه جذع نباتي ضخم، وانتشله من الأرض بقوة ليقذفه في الهواء...
فطار (زان) متجاوزًا السور بمسافة، وسقط على منحدر من التربة المتآكلة، دفعته الجاذبية عبر الأرض المنزلقة إلى الأسفل...
فانزلق على ظهره آخر عشرة ياردات، مولدًا سحابة من الغبار، ثم ارتطم بساتر من العشب الطويل والشجيرات الداكنة!
كانت الشجيرات والأجمة ملتوية وملتفة.. شديدة الإخضرار.
تفرقت بعض الحيوانات الصغيرة عند هبوطه، وابتعدت أفعى زاحفة عبر الظلال!

شعر (زان) بذهنه ثقيلًا محاطًا بغشاء من الألم.. وأدرك بطريقة ما بأنه في الغابة، وبأن الشيء الوحيد الذي منع مهاجميه من تتبعه واستكمال وحشيتهم هذه كان الخوف من عواقب القتل...
وبالرغم من الألم المروع الذي راح ينبض في كل شبر من جسده، استطاع (زان) أن يشعر بالمرارة في حلقه.. أحس بها تلوك أحشاءه..
ما كان أي مما يتعرض له عادلًا.. لم يكن له أي مبرر..
وكان ذلك سبب الغضب الدائم الذي ينمو في أعماقه.. يكبر.. يتلوى.. ويصبح شيئًا معتمًا مخيفًا بمرور الوقت!
في مكان ما من زوايا عقله.. عرف (زان) بأنه وصل إلى حافة تماسكه، وأنه بوخزة أخرى سيخسر ذاته مقابل ذلك الشعور العميق المظلم...
سمع (زان) حركة أقدام خفيفة تقترب فوق سجادة الأوراق الرطبة... ثم غرق في الظلام.

- -



ارتجفت (لافندر) لمرأى المشهد المخيف الماثل أمامها.. لم تكن يومًا قادرة على تحمل العنف أو القسوة!
كانت قد راقبت الشاب وهو يقذف من فوق سور المدينة ويحط بعنف على أرض الغابة..
حامت الأطياف حولها بصخب نادر، بينما بقيت هي متسمرة في وقفتها، متسعة العينين، ويدها المرتجفة منقبضة أمام صدرها بصدمة..

بدا لها الشاب مألوفًا، فوجدت نفسها تقترب قليلًا لتنظر إليه عن كثب..
كان جلده شاحبًا، ومرارة الألم ظاهرة على وجهه،
لم يكن منتبهًا إلى تحديقها فيه، حاول النهوض على ركبتيه ويديه.. فتسارعت أنفاسه وشد أسنانه لإحتواء الألم..
نزف جرح ما في جذعه، وسالت دماءه على الأرض العشبية تصبغها بحمرة قانية أثارت ذعرها!
كانت إصابته أكبر بكثير مما ظنّت، شعرت برغبة عارمة في الإقتراب منه لتقديم شيء من العون..
لكنه.. وقبل أن تتمكن من القيام بأي شيء.. خسر آخر قدر لديه من التماسك وهوى أرضًا فاقدا الوعي..


هرعت إليه لتركع بجوار رأسه، حبست أنفاسها عندما تعرفت وجهه، وتلألأت دموع ساخنة في عينيها حين صدمتها موجة عنيفة غير مرئية من الألم... ألمه هو!
كانت ثيابه رثة، شعره مشعث إثر السقطة، وجهه أضاع كل لون.. ومع ذلك ظل مهيبًا على نحو غامض.

لقد كان الشاب نفسه الدائم التواجد حولها..
لم تحتمل مظهره الساكن الخالي من الحياة... فقد اعتادت رؤيته مملوءًا بالغضب والقوة.
كانت تلمحه دومًا وحاجباه -الأدكن بدرجة عن لون شعره البني- منعقدان بتركيز.. وفمه الحازم عابس.. وعيناه الناريتان تفيضان بطاقة ثاقبة!

راحت أطياف الغابة تصيح بها بصخب عاجزة عن الاقتراب من هالة الألم القاتم التي أثقلت الهواء حول الشاب، أرادوها أن تبتعد عنه.. لكنها لم تكن لتتركه هنا وتنصرف،
ليس قبل أن تتحقق من أنه سيكون بخير...
أرادت طمأنته كذلك.. حتى وإن كان غير واعي.. رغبت بإخباره أنها ستساعده.. وأن كل شيء سيكون على ما يرام!
رفعت يدها وقربتها من الجسد الساكن الدامي.. لكن.. وقبل أن تلمسه.. امتدت يد قوية لتمسك معصمها..
فانتفضت مذعورة وهي تلتفت إلى الوجه الوسيم الشاحب، لتلتقي عيناها بعينين عسليتين لم ترى يومًا بمثل لونهما الغني..
خرج صوته قاسيًا رغم ضعفه:
"ماذا تريدين؟"
حاولت تهدئة نبضات قلبها وهي تركز لتجيبه بأفكارها:
أنا أريد مساعدتك وحسب..

تشوشت النظرات العسلية فجأة... وفقدت الأصابع القوية قدرتها فسقطت إلى جواره...
شعرت بأنه ذُهل بعد اختباره لذلك التواصل الغامض أول مرة، ولأنها شاركته قواها الخاصة...
فقد اختبر مقدرتها على إيصال أفكارها ومشاعرها من خلال لمسة...
تعلمت (لافندر) باكرًا جدًا كيف تكون شاكرة لموهبتها هذه، فكأن قوى (الأماثل) خاصتها جاءت تعويضًا عن النقص البشري فيها... افتقاد المقدرة على النطق!

ولأن أفكارها كانت قابلة للسفر بين جسدين بحرية، فقد كان إحساسها بمشاعر الآخرين مضاعفًا كذلك.. محسوسًا بوضوح عبر الهواء!
تعالى صوت أنينه فجأة ليمزق قلبها.. فأجفلت وعادت تلمس ظاهر كفه، تهمس في فكرها بإشفاق:
لا تقلق، ستكون بخير... سأعتني بك!


غمرها القلق طوال الساعات الثلاث التي تلت فقدانه للوعي من جديد، فرغم أنها قد تمكنت من تضميد جرحه، واستطاعت أن تسقيه دواءً عشبيًا من المفترض أن يزيل ألمه..
إلا أنه ظل غائبًا عن الوعي..
ولولا إحساسها بالألم الثقيل الطافح في الهواء يخف شيئًا فشيئًا، لذعرت حتمًا متوقعة الأسوأ.
نظرت مليًا إلى وجهه... كان مغمض العينين وقد توسطت حاجبيه تقطيبة ألم طفيفة.. شعره كان رطبًا وقد تهدلت بعض الخصلات على جبينه.. لم يبدُ لها من النوع الذي يعرف الإستسلام!
مازالت هالة الألم تحوم في الهواء رغم أنها قد خفت كثيرًا..
التقطت (لافندر) إحدى يديه بين كفيها، حين لم يعد هناك ما تستطيع فعله أكثر.. وأغلقت عينيها سامحة لأفكارها بأن ترحل لعقله المغيب محملة بتهويدة حانية..
تشنج جسده في البدء وكأنه يقاوم التأثير المهدئ لأفكارها، لكنه سرعان ما استرخى على نحو ملحوظ..
مرت عبرها دفقة سلام، ودفء، تلتها مجموعة من المشاعر راحت تتبدل سريعًا جدًا لتميز كل منها على حدة.. لكن الذي أثار دهشتها حقًا كان المعنى الواضح الذي حملته.. لقد خففت عنه حقًا.. وتراجع الألم حتى بات مجرد وخزة صغيرة في خلفية المشاعر التي تنبعث عنه الآن!
تنهدت (لافندر) بارتياح.. وانتظرت..


كانت الشمس قد مالت نحو الغروب، وتغير الضوء النافذ من خلال الأشجار من لونه الأصفر المضيء إلى لون ذهبي أكثر دكنة وألقًا.
هبت نسمة، وتمايلت حواف العشب الطري حولهما مع الهواء البارد الناعم.
استنشق (زان) نفسًا عميقًا، صفا ذهنه على نحو مفاجئ.. واستطاع الإحساس بنفسه مستلقيًا على جانبه فوق البساط العشبي.. ألم صغير نابض راح يخز جانب جذعه الأيمن.. خمن أنه لابد قد جرح بطريقة ما..
شعر بكفه أكثر دفئًا من بقية أجزاء جسمه، لأن يدين ناعمتين كانتا تحتضنانها..
رف جفناه عدة مرات، قبل أن يستطيع فتح عينيه..
يكون الشعور بالبداية مصحوبًا بالإحساس بالنهاية عادة.. ويأتي الاثنان مترافقان..
لكن في تلك اللحظة كانت البداية وحدها هي ما رآها (زان) بوضوح...
كان الوجه الذي قابله مدورًا، لم يكن بيضويًا تمامًا.. وجه صغير جميل.. يحيط به شعر أشقر ذو لمعة فضية..
رأى في بشرة ذلك الوجه، اللمعة الفضية ذاتها التي رآها في الشعر الغزير.. لون فضي تمامًا مثل ضوء القمر.
رأى أيضًا عينين زرقاوين متسعتين، مظللتين برموش ذهبية كثيفة، كان وجهًا مثاليًا لزهرة ليلية.. شيء أشبه بترجمة رقيقة للزهرة إلى الشكل البشري!

ابتسمت له.. فشعر (زان).. ولأول مرة منذ سنوات.. بشيء آخر غير الكراهية والحقد..


تمت



- -



.



.
__________________
.





-
‎‏‎


~





#سبحان الله و بحمده عدد خلقه و رضا نفسه و زنة عرشه و مداد كلماته
_
استغفر الله حتى يفيض القلب فرحًا و تمتلئ الصحف اجرًا #
رد مع اقتباس
  #2  
قديم 01-09-2015, 03:59 PM
 






















‏مرحبا يا أعضاء و يا روّاد قسم "روايات و قصص الإنمي "
هذا أول قصة أكتبها في المنتدى
و هي مشاركتي بمسابقة IBM
Inventor Beyond the meaning
اشكر المتألقة AY على الطقم الجميل
لن أطيل عليكم بالثرثرة ..
واترككم الآن منتظرة آراءكم فيها بشوق
دمتم بخير














__________________
.





-
‎‏‎


~





#سبحان الله و بحمده عدد خلقه و رضا نفسه و زنة عرشه و مداد كلماته
_
استغفر الله حتى يفيض القلب فرحًا و تمتلئ الصحف اجرًا #
رد مع اقتباس
  #3  
قديم 01-09-2015, 04:54 PM
 
Thumbs up


اذا اعجبتك القصة ياريت تعبري
للكاتبة بتعليق افضل



الرواية روووووووووووووووووووووووووعة شو هاذ الابداع
واصلي
Baka-, ام بطن, Prismy and 3 others like this.
رد مع اقتباس
  #4  
قديم 01-09-2015, 05:03 PM
 
حجز
Prismy, Baka-, ام بطن and 2 others like this.
__________________

- { 58 } كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ { 59 } فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ -
أستَغفركَ ربِّي كما ينْبغِي لِجلالِ وجهِكَ وَعظيمِ سُلطانِك .
2010 ~ 2015

رد مع اقتباس
  #5  
قديم 01-09-2015, 05:06 PM
 
حجز مستعجل
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 11:10 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011