أجواء عاصفة , أمطار تحطم الصخور لشدة قوتها و رياح عاتية تضرب
المدينة بكل قوة مما جعل أهلها يشعرون بأن هُنالك مصير مشئوم
بانتظارهم , وبتلك المدينة ذاتها ضرب البرق إحدى أسطح البنايات
المهجورة لينير المكان المظلم لأجزاء من الثانية ويظهر لنا جثة
ملقية بإهمال على سطح البناية وقد بدا الفزع جلياً في وجهه الذي تخلت
معالم الحياة عنه بينما تقف تلك الفتاة عند الحافة وقد عاد الظلام
من جديد ليحيط بالمكان, علقت عيناها الفضيتين بالسماء وهي
تتأملها بإعجاب لتتحدث بهدوء معاكس للأجواء العاصفة
التي تغلف المكان :" هكذا هي الحياة في نظري , لم أعرف بها سوى
حمل السلاح بيدي وقطرات الدماء تزينه , يُطربني صوت صرخاتهم
وتوسلهم لي قبل الموت .. ( عاد البرق لينير جزءاً من المكان ويظهر
لنا ملامح وجهها الحادة وشعرها الأسود الحالك الطويل بينما لمعت
عيناها الفضيتين بشكل مُخيف وابتسامة ماكرة ظهرت على شفتيها
الورديتين وهي تكمل كلامها ):" فمنذ نعومة إظفاري كانت هذه هي لعبتي "
كانت تسير بخطوات واثقة بتلك الممرات إلى أن وقفت أخيراً أمام إحدى
الأبواب وقد نُقش في مُنتصفه كلمة " نائب القائد " لتطرقه ثلاث طرقات
مُتتالية ومن ثم انتظرت بعض الوقت حتى أتاها صوته الغليظ :" تفضل بالدخول "
فتحت الباب وولجت إلى الداخل وقد كانت ترمق المكان بنظرات مُتفحصة
ابتداء من لون الحائط الأبيض ومكتبه الأسود البسيط لتعقد حاجبيها بينما
أطلق ذلك الرجل ذو العينان السوداوتين ضحكة قصيرة وهو يقول :" ما بكِ ؟
ألم يعجبكِ التصميم الجديد لمكتبي ؟"
أشاحت بوجهها عنه وهي تتحدث ببرود :" لقد تمت المُهمة بنجاح"
حك شعره الخشن ذو اللون الأسود بطرف سبابته وهو يتحدث بملل :" ألا يهمك
سوى العمل ؟ نحن نعلم أن المُهمة ناجحة يا آنسة يولندا الواقع أُنظري هُنا
"( أخرج أحد الملفات من مكتبه وفتحه إلى صفحة وجدت بها صورة الرجل
الذي قتلته قبل عدة ساعات وقد كُتب بالخط العريض كلمة تمت بنجاح ) .
انحنت له وهي تهم بمُغادرة الغرفة إلا أن صوته قد استوقفها مُجدداً
وهو يهمس بكلماته:" سينضم لنا وافد جديد وقد طُلب مني إعلامك بأنكِ
ستكونين مدربته لمدة شهر من الآن "
جحدته بحدة بينما تحدثت بانزعاج لم تتمكن من إخفائه:" هذا
مُستحيل تماماً "
لم تضف حرفاً واحداً وقد سارت بسرعة مغادرة الغرفة وقد بدت خطواتها
أكثر قوة وغضباً إن أمرها رئيسها بالأمر مُباشرة فهي لن تتمكن من
رفض أوامره أبداً , جال في عقلها العديد من الأفكار وقد قررت في النهاية
أن تتناسى ما حدث ولكن أنَى لها أن تفعل فهي ما إن كادت تخطو
خطوة إلى مكتبها حتى وجدت مدير هذه المنظمة وقائدها بانتظارها ,
أغمضت عيناها لتدخل وفكرة واحدة تجول بخاطرها وهي كيف له أن يكون
بهذه السرعة , نهض ذلك الرجل الذي بدا أنه في مُنتصف عقده الثالث
وهو يتأملها بابتسامة خبيثة يستحيل أن يبعدها عن وجهه بينما تحدث
بصوته الهادئ :" يولندا لقد توقعت حقاً أن ترفضي المهمة الجديدة وأنا
هُنا لإخبارك أن رفضك هذا غير مُبرر ولذلك ستنفذين الأمر دون
أي اعتراض "
أومأت برأسها دون أن تنبت بحرف وهي تراقب عيناه الزرقاوتين الخبيثتين
بينما يقوم هو بإعادة بعض من خصلات شعره الشقراء إلى الخلف ,
انتبه لنظراتها وبدء بالسير بخطوات ثابتة باتجاهها حتى أصبح أمامها
مُباشرة وقد أمسك بإحدى خُصلات شعرها السوداء ليقول :" تعلمين ماذا
يولندا أنتي كالقطط تماماً نظراتك الحادة تثير الرعب في قلوب الناس لطالما
تساءلت عن السر العجيب للونهما المميز هذا؟ "
ابتعد عنها ليجلس خلف مكتبها بغرور شديد وهو يضع قدمه اليمنى فوق
اليسرى مضت عدة ثوان وهي تفكر بسبب تواجده حتى اللحظة في مكتبها
إلا أن صوت طرق الباب أتى كالجواب بالنسبة لها فقد نهض الرئيس
وأذن للشخص بالدخول ليدلف إلى داخل الغرفة شاب في منتصف عقده الثاني,
نظرت له بالكثير من الحقد بينما بادلها نظرة قلق انبثقت من عيناه الخضراوتان
ليهمس لنفسه :" أي ورطة هي هذه التي وقعت بها "
رفعت أحد حاجبيها باستخفاف وهي تتقدم منه بثقة , أما هو فقد حدق بها
بقلق لاسيما عندما التقت عيناه بلون عيناها الفضي المميز والذي ذكره
وبطريقة ما بنصل السيف الرفيع والحاد, وضعت كف يدها على خصال
شعره البُني إلا أنه تراجع للخلف بضع خطوات ليفلت من قبضتها,
تراجعت هي الأخرى لتتحدث بغضب واضح:" وكم عاماً ينبغي لي
أن أحاول تعليمه ؟ لن ينفعه أن أفني ما تبقى من عمري في سبيل تدريبه.
تعلم أنني أكره الخوض في مُهمات فاشلة كهذه "
رسم رئيسهم ابتسامة ساخرة على شفتيه ليسير مُغادراً المكان بينما احتدت
عينا الشاب ليتحدث :" لقد أخذتي الفكرة الخاطئة يا آنسة فأنا لستُ جباناً
أو ما شابه ذلك"
تنهدت بتعب وهي تسير إلى مقعدها خلف المكتب وقد بدئ الحديث
ينساب من فمها بحِده:" استمع لي يا هذا أولاً هذه المُنظمة من الخارج
تبدو كشركة تجارية عالمية ويمتلكها أحد أغنياء البلاد لذا لا يجرأ أحد
على الاقتراب منها وتوجيه أصابع الاتهام لها فكل من فعل ذلك قُتل بظروف
غامضة , أما من الداخل فهي مُنظمة للقتل تعمل مقابل المال .. جميع الأشخاص
هُنا قاتلون بارعون ومتمرسون وأهم ما يجب بك
معرفته هو أن الخروج بات أمراً مُستحيلاً لأنك لن تغادرنا إلا جثة
قُتلت بلا أدنى رحمة أو شفقة "
أومأ برأسه إيجاباً وهو يدرك تماماً أن هذه الخطوة يستحيل أن يتراجع عنها ,
تأمل مُحدثته قليلاً قبل أن يتحدث :" اسمي هو ماركو يا آنسة يولندا "
حركت كتفها بلا مُبالاة وهي تحثه على السير برفقتها إلى غرفة التدريب
الخاصة بهم في المقر .. بحيث أعطته لمحة أولية عن جميع الأسلحة التي
قد يحتاجها في مهامه مُستقبلاً وبدأت بالتدرب معه أولاً على اللياقة البدنية
بعد أن أخبرته بأن عليه أن لا يتهاون ولو لثانية واحدة .
*************
مضى أسبوع كامل على بدء تدريبها له وهاهُما الآن يقومان بالتدرب
على إطلاق النار وإصابة الأهداف المُتحركة أو الثابتة بل وحتى الأهداف
المُحاطة بعوائق لحمايتها .
ترصد تحركاتها السلسة وقد بدء الملل من التوغل إليه ليتحدث بصوت
بتململ:" ألم ننتهي من هذه التدريبات المُزعجة ؟ ومن ثم أنتي بالفعل
الأولى هُنا فلماذا تمارسين هذه التدريبات معي ؟"
عقدت حاجبيها قبل أن تجيب بهدوء:" الأول أم الأخير إن أغفلت التدريب
يومياً أو توقفت عن محاولة مُحاكاة مهامك قبل تنفيذها فأنت ستفشل بلا ريب
في أحد الأيام "
التف بجسده ليبدأ بالسير وهو يعيد المسدس لمكانه بينما دار في خلده سؤال
آخر لم يتمكن من حبسه بجوفه إلا عدة ثواني حتى نطق به :" أعلم بأنكم
هُنا تعملون لدى أحد الأغنياء ولذلك لن يجرأ أحد على الاقتراب منكم ولكن ..
أهذا يكفي حقاً ؟ "
ابتسمت جيداً إنبه :" تعني بالنسبة لرجال السياسة والقانون وغيرهم ؟ استمع
لي جيداً إن حاول أياً منهم الاقتراب منا فببساطة سوف نقضي على سمعته
فجميعهم أتى لنا وطلب منا قتل شخص يقف بطريقه ولدينا الإثبات ضدهم "
الصدمة كانت كفيلة بجعله يصمت تماماً فهو حقاً لم يتوقع أنهم بهذه
القوة أو التمكن, تحدث بعد أن ابتلع
رمقه بتوتر:" لماذا تجيبين شخصاً غريباً مثلي ؟ لنفترض أني صابط شرطة
أو جاسوس ؟"
ابتسامتها الواثقة اتسعت أكثر وهي تقترب منه وتشد على كل حرف
تنطق به :" سيد ماركو في الرابعة والعشرين من العمر قبل عامين فقط
كنت تعيش حياتك بسلام وبعيداً عن كل المشاكل برفقة أختك الصغرى
لارا ولكن أحد اللصوص اقتحم فجأة منزلكما وقضى على شقيقتك مما
دفعك لقتله , المحكمة حكمت بأنك كنت تدافع عن منزلك ولذا لم تعاقبك
ولكن هذا لم يكن ليطفأ النار التي اشتعلت بداخلك ( وقفت أمامه مُباشرة
بينما فغر هو فاهه لتقترب أكثر وتهمس في أذنه ببرود ) :" ولآني أخبرتك
مُسبقاً أنه لا يوجد خائن قادر على مغادرة هذا المكان حياً "
ابتعدت عنه وهي تلقي نظرة مُتفحصة على وجهه المدهش لتسير مغادرة
غرفة التدريب ولكنها ما إن فتحت الباب حتى وجدت نائب الرئيس أمامها,
قطبت حاجبيها بانزعاج لرؤيته بينما تحدث هو:" لماذا تكرهينني إلى هذه
الدرجة ؟ بكل حال إنها أوراق مهمتك الجديدة ويمكنك أخذ ماركو معك " أخذت
تلك الأوراق منه لتتحدث برسمية :" حسناً شكرا لك "
غادر بعدها نائب الرئيس المكان أما ماركو فقد استفاق من صدمته واقترب
منها ليشاهد تلك الأوراق التي بين يديها تحدث بقلق :" مهلاً إنه رئيس الشرطة..
هل سنتمكن من قتله حقاً ؟ أعني أنظري إلى الشرط إنهم يرغبون بقتله أثناء
عمله وأن يبدوا الأمر كما لو أنه مات أثناء أداء عمله لا كعملية اغتيال "
نظرت له بحده قبل أن تتحدث بخفوت :" كم أنت مُزعج " .
مضى يومان و يولندا تقوم بالتخطيط والتفكير للطريقة التي ستستخدمها
للوصول إلى ضحيتها ولم تكلف نفسها عناء إخبار ماركو بأي شيء يدور
في ذهنها .
************
أسبوع كامل وها قد قررت أخيراً تنفيذ ما يدور في عقلها من خُطة لتسير
بخطوات هادئة إلى غرفة التدريب حيث كان ماركو هُناك وما إن دخلت للداخل
حتى وقف الأخير بصدمة وهو يراقب شعرها المُستعار الأشقر وعيناها
الزرقاوات مما دفعه لتساؤل:" ماذا حل بكِ ؟"
ابتسمت ببراءة غريبة لتتحدث وهي تلقي له ببعض الثياب و شعر مُستعار:" ارتدي
هذه بسرعة لان التسلية على وشك البدء "
لم يعلم إن كان عليه أن يثق بها أم لا وبالرغم من ذلك فقد وجد نفسه يتبعها
باستسلام تام بدافع الفضول لمعرفة كيف يمكنها قتل ذلك الشخص بنجاح !
توقفوا أمام مبنى الشرطة مما أثار الدهشة فيه بينما خطت هي أولى خطواتها
للداخل بثقتها المعهودة لمكتب رئيس المغفر حيث كان رجلاً في الثلاثين من
عمره ذو عينان حادتان باللون الأخضر والشعر الأسود لتجلس بهدوء وقد
فعل ماركو المثل وهو يراقب المكان بتوتر , تحدث رئيس
المغفر بشيء من الشك :" كيف لي مُساعدتكما ؟ ولماذا تبدو
أنت متوتراً لهذه الدرجة ؟"
ازداد قلقه وهو يخفض رأسه بينما تحدثت يولندا برقة وعطف :" يحق له الشعور
بالقلق سيدي فهنالك رسائل تهديد تأتيه باستمرار وتقلق راحته وهو قد تم
تهديده بأنه إن توجه للشرطة سيتم قتله إلا أنني لم أتمكن من رؤية صديقي
يعاني هكذا وقد سمعت بأنك من أفضل رجال الشرطة وترفض الرشوة والتهديد "
قطب حاجبيه باهتمام وهو يشبك بيديه ليوجه الحديث لماركو :" ومتى بدء كل ذلك ؟"
رفع ماركو رأسه ليتحدث بتردد :" ل .. ليس من فترة طويلة سيدي "
أومأ رأسه بتفهم ووجه سؤالا ليولندا:" وأنتي مجرد صديقة له صحيح ؟"
أومأت إيجاباً بثقة :" أجل صديقة ولكني كل ما يملكه فهو يتيم الوالدين
وليس لديه أحد "
تنهد وهو يرجع بكرسيه إلى الخلف :" حسناً ما هو اسمكما ؟ "
تحدثت مجدداً :" اسمي هو نتالي ( أشارت على ماركو ) : واسمه هو أوليفير"
أعاد نظره إلى ماركو ليتحدث برسمية :" حسناً سيد أوليفير ألديك أي من
هذه الرسائل ؟"
أومأ ماركو برأسه سلباً لتتحدث يولندا بتعاطف شديد :" لقد قام بحرقها كلها ,
أنت سيدي لم ترى مدى خوفه عند رؤيته لتلك الرسائل لقد كاد يفقد عقله "
تنهد بتعب:" تباً دائماً في كل قضية يحدث هذا, بكل حال إن تلقيت رسالة
أخرى فأحضرها فوراً وإن تذكرت اسم لأي عدو فأحضره لي.. الآن لايمكنني
مساعدتكما بما أنه لا يوجد أي إثبات وأقصى ما يمكنني فعله هو إرسال
بعض الحرس برفقتك "
نهض ماركو بفزع ليتحدث :" لا , مستحيل "
قطب الضابط حاجباه بينما أسرعت يولندا لتفسر :" لقد أخبرتك بأنهم هددوه
بالقتل إن علمت الشرطة بالأمر .. نحن سنتوخى الحذر فحسب"
لم يعجبه الأمر إلا أنه اكتفى بطلب رقميهما ومكان إقامتهما من أجل حالات
الطوارئ أخرجت يولندا له ورقة تحتوي على عنوانهما ورقميهما إضافة لصورة
عن هويتان مُزيفتان كانت قد أعدتهما مُسبقاً .