مدخل
اغدِق بتريـاقٍ علّ ما تلاشـــى يعود ~
وانْثُر رياه حتى نعود جَوّابـي آفاقنا النائية عن تعس الشظف ~
محررين من الفدامة حتى نصل لقنـة ما نلتمس~
مقدمة
كان صباحًا ربيعيًا عذبًا، حين تسلق ساعي البريد العجوز الطريق المنحني بدراجته الهوائية، زافرًا بإنهاك، وقاصدًا منزل أسرة (فوسكي)، أحد المنازل التي تَعَيّن عليها التواجد في منطقة مرتفعة من المدينة لسوء حظه!
ترجل ساعي البريد العجوز عن دراجته أمام البيت الذي كان ليُعجب بحديقته المزهرة في وقت آخر يكون فيه أقل إنهاكًا.
رَنّ جرس الباب، ثم انتظر لحظات فُتح بعدها الباب الماهجوني الثقيل، ليطل من خلفه مراهق شاب بنظارات طبية، حيّاه بسلوك مهذب فيما يسأله عما يريد، بدت رزانة الفتى غريبة عما اعتاد عليه العجوز من أبناء هذا الجيل، وبدا له هذا التهذيب كتقدير منعش بعد مجهوده العظيم.
"لدي طرد للسيدة (فوسكي)... وأحتاج أن تُوقع لي على استلامه."
اختفى الفتى في الداخل، وغاب دقائق قضاها العجوز متململًا، قبل أن يعود إليه ثانية، دون نظارة.. وبثياب مختلفة.. وسلوك مراهق نموذجي!
وقف الفتى أمامه ويداه في جيبي بنطاله بكسل، حيّاه قائلًا:
هز العجوز رأسه رادًا التحية باستغراب:
"لا أقصد أن أكون فظًا ولكن... ماذا تريد؟"
عند سماعه لهذا السؤال، ضَيَّق ساعي البريد العجوز عينيه بانزعاج تام، تلاشى احترامه للفتى المهذب فجأة وحل محله شعور بالغضب... هل الولد يلهو به؟!
"أحتاج السيدة (فوسكي)، أريدها أن تستلم طردًا وتوقع لي... هل هي في المنزل؟"
مال الفتى برأسه جانبًا، انتقلت نظراته بينه وبين الدراجة المركونة بجوار الباب بفضول، ثم سأل:
عبس العجوز وتساءل أين اختفت لمحة الذكاء والنباهة التي اعتقد بأنه قد رآها في ملامح الفتى قبل لحظات، أجاب بضيق:
"أجل أنا ساعي بريد، فحتمًا لا أرتدي هذا اللباس لحفل تنكري!"
"أنت مسلي! لكن لا تغضب، لقد كنت أشير إلى... آمم.. سنك الكبيرة لا غير!"
ومنحه ابتسامة تنم عن طبيعة أنيسة مرحة، خففت من انزعاج العجوز، فقال الأخير بنبرة أهدأ:
"أجبني هل السيدة (فوسكي) هنا؟ فأنا في عجلة من أمري."
"السيدة (فوسكي) تكون والدتي.. وأجل هي هنا، انتظر حتى أناديها لك."
غاب الفتى في الداخل من جديد، ولم تكد تمضي دقيقة هذه المرة، حتى رآه العجوز عائدًا بهيئة مختلفة... مجددًا!
كان شعر الولد الداكن طويلًا هذه المرة، يصل إلى حافة ذقنه، وبدت عيونه الزرقاء المرحبة وكأنها تبرق بنوع من التمرد الآن، أما ملابسه... فقد كانت رياضية قاتمة الألوان!
راح الفتى يتقدم عبر الممر متجهًا نحو الباب بسرعة... انتبه إليه بالكاد، فتراجع في آخر لحظة قبل أن يصطدم به.
نظر إليه بصمت ناقلًا لوح تزلج كبير يحمله إلى يده اليسرى، ومعدلًا حقيبة رياضية صغيرة على كتفه.
رأى العجوز تقطيبة تظهر بين حاجبيه، كما لو كان الفتى ينتظر منه شيئًا.
بادله العجوز التحديق بارتباك... لا يعقل بأن يكون الصبي قد غير ثيابه بتلك السرعة؟ وإن كان قد فعل... يكاد يقسم بأنه لم يكن يملك شعرًا بهذا الطول قبل دقيقة!
هز رأسه قليلًا نافضًا عنه تشتته، وطالب بشيء من الحدة هذه المرة:
"ماذا بخصوص السيدة (فوسكي)؟"
ارتفع حاجبا العجوز إثر إجابته تلك، ثم عادا يلتحمان معًا وهو يهتف بسخط:
"أي لعبة سخيفة هذه، أريد السيدة (فوسكي) فاذهب واجلبها في الحال... وأكون شاكرًا لو عدت بها فعليًا هذه المرة!"
ازدادت تقطيبة الفتى تعمقًا، لكنه بدل أن يغضب أو يتضايق من التأنيب.. بدا عليه الضجر!
صاح مناديًا دون أن تتحرك عيناه عن ساعي البريد العجوز:
"هل وصل الطرد أخيرًا؟"
سمع صوت السيدة (فوسكي) قبل أن تظهر في الممر، امرأة شابة بدت في ثلاثينيات عمرها، لذا كانت صدمته كبيرة حين راحت تخاطب الفتى بنبرة أمومية:
"شكرًا بني... والآن اذهب وتناول شيئًا من الطعام قبل خروجك، تعرف أن الفطور..."
"أهم وجبة في اليوم! حاضر سأفعل، لكن ذلك فقط طالما لا اضطر للذهاب مع (ديلان) هذا النهار!"
منحت المرأة -الشابة على نحو صادم- ابنها نظرة تحذير أدار الأخير عينيه على إثرها، قبل أن تلتفت إلى ساعي البريد العجوز مبتسمة:
"اعتذر على جعلك تنتظر."
أومأ العجوز ولم يستفسر، وفيما السيدة (فوسكي) الشابة المظهر منشغلة في توقيع استلامها للطرد،
ظهر من خلفها الفتى المرح مطوحًا بيديه على نحو تمثيلي، ومنخرضًا في جدال ما مع الفتى الهادئ ذي النظارات، ووقف الإثنان بجوار الشاب طويل الشعر صاحب الزلاجة... ثلاثة نسخ متشابهة على نحو لايصدق...
اتسعت عينا العجوز بعجب وشيء من البلاهة، ثلاثة توائم؟!
وقعت له السيدة (فوسكي) الشابة المظهر على استلام الطرد، فانطلق ساعي البريد العجوز مغادرًا بدراجته بعدها، متمتمًـا لنفسه:
"أبناء (فوسكي).. ثلاثة توائم!"
ثم أردف وهو يقود دراجته عاقدًا حاجبيه، وقد نسي تعبه مؤقتًا:
"لـِما لـمْ أستنتج ذلك منذ البدء!!"
ما إن أغلقت السيدة (فوسكي) الباب، حتى توجهت بالطرد إلى المطبخ، قلبت العلبة الصغيرة المغطاة بورق تغليف قديم بين يديها،
وابتسمت حين قرأت اسم المرسل...
رفعت بصرها إلى أبنائها هامّة بنقل الخبر إليهم، رأت أن اثنين من التوائم الثلاث قد جلسا عند مائدة الفطور.. فيما أخذ الثالث يفتش في الثلاجة.
(زاكاري) أهدأ التوائم، راح يقرأ في كتاب ضخم كما هي عادته الدائمة، ممسكًا بيده الأخرى تفاحة لم يقضم منها شيئًا بعد لشدة انسجامه مع محتوى الكتاب.
و(ويليام) التوأم صاحب الشعر الطويل، انشغل في التهام رقائق الذرة خاصته بعجلة، غير راغب حتمًا في التأخير عن تدريبه الصباحي.
أما (ديلان) ثالث التوائم، فقد جلس عند الطاولة بعد تأكده من نفاذ عصيره المفضل، وبمشاكسة معتادة منه اختطف كأس (ويليام) الممتلئة ليتجرع شرابه!
منحه (ويليام) نظرة ضيق، وعلمت السيدة (فوسكي) بأن استعجال الأخير هو السبب الوحيد الذي منع قيام مشاجرة جديدة بينهما كما يحدث ضمن روتين صباحي معروف!
أعلنت السيدة (فوسكي) لأبنائها مبتهجة:
"الطرد من الجدة (كرينكارد) يا فتيان، هل يرغب أحدكم في تخمين ما فيه؟"
رفع الثلاثة أعينهم إليها بتعبير متجمد، لوهلة بدوا متشابين أكثر حتى مما هو طبيعي، بخلاف النظارات وتسريحات الشعر، برقت أزواج العيون الثلاثة الزرقاء التي تنظر إليها الآن، بمقت لا يمكن أن يخطأ أحد بإدراكه.
عقدت السيدة (فوسكي) حاجبيها وقالت بنبرة تحذير ناعمة:
"إياكم وأن تفكروا حتى بالتلفظ بشيء غير لائق، لطيف جدًا من الجدة أن ترسل لنا شيئًا بعد ما فعلتموه بمنزلها الصيف الماضي!"
لم تنتظر منهم جوابًا بل شرعت تمزق الغلاف الورقي للطرد.. لتكشف عما يحتويه.
ارتفع حاجباها دهشة حين وجدت تمثالاً بحجم الدمى، منحوتًا ببراعة من خشب الآرو، ضخم الرأس، قبيح الشكل بحيث بدا كمسخ قميئ!
نهض التوائم مصطفين حولها لينظروا إلى التمثال بعجب وقد اتسعت أعينهم..
تناولت السيدة (فوسكي) بطاقة كانت داخل الطرد، وتزاحم الأخوة ليقرأوا ما جاء فيها، لكن محاولتهم تلك باءت بالفشل،
فـوالدتهم قرّبت البطاقة من وجهها فيما تقرأ الخط العتيق بصعوبة:
"أعزائي التوائم (فوسكي)...
كيف حالكم؟ أشتاق إليكم كثيًرا،
أحببت أن أرسل لكم هدية جميلة تعبّر عن محبتي..
هذا التمثال يدعى (بيلوس) واسمه يعني (الوسيم) بلغتنا!
سيجلب لكم الحظ السعيد دائما فحافظوا عليه جيدًا يا صغاري!
فاعتنوا بأنفسكم، وحاولوا ألا تزعجوا والدتكم كثيرًا..
"الطرد لكم، إنه هدية من الجدة (كرينكارد).. آه ذلك لطف منها بالفعل!"
هتفت السيدة (فوسكي) وصوتها الناعم تلونه السعادة، ناولت الطرد لـ(زاكاري) الواقف بين شقيقيه، وابتسامة جذلة تعلو محياها، ثم غادرت المطبخ وهي تكرر وصيتها لهم بإنهاء الفطور قبل أن يبرد!
قلب (زاكاري) التمثال متفحصًا، عدل نظاراته وهز رأسه كمن فهم أمرًا خفيًا!
"ما الذي فهمته يا آينشتاين؟"
عبس (ويليام) مخاطبًا إياه بنزق، سأله... ثم ندم فورًا فلم يكن لديه وقت لإحدى محاضرات (زاكاري) المعلوماتية!
"أأنت متأكد؟ دائمًا ما كنت موسوعة متنقلة؛ من الغريب ألاّ تسمعنا شيئًا عن هذا التمثال القبيح!"
التفت (زاكاري) لـ(ويليام) وأجابه بلامبالاة:
"أظنه مجرد خردة أرادت الجدة العجوز إزعاجنا به!"
خطف (ديلان) التمثال من يدي (زاكاري) وقد بدا على وجهه تعبير من يحاول كبت ضحكة!
نظر بإمعان إلى التمثال وعيناه تبرقان بتسلية، ثم انفجر ضاحكًا مخفقًا في السيطرة على هدوئه.
نظر إليه أخواه باستغراب، وقبل أن يستفسراه عن مصدر الفكاهة في الأمر، ميزا بالكاد كلماته المتقطعة من بين ضحكاته:
"ألا.. ترون.. أنه.. يشبه.. جارنا.."
نظر (ويليام) و(زاكاري) لبعضهما، وفي آن واحد وجّها بصرهما للتمثال،
رأيا فيه خيال جارهم المزعج البروفيسور (دوغال)!
فانفجرا بالضحك هما الآخران!
ولم يلحظ أي من الثلاثة بريقًا خاطفًا ومريبًا التمع في عيني التمثال القبيح فجأة!