توقف ويليام جيسب برادي عن قراءة الكلمات التي كتبها بدمائه على أرض زنزانة قد حبس فيها قبل أكثر من عام..
مرر أصابعه فوق الأحرف الباهتة المكتوبة على الحجر الخشن.
هذه الكلمات بالذات كانت تذكيرا له بالدافع الذي جلبه إلى هذه البقعة، وأوصله إلى هذا المكان...
أحرف أشبه بنذور موسومة في نفسه!
قريبا سيكون حرًا، شهر واحد فقط.. وسيستطيع بعده الإنطلاق لتعقب أهدافه وقتلهم.
فالشخص الذي سلبه أغلى ما بحياته سيدفع الثمن... وإن تعين عليه أن يفقد نفسه خلال ذلك، فليكن!
#
"يجب أن يدمر حالًا كونارد... وأفضل أن يتم ذلك بطريقة مؤلمة وبطيئة، لكني لن أمانع أي أسلوب آخر طالما ستأتيني بالنتيجة ذاتها."
أدار كونارد رأسه ليرى غريتزا مؤسسة منظمة (الآر-وان)، تخطو عبر الباب الزجاجي لتتوقف أمامه.
لسنوات الآن ارتبط الاثنان معًا بمصلحة بحتة، لكن في أوقات كهذه كانت غريتزا تميل إلى التصديق بأنها فعليًا رئيسته!
والحقيقة أنها.. بعيدة كل البعد عما تعتقده
.
مرتديا بنطالًا جلديًا أسود فحسب، جلس كونارد على أرضية الشرفة الباردة، وظهره مسند بالقضبان الحجرية لسور الشرفة الصغير.
كانت الشرفة مصنوعة من الرخام الأبيض اللامع، والمطل على منظر يخطف الأنفاس لشلال يرتفع فوقه قوس مطر شكله رذاذ الماء المتناثر... ومشهد ممتد لأشجار الغابة الخضراء.
لن ينتظر أحد جمالًا أقل من منزل من أملاك غريتزا.. الرئيسة السابقة لمنظمة "الآر-وان".
تنهد كونارد... لو فقط كانت الصحبة هنا رائعة كجمال المكان!
بشعر أحمر، بشرة بيضاء صافية، وعيون خضراء حادة.. كانت غريتزا لتبدو جميلة حقا... لو لم يكن كونارد يكره كل نفس تلتقطه في هذه الحياة!
"لماذا تعتريك هذه العدائية السخيفة كلما تعلق الأمر ببرادي؟"
التوت شفتاها وعبست في وجهه، قالت:
"أكره حين تتكلم هكذا!"
أمال كونارد رأسه مقرا أنه... ولهذا السبب تحديدًا كان يتعمد الوقاحة معها.
يدعو الله ألا يصدر منه يومًا فعل قد يروقها.... فلديه من احتقار الذات ما يكفي!
"أنت تغيرين الموضوع."
زفرت باستهزاء قبل أن تجيبه:
"لطالما مَقَتّه، كان يفترض أن يكون ميتًا الآن، أتذكر؟ لكنك تدخلت بالأمر."
كانت تحرف تفاصيل تلك الحادثة كليًا... فلم يمنع كونارد نفسه من القول:
"لقد نجى بنفسه، أنا بالكاد عرضت على الشاب عملًا بعد أن أفسدت حياته تمامًا."
"حسنًا فعلت، وها هو الآن قد فقد صوابه! ألم تسمع بأنه اقتحم متحفًا ليلة الأمس، وقضى على ثلاث حراس في طريقه بينما يسرق تحفة عتيقة؟ كيف لا تعد ذلك فضحًا لمنظمتك العزيزة أمام الأمن العام؟ أكاد أقسم بأنه فعل ذلك متعمدًا، متأملًا ربما بأن يلقى القبض عليه، فيمكنه الاعتراف بكل شيء للشرطة حينها."
تجاهل كونارد غضبها بلامبالاة، رغم أنه يوافق على أن حركة برادي الأخيرة كانت متهورة... ففي العادة كان المقاتل الثائر أكثر تعقلًا.
"أنا واثق بأنه أراد قطعة من موطنه فحسب، وأراهن بأن التحفة التي أخذها تعود لأسرته بأي حال... وأنا لن أقضي على شخص لمجرد أنه يشعر بالحنين لبيته يا غريتي.. هذا أشبه بقتل إنسان تعيس معدوم الحيلة... إن ذلك خاطئ كليا!"
ويديها على وركيها، حملقت فيه بسخط.. وهتفت:
"إذا فأنت ستتناسى الأمر وحسب؟"
"إذا كنت تقصدين أنني لا أرى فعلته شيئا يستلزم الإعدام الفوري، فانعتيني بالمجنون إذا لأني سأتناسى الأمر بالفعل!"
تطلعت إليه وهي تتمتم ساخرة:
"لا أصدق... لقد أصبحت (طريًا) يا كونارد!"
قطب كونارد حاجبيه للحظات، ثم تبادر إلى ذهنه ما تعنيه فجأة.
"ناعمًا... غريتي، أنت تقصدين بأنني بت ناعمًا!"
"أيًا يكن..."
تقدمت لتقف بجانبه، وتابعت:
"كونارد الذي أذكره كان (ليشويه) من أجل زلة أتفه بكثير!"
أطلق زفرة ممتعضة قبل أن يرد:
"ليبيده.. غريتي.. اللعنة تعلمي كيف تتكلمين! أصابني الصداع جراء محاولاتي المستمرة لفهم ما تتفوهين به، وكلا... ما كنت أبدًا لأبيد أحدًا من أجل خطأ كهذا!"
"بلى كنت لتفعل!"
فكر بالأمر لدقيقة، لكنه كان واثقًا بأنها مخطئة.
"لا... حتمًا ما كنت لأفعل، وحدك أنت من قد يدفعني لهذا النوع من العنف لأجل شيء عديم الأهمية."
"يالك من وغد!"
أقله كانت محقة في هذا!
أرجع رأسه إلى الخلف ليستطيع النظر إلى وجهها، سأل:
"لماذا؟ ألأني أرفض تصفية الناس لحسابك؟"
"أجل، فأنت تدين لي بهذا، سلبتني رجالي والآن لا أملك أي سيطرة على أولائك الحمقى..."
"الذين تخليت عنهم..."
قاطع ثرثرتها الغاضبة بهدوء، وأردف:
"لا تخلطي الأمور، لربما كنت قد أنشأت هذه المنظمة في لحظة ما كنت تمتلكين فيها من العقل ما يكفي للإتيان بفكرة مفيدة، ولكن طيشك المعروف سرعان ما عاود الظهور... فرميت كل نجاحاتك عرض الحائط!
ثم وكأن ذلك لم يكن كافيا... جررتني معك حين ربطتني بأولائك الشبان، لأجد نفسي وقد أصبحت فجأة مسؤولا عنهم... لذا اعذريني إن كنت آخذ تلك المسؤولية على مجمل الجد، ولا أأسف على منعك من إيذائهم!"
استبد بها الغيظ فتحركت فجأة لتصفعه، لكنه أمسك برسغها... ليقول بحاجب مرفوع، ونبرة هادئة مستفزة:
"لم تطلبي الإذن لضربي غريتي!"
انتزعت يدها من كفه... وصاحت بسخط:
"أريده ميتا الآن!"
"لست أداتك في هذا."
لحسن حظ برادي أنه لم يكن، فكونارد كان الحائل الوحيد بينها وبين برادي في هذه اللحظة.
وكجزء من صفقة أبرماها قبل سنوات، لم تكن غريتزا لتتخطاه مهاجمة أحد رجاله من دون موافقته.
كانت عيناها لاتزالان تلتهبان غضبا حين قالت بنبرة اهدأ:
"برادي يخطط لشيء ما.. أنا واثقة!"
"لاشك لدي بذلك، فقد كان يخطط للقضاء عليك منذ أفسدت عليه حياته، ولحسن حظك أنه يعلم بأني أقف في طريقه."
ضيقت عينيها بارتياب..
"أنا متفاجئة بأنك لم تساعده على التخلص مني حتى الآن."
وكذلك كان كونارد! محزن ألا يستطيع المشاركة في حدث كهذا، فهو يحتاج غيرتزا ليبقى حيا للأسف...
رغم أنه لم يكن يرغب بشيء أكثر من أن يلقي نظرة الوداع الأخيرة عليها ثم لا يلتفت مجددا!
دفعت غريتزا ركبته المرفوعة أمام صدره، وطالبت:
"ألن تسأله ماذا كان يفعل في ذلك المتحف على الأقل؟ ولماذا هاجم الحراس؟"
شعر بدفقة من الأمل وهو يستفسرها:
"وهل ستدعينني أغادر كي استجوبه؟"
"تدين لي بثلاثة أيام أخرى من الخدمة!"
اوه ياللخيبة! ... لكنه يعرف أفضل من أن يتوقع منها شيئا آخر.
غريتزا لن تتركه يغادر حتى ينهي خدمة أسبوعي التعذيب الممتعين المتفق عليهما!
أسبوعان من العمل كخادم حقير، ينظف، يغسل، يطبخ، ويزيل الغبار حتى... أربعة عشرة يوما مقابل ثلاثة أشهر خالية من الازعاج من طرفها...
كان يكره لعب مثل هذه الألعاب، ولكن الرجل يقوم بما يتوجب عليه بشجاعة... مهما كان هذا الواجب رهيبا أو بالغ السخافة!
"إذا سيكون على المسألة أن تنتظر ثلاثة أيام أخرى."
زمجرت غريتزا وهي تكور أصابعها لقبضتين، كونارد كان أحد أكثر الأشخاص إثارة للغيظ في العالم، ومعظم الأحيان ليست تدري لماذا تتحمله؟!
ربما كان يبهرها في وقت ما في السابق، لكن عناده المزعج، ولسانه السليط، كانا كفيلين جدا بأن ينسفا انبهارها بوسامته مع مرور السنوات!
شعره الأشقر الطويل كان يتدلى من كتفه الأيمن في هذه اللحظة، بينما يستند باسترخاء إلى قضبان السور من خلفه،
ذراعاه معقودتان أمامه.. وقدمه ذات الحذاء الرياضي الخفيف تطقطق على الأرض بنغم وحده من يسمعه.
قويا وجريئا، ما كان كونارد ينصاع لأوامر أحد أبدا.
فلا شيء عدا شرط استخفافي عقدته معه غريتزا قبل زمن يجعله يمتثل لأوامرها مدة أسبوعين كل ثلاثة أشهر..
وحتى حينها، ينفذ دوما ما يطلب منه بتمرد وكبرياء كبيرين!
لقد كان أشبه بوحش بري لا أحد قادر على ترويضه... وحش يعض ويمزق كل من يحاول التربيت عليه!
ناضلت كثيرا كي تتغلب عليه أو تخضعه لسيطرتها مثلما فعلت مع غيره من شبان المنظمة... لكنه كان الاستثناء الوحيد الذي عجز عنه مشروعها... هو وبرادي الغبي ذاك!
زمت شفتيها بتذمر.
"كنت لتحب أن يقتلني، أليس كذلك؟"
أطلق ضحكة صغيرة.
"مستحيل.. فأنا أريد هذا الشرف لنفسي."
اشتعل غضبها مجددا..
"أيها البائس ال..."
"لا داعي للإهانات غريتي.. أنا أتعب سريعا من خدمات لسانك هذا، فأرجو أن تعفيني منه!"
زفرت ساخرة.
"مضحك أن يصدر هذا الكلام منك أنت بالتحديد..."
ثم مررت أصابعها خلال شعرها الأحمر بحركة مغترة، وهي تقول متظاهرة بالتفكير العميق:
"أظنني قد قررت توا أن قبو المنزل يحتاج تنظيفا وإعادة تنظيم... ولعلي أغير ستائر غرفة الخدم هذا اليوم إلى اللون الزهري الجميل!"
زمجر كونارد ممتعضا... ترتيب قبو وحجرة زهرية! تخيل ذلك وحده يصيبه بالقشعريرة..
ياللوقت الممتع الذي سيقضيه!
#
لم يكن برادي في لاس فيغاس حيث المتوقع، بل في السنترال بارك هنا في نيويورك.
قطب الصحفي باركر سويبتن حاجبيه وهو يختبئ بين ظلال أشجار الحديقة الكبيرة بعيدا عن الأنظار... لن تكون العواقب محمودة أبدا إن لاحظه برادي وقرنه باسم الصحفي المعروف الذي ينادي بالقبض عليه باستماتة!
أبحاثه الأخيرة كانت تؤكد بأن برادي متمركز في لاس فيغاس... في مكان ما على بعد ساعتين من البلدة.
فماذا يفعل الآن في نيويورك منتصف الليل؟!
لكن تلك لم تكن أكثر نقطة لافتة للانتباه الآن، فالطريقة التي يسير فيها برادي بين الأشجار... شبه (متربص)، تثير توجسه!
بدا له تقريبا... كوحش متعطش للدماء يتتبع رائحة فريسته التي يشتمها في الهواء...
رأسه كان منخفضا، وعيناه النصف مغمضتين تمسحان أرجاء المكان.
كان منظر برادي متسربلا بمعطف جلدي طويل يتمايل منسابا خلفه أثناء سيره، مثيرا للرهبة...
شعره الأسود القصير يلامس بالكاد رقبة معطفه... وعيونه الحادة تبرق بلون بني مذهب.. كلون عيني أسد بري!
مثل حجري توباز يلمعان بوضوح في الظلام.
تقاسيم وجهه كانت مثالية إنما قاسية.... لم يبد بأنه قد بلغ الثلاثين من عمره بعد، فقد راح يتحرك بخفة ورشاقة شاب صغير...
تعانق حاجباه الأسودان في تقطيبة صارمة.. وتوقف فجأة، يدير رأسه في إتجاه باركر الذي كان يراقبه بصمت حذر..
حبس باركر أنفاسه فيما عصفت نبضات قلبه داخل صدره...
هل سمعه برادي؟ أم استشعر وجوده؟
لا يمكنه أن يفعل ذلك من هذه المسافة، لكن الشيء الوحيد ا
لمعروف عن الرجل هو كونه غير اعتيادي!
سمح باركر لنفسه بأن يتنفس من جديد حين لمح الظل الذي تحرك يساره،
فقد أدرك حينها أن برادي لم يكن ينظر بإتجاهه هو..
بل كان انتباهه منصبا بتركيز على مجموعة الأشجار أمامه..
وبينما يتساءل باركر عن هوية من يختبئ هناك، سمع حشرجة.. وصوتا أشبه بحمحمة ملابس.
"أظهر نفسك!"
أمر برادي بصوت حاد يعصف بالقوة..
قالها ثم ألقى معطفه جانبا بحركة استعداد للقتال..
كان يرتدي أسفل المعطف قميصا أسود عديم الأكمام، بنطالا داكنا، وحذاء راكبي الدرجات المعدني الأطراف.
لكن الذي بدا مفزعا أكثر حتى من جسده الصلب القوي، كان مجموعة الأسلحة التي يحملها...
عدد من السكاكين رص في حزامين تقاطعا حول صدره..
خنجر طويل النصل مربوط إلى ساقه اليسرى...
ما بدا كرباطي معصم معدنين أحاطا برسغيه... واكتملت ذخيرته بمسدسين اثنين في حزام حول وسطه..
بدا واضحا أن برادي قد استعد لهذه المعركة جيدا!
اقترب باركر زاحفا بين الأشجار باهدأ ما يمكن، محاولا أن يرى بوضوح أكبر.
فجأة ودون سابق إنذار، انقذف شيء ما نحو رأس برادي، فانخفض الأخير متفاديا إياه... ثم اعتدل سريعا.. وكلاعب خفة خبير، ألقى بالسكين مصوبا على هدف ما بين الأشجار...
فانطلقت صرخة ألم مزقت صمت الليل!
تجمد باركر حين رأى مصدرها، امرأة تشوهت ملامحها الجميلة بتعابير الألم والغضب.. وقد انغرست السكين في ذراعها فنزفت دماءها على الأرض.
لم تكن المرأة وحيدة.. فقد كان برفقتها رجلان ضخمان شرسان..
هجما على برادي كفريق متوافق..
فانحنى الأخير مستقبلا هجمة الرجل الأول.. رفعه ليلقي به خلف ظهره..
ثم وبحركة رشيقة، وسريعة جدا، استل الخنجر من حزام ساقه، وجرح به الرجل الثاني.. لكن الرجل استطاع أن يمسك بذراع برادي القابضة على السكين.. وغرز أسنانه فيها!
تجمد باركر في مكانه بصدمة، فلم يسبق له وأن رأى من يقاتل على هذا النحو الغريب من قبل.... أيعضه بينما يمكنه أن يلوي ذراعه أو يكسرها حتى؟!
لاعنا، ضرب برادي ركبته بمعدة الرجل بعنف، وتلوى مفلتا منه في اللحظة المناسبة ليستعد لاستقبال هجوم المرأة الغادر... لكنها تراجعت للخلف في آخر ثانية قبل أن يلامس خنجره حنجرتها!
نهض الرجل الأول من الأرض وهم بمهاجمة برادي من الخلف.. لكن برادي الذي بدا وكأنه يملك عيونا خلف رأسه، أسرع يمرر ساقه تحت قدمي الرجل، ليجعله يتعثر ويقع بين ذراعي رفيقه الآخر.. العضاض!
التف برادي فورا ودون أن يضيع ثانية واحدة انتزع سكينا أخرى، ونحر بها حلق المرأة.. فأطلقت حشرجة مخنوقة، قبل أن تتهادى أرضا جثة هامدة!
أشاح باركر ببصره مجفلا من هول المشهد ووحشيته، شعر بغصة تتشكل في حنجرته وتخنق أنفاسه... لقد ذبح برادي المرأة أمام عينيه حقا!
فزع الرجلان الآخران حين شهدا مقتل رفيقتهما فانطلقا هاربين..
مقاطبا ذراعيه.. سحب برادي مسدسيه الاثنين، وأطلق عليهما النار، مصيبا كل منهما برصاصة دقيقة في رأسه...
فخرا أرضا على الفور.. يتلويان من الألم لثوان قصيرة... قبل أن تخمد حركتهما تماما!
شحب باركر مرعوبا مما يشهده، ثمة شيء ما في تعبير برادي جعله يشعر بأن الأخير قد استمتع بالأمر...
كما لو أنه يفتخر بإذاقة أقصى ألم يستطيعه لخصومه قبل قتلهم..
الوغد المريض!
راقب برادي جسدي الرجلين الساكنين لبضع ثوان إضافية، قبل أن يتوجه إلى امرأة أخرى ملقاة غير بعيدة عن المكان.. لم يكن باركر قد انتبه إليها من قبل، وتساءل إذا ما كانت مع المجموعة التي أبيدت...
أو لعلها أصيبت خطأ أثناء القتال...
كان بوسع باركر أن يتبين بأن المرأة قد ماتت فعلا، فعيناها المتسعتان قد حدقتا في سماء الليل بنظرة فارغة.
المرأة المسكينة!
بدا وجه برادي متجهما وهو يقرفص أمام جسدها.. أغلق عيني المرأة بيده وهمس لها بشيء ما لم يستطع باركر سماعه... ثم أبعد شعرها عن وجهها برفق..
كان باركر متفاجئا ومصدوما بالمشهد، فقد بدا مناقضا تماما للعنف الذي رأى الرجل قادرا عليه قبل قليل..
أقله كان ذلك رأيه حتى رأى برادي يسحب سكينا من صدر المرأة الميتة، ويتحرك ليشعل نارا في حشائش الحديقة بجوارها... قرب برادي نصل السكين من ألسنة اللهب...
وتركه يحمى حتى أصبح المعدن أحمرا لامعا في ظلمة الليل،
ثم ضغط نصل السكين الساخن على ذراعه حيث كانت عضة ذلك الرجل..
أجفل باركر إثر الألم الذي تخيل بأن برادي يشعر به الآن حتما، رغم أن الأخير لم يصدر آهة واحدة حتى!
فقد بقي واقفا مطبقا فكيه بقوة، فيما فاحت رائحة اللحم المحروق في الهواء مسببة الغثيان لباركر!
لكن برادي لم يكن قد انتهى عند ذلك الحد..
انتفض باركر ورعبه يتضاعف، حين رآه يعود إلى الاجساد الميتة ويسحبها لوسط النيران.. لقد كان الرجل مجنونا تماما!
لم يكن ثمة تفسير آخر غير هذا، فلماذا قد يفعل شيئا كهذا لضحاياه إن لم يكن مضطربا عقليا؟!
وقف برادي مراقبا النيران وهي تلتهم الجثث.. انعكست أنوارها على وجهه الخالي من المشاعر، وجعلت ظلالها عيناه تبدوان أشد بريقا.. فبدا أكثر وحشية وأقل إنسانية.
لم ينطق برادي بكلمة أو يظهر أي عاطفة، وحينما تحقق بأن الجثث قد احترقت كليا...
ابتعد عنها تاركا النيران تمتد لتنشب في شجرتين قريبتين..
شعر باركر بالسقم..
كيف يسمح لهذا الرجل..
لكائن بهذه الوحشية بالتجوال حرا طليقا؟!
ألا يعلم كونارد.. مسؤول الأمن الأول بما يفعله المجرم المدعو برادي في مكان عام كهذا؟!
لم يستطع باركر أن يتخيل كونارد يتسامح مع فعل قبيح من هذا النوع... معرفته به كانت سطحية جدا،
لكنه كان يعرفه بما يكفي ليؤمن بأن احتقار الجرم من طبيعة رجل أمن مثل كونارد... فقد كان يشبهه في ذلك!
وبينما يصارع باركر أفكاره..
كان برادي قد توجه إلى حيث أوقع معطفه.. التقطه عن الأرض، وارتداه بخفة...
ثم انصرف مغادرا المكان،
ومختفيا عن أنظار باركر المصدوم لأبعد حد...
#