كنت أسير بلا أي هدف في الطرقات وشعور الألم والحزن لا يفارقني , عيناي الزرقاوتين فقدتا بريقهما وجسدي بدأ يضعف شيئاً فشيئاً لتقل مقاومته للأمراض , لقد مضت سبعة شهور منذ ذلك اليوم ولكنني لم أتمكن قط من استيعاب أو تصديق الحقيقة وهو ما أوصلني لما أنا عليه الآن , أسرتي لا تهتم أساساً بما يحدث معي المهم حقاً هو أن وريثهم على قيد الحياة دون الاهتمام بنفسيته أو صحته !
توقفت عن السير وأنا أرى طفلان في العاشرة من عمرهما يلعبان معاً مما دفعني للابتسام بألم وقد اقتربت منهما بلا شعور , توقفا عن اللعب عندما شعرا بمراقبتي لهما وقد بدت الصدمة على وجه أحدهما بينما قطب الآخر حاجباه باستغراب وهو يقترب مني بتردد واضح وبالنهاية استجمع قواه ليتحدث :" لماذا تبكي سيدي ؟"
وضعت يدي تلقائياً على وجنتي لأجدها مُبتلة بدموعي , لا أعلم حقاً متى بدأت البكاء إلا أنني نظرت للصغير وقد رسمت ابتسامة باهتة على وجهي بينما أوجه سؤالاً له :" أخبرني هل أنتما صديقان ؟"
اقترب الآخر مني أيضاً وقد أومأ كلاهما إيجاباً لتتسع ابتسامتي بينما يداي تربت على شعرهما وعلى ما يبدوا إنسابت الكلمات من فمي دون شعور مني :" كان لدي صديق كنت أعرفه منذ أن كان عمري عشرة سنوات , لقد تقاسمنا الكثير من العهود و الوعود ولكنه لم يعد هُنا الآن "
تحدث أحدهما باهتمام :" لماذا ؟ أين ذهب ؟"
أجبته بألم :" أترغبان بمعرفة قصة صداقتنا ؟"
تحدثا بصوت واحد بحماس :" أجل أرجوك "
أومأت إيجاباً لنسير معاً إلى الحديقة المجاورة لنا ونجلس على أحد مقاعدها لأبدأ بسرد قصتي لهما والتي أشعر بأنني سأختنق بالفعل إن لم أخبر أحد عنها :
......
ولدت ضعيف الجسد بقلب مريض وقد كنت وحيد والداي ووريث أموالهما وشركاتهما لذا عشت حياتي كالمساجين في قفص من ذهب بحيث وجدت الكثير من الألعاب والخدم وبالرغم من ذلك شعرت بوحدة شديدة فأنا منعت حتى من الذهاب للمدرسة بل كان المعلمون يأتون لمنزلي وتحديداً إلى غرفتي , وبأحد الأيام قررت الهروب ورؤية العالم الخارجي فقد أكملت عامي العاشر وأنا حبيس هذه الغرفة , غرفتي في الطابق الأول من القصر لذلك قفزت من النافذة في فترة تبادل الحرس وهربت بنجاح , غمرتني السعادة في ذلك الوقت وأنا أركض وأركض متجاهلاً الألم الذي كنت أشعر به كل ما كان يسيطر علي هو المناظر الجديدة التي كنت أراها للمرة الأولى في حياتي لاسيما أنني وصلت أخيراً لأحد الأحياء الفقيرة والتي كنت أتمنى منذ زمن زيارتها للحصول على مغامرة العمر , اصطدمت بذلك الوقت بفتى في مثل عمري إلا أن فقره كان واضحاً للغاية من خلال ثيابه المتسخة وشعره الذي يبدوا أنه لم يصففه مُنذ شهور ربما , وبالرغم من ذلك فقد كانت ملامح وجهه جميلة حتى مع تلك الخدوش بحيث امتلك شعر باللون الأسود وعينان جريئتان باللون الأزرق وقد بدا أن جسده قوي على عكس جسدي الضعيف , تحدث ذلك الفتى بسخرية :" هل أضعت الطريق يا صغير ؟"
رمشت عدة مرات وأنا أحاول استيعاب سؤاله السابق لأتحدث بغباء :" ألست في مثل عمري تقريباً ؟ إذن لماذا تصفني بالصغير ؟"
حدقت به بتعجب وأنا أرى ابتسامته الساخرة تتسع بينما قال بهدوء :" أنت تبدوا لي مجرد طفل مدلل فماذا تفعل هنا لوحدك ؟"
أجبته بكل بحماس :" لقد هربت من المنزل لأرى العالم ! أعني أنا مريض بالقلب ولهذا السبب والداي يصران على إبقائي حبيساً في غرفتي "
حدق بي بدهشة قبل أن يبدأ بالضحك لسبب مجهول بالنسبة لي ولكنني شاركته الضحك فحسب وما إن توقفنا حتى مد يده لي وهو يتحدث بثقة :" اسمي هو آيزاك , لا أعلم من هي أسرتي فقد كبرت في منزل يضم العديد من الفقراء مثلي ويبدوا أنهم عثروا علي مُلقاً في الطريق "
دهشت من ثقته تلك بالرغم من أنه لا يعلم حتى من هي أسرته إلا أنني أرجح بأن هذا الأمر طبيعي بالنسبة لهذا الحي فيبدوا أن هنالك الكثيرون مثله لذا مددت يدي أنا الآخر لمصافحته بينما تحدثت بهدوء :" اسمي هو جين , أظن أن اسمي الأول هو كل ما يهم صحيح ؟"
ابتسم لي بسعادة ولكن فجأة تهادى لمسامعي صوت أحدهم وهو يصرخ قائلاً :" يجب علينا العثور عليه قبل أن يوقع نفسه بالمشاكل "
صحت بفزع :" لا , سيمسكون بي وأنا لازلت أرغب باستكشاف المزيد "
أمسك آيزاك بيدي وهو يحثني على الركض معه بينما ابتسامة شقية تربعت على ثغره وهو يحادثني بلطف :" لا تقلق أنا سأكون مرافقك لهذا اليوم , لن أسمح لهم بالإمساك بك موافق ؟"
أومأت إيجاباً له وقد شعرت بالسعادة تغمرني إلى درجة منعتني من الشعور بالألم بسبب الجهد الذي بذلته للمرة الأولى منذ ولادتي إلا أن ذلك الشعور اختفى بسبب اقتراب حرس أبي منا مما دفعني للصراخ برعب :" هي آيزاك سيمسكون بنا "
اتسعت ابتسامته الشقية وهو يطمئنني :" لا تقلق , لقد وعدتك صحيح بأن نقضي اليوم معاً "
ترددت وأنا أجيبه بخوف لم أتمكن من إخفائه :" أجل "
التفت إلى الخلف وأنا أرى رئيس الحرس السيد ماركوس خلفي وقد تحدث بنبرته المرعبة المُعتادة :" استمع لي أيها المشرد من الأفضل لك ترك السيد الصغير وشأنه وإلا دفعت الثمن غالياَ"
قطبت حاجباي بانزعاج وأنا أتحدث بصوت مرتفع وقد توقفت عن الركض كالحمقى :" لا تنعته بهذه الصفة يا ماركوس إنه صديقي "
تجمع الكثير من الناس حولنا ويبدوا أن ثيابي الثمينة و الحرس قد أثار انتباههم مما دفع ماركوس للتحدث :" سيدي الصغير إنه مجرد كاذب لابد أنه سيحاول إيذائك أو قتلك حتى لسرقة نقودك "
نفيت ذلك الكلام بقوة وأنا أجيب :" ليس كذلك كما أنني لا أمتلك أي نقود فقد هربت بالكاد من القصر "
أراد ماركوس أن يجيب لكنه توقف وتراجع للخلف عدة خطوات بعد أن وضع آيزاك سكيناً ما على عنقي بينما تحدث هو بثقة :" جميل جداً أيها الحارس الفاشل ماذا ستفعل الآن؟ خطوة واحدة وسيصبح هذا المدلل ميتاً وحينها سيقضي سيدك عليك صحيح ؟"
أغمضت عيناي بقوة بينما تسارعت دقات قلبي ولكن ذلك ليس بسبب خوفي على نفسي بل على آيزاك ولا أعلم حتى السبب لذلك فهو يضع سكيناً على عنقي ولا يبدوا على وجهه أنه يمزح .. أجاب ماركوس عليه بهدوء يخفي خلفه غضباً جماً :" وماذا تريد لتتركه وشأنه ؟"
تحدث بسخرية لاذعة :" أغرب عن وجهي فقط , وسيعود سيدك لمنزله مساء اليوم بخير "
رفع أحد حاجبيه باستنكار تام بينما اقترب العديد من أهالي الحي منهم ليتحدث أحدهم بجشع :" بالتأكيد المقابل سيكون فدية نقدية كبيرة "
في تلك اللحظة سمعت صوت تمتمة آيزاك الغاضبة :" مجرد حمقى ومن أخبركم أنني أنوي ابتزاز والداه ؟"
ابتسمت براحة بعد سماعي لتلك الجملة وأنا حقاً أجهل السبب الذي دفعني للوثوق به بالرغم من أنها المرة الأولى التي أراه بها , توقفت عن التفكير عندما شعرت به وهو يمسك بيدي بقوة ويبعد السكين ويبدأ بالجري ليجبرني على اللحاق به بسرعة كبيرة بينما أولئك الحمقى منعوا ماركوس من الوصول لنا بحيث ظنوا أن آيزاك سيقوم حقاً بتهديد والداي وإحضار المال لهم , أعلم أن الثقة به هي أمر قد أندم عليه طوال حياتي الآن ولكن لم يكن الخيار بيدي أبداً فأنا لم أجد نفسي وإلا بدأت بالضحك بقوة على منظر ماركوس الخائف من عقاب أبي , دخلنا إلى أحدى البنايات المهجورة ليترك يداي وهو ينظر لي بدهشة وحيرة قبل أن ينطق بخفوت :" هل أنت أحمق إلى درجة الوثوق بشخص غريب يهددك بسكين ؟"
ابتسمت بمرح وأنا أجيبه :" أنت وعدتني بأنك سوف تساعدني لقضاء اليوم خارج المنزل كما أننا صديقان الآن صحيح ؟"
عقد حاجباه بخفة وهو يجبني بسؤال لم أعلم إجابته في ذلك الوقت :" صديقان ؟ وهل تعلم أنت ما معنى الصداقة يا جين ؟ "
صمت قليلاً وأنا أحدق به بينما بدأت الأفكار تتخبط في عقلي لأتحدث بتردد :" أجل إنه الشخص الذي تلجأ إليه دائماً وتأتمنه على حياتك وأسرارك صحيح ؟"
تنهد بتعب قبل أن يرسم ابتسامة مفعمة بالحياة على وجهه :" حسنا , لا يهم لقد قبلت صداقتك بكل حال , والآن وبعد أن ابتعدنا عن أولئك الحمقى ماذا تريد أن تفعل ؟"
ابتسمت بحماس شديد وأنا أتحدث :" أنا أريد أن أرى المدينة بأكملها , وأريد تناول المثلجات أيضاً "
ضحك بخفة وهو يربت على رأسي :" حسناً فهمت هيا تعال معي "
نظرت له بغضب وأنا أبعد يده عني بينما كنت أتمتم :" لا تعاملني كالأطفال فأنا في العاشرة من عمري وأنت تبدوا لي إما في مثل سني أو أصغر بقليل "
ضحك مجدداً لكن بمرح وهو يسير أمامي بينما أجابني :" أنا في العاشرة أيضاً ولكنك كالأطفال تماماً أعني تبدوا لي أنك بحاجة لرعاية دائماً "
سرت خلفه وأنا حقاً لا أعلم ما هي تلك المشاعر التي انتابتني فجأة , أهذا هو شعور المرء عندما يكون مع صديقه ففي النهاية أنا لم أقابل أحداً في مثل عمري بحياتي كما أن الجواب الذي أجبته على سؤال آيزاك عن الصداقة كان نابعاً من الكتب التي قرأتها فقط .
......
أسبوع كامل قد مر على تلك الحادثة بالطبع أعادني آيزاك إلى المنزل في الليل وقد كنت مرهقاً للغاية بعد ذلك اليوم الممتع فقد تجولنا في الساحات العامة وتناولنا المثلجات معاً وقد كانت لذيذة بالفعل لم أشعر بالمتعة هكذا في حياتي كلها ولكن في النهاية لكل شيء ثمن فقد أصبت بحمى شديدة بسبب ما حصل وها أنا ذا في المستشفى منذ تلك الليلة بينما توعدني أبي بعقاب شديد ما إن أغادر هذا المكان , هذا الأمر مزعج للغاية وأنا اشتقت حقاً لآيزاك وأتمنى رؤيته بشدة , أعدت رأسي للخلف وأنا أسنده على تلك الوسادات وأفكر بكيف يمكنني الهرب مجدداً لرؤيته فأبي عين حارس شخصي لي وهو سيرافقني دائماً إلى كل مكان أذهب إليه ابتداء من اللحظة التي سأغادر بها هذا السجن وأعود لسجني الأصلي المنزل , فتحت عيناي بدهشة وأنا أراه يقف أمامي بابتسامة لطيفة لأصرخ بحماس :" كيف دخلت إلى هُنا ؟"
ضحك بخفة وهو يربت على شعري في محاولة منه لإزعاجي :" من النافذة , لم يكن التسلق للطابق الثالث أمراً صعباً "
شهقت بخفة وأنا أسأله مجدداً :" ولماذا لم تأتي بطريقة طبيعية ؟ أعني ألم يكن من الخطر عليك تسلق النافذة يا أبله ؟"
أجابني بمرح :" لأن ذلك الحارس البدين في الأسفل وهو يعرفني – بحدة أكمل – : أتقلق علي يا جين ؟"
شعرت بالحيرة بسبب تغير لهجته فجأة إلا أنني أومأت بالموافقة ليردف هو بغضب حاول جاهداً إخفائه :" أنا لا أصدقك , لقد خدعتني جين أنت جعلتني أقوم بإيذائك "
ازدادت حيرتي أكثر وأنا أرى تقاسيم وجهه الغاضبة لأتحدث بتردد واضح :" وكيف ذلك ؟"
أشاح بوجهه عني وهو يتحدث بانزعاج شديد :" أنت هُنا بسبب الركض وإجهادك لنفسك وأنا من ساعدك على ذلك ! مما يعني أنني سأكون السبب "
فغرت فاهي بدهشة قبل أن ابتسم بهدوء وأنا أتحدث بامتنان :" شكراً لك آيزاك حقاً , لم يسبق أن شعر احدهم بأنني مهم لديه "
هم بالإجابة إلا أن دخول أحدهم منعه من ذلك كما منعه من التحرك أما أنا فقد شعرت بأن قلبي سيتوقف حالاً عن العمل لاسيما بعد رؤيتي لأبي يقف خلف آيزاك وخلفه أمي التي شهقت بفزع وهي تراه .
مرت لحظة صمت قاتل ليقطعها صوت صراخ أبي وهو يمسك آيزاك بقوة شديدة من كتفيه :" أأنت من فعل هذا بابني ؟ لقد آذيته أيها التافه المشرد وفوق هذا تجرأت على القدوم إلى هنا "
لم يتمكن آيزاك من الإجابة وقد بدا التوتر والخوف عليه وهو يرى أبي غاضب لهذه الدرجة الجنونية بينما أكملت أمي بحقد :" لقد وضعت سكيناً على عنقه ! لا أحد يعلم بماذا خدعته حتى يصدقك ويثق بك أيها التافه اللعين , أقسم لك بأني سأزج بك بالسجن لتتعفن هناك إلى الأبد "
شد على قبضة يده بقوة وهو يتحدث بندم :" أنا أقسم أنني لم أعلم بأنه سيمرض بسبب ذلك فقط أردت أن أريه المدينة كما تمنى هو أن يفعل "
شهقت بفزع شديد بعد أن قام أبي بلكمه على معدته بقوة وقد بدأت أنفاسي تضطرب وأنا أراه يجثو على ركبتيه بألم شديد وهو يسعل , صرخت بغضب عارم :" ابتعدا حالاً عنه ! لا تقم بإيذائه أتفهم ؟"
صرخ أبي هو الآخر بينما أمسكه بقوة :" وهل تدافع الآن عن هذا المشرد ؟ استمع لي يا جين أقسم بأنني سأجعله يدفع الثمن غالياً - أكمل بخبث - : ربما علي تسليمه لماركوس فحسب فهو قام بإهانته صحيح ؟"
لم أعلم ماذا علي أن أفعل لحمايته من والداي فهما لن يقتنعا بسهولة أنه فقط أراد مُساعدتي ويبدوا لي أن آيزاك يشعر بالذنب بسبب ما حدث لي لذا فهو لم يعترض حتى على ما يحدث له , بدأت أنفاسي تنقطع فجأة وأنا أشعر بألم شديد في قلبي وصوت ذلك الجهاز المزعج بدأ بالعلو أكثر فأكثر مما دفع أبي لترك آيزاك والتوجه لي بسرعة وقد كان هذا آخر ما شاهدته قبل أن أفقد وعي وأصاب بنوبة قلبية .
......
فتحت عيناي بتعب شديد وصداع حاد يداهمني , نظرت حولي لأجد نفسي في المشفى ولكن لم تمضي عدة دقائق حتى شهقت بفزع شديد وقد تذكرت آيزاك وهو بين يدي والداي , أبعدت الأجهزة عن جسدي بسرعة ولكن وقبل أن أنهض كان الأطباء بالغرفة وقد دهشوا لرؤيتي وكأنهم يرون شبحاً ما !
لم أعلم حقاً ماذا يحدث إلا أن أحدهم وعلى ما يبدوا تجاوز صدمته تلك اقترب مني وهو يتحدث بلطف :" وأخيراً استيقظت ! لقد فقدنا الأمل حقاً بعودتك لهذا العالم مرة أخرى بالتأكيد هذا الخبر سيسعد والداك "
رمشت عدة مرات وأنا أنظر حولي وشعور سيء ينتابني , اقتربت ممرضة مني وأعادتني إلى فراشي وقد بدء الطبيب بفحصي بينما تحدث بابتسامته السابقة :" لقد مضى عام كامل منذ ذلك اليوم "
شهقت برعب شديد وأنا انظر له بصدمة بينما جسدي بدأ بالارتجاف رفع يده ليربت على شعري مما دفعني للبكاء بألم وتفكيري منصب على مصير آيزاك الذي لم أتمكن من إنقاذه وكل ما فعلته هو أنني أصبت بنوبة قلبية حادة أدخلتني في غيبوبة لمدة عام كامل !
الآن الساعة هي الثانية بعد الظهر أي مضى ثلاث ساعات منذ استيقاظي اليوم وللتو قدم أبي بعد أن أنهى القليل من اجتماعاته وكذلك أمي وكم كانت صدمتي كبيرة وأنا أرى طفلاً رضيعاً بين يديها , رمقني أبي بسخرية شديدة وهو يتحدث :" إنه ابننا الثاني أي انه شقيقك الأصغر ! وعلى عكسك فهو سليم تماماً لذا لم يعد أمرك مهماً حقاَ الآن حتى لو مت "
توسعت عيناي بألم بينما تحدثت أمي بعتاب لا يخلو من السخرية الدفينة :" عزيزي لا يجدر بك أن تقولها بهذه الطريقة لقد استيقظ الآن فقط وقد تسوء صحته مرة أخرى "
تجاهلت سخريتهما تلك ومددت يداي لحمل الصغير وبالرغم من توقعي رفض أمي للأمر إلا أنها ساعدتني على الإمساك به وهي تحذرني :" انتبه جيداً من إسقاطه أو ما شابه لأنك ستندم حينها أتفهم ؟"
أومأت إيجاباً وأنا أنظر له بسعادة فكم تمنيت دائماً أن أحظى بشقيق أصغر , بدأت ابتسامتي تتلاشى وصورة آيزاك تمر في مخيلتي , أردت التحدث وتوجيه سؤال لهم عنه إلا أن دخول ماركوس منعني من ذلك فقد تحدث ببرود وابتسامة أشعرتني بالقلق :" أهلا بعودتك سيدي "
قال تلك العبارة ثم توجه ليهمس بأذن أبي بجملة ما جعلته يضحك باستمتاع , رمقتهما بحذر بينما قمت بوضع شقيقي الذي لم أعرف ما هو اسمه حتى الآن بين يدي أمي وأنا أنتظر أبي ليفرغ من حديثه مع هذا الأبله , غادر ماركوس الغرفة بينما وجه أبي نظره لي وهو يتحدث بسخرية :" أخبرني صغيري هل مازلت تذكر ذلك المشرد ؟! "
ازدادت دقات قلبي بعنف وأنا أشعر بقلق شديد مما سيخبرني به الآن أخشى أن يكون قد أمر بقتله أو ما شابه ذلك , وجه أبي نظره لجهاز القلب ولاحظ شعوري بالقلق من خلال التغيير الذي طرأ على الأرقام فجأة ليتحدث باستمتاع :" جيد هذا يعني أنك تذكره , بكل حال وبما أنه كان السبب بما حدث لك فقد جعلته الخادم الشخصي لشقيقك أرون ولكن الآن بما أنك استيقظت سيكون خادمك أنت "
شعرت بصدمة شديدة وبدأت عيناي تذرفان الدموع وأنا أتحدث بصدمة :" أتعني أنه بقي تحت رحمتك خلال العام الماضي بأكمله ! "
ضحك بخبث وهو يجيبني :" الواقع عمر شقيقك هو ثلاثة أشهر فقط ولذا هو كان تحت رحمة ماركوس خلال الثمانية أشهر التي سبقت ولادته "
شهقت بفزع وأنا أشعر بأنني السبب بكل ما حصل له , لو أنني لم أهرب من منزلي في ذلك اليوم لما قابلته وبالتالي لما التقى بماركوس أو بأبي , تسلل اليأس إلى أعماقي بسبب دموعي التي بدأت بالانسياب على وجنتاي مجدداً , فقط لماذا لا يمكنني فعل أي شيء سوى البكاء ؟ أغلقت عيناي بقوة وأنا أضع يداي على أذني تزامناً مع صوت ضحك أبي باستمتاع ليغادر الغرفة برفقة أمي وأخي , شعرت بجسدي بأكمله تخدر بينما سمحت لصوت شهقات بكائي أن ترتفع في أرجاء الغرفة غير آبه بما يحدث حولي , بعد أقل من دقيقة شعرت بدخول أحدهم للغرفة مجدداً ولكنني لم أكن لأفتح عيناي وأشاهد القادم فقواي قد انتهت تماماً لهذا اليوم كما أنني لم أكلف نفسي حتى عناء محاولة التوقف عن البكاء , سمعت صوت ضحكة خفيفة ومن ثم صوته الهادئ :" أخبرتك أنك مجرد طفل والآن ما سبب بكائك ؟"
شعرت برجفة تسري في جسدي باللحظة التي ربت بها على شعري مما أجبرني على فتح عيناي الحمراوتين وأنا أراه يقف أمامي مُباشرة وابتسامة لطيفة تعلو شفتيه , نهضت من فراشي وأنا أضمه بقوة بينما كانت كلمات الاعتذار لا تتوقف من الخروج , بادلني هو العناق وقد أعادني للفراش حتى بهدوء وهو يجلس على طرفه ليبدأ بالتحدث بألم :" لست من يجدر به أن يعتذر فأنا كنت متهوراً بقدومي للمشفى في ذلك الوقت وأنت بسببي أصبت بنوبة قلبية "
شعرت بالغضب حقاً من كلامه أيظن أنه السبب ؟ يجدر به أن يكون غاضباً مني للغاية أن يحقد علي لأنني أوقعته تحت رحمة والداي اللذان لا يهتمان بوجودي حتى ! لذا أبعدته عني وأنا أصرخ بوجهه :" لا يجدر بك الاعتذار , أنا تسببت لك بالمشاكل ! لقد تأذيت بسببي أنا يا أحمق "
ابتسم بهدوء لم أعتد عليه سابقاً :" لا يهم الآن سيدي "
عضضت على شفتي بقوة وقد عادت الدموع للتجمع مجدداً في عيناي تباً كم أكره ضعفي هذا , لم أتمكن من مساعدته أو إنقاذه أنا فشلت في حماية صديقي وكل ما أفعله هو البكاء فقط !
ربت على شعري كما يفعل دوماً ليتحدث :" لقد تغيرت الكثير من الأمور خلال هذا العام سيدي ولكن عليك أن تعلم أنك صديقي وهذا الذي لم يتغير ولن يتغير فأنا الآن سأبقى بجانبك إلى الأبد , سأحميك وأعتني بك , لن أسمح لوالداك بأن يهيناك كما يفعلان دائماً , سأكون درعك سيدي أقسم لك بهذا "
......
غادرت المشفى بعدها بأسبوع وقد عدت لحياتي في المنزل إلا أن الكثير حقاً قد تغير فلم يعد والداي يمنعانني من الخروج والذهاب للمدرسة بسبب وجود أخي أرون والذي سيرث الشركة إن مت أنا , يبدوا أن آيزاك بات يعلم حقيقة مشاعر والداي تجاهي لذا لم يعد يعتذر منهما على إيذائي بل يبتسم بسخرية ما إن يبدء أبي بإحدى مسرحياته عن حبه للعائلة أمام المجتمع وخوفه علي تحديداً بسبب مرضي , كما أنهما تجاهلا ضعف جسدي وباتا يجبرانني على التفوق في كل دروسي وأخذ حصص خاصة بعد المدرسة والكثير من التمرينات المرهقة التي كانت تسبب لي الحمى الشديدة يومياً تقريباً بينما آيزاك يتورط في النهاية وبكل ليلة بالعناية بي وفي كل مرة يشعر بالقلق علي .
......
مرت تسعة سنوات منذ ذلك الوقت لأكمل وآيزاك العشرين من العمر وقد ضعف جسدي بشدة , قبل شهرين من الآن قدم آيزاك طلب استقالة لكي يتمكن من الذهاب وإيجاد عمل يقوم به في حياته فهو بالتأكيد لم يكن ليبقى خادماً ولكن نتائج أحد التحاليل الذي قمت به جعلته ينسحب فقد كُتب فيه بأنني لن أتمكن من العيش لأكثر من خمسة أشهر , تلك النتيجة جعلته يصاب بإحباط وحزن شديدين بالرغم من أنني لم أعلم السبب حقاً صحيح أننا نجلس دائماً معاً ونتسلى ولكن أنا كنت السبب في جعله خادم هنا ! أنا رأيت تلك الجروح والندبات التي حظي بها بسببي عندما جعله أبي تحت رحمة ماركوس , لطالما شعرت بألم وخوف من أن يكون آيزاك بانتظار موتي فقط ولكن الآن وعندما علمت بأنني لن أعيش لأكثر من خمسة أشهر شعرت بالسعادة لأجله هو لأنه أخيراً سيتحرر من هذا المكان البائس بالرغم من أنه تغير قليلاً بسبب مرح أرون ولطفه مع الجميع , أيقظني من شرودي صوت آيزاك الهادئ :" هيا سيدي تناول دوائك الآن "
قطبت حاجباي بانزعاج وقبل أن أجيب تحدث هو مجدداً باستياء :" لا تقل لي تلك التفاهات التي تلقيها دائماً حول أنه لا داعي لتناوله بما أنك ستموت بعد ثلاثة أشهر أو ما شابه ذلك ! تعلم أن الطبيب قال بأن هنالك أمل إن قام بعملية ما لك لذا لا تفقد الأمل كالحمقى "
شددت على قبضة يدي لأتحدث ببرود :" ولماذا تحاول تشجيعي ؟ يجدر بك أن تكون سعيداً بأمر موتي "
أقسم بأنه كاد أن يصفعني بقوة لولا أنه تمكن من السيطرة على أعصابه بقوة وقبل أن تصل كفه لوجهي بإنش واحد أو أقل , أخفضت رأسي بينما صاح هو للمرة الأولى :" عشرة أعوام ! لقد أضعت عشرة أعوام من حياتي للبقاء بجانبك يا أبله , فقط لأجلك كي لا أتخلى عنك وأتركك تعاني هنا وحدك بعد أن شعرت بمدى قسوة والديك , غبي لقد كان بإمكاني الهرب منذ اليوم الأول ولكنني انتظرت استيقاظك من تلك الغيبوبة بفارغ الصبر واكتشفت كم أن والداك شخصان مثيران للاشمئزاز لاسيما بعد علمهما بأنهما على وشك الحصول على طفل آخر مما دفعهما لإهمالك وإهمال زيارتك تماماً وكأنك لا تعني لهما أي شيء , فقط لأنك صديقي يا أحمق لذا توقف عن قول هذه التفاهات أتفهم !؟"
نظرت له بدهشة قبل أن ابتسم بمرح وأنا أتناول دوائي وأجيبه بهدوء :" أجل فهمت - وبانزعاج - : لقد أهنتني أربع مرات على الأقل في محادثة واحدة "
جلس بجانبي وقد كان الغضب يعلو ملامح وجهه ليتحدث بخفوت :" كان علي تشويه وجهك الوسيم هذا ثمناً لحماقتك "
ضحكت بخفة على ردة فعله تلك وقد شاركني هو الضحك بعد برهة متناسياً غضبه , توقفت بعد مدة قصيرة عن الضحك وأنا أنظر للسقف بشرود تام وأفكر بأنني لا أتمنى أي شيء سوى بقائي هنا برفقة آيزاك إلى الأبد , قاطع تفكيري ذاك صوت خطوات أرون الذي قفز فوقي بلا أي إنذار مسبق وهو يتحدث بمرح :" أخبرني يا جين لماذا كنتما تضحكان قبل قليل ؟ أريد الضحك أيضاً "
تحدثت بغيظ وأنا أبعده بينما يتمسك هو بقميصي بقوة أكبر :" ابتعد عني يا أحمق , أنظر إلى وجهك بالمرآة لتضحك فأنت كالحمقى تماماً "
قطب حاجبيه وهو يعدل بجلسته على معدتي التي اتخذها وسادة له على ما يبدوا وهو يجيب :" إذن سأنظر لوجهك أنت فآيزاك أخبرني بأنني نسخة عنك عندما كنتَ طفلاً يا أخي "
اكتفيت منه ولذا اعتدلت أنا في جلستي بعد أن كنت قد استلقيت على السرير لأوقعه أرضا وأنا أجيبه بحنق :" آيزاك هذا مجرد مغفل وهو لا يذكر حتى كيف كنت أبدو , لأنه وببساطة يستحيل أن أكون مثلك !"
ضحك آيزاك بخفة وهو يقترب مني ويضع يده على أذني ويقوم بقرصها بقوة ليتحدث :" والآن أتظن بأنني مجرد مغفل يا صديقي ؟"
وضعت يدي فوق يده وأنا أتحدث بألم :" لا , لست كذلك ثق بي أنا هو المغفل يا آيزاك لكن دعني أرجوك "
وجه نظره لأخي الأبله والذي كان يضحك باستمتاع وهو يشجع آيزاك ليسأله :" ما رأيك هل أتركه الآن ؟"
صرخ بحماس :" لا فهو سيغدر بك عندها لإنه يمسك بوسادته ليضربك بها "
ألتفت آيزاك لي وابتسامة شقية تتربع على ثغره وهو يتحدث :" إذن أرون أره كيف يتم الضرب بالوسائد "
توسعت عيناي برعب وأنا أرى أرون يقفز على السرير هو الآخر لأتحدث :" آيزاك أنت صديقي أنا صحيح ؟ هيا أرجوك كن لطيفاً ودعني وأعدك بأنني سوف أخذ دوائي بانتظام "
ابتسم بلطف وهو يبعد يده عني بينما تلقى ضربة أرون بدلاً مني وهو يتحدث :" حسناً أرون لن نقوم بإيذائه بما أنه وعدنا بتناول دوائه بانتظام صحيح ؟"
أجاب أخي بحماس شديد :" أجل ولكن إن أخلف بوعده فنحن سنضربه بقوة "
فركت أذني بيدي وأنا أصيح بغضب :" أنتما مجرمان "
ضحك آيزاك باستمتاع بينما تحدث آرون بحزن :" لأننا قلقان عليك , أنا لا أريد أن أفقدك يا أخي و آيزاك أيضاً لا يريد أن ترحل صحيح ؟"
صمت كلانا ونحن ننظر له بصدمة بينما عانقني بقوة وقد كان يكافح لئلا يسمح لدموعه بالهطول , بادلته العناق بألم بينما تحدث آيزاك بحزن شديد :" لا تقلق سيكون بخير – شد على قبضة يده بقوة وهو يردف - : يجب أن يكون بخير "
لم أعلم إن كان علي أن أحزن أم أشعر بسعادة لوجود من يهتم بي ويحزن حقاً على فراقي .
......
مضت العديد من الأيام وفي كل يوم أشعر بأن أمراً سيئاً سيحصل قريباً وحتى أنني طلبت من آيزاك البقاء بجانبي طوال الوقت وجعلته يقسم لي بأنه سيبقى إلى الأبد صديقي ومعي ولكنه دائماً كان يجيب بحزن وألم :" أعدك يا صديقي بأنني سأبقى صديقك حتى آخر يوم بحياتي وأنني سأبقى معك بطريقة أو بأخرى "
~ وكم أتمنى لو أنني فهمت معنى عبارته تلك قبل فوات الأوان ~
......
مر الوقت بسرعة وهاهو يوم العملية قد أتى , أعترف بأنني أشعر بالرعب الشديد ولكن لم أكن لأسمح لآيزاك وآرون من اكتشاف خوفي بالرغم من أنني واثق أن الأول يعلم تماماً مدى خوفي بمجرد النظر لعيناي .
لا أعلم كم مضى من الوقت ولكنني استيقظت لأجد نفسي بإحدى الغرف العادية في المشفى وأرون نائم بجانبي , حاولت النهوض بصعوبة لأستدعي الطبيب عن طريق ذلك الزر الأحمر الموجود خلفي , لم تمضي دقيقة حتى حضر الطبيب ومعه ممرضتان وعلى ثغره ابتسامة هادئة ليتحدث :" حمداً لله على سلامتك سيد جين , كما توقعنا بما أن العملية نجحت بجدارة فأنت لن تستغرق أكثر من شهر في غيبوبتك "
تحدثت بهدوء وحذر :" تعني أنه لم يمر إلا شهر على تلك العملية ! "
أومأ إيجاباً وهو يقترب من الجهاز الخاص بنبضات القلب ليتحدث :" جيد , أنت الآن لا تعاني من أي مرض "
قطبت حاجباي بدهشة :" ولكن مرضي يستحيل الشفاء منه فكيف ..."
صمت عندما أخفض رأسه وهو يتحدث بخفوت :" أجل قلبك كان مريضاً ولكن هذا القلب لا يعاني من أي مرض "
ضيقت عيناي أكثر وأنا أشعر بالخوف الشديد لسبب مجهول بينما لم أتمكن من كبح سؤالي :" ماذا تعني سيدي ؟"
نظر لي وقد ابتسم بشيء من الحزن وهو يتحدث :" من الأفضل لك أن ترتاح الآن سنتحدث لاحقاً"
أردت حقاً التشبث به بقوة فكيف لي أن أرتاح الآن وأنا أشعر برعب لا أعلم حتى ما سببه ! بعد عدة لحظات فتح أرون عيناه ليدهش من رؤيتي مستيقظ مما دفعه لعناقي بقوة وقد بدأت دموعه الحارقة بالانهمار ولسبب ما فقد أرعبتني حقاً لاسيما عندما نطق بألم :" أخي آيزاك رحل "
لم أستوعب حقاً المعنى الحقيقي لهذه الجملة لذا سألته بتردد :" رحل ؟ إلى أين ؟"
شهق بخفة وهو يضمني أكثر بينما تحدث :" لقد قال بأنها الطريقة الوحيدة لتعود أنت إلينا وأنه لا يريد البقاء من دونك لذا رحل هو بدلاً منك "
بدأ عقلي بتحليل الموقف بصعوبة وبطئ شديدان بينما أشعر بأن روحي باتت تتناثر كأشلاء أمامي وكالعادة لم أفعل أي شيء سوى البكاء ولكن هذه المرة بصدمة وتكذيب , وبتلك الأثناء دخل والداي إلى الغرفة لتتحدث أمي بسعادة :" صغيري لقد استيقظت أخيراً , وقد أصبحت الآن بكامل صحتك "
أكمل أبي بدلاً منها :" أنا حقاً لم أتوقع أن يفعل ذلك المشرد هذا الأمر الجريء "
نظرت له ولا تزال أثار الصدمة تعتلي وجهي بينما أخرج هو من جيبه رسالة ما وألقاها باتجاهي بإهمال لينهض وهو يحمل أرون ويتحدث :" هيا يا عزيزي شقيقك في حاجة للراحة الآن "
ليغادروا الغرفة بينما بقيت أحدق بالحائط بشرود تام ودموعي لم تنقطع منذ تلك اللحظة لأصرخ بعدها بألم :" كذب , تباً هذا مجرد كذب , لا يمكن لقد وعدني بأن يبقى إلى جانبي إلى الأبد هو .. أنا من كان عليه الموت لا هو لماذا هو مجرد أحمق إلى هذه الدرجة لماذا ؟"
ألقيت كل الأجهزة التي تحيط بجسدي وبدأت بضرب الحائط بقوة برأسي أو بيدي لا يهمني الأمر فأنا لم أعد أشعر بالألم , أشعر بأنني أحترق , أختنق أرغب بالصراخ , بالبكاء .. تباً أريد أن أطفأ هذه النيران بداخلي ولكنني لم أعد أحتمل لا يمكن أن يرحل آيزاك بهذه الطريقة , ولماذا لأجلي فقط ؟ كيف يجرأ على إعطائي قلبه بهذه الطريقة ؟ كيف ؟ صرخت بغضب شديد وأنا أضرب رأسي بقوة بالجدار دون الاهتمام بالدماء , لم أشعر حقاً بدخول الأطباء إلى الغرفة ولم أشعر إلا بتلك الإبرة التي وخزتني فجأة لتسقطني في عالم مظلم تماماً كالحقيقة التي اكتشفتها قبل قليل .
......
استيقظت في اليوم التالي وصداع شديد يصاحبه ألم الجروح التي تسببت بها لنفسي ولكنني لست نادماً حقاً , بدأت بالبكاء ما إن تذكرت أمر رحيله إلا أنني وجدت الرسالة التي أعطاني إياها أبي وكم كانت دهشتي كبيرة حين رأيت خط آيزاك على المغلف مما دفعني لفتحها بسرعة :
" عزيزي جين أتمنى أن تكون بخير فنتائج عملية زراعة القلب لم تكن مضمونة أيضاً , أولاً أعتذر لأنني لن أبقى بجانبك إلى الأبد كما وعدتك ولكنني حقاً أجبن من البقاء دونك في هذا العالم القاسي , أعلم بأنك حتى الآن لا تعلم لماذا أنت مميز بالنسبة لي ولماذا أهديتك حياتي وقلبي بسهولة بالرغم من أن هنالك نسبة فشل كبيرة إلا أنني فضلت إعطائك هذه الفرصة أيضاً وإن فشلت يكون كلانا قد رحل عن هذه الدنيا معاً بالرغم من أنني لا أفضل ذلك , جين أنا لم أعلم في حياتي من هم أسرتي وقبل أن أقابلك لم أكن أعلم ما هو شعور أن يهتم أحدهم بك ويقلق عليك بل ويبكي لأجلك , أعلم أنني في لقائنا الأول أخبرتك بثقة بأنني لا أمتلك أسرة ولكنني في الوقت ذاته كنت خائفاً من ردة فعلك أن تبعد يدي عنك باشمئزاز وتركلني بقدمك وترحل كما يفعل البقية إلا أنك صافحتني و أخبرتني باسمك الأول فقط حتى لا تجرحني , وعندما دعاني ماركوس بالمشرد غضبت لأجلي أنا وأخبرته بأننا صديقان أنت دافعت عني بالرغم من أنك لا تعلم من أنا ووثقت بي حتى عندما وضعت تلك السكين على عنقك , ربما بالنسبة لك هذه الأمور طبيعية ولكن بالنسبة لي أنا فهي عظيمة حقاً لأنني شعرت بالفعل باهتمام أحدهم بي , رأيت دموعك عندما أمسكني والدك وضربني وأنا الذي كنت دائماً أظن أن لا أحد سيهتم لو مهما حدث بي أو بألمي لذا شكراً لك لأنك حققت أمنيتي بمعرفة ذلك الشعور بأن تكون مُحاطاً باهتمام وعناية أحدهم , جين أرجوك لا تحزن الآن لرحيلي فأنا حقاً أكره رؤية حزنك و أعلم أنك طلبت مني العناية بأرون في حال رحلت أنت ولكن ها أنا ذا أطلب منك العناية بشقيقك الأصغر وأن لا تسمح لوالداك بأن يخذلانه كما حدث معك , أتمنى فقط أن تعيش حياتك بسعادة أيها الطفل
صديقك الوفي لك دائماً آيزاك "
لم أعلم بماذا أشعر الآن تحديداً ولكنني تحدثت بصوت خافت :" سعادة ؟ كيف تطلب مني تحقيق طلب كهذا آيزاك تباً "
أمسكت تلك الورقة بقوة شديدة وأنا أصيح بغضب وقد عادت حالة الجنون التي مررت بها الأمس :" وعن أي اهتمام تتحدث ؟ هل أنت أبله ؟ ألست من كان يعتني بي طيلة الوقت ؟ أنت من حميتني في ذلك اليوم من ماركوس وأنت من كان يعتني بي في كل ليلية أصاب بها بالحُمى , ماذا فعلت أنا لك يا أحمق ؟ ماذا فعلت سوى البكاء دائماً تماماً كما الأطفال "
جثوت أرضاً بألم شديد وقد بدأت بالبكاء بصوت مرتفع لعلي أفرغ ولو القليل من هذا الألم بداخلي فأنا ومنذ هذه اللحظة فقدت صديقي الذي أعطاني سبباً للعيش إذن لماذا علي البقاء بعد الآن ؟
......
فتحت عيناي بعد أن كنت قد أغلقتهما أثناء إخبارهما بالقصة لأنظر لطفلان الذي بدا التأثر واضحاً بعينهما وقد تلألأت الدموع فيهما , تحدثت بألم :" حسناً هذه هي قصتي مع صديقي آيزاك "
اقترب أحدهما مني ليتحدث بصوت حزين :" لماذا جسدك هزيل هكذا ؟"
لم أفهم حقاً علاقة سؤاله بالقصة التي رويتها لهما إلا أن صديقه اقترب منه أيضا ليكمل :" أليس قلب صديقك الوحيد بداخلك الآن ؟ كيف تجعله يشعر بالألم بهذه الطريقة الفظيعة ؟ عليك العناية به صحيح ؟ فهو ضحى بحياته لإعطائك حياة جديدة لذا سيكون من السيئ أن تذهب تضحيته بلا فائدة "
نظرت لهما وقد سرت رعشة في جسدي فأنا لم أفكر ولو لثانية واحدة بأنني عندما أتألم وأستسلم أسبب الألم لقلب آيزاك , عندما أتوقف عن الطعام فإنني أضعفه , بطريقة ما آيزاك لم يتخلى عني فهو لازال موجوداً معي تماما كما قال لي سابقاً
:" أعدك يا صديقي بأنني سأبقى صديقك حتى آخر يوم بحياتي وأنني سأبقى معك بطريقة أو بأخرى "