الفصل السادس : [ وكأن الكذبَ كان من نسلِ الشيطان ! ]
( قبل تسعِ سنوات | مدينة لندن )
سادَ الصمتُ لحظتها .. وأنقطعت الأنفاسُ على وتيرةٍ خاطفة
ما كانوا مستعدين لتقبلِ النتيجة ، هم المختارون للتمريناتِ الخاصة في الجيش البريطاني
بإن تكونَ الفتاةُ الوحيدة بينهم قد إنتصرتْ .. وبسهولةٍ على أحدِ أقوى الطلابِ هنا !
كلُ الأعينِ كانت على مشهدٍ بطيءٍ مغزاهُ أن حركةً واحدة من قبلِ آلداس كانت لتودي بحياتهِ للتهلُكة
فشلّ على وضعٍ هجوميٍ بحت وخصمهُ التي فاجأتهُ بسرعتها تقرّبُ السكين من وريده رويدًا رويدًا
ولربما كانت ستقتلهُ حقًا .. لولا أن صفق المدّربُ الخاص مرددًا
ما تكلمت هايسانث ذاتُ الخمسةَ عشر عامًا ، إكتفت بإغماضِ عينيها وبإعادة السكين إلى مكانه
ثمّ همت خارجةً والفتى خلفها لا يزالُ بلا حراكٍ واقف .. مصدومًا .. بتعطشها المهيب للدماء !
تحاشاها الجميع – كما يفعلون عادةً – فهي ليست إجتماعية بطبعها وبالنسبةِ لهم هي مخيفةٌ بتناسقِ شعرها الأسود مع عينيها الزرقاوتين .. تبدو كشبحٍ من قصصِ الرعبِ القديمة
ما انتبهت لهم أو لوجودهم حتى بل سرقَ لحظتها كل ما في وعيها وقوفهُ مستندًا على الجدار منتظرًا إياها كعادته
تبسمتْ بسعادةٍ حتى توردت وجنتاها هارعةً إليهِ فابتسمَ حالما إنتبهَ عليها آتيةً نحوه ،
إحتضنتهُ بقوةٍ كبيرة ليفعلَ هو المثل ، قهقه ضاحكًا على هكذا فعلٍ منها ، هي التي تتصفُ بالبرودِ عادةً
- أخي إيليا ، إشتقتُ إليكَ حقًا !
لمعت عيناهُ بإبتسامةٍ هادئة ، ربت على رأسها ولا يزالُ محتضنًا إياها فأجابَ بهدوءٍ وراحة
- اعلمُ ذلك ، لأني إشتقتُ إليكِ أيضًا . عزيزتي هايسانث !
تمسكت بهِ أكثرَ بإبتسامةٍ تتسعُ سعادةً على كلماته ، إبتعدَ عنها قليلًا فقبل جبينها يحدثها بحنان
- إذن كيف كان التدريبُ لهذا اليوم ؟
- جيد ، إستطعتُ هزيمةَ آلداس بسهولة
- كما هو متوقع . أنتِ رائعة !
مطّ وجنتيها برقةِ ثم سار معها يتبادلان الأحاديثَ فيما بينهما ،
مرّ شهرٌ على آخرِ لقاءٍ بينهما .. فـ إيليا عادةً ما تُفوضُ إليهِ مهامٌ عليا من قبل شخصٍ يدعى سولومون ، لا تعرفهُ هي ولكنها فقط .. لا ترتاحُ للأحاديثِ التي يتم تناقلها عنه
توقفت محبطة . لتعودَ القسماتُ الشاحبةُ إلى برودها المعتاد وتتجمّد عيناها بزمهريرٍ شديدٍ كما الأقطاب ، إرتخت كافةُ عضلاتها . اشاحت بناظريها تحدثهُ بنبرةٍ مستهزءة
- ستكلفُ بمهمةٍ مرة أخرى ؟ .. كم ستغيبُ هذه المرة ؟
الإبتسامةُ المنكسرة ما فارقته آنَ تلك لحيظات . طأطأ عينيهِ للأرض مجيبًا بحزن
إستدارت عنهُ سائرةً كالجنود بيدينِ معقودتين خلفَ ظهرها . تبعها بخطواتٍ سريعة حتى امسكها دافعًا إياها للجدارِ بجدية
ثبتها بقوةٍ تحت عدمِ المقاومةِ منها ، ونظر في عينيها بجديةٍ بحتة . دنى منها فهمس في إذنها بكلماتٍ جعلت من عينيها بريقًا حادًا لمن يراهما
حلّ وثاقها منهُ وتركها بعدها ذاهبًا في مهمةٍ جديدة .. غير عارفٍ بإنها هي كذلك .. إلى مهماتٍ قذرة تُرسَل !
أرادتْ لهذا اليومِ أن ينتهي في أقربِ فرصة . لا تريدُ إكمال مكوثها مع مجموعةٍ من الموجات الصوتية التي تتناغمُ مشكلةً ضوضاء مزعجة .. !
ولكنها قررتْ أن تراهُ أولًا قبيل ذهابها .. فهو ليس بالذي يعودُ للمنزلِ كثيرًا كما هو حالُ والدتها .. ولكنهُ مختلف .. هو فخرها ! هو الذي فاق مقامهُ لديها الجميع !
فعلى بابِ مكتبهِ وجدتْ نفسها واقفة تطرقهُ بهدوءٍ منتظرةً الجواب من الطرفِ الآخر
فحالما سمعت الإذنَ بالدخول دلفت . فوقعَ على ناظريها هو .. والدها ، الأدميرال ويليام نوكتيس !
ينظرُ عبر النافذةِ التي اتخذت كل الجدارِ ومساحتهُ إلى ساحةِ التدريبِ الخارجية ، إلتفتَ إليها بعد وهلةٍ مبتسمًا بحنان
- هايسانث ، يسرني أن تأتي لرؤيتي
كم رفرف قلبها في تلك اللحظة وكم عجزت عن التنفس سعادةً ؟ .. لا تدري حقًا !
- بالطبعِ سآتي لرؤيتك . والدي !
كيف تصفه ؟! .. هو الذي يمتازُ بالقسماتِ الضائعة .. دومًا ، حينما ينظرُ إلى الشخصِ ويتحدث لا يبدو وكأنه ينظرُ إليهِ ويحدثه
عيناهُ وحسب .. كأنما تريانِ الفراغ وليس الناس !
فتحَ ذراعيهِ لإستقبالها ، مميلًا رأسهُ بنفسِ الإبتسامة الحانية
تقدمت إليهِ ببطئٍ شديد حتى وقفت أمامهُ مباشرةً فأحاطَ بيديهِ وجهها لثوانٍ بخفوتِ إبتسامةٍ غامضة ، برفقٍ دفعها إلى حضنهِ مربتًا على رأسها غير مصدقٍ بما يدعى الزمن
- كبرتِ بسرعة .. لا اكادُ أصدق !
أرخت رأسها على صدرِ والدها ، منذُ أن كانت طفلة .. صوتهُ ، دفئهُ ونظراتهُ تخدر كافة جسدها ، وكأنما بهذهِ الأعين هو يوقفُ جميعَ اعضائها عن العمل .. و يحيلها إلى سباتٍ عميق
ليست الوحيدة التي تشعرُ بذلك .. فجميعُ من يدققُ النظر فيهِ يساورهُ الشعورُ نفسه !
من وجنتيها مرر اصابعهُ بخفةٍ حتى لامست أصابعهُ أنامها وبحدةِ نظراتْ لم تألفها أو تنظرَ إليها أمرها بإبتسامةٍ ضائعة وسط الثلوج
- والآن لتنامي وحسب . صغيرتي !
لا تدري لما كل جوراحها قد انصاعت لهكذا أمر ، فغطتْ في نومٍ عميق .. دون أن تدري بذلك !
المنزلُ في ضواحيٍ ريفية خارج لندن كان المكانَ الأنسبَ لمكوثِ من لا يحبونَ الضوضاء
مستمتعينَ بنقاءِ الهواء . وخيراتِ الطيبعة ، على الرغمِ من كونهِ حيًا ضخمًا للأثرياءِ إلا أن التواضعَ كان غالبًا على معظمِ ساكنيه .. كلهم دافئونَ بطبعهم وكلهم قريبون من بعضهم البعض
على نهاية الحي منزلُ عائلةِ نوكتيس ، بعيدًا قليلًا عن الترابطِ بين سكان الحي الفسيح ،
فيهِ هلهلتْ أسيدانس فرحةً بإنجازها الجديد والذي ما كان بالنسبةِ لإبنتها .. إنجازًا حقيقيًا !
- هايسانث هايسانث لقد فجرت المطبخ !! ما توقعتُ ذلك ..
لم تفهم هايسانث – ولن تفهم – سبب السعادة التي تخللها إحباطٌ شديد .. والدتها الغريبة دائمًا ما تخلطُ شعورينِ في آنٍ واحد .. عينها اليمنى تظهرُ الإيجابي .. أما اليسرى فـ السلبي تظهر !
ببرودٍ وبلاهة سألت هايسانث والدتها
- وكيف فجرتي المطبخ هذه المرة ؟
لمعت عيناها بحماسةٍ بالغة وبلهاءٍ ترفعُ لهايسانث الديناميت .. الذي لا تدري لما هو بين يدي والدتها اصلًا !
- لقد حاولت صنع عصيدةِ الديناميت .. ولكني .. آهه فشلت ..
إتخذت ركن جدارٍ مكانًا تنفثُ فيهِ إحباطها بعيدًا عن إبنتها الباردةِ كالثليج .. وقفتْ هايسانث ودنت من والدتها تجرُ أذنها بقوةٍ كبيرة
- لا توجدُ أمٌ في العالم تريدُ أن تقتل أبنائها بعصيدةٍ متفجرة
باتت اسيدانس تبكي مفطورةَ الفؤادِ تتعلق بملابسِ هايسانث جاثيةً على ركبتيها
- هذا فظيع !! كيف تقولين عن والدتكِ هذا القول ؟ أردت ان اسعدكم بطبقٍ جديد ليس إلا !
بعصبيةٍ صرخت هايسانث تجرُّ وجنتي والدتها
- أنسيتِ آخر مرة صنعتِ فيها طبقًا جديدًا ؟! لقد تسمم أخي إيليا بفعلِ وضعك للأمونيا في الحساء !!
فجأة وقفت أسيدانس .. بوجهٍ جاد ترتدي قفازات المعاملِ البيضاء وتنظرُ لـ هايسانث بنظراتٍ خبيثة
- ذكرتيني .. لقد مرض إيليا مرةً بسببِ فيروسٍ غريب .. لا أدري من أين أتى .. يجبُ أن افحصكِ هايسانث لأتأكد فقط بإنكِ لا تحتاجين .. مئة حقنة في الفخذ
إرتعش جسدها كله تتخيلُ مئة حقنة في فخذها .. كلا !! على جثتها !! لن تدع والدتها المجنونة تمسها ابدًا !
غيرت الموضوع بسرعةٍ قائلة
- لا يزالُ والدي في غرفةِ مكتبه أليس كذلك ؟
بدت أسيدانس كمن تذكر هذا للتو ، نظرتْ صوب الباب الذي يبعد خمسة أمتارٍ عنهما ثم عبرت عن حزنها
- لا أدري ما حلّ بـ ويليام فجأة .. بات يدخلُ مكتبهُ لساعاتٍ طويلة حتى بعد أن يعود من العمل !
أغمضت هايسانث عينيها متوقعةً أمرًا
- العمل هذهِ الأيام متراكمٌ بسبب النكسة التجارية ، وزارة الدفاع تلقت صفعة مؤلمة للكسادِ المالي لذا لا عجب في أن يكون والدي منزعجًا لهذا
إزداد الإحباط في عيني اسيدانس مردفة
- اعلم ذلك .. فقط .. لا احب ان اراهُ في هذا الحال !
من ينظرُ إليها .. لا يدرك بإنها العالمة أسيدانس نوكتيس نفسها التي انقذت بريطانيا قبل أكثر من عشرين عامًا حينما كانت في المرحلةِ الثانوية
هذه العالمة العبقرية .. اساس دعائم وزارة الدفاع وإن حدث لها أمرٌ ما .. ستنهارُ الوزارةُ حتمًا
بهدوءٍ إبتسمت هايسانث مربتةً على رأس والدتها مخففة
- لا تقلقي يا أمي ، كل شيءٍ سيكون بخير ، والدي سيخرجُ بعد قليلٍ كما هو في العادة ويجلس بيننا مبتسمًا !
نفخت اسيدانس خديها المتوردين ثمّ نطقت بطفولية
في ثانيةٍ تجاهلت هايسانث وجود والدتها واتخذت من الأريكة مكانًأ لجلوسها من أجلِ القراءة ، تحطّم قلبُ أسيدانس جدًا .. وهي ترى بإن أبنتها كما والدها .. عديمةُ المشاعر !
وأثناء صمتها و غناءِ والدتها اثناء غسلِ الأواني .. هايسانث رمقتْ كافةَ أنحاءِ المنزل بنظراتٍ حادةٍ مخيفة ، تستشعرُ قدوم روحِ المصائب لهذا المكان ..
إنتبهت والدتها على تلك نظرات ، تعجبت فاحتدت ملامحها تسأل بفضول
- النوافذ .. لما اغلقتيها كلها ؟
عادت عينا اسيدانس لطيفتينِ تجيبُ بسعادة
- آه لقد أخبرني إيليا بقدومِ عاصفةٍ ترابية لذا اغلقتُ النوافذ حتى لا يستخ المنزل
- ولكنها لم تأتي للآن .. ربما ستتأخر !
تنفست الصعداء لهذا الجواب وإلا فإن عقلها كان ليقفز لإستنتاجاتٍ ضحلة و .. مظلمة !
بعد عشرينَ دقيقةٍ فُتح بابُ المنزل الرئيسي معلنًا عن وصولِ إيليا ، إلتفتت أسيدانس لهُ متحمسة ترقصُ من السعادةِ .. وتلقي بالصحونِ عليهِ مرحبةً
- آآآه صغيري إيليا ، لقد عدت اخيرًا !!
على غير العادةِ هو هادئ ، بنظراتٍ ضائعةٍ متوترة وملامحٍ جدية وأطرافٍ مرتجفة ،
لم تنتبه أسيدانس إلا أن الأمر أثار بعض الشكوكِ في قلبِ هايسانث التي قلقت من أن امرًا ما قد حدث له !
نظر لكافة انحاءِ المنزل وقال مستعلمًا
- اغلقتي كل النوافذ كما اخبرتك ؟!
ملامحهُ غارت خلفَ خصلاتهِ الشقراء ، وبنبرةٍ أوجست في نفسِ اسيدانس خيفةً سأل
- هل الطردُ الذي أوصلتهُ لكِ عند والدي ؟
- أ-أجل اعطيتهُ إياه كما طلبتَ مني !
تعجبت أسيدانس من ذلك فيما قبضَ إيليا على سيفهِ أكثر بعينينِ خاويتينِ من الشعور و متعطشتين لسفكِ الدماء
عادت عيناهُ طبيعيتانِ بإنبلاجةٍ متفاجئة ، إلتفتَ ببطئٍ ناظرًا لأختهِ المبتسمةِ بسعادةٍ للقدومة
إختفت كلُ رغبةٍ في الفتك من اوصاله ، وأبتسمَ بسعادةٍ يتجهُ نحوها معانقًا إياها بقوةٍ كبيرة
هو فقط .. يحبُ أخته أكثر من أي شيءٍ في هذا العالم ، هي كلُ ما يحتاجُ إليهِ كي يعيش وربما ..
جلسَ بجانبها ضاحكًا بسعادةٍ بالغة ريثما يعبثُ بشعرها مقربًا رأسها من حضنه ، إبتسمت والدتهما على حالهما الذي لن يتغير وعاودت العملَ مرةً أخرى
بجانبها جالسٌ هو يقرأ معها الكتابَ الذي بين يديها . هو وهي لطالما تشاركا في كثيرٍ من الأمور ومنها حبهما للتاريخِ القديم لذا فإن وجدتهما معًا فهما يقرآنِ كتابًا عن التاريخِ بلا ريب
دون أن تشعر هايسانث هو قد فتتَ حبةً ما لتتبخر في الهواءِ المحيط بها .. ورويدًا رويدًا عيناها تسقطانِ للنوم
أرخى رأسها على كتفه مقبلًا إياه و مقربًا إياها منهُ هامسًا بهدوء
- لتنامي وحسب ، عزيزتي هايسانث !
أُحيطت بالظلامِ وغشاوةُ عينيها الداكنة تمنعها من إبصارِ ما حولها ، كانتْ تطفو وحسب .. تطفو وسط العتمة
مُراقبةً من قبِل لبِّ الظلمةِ نفسها ، مانعةً إياها من السقوطِ في بئرٍ عميق .. كان من صنعِ البشر !
مخدرةُ الأطراف ، غير واعيةِ العقل واللاشعور هو فقط ما يقودها في طريقٍ مبهمٍ غير واضح
تسلل إليها الوعيُ تدريجيًا حينما إلى عقلها تناهت رائحةُ النارِ وفحيحُ ألسنتها المتراقصة .. بصعوبةٍ بالغى عيناها فُتِحتا
وأولُ ما وقعا عليهِ .. لون النيرانِ الحمراء الصارخة !
تلتهمُ النيرانُ والسنتها المنزلَ بأكلمه .. فكان تراقصُ تلك الألسنةِ مستهزءًا ، شامتًا و مستحقرًا لبني البشر !
حاولت أن تقفِ إلا أن قدميها خذلتاها فسقطت عن الأريكةِ متألمةً بشدة ، قاومتْ شعورَ الخدر وأجبرتْ قدميها على الوقوف
أكمحت رأسها صوبَ صوتِ إستلالِ نصلِ السيف الحاد .. فاتسعتا فجيعةً وإنكارًا .. لمرأى الذي بالخيانةِ أقسمَ ألا يقترفها !
قطراتُ الدماءِ من جسد والدتها الواهن قد صبغَ ما كان خلفه من جدار واثاث ، كل ما كانت هايسانث تراهُ هو شقيقها ونصلهُ الحاد كلٌ منهما إخترق جزءًا من والدتها
النصلُ إخترقَ جسدها قاتلًا الجسد ، و إيليا نفسه إخترق بفعلتهِ قلبها فدمرها قبيل موتها !
ما استطاعتْ التي ترى عينيّ ولدها خاويتين من البشرية إلا أن تمد يدها نحوه وتلمس وجنتهُ بضعفٍ باكية
- لما إيليا .. لما لا تبكي حتى ؟!
إنتشلَ النصل المميت فسقطَ الجسدُ دون إنتظارٍ مرتطمًا بالأرضِ بقوةٍ زلزلت كيان هايسانث وما أثرتْ في نفسِ إيليا شيئا !
عاد الوعي له بشهقةٍ مصدومة ، إلتفت بسرعةٍ أخافتْ هايسانث فوقعت عيناهُ عليها .. تبًا !! لا يريدُ هذا
إرتجفتْ اطرافهُ وتسارعت أنفاسه ، ما كان عليها ان تستيقظ !! لما عليها أن ترى هذا ؟!!
هي الوحيدة .. هي الوحيدة التي لا يستطيعُ أن يواجهها ابدًا بهكذا حال !!!
ارتجفت يدهُ التي تمسكُ بالسيف بشدة متصنمًا ، فكيف بهِ يتصرفُ الآن ؟!
هرعت صوبه تتمسكُ بملابسهِ تهزهُ منها بجنونٍ صارخة
- لما ؟!! أخي إيليا لما فعلت هذا ؟! .. قل لي بإن هذا كذب !! أخبرني بإن هذا غير حقيقي !
عيناه المتألمتانِ ما كان منهما غيرُ تحاشي النظر في عينيها المكسورتين .. توقفتْ عن هزهِ حينها والنيرانُ من حولهما تستعرُ أكثر واكثر
الدخانُ إنتشر ، هايسانث بدأت تختنق لضيقِ تنفسها . دفعها إيليا بقوةٍ بعيدًا عنه حتى كادت تفقدُ توازنها وتسقطَ أرضًا
بإبتسامةٍ منكسرةٍ أسمعها ما تريد
- هذا ليس كذبًا هايسانث .. هذا هو الواقع !! إنه أكثر إيلامًا مما يتصورهُ أي احد !
وقفتْ دون أي قسماتٍ واضحة ، إلتفتتْ متجهةً لمكتبِ والدها .. لعلهُ هو .. ينقذها من هذا الواقع
- لا فائدة . ويليام نوكتيس قد مات منذُ فترة ، قتلتهُ بسم وضعتهُ في الطردِ الذي ارسلتهُ إليه
شلّت حركتها ، إنتفض قلبها وما أستطاعت منعَ الدموعِ من الإنهمارِ على وجنتيها بحرارةٍ لاذعة
كانت تريد الصراخ . حاولت ، إلا إن لا صوت خرج مع الدموعِ الحارقةِ التي سقطت من العينين اللتين تمنيتا لو كانتا بحالةِ العمى .. كي لا تريا هذا الحدثَ الأليم !
فُجع كلٌ من عقلها وقلبها ، تناولت النيرانُ صوتها وحبستهُ بين تراقصِ لهيبها ،صرختْ بأقوى ما يكمن دون أن تدري أن كل صرخةٍ تصرخها .. تدمرُ قلبَ الواقفِ خلفها
هو كذلك بكى .. بكى بحرقةٍ ما توقع إظهارها .. كان صامتًا أثناء بكائهِ يغمضُ عينيه مناجيًا الظلمة .. لعلها تقيهِ من هذه الذكرياتِ يومًا ما !
خمدت مشاعرهُ مجددًا . عادت عيناهُ لتعبر عن خلوِ صدرهِ من أي ندمٍ أو شعور
إلى ظهرها نظر بحدةٍ يتعطش لقتلها كما كان حالهُ حالَ وفودهِ للمنزل ، بدون أن تشعرَ هي تحرك بسيفهِ مسببًا جرحًا عميقًا في ظهرها .. سقطتْ على الأرضِ غير قادرةٍ على الحراك
وتوقع أن تستلم لما ابدتهُ من الإنهيار . إلا أنها صدمتهُ بوقوفها مجددًا مواجهةً لهُ بخطين غير منقطعين من الدماءِ على حوافِ شفتيها
بإبتسامةٍ منكسرةٍ كما إبتسامتهُ السابقة نظرت إليه تمسكُ بالمقابلِ لها من السيف بيدها التي جُرحت على إثرِ ذلك بشدة
بحجوظِ عينيهِ الوحشيتين صمتَ دون أن يجيبَ عليها ،فهمت هي الإجابةَ التي اوصلها دون النطقِ بها حتى ،
إتسعتْ الإبتسامةُ المنكسرة .. مع الدموعِ المنهمرةِ من عينيها !
حلّ الصمت ، وكأنما النيرانُ ولظاها الحارقُ قد خمدا للحظةٍ اشبه بالسنين الطويلة ، في لحظةٍ من اللحظات ..
انكسرتْ الروابط ، إنفكت العقود و حُلّ الحبُ أبديًا إلى الممات
وقعت الكارثة ، وعم السلامُ روحَ الذي ارتكبَ المجزرة .. عارفًا أنهُ للأمواتِ لاحقٌ لا محال ..
وفي لجةِ ذاك الصمت ولوثةِ الشيطانِ بخَبَالٍ اكيد .. هايسانث التي تمسكُ بطرفِ السيفِ سحبتهُ بقوةٍ طاعنةً نفسها
فتتسعُ عينا شقيقها صدمةً بلا أي إستيعاب !
عيناها الرقراقتانِ بالدموعِ حدثتاهُ بصوتٍ متقطعٍ خافت
- إن كنت تريد .. إحمل هذا الذنب طوال حياتك ، ولكني لن احملك ذنبَ قتلي !
إنتشل السيفَ بسرعتةٍ فسقط جسدها .. كما سبقهُ جسدُ والدتها قبلها .. القى إيليا السيفَ دون أن يدري وجسدهُ رغم إرتفاعِ درجةِ الحرارةِ الشديد .. يرتجفُ كما لو كان في مركز البردِ جالس !
صرخ .. فقط صرخ بألمٍ حتى كادت أحبالهُ الصوتية تتقطع .. هو إبنُ السادسةِ عشر .. قتل عائلتهُ كلها في ليلةٍ هادئة مقمرة !
وسط اللهيب .. رفع رأسهُ للسماء يضحكُ بجنونٍ ويبكي في آن !
القهقهات المتتالية من النفس الأمارةِ بالسوء ، الهقهقاتُ المتتالية للخطيئة التي تناسلت عبر اوردته إلى الحياةِ عائدة
حمل نفسه بالإبتسامةِ المجنونة .. خارجًا من المنزل .. وتاركًا إياهُ للرمادِ حائل !
والتي كان من المفترض أن تلاقي الموت لا تزال متشبثةً بطرفِ حبلِ الحياة ، زحفت بأقوى ما يمكنها صوبَ بابِ مكتب والدها .. والدماءُ منها تتدفقُ بغزارة
إستعانت بالجدار كي تقف وحالما كادت تسقطُ تمسكتْ بقبضةٍ الباب ففتحته دافعةً إياهُ بأقوى ما تملكهُ من الطاقة ، إستندت على طرفِ الباب تنظر لما داخل الغرفةِ بإنكار وفجيعة .. !
على ركبتيها سقطت والدموعُ حقًا تنهمرُ مدرارًا من العينينِ الزرقاوتين ..
والدها على كرسيٍ جالس والسيفُ امامه مثبتُ على الأرضِ بيديهِ متخذًا جلسةً ملكيةً بحتة .. وجسدهُ كلهُ ينزفُ بغزارةٍ .. ميتًأ !
عيناهُ الزرقاوتانِ تنظرانِ إليها .. وهما لا تدريانِ لأي شيءٍ تنظران
تلك الوضعية المهيبة .. قد استنفذت كل ما بقي من الوعي في نفسها .. فسقطتْ على الأرضِ .. متأكدةً من الموت !
ولا تدري بعدها .. من حملها خارج المنزلِ المحترق !
إلا أنها تعرفُ شيئًا واحدًا اكيدًا هي في تلك الليلة خسرت جزءًا من نفسها للموت .. وبات الجزءُ الآخر .. معلقًا بين العالمين
عالم الأموات .. وعالم الأحياء !