الفصل الحادي عشر : [ بطَشَ القَسَمُ فأبطلتُه ، ولنْ أستطيعَ المُضيَّ بعد اليوم ! ]
ومنْ ذا الذيَّ يؤثِرُ السكونَ على الحياةِ التي بِهَا وُلِدَ بنُوا البَشَر ؟
وأيُ ملحَمةٍ تُخفِيهَا الأيدي الخفيةُ للقدر ؟!
وجمِيعُ تلكَ التُرهَاتِ هل بقيَّ لهَا من أثرْ ؟! تناجيَّ يومهَا الذي يُسَاوِي سَقَر ..
أحقِّيةٌ مسلُوبَة .. وضميرٌ ماتَ يعومُ على سطحٍ ضحّلٍ مُوحِلْ
إستبدادٌ على المرآةِ التي تحتضنُ إنعكَاسِهَا .. وحقيقةُ مرَوِيَةٌ خلفَ شَظَايَاها
إختَارتْ أن تنعكسَ الإطلَالةً الميتةُ مرةً أخرَى .. تزعمُ أنهَا لهُ تنتميّ دونَ أن تبلَى
فسَألُوهَا مرة : إن كنتِ ميتة فلما جسدكِ لا يبلَى ؟
حينهَا هي قد ضحِكَتْ كثيرًا ساخِرَة .. على العقولِ المحدودةِ لبنيّ البشَر
فأجابتْ جاعلةً إياهُ صاغِرًا : من كانَ رسولًا للموتِ لا يبلَى .. فقطْ الرمادُ يعودُ للرمَادْ !
ولحظَةَ تذَكُرِهَا ألقتْ الزُجاجَةَ البخَاخةَ في سلةِ المُهملاتْ فـ مُهِمتهَا قد إنتهتْ تمامًا الآن
وباتتْ تراقبُ تراقصَ الخُصلاتِ الشقراءِ عَلى حركةِ رياحِ جهازِ التجفِيفِ الحارَّة
أنهَتْ ذلكَ وخرجتْ مُسرعةً تلتقفُ سيجارةً وتبدأُ تدخِينَهَا بـ شَراهَة
أراحَهَا الدُخانُ بشكلٍ مألوفٍ لهَا .. نفثتهُ مُفتتِنةً بشعورهِ داخِلَ رئَتيهَا ..
وما كانتْ هذهِ الرَاحةُ لتضطَربَ إلا برنينِ هاتِفهَا النقَّال .. بحدةٍ مُظلمَة رمقتهُ غاضبةً
تجيبُ محاولةً ألا تُبديَّ هذا الغَضَبْ :
- ما الأمر لونج وي ؟! هل لهَذَا الإتصَالِ ضرورة ؟!
إتسَعت إبتسَامتهُ حالَ سماعِ صوتِهَا .. باتَ يلعبُ بخصلةٍ من شعرهِ مُتحدثًا :
- لقدْ وصلتْ يا عزيزتي .. !
قطَبتْ حاجِبيهَا بنفسِ الملامحِ المنزعجةِ فـ أغمَضَتْ عينيهَا تسألهُ بعمقِ تفكيرهَا :
- داليا ؟!
ضحكَ بحقارةٍ لاذعةٍ وأجابْ :
- ومن غيرُ ساكنةِ المصحَّاتِ تلك ؟! بالطبعِ هي داليَا !
نظرتْ صوبَ الساعةِ لتواجهَ العقارِبَ على إمتدادِ الـ 37 : 10 ليلًا
تنهدتْ . صمتتْ للحظاتٍ ثم أعقبتْ بفكرٍ غليظٍ مملوءٍ بالسودَاويَّات :
- إذن نبدأ النهايَة الآن ؟!
لم يُجبْ . بل بقيَّ مُبتسمًا ينتظرُ منهَا أن تُكِملَ كلامها ففعلتْ بحدةٍ وهيَّ سائرةٌ
ترمقُ بابًا مُغلقًا بحدةٍ مُرعبَة :
- أولويتُنَا هي نقلُ آليكوس إلى مدينةِ ليفربول في الحال
قُمْ بإرسالِ البياناتِ كافةً لجهازِهَا
زفرَ مُستسلِمًا لواقعِ أنهَا لا تزالُ تنطقُ بكلامٍ غيرِ منطقي ، إلا أنهُ رضخَ لأمرِهَا مُرغمًا :
- كمَا تريدين عزيزتي .. إذن هل لي أن أطلُبَ ..
أغلقتْ الخطَّ في وجههِ دونَ أن تسمعَ باقيّ طلبه ، إرتدتْ معطفهَا الأسودَ و حذائهَا
ذا الكعبِ العالي الأسودَ .. وخرجتْ تضعُ مسدس M9 – Beretta في جيَبِهَا
خِلالَ بضعِ دقائقَ من القيادةِ السريعَة لسيارتِهَا الفارهةِ السوداء .. وخلالَ الطريقِ
بدتْ هذهِ السيارةُ التي التحَّمتْ تقريبًا بالظلامِ كدخانٍ متدفقٍ بغمامةٍ مصِيريةٍ مؤلِمَة
فلمْ يكسرِ إلتحَامهَا بالظلمةِ إلا الأنوار الأماميةُ والخلفية .. الدليلُ الوحيدُ على أنهَا من عالمِ
البشرِ وليسَ الأمواتْ .. !
وصلتْ للوجهةِ التي تعتليّ أهميتُهَا الآن كُلَ شيء .. فقدْ أخبرهَا شاهَان مُسبقًا بإنَّ
أحدَ أفرادِ الحُكومةِ اللذينَ تريدُ قتلهُم .. سيتجمعُونَ لصفقةِ مُخدراتٍ هنا الليلة
في الساعةِ الـ 00 : 11 تمامًا قبلَ منتصفِ الليل !
إختارتْ موقفًا بعيدًا عن حديقةِ هايدْ بارك .. إحدَى أضخمِ حدائقِ بريطَانيَا بأسرِهَا !
سارتْ وصوتُ الكعبِ يكسرُ صمتَ المكانِ الذي لا يجرؤ أحدٌ على القدومِ إلِيهِ ليلًأ
وقفتْ في منتصفِ الحديقةِ تمامًا .. تستمعُ لهديرِ الرياحْ و حفيفِ الأشجارِ وسطَ الظلامْ
إختلاطُ الصوتِينَ كان لهَا بمثابةِ الفردوسِ على الأرضِ .. حينئذٍ سرتْ رعشةٌ باردةٌ في أطرافِهَا
إبتسمتْ على إثرهَا وقد كادَ قلبُهَا يلتصقُ بمعِدَتِهَا خلالَ مرورِ الهواءِ الثقيلِ بقليلٍ من ذراتِ الثلجِ
عبر ثنَايَا ملابِسِهَا !
ظلامٌ دامسْ .. قليلٌ من الإضاءةِ وحسبْ .. هذا جيدْ !
فهيَّ لم تكُنْ ممنْ يحسنُ التصويبَ في النهارِ مثلمَا هي مُذهلةٌ فيهِ في الليلْ
تحايلتْ أعيُنهَا لتسترقَّ النظرَ لبعضِ الأشجار .. لمحتِ الغربانَ فنعقوا أجميعنْ !
ماتت أعيُنُهَا .. إنطفئ ضوئُهمَا متبسِّمةً بظلاميةٍ أثناءَ تلميعِ مُسدَسِهَا :
- يالهُ من نعيق .. حظي مزدهرٌ اليوم !
قهقهتْ بخفيضِ الصوتِ مستمتعةً بنُمُو حظِهَا أخيرًا .. فكيفَ لا وفألُهَا بالغربانِ عظِيمْ ؟!
إستندتْ إلى جذعِ شجرةٍ واقفةً تنتظرُ وصولَ الطرائدِ بغيرِ صَبر .. !
إلا أن الدقائِقَ مرَّتْ .. و علَا صوتُ ساعةٍ بيج بن في أنحاءِ لندنْ عند تمامِ الثانيةِ عشر منتصفَ الليل !
حينَهَا علِمتْ بإن هناكَ تفسِيرينِ لا ثالثَ لهُمَا :
إما أن يكونَ شاهان مُخطِئًا .. إما أن تكونَ الصفقةُ قد أُلغِيتْ اليومَ لسببٍ طارِئ
ومن أجلِ مصلحةِ الأول .. على الخيارِ الثاني أن يكونَ صحيحًا !
زفرتْ مُنزعِجةً بأقصَى ما يكُون ، لوَّحت بالمسدسِ قليلًا في الهواءِ لتُقررَ العدولَ
عن مواكَبةِ المُهمةِ لهذَا اليوم
إتخذتْ الطريقَ الأطول المؤدي لحيثُ ركنَتْ سيَارتَهَا سابِقًا
و أثنَاءَ المُضيِّ توقفتْ بإنبلاجٍ مُرعبٍ لعينينِ غاضبتين .. يمنةً نظرتْ ويُسرَة
ثم غمغمت لنفسِهَا مُتساءِلة :
- هل كانَ خيالي ؟!
بالفعلِ .. هل كانَ خيالُهَا الذي أوحَى إليهَا بطيفٍ أسودَ يسيرُ في الظلمةِ خلفهَا ؟! ربمَا ..
سُرعَان ما تأكَّدَ الشكُ فـ التفتتْ بسرعةٍ تطلقُ رصاصةً أفزعتِ الطيورَ كافَّة
رفعتْ أحد حاجبيهَا تنطقُ بإنزعاجٍ شديد :
- إنه سريع !
وما تمكَّنت من فعلِ شيءٍ إلا وهو يمسكُ بيدهَا حاملةَ المُسدسِ من الخلفْ !
إبتسَامتهُ الراضيةُ قد إقشعَّر جسدهَا لهَا .. ولمساتهُ هذه .. تتذكَّرُهَا جيدًا
لن تنسَّى هاتينِ اليدينِ الناعمتينِ ذواتِ اللمسِ المُرعبِ للكيانِ المُستقِّر
بعينٍ حادةٍ إستقرتْ نظرةً طويلةً إليهِ حتى إبتسمتْ بإستحقارٍ موجِعٍ للنفسِ المُقَابِلة :
- هه ..
سحبتْ يدَهَا منهُ سحبًا وسارتْ مُستقيمةً دون أن تنظرَ للذي تُخفي القُلنسوةُ
المتشعبةُ من العباءةِ المزجاةِ وجهه .. عرفتهُ مباشرةً .. لا داعيَّ لإنكارِ هذهِ الحقيقةِ الآن !
توقفتْ . توقفت عن السيرِ لتتوقفَّ عقاربُ ساعتِهَا الداخليةِ كذلكْ
إلتفتتْ إليهِ بإبتسامةٍ هي الألعنُ على الإطلاقِ مُستفهمةً منه :
- إن لم تخُني ذاكرتي .. اكثر ما يوجعكَ و يؤلمكَ هو رؤيةُ أحدِ أحبابكَ يصارعُ الألمَ
أو يتعرضُ إليه أمامَ ناظريك .. أليسَ كذلك ؟!
بقيَّ صامتًا .. ومن خلفِ القلنسوةِ شعرتْ بعينيهِ الحادتينِ تهدِدانِهَا .. فـ أبتسمتْ كـ المُختلينَ
تخبرهُ بالفائضِ و الجيَّاشِ من مشاعِرهَا :
- كم أرغبُ برؤيةِ ذاكَ الألم مطبوعًا على قسماتِكَ أنتَ بالذات .. !!
وما أستطاعَ عقلهُ أن يعَّبِرَ حتى أشهرتْ سِلاحهَا واضعةً إياهُ على كتِفهَا بنفسِ الإبتسامةِ المجنونةِ
فـ أطلقتْ على كتِفِهَا !!
رغمَ الألمِ الحادَّ إلا أنهَا .. قهقهتْ .. قهقهت بجنونٍ مُرعبٍ حالما إستطاعتْ أن تخَبَرَ
إماراتِ الصدمةِ من فاههِ الذي .. فُتحَ على حينِ غرَّة .. و يدهُ اليسرى التي .. ارتجفتْ فجأة !
تلكَ القهقهةً .. قد أفزعتِ الغربانَ أجمعينْ .. وأيقظتْ كُلَ وحشٍ كاسرٍ دفين ..
كل مخلوقٍ .. تسربَّل بالظلالِ قد .. فتح عينيهِ على مملكةِ الموتِ السوي .. بضحكاتٍ متتابعةٍ
من التي تؤمنُ بنفسِهَا .. كـ رسولٍ للموتْ !
و أستمَّر النزيفُ لحينِ توقفتْ عن الضحكِ السيكوباتي بعدَ خمسِ دقائقَ كامِلَة
ترَّنحتْ قليلًا كالسُكارى ثم أعقبتْ ساخِرة :
- لا تقلق أيُهَا القائِد .. كلبُكَ سولومون سينبئُكَ بالمزيدِ من الأخبارِ لاحقًا بالتأكِيدْ !
أعطتهُ ظهرهَا تسيرُ ناحيةَ الطريقِ الذي حاذتْ عنه .. لوَّحتْ بيدهَا مودعة إياهُ بخاتِمَةٍ مُميزَة :
- وداعًا .. أيهَا الوالدُ الفَاسِدْ !
سارتْ عنهُ .. وإماراتُ الغضبِ الوعيديَة في ملامحهِ المَسجِيةِ بالظلامْ .. قد فاتتهَا
فلو رأتهَا .. لبقيتْ في ركنٍ قصيٍ لجدارٍ مُحطَّم .. ضامةً نفسَهَا مُرتجفةً خوفًا !
إحتمي مني أنا الذي بالغيَّ الأعظمِ أنضحُ شرًّا
إحتمي أنا الذي ما ارتاحَ كيانُ نطقَّ سِرَّه
توخيَّ الحذرَ مني أنا الذي عُرفتُ دومًا بنفسيَّ
وقد تعرفينَ يومًا أن تحذيري هذا لهو مصدرُ همّي
ريثمَا يمررُ اليدَ المليئَةَ بالخطِيئةِ على المرآةِ ليمسَحَ الضبَابَ من عليهَا
تتوَّقفُ سيارتهُ وسطَ طريقِ الغابةِ المُظلمْ .. لا إنارةُ غيرَ إنارةِ سيارتهِ
ولا صوتَ إلا المُحَركُ الصارخُ وسطَ سكونِ الأشجَارْ !
تقاطعتْ يداهُ على المقودِ يرخي ذقنهُ عليهمَا .. مُفكرًا بما قالهُ لهَا بالأمسْ
هل وُفِقَ بهكذَا إعترافْ ؟! أن يُخبرهَا بكلِ شيءٍ فيتهدمُ الطريقُ الذي بناه ؟!
وقد يستعصِي عليهِ فهمُ الأمرِ كُليًا .. أيُ المكنوناتِ أخرجَ لهَا .. ومتى أذِنَ لنفسهِ بقولِهَا ؟!
وذاكَ الوداعْ .. وأيُ وداعٍ كانَ يخبرُهَا بهِ بإن تشكَّ بكلِ شيءٍ أكثر ؟
: - يا لي من أحمق .. !
بالفعلِ قد يكونُ أحمقَ هذا الـ إليوتْ !
إستندَ على الكرسي رافعًا رأسَه .. الساعةُ في سيارتهِ تشيرُ للـ 28 : 2 بعدَ منتصفِ الليل
إلى أينَ ينوي الذهابَ الآن ؟! ماذا عن السبعة والثمانينَ مكالمةً من اوديسيوس ؟!
هل سيتجاهلُ كُلَ شيءٍ ويختلي بنفسهِ قليلًا ؟! .. ربمَا يفعلُ ذلكَ حقًا
فهو ليس بمزاجٍ .. لرؤيةِ أيٍ منهمْ حاليًا .. بالأخصِ وجهَ فيميليا و صوتهَا !!
سألَ نفسهُ بغموضْ :
- تحتَ أي الأشجارِ سأدفنُ يا ترى ؟! هل ستبقى مني اشلاءُ حتى ؟!
وإن بقيتْ .. هل لي جنازةٌ تبقي ذكري ؟! وتخلَّدُ عملي ؟!
عواءٌ عالٍ من جوفِ أعمقِ بقعةٍ في الغابةِ أجابه .. وأتخذَ الإجابَة التي لا يبتغِيهَا بنو البشرِ في العَادة
إبتسمَ متفهمًا يقول :
- لا .. إذن !
أثَابَ شعرهُ للخلفِ كاشفًا عن العينينِ الذهبيتينِ الجميلتينْ ، أمال رأسهُ مبتسمًا
تشقُ عيناهُ الطريقَ المظلمَ بهدوء .. وكأنمَا هو فقط يأملُ بظهورِ وحشٍ من خلفِ هذا الستارِ الظلامي
وربمَا .. هو يريدُ أن يتمَّ محقهُ من قِبَلِ وحشٍ مثله .. وحشٌ يتوقُ لدخولِ الجنة
وهو يعلمُ بإنهُ .. أشدُ اعدائِهَا .. واكثرُ شخصٍ منبوذٍ مِنهَا !
و توَّقفَ جلُ الأمرِ عندَ هذا الحد .. أن يُدركَ وصُولَ أكثر كوابيسهِ الحيةِ رُعبًا لهو أمرٌ كثيرٌ عليهِ كـ بشري !
إستطاعَ بالكادِ الهربَ من بينِ يدي كارل .. كي يحظَى بخلوةٍ يسددُ فيهَا خطاهُ صوبَ النجاةِ
من بطشِ يدي داليا !!
لم يأمَلِ التصديق .. أن تلكَ الصعلوكَة قد قطعتْ تلكَ المسافَة من أمريكَا .. إلى هنَا !!
وهو بالطبعِ يدركُ .. السببَ الذي يدفعُ فتاة المتر والاربعة والخمسين سنتيمترًا بالقدومِ إلى بريطانيَا !!
سوفَ يقطعُ رأسهَا حتمًا .. لا يستطيعُ إحتمالهَا أبدًا !!
وقد وقفَ على حافةِ الجنونِ مترنحًا .. كيفَ يُصارحُ نفسهُ بالصبرِ والإحتمَال ؟!
وأشدُّ الأوبئةِ قد تجسَّدتْ في بشريةٍ لعينةٍ مجنونة ؟!
فكَّر مرارًا .. لمَ لا يسألُ هايسانث لتقومَ بصناعةِ سلاحٍ يقتلُ تلكَ السفيهَة ...
ثم يبدأُ عقلهُ بالتذكَّر .. أن لا مجالَ للفرارِ منهَا حتى وإن ماتتْ .. ستلاحقهُ من القبرِ تلكَ المهووسَة
وخلالَ هذا الوقتِ حاول أن يعرفَ عدد الألقابِ التي اطلقهَا عليهَا .. فعجزَ عن العد !
إيليا يكادُ يجن .. ولا مفَّر إلا ان ينتحرَ شهيدًا نحو الحرية !
- سأنتحر .. إن رأيتُ إبتسامتهَا البلهاءَ مرةً أخرى !!
هو المملوكُ إذ حريٌ بهِ أن يُسارِعَ لتنفيذِ الأمرُ ولو أستَصعَبْ
و عليهِ أن يخلعَ هذا النِكْلُ حتَى لو إستخَار ليبقيَهُ على حالهِ الباقِي
سواعِدهُ اللاتي لمْ يحملنَ ثِقَل الذنبِ باتتَا ضامرتينِ منهكتينِ روحيًا ..
فلن يسمحَ لهذا الجسدِ بالإنهِيَارِ قبَل أن ينهيَ كُلَ شيءٍ بنفسهِ .. قَبَل أن ينتهِي هو بذَاتِه
و سوفَ ترافقهُ هذهِ الفِكَرة لما وراءَ القبْر .. هو الذي يقفُ على حافةٍ صخريةٍ مراقبًا الهاوِيَة الداجِيَة
النوائبُ التي تحلُ بهِ ليستْ إلا إختبارًا وهو يعلمْ .. ويعلمُ كذلكَ أن الحقَّ لفترةٍ سينضُبْ
الأمرُ كلهُ سيَان .. إلا حينَمَا بدأت مشاعرهُ تجتاحُ حتَى مجالَ عملهِ .. فـ بالله لمَا
عليهِ أن يبدأَ بسلسلةٍ روتينيةٍ من القصص ؟! الضابطُ يقعُ في حب الفتاةِ المُراقَبَةِ
وبعدهَا يفعلُ المستحيلَ كي يحمِيهَا .. كلا !
قد يكونُ الشطَرُ الأولُ صحيحًا أمَّا الثاني .. فلا أملَ بوقُوعهِ ما دامَ هو حيًّا
تبَاهَى سولومون للحظاتٍ ببعضٍ الأفكَارِ التي راودتْ عقلهُ الدامي .. وما ارتاحتْ الروحُ
القاطِنَةُ في هذا الجسدِ لمثلٍ هذا تفكِيرْ
قعَى على الأرضِ جامعًا يديهِ أمام فمهِ هامسًا لنفسهِ :
- تهمسُ الأفاعي كُلَ ليلةِ في عقلي .. أيا حياةٍ كوني أو لا تكوني !
إبتسمَ بهدوءٍ غريبْ يفطَنُ للتي تخبرهُ بالأحقِّ من الدمَارْ .. هذا الكونْ
كان لابدَّ أن يُدمَر منذُ أمدٍ طويل .. ربمَا وجودهُ خطأٌ منذُ البدايَة .. هذهِ أولَى الأفكَارِ المتلَاطِمَة !
: - تُراكَ أبدَ الدهرِ عالقًا .. طالحًا تراقبُ السبعَ من الخطَر !
ما التفت أبدًا . بقيَّ ساكنًا ريثمَا الذي وفدَ للتوِ يقفُ خلفهُ كعادتهِ بإستنادِ وقفتهِ على سيفهِ العتِيق
وما اجابَ على العِبَارة مُدركًا قصَدَ سيدهِ منهَا أتمَّ الإدرَاكْ :
- ولسُوفَ تُعطى سولومون .. ولكنَّكَ لن ترضَى أبدًا !
إتسعتْ الإبتسامةُ الفَاتِنَة .. إلتفتتَ نِصفَ إلتفاتَةٍ يجيبُ كما لو كان جزءًا من الليل :
- وما يُرضِيني إلا نِهَايةٌ على النقِيضِ مما أُريد .. سيدي !
السدادُ ليسَ لذوي العقولِ غير السوَّيةِ كـ هذا الشيطانِ بجلدٍ آدمي .. يدركُ القائدُ هذا
ويعلمُ تمامًا ، لا مجَال لهذا الشابِ بـ النجاة .. لا مجالَ لهُ بتوبةٍ ولا برضًى أو بغفران
كِلاهُمَا هالِكَان .. كِلاهُمَا ملعونان .. كِلَاهُمَا لسَقرٍ ينتميَان !
احبَّ هذا الكلام .. فقهقه بهدوءٍ .. قهقهةً حملتْ كل معنًى للشرِّ و الضلالْ !
حتى وقفَ سولومون مُعَاكِسًا لهُ في الإتجاهِ على توازٍ واحد ..
أظلمتْ عينَا الأولِ يرددُ صدًى قديمًا لفتًى كانَ الأمهَر يومًا في القتلِ والتنكِيل :
- ولن تتسِعَ السماواتُ السبعُ لكلِ هذهِ الأهدافْ .. عليَّ وعليكَ اللعنةُ يومَ ولدنَا
ويومَ نموتْ .. و يَومَ نبعثُ أحياءَ هَمْدا !
إحتَّدتِ عينَا القائِدِ بإنعدامٍ واضحٍ للرِضَا .. أيحاولُ هذا الغرُّ السخريَة من كُلِ شيء ؟!
امسكهُ على بغتةٍ من شعرهِ جارًّ إياهُ بقوةٍ سببتْ لسولومون صداعًا مريرًا ،
ركلهُ بعدهَا على بطنهِ فـ أسقطهُ أرضًا يسعلُ دمًا بصمتٍ نامٍّ عن إحتمالٍ عظيمْ !
وسوفَ يرَّوضُ هذا الحيوانَ المسعُورَ لو كلَّفهُ هذا حياتهُ في هذهِ الساعةِ بـ الذاتْ ،
ففعل .
أبرحهُ ضربًا ، ركلًا ، واسقطهُ على الأرضِ يدوسُ رأسهُ بقدمهِ .. والأخير بوجهٍ جامدٍ كـ التماثيلِ باقٍ
تعددتِ الأسبابُ والألمُ واحِد .. سولومون الذي ما توقَّف فمهُ عن النزيفِ
وقد شَجَّ رأسهُ بسيفهِ القاطِعْ الحُسَام .. لينزفَ هذا الشَجُّ بخطينِ من الدماءِ على وجههِ
إبتعدَ عنهُ بعد عشرينَ دقيقةٍ من العقابِ القوي .. رمقهُ بنظرةٍ حادةٍ وسارَ مبتعدًا
وما قد يفعلُ سولومون الآن ؟! غيرُ أن يجلسَ مستندًا على ركبةٍ واحدة متنهدًا .. ينظرُ للغيهبانِ بوجُوم !
باكُورةٌ البِدَايةِ بالنسبةِ لهَا لهيَّ غير مُطمئِنَة .. الوزرٍ اللعينُ للخطبِ الجلل !!
أمرٌ لا إستعصَاءَ في فِهمهِ إلا .. على عقلهَا هي التي تجوبُ الصحَاري بلا هِدَايَة
وكما تطرقُ الساعةُ معلنةً وقتَ الصباحِ وقفتْ تراقبُ بابَ غرفةِ عمِّهَا بـ إغضاءٍ ولهِيبْ
المُعضلةٌ في هذا كلهِ أن التوقيتَ الخاطئ .. سيكونُ ملاذًا خاطئًا !
توترتْ .. تتذكرُ ما حدث قبلَ ساعاتٍ قلائِلْ .. إرتجفتْ يدُهَا اليسرى .. وعلى وتِيرةِ الإرتجَافِ
أخرجتْ سيجارةً وأشعلتهَا بصعُوبةٍ بالِغةَ .. وباتتْ تُدخنُ بيدهَا المُرتَجِفَة .. !
هذا الرجفانُ يوتِّرُهَا .. يجعلُ من الهواءِ غليظًا .. ويثيرُ هواجِسَهَا .. أهي بهذا تقلدهُ يا ترى ؟!
أم أنَّ الأمرَ في الجيناتِ يسري ؟!
رنَّ هاتفُ هايسانثْ فجأةً ، تناولتهُ تردُ بلا إكتراثٍ واضح بعدمَا سَمِعَ الطرفُ الآخر صوتَ نفثِ الدخان :
- شاهان ، ما الذي تريده ؟!
عقدَ حاجبِيهِ بعصَبيةٍ مُجلجلَة ، سألهَا بإنكارٍ تام :
- اسمعُ صوت تدخينكِ السفيه ، أتريدين ان تموتيّ بالسَرطَان ؟!
أخرجتْ دفعةً أخرى من الدخاخينِ التي تزيلُ التوتَر وتجلبُ لهَا راحةً كادتْ تنسَاها ، ببرودٍ اخرسَته :
- لا شأن لكَ في هذا .
زفَرَ بحدةٍ يغيرُ الموضوعَ نحو الأهم :
- إفتحي الباب وحسب ، أختي الخرقَاء !!
اغلقتْ الخطَّ دون إهتمامٍ واضِح ، فتحَتِ البابَ وسمحَتْ لهُ بالدخولِ ، ففعل .
واضعًا يديهِ في جيبيهِ إلتفتَ يريدُ عِتَابهَا .. وإذ بهِ يتوقفُ ناظرًا للضماداتِ على جسدِهَا
إتسعتْ عيناهُ بخوفٍ واضحٍ يقتربُ منهَا ممسكًا إياهَا بقوةٍ سائلًا :
- ما الذي حدث ؟!!! لما هذهِ الضمادات ؟!!
نظرتْ للضماداتِ بشحوبٍ إعتياديٍ منهَا .. أغمضت عينيهَا تدخنُ لدقيقةٍ كامِلَة قبل أن تُجِيب :
- لا عليك ، لم يكُ أمرًا خطيرًا ولا الجرحُ كذلكَ خطير !
بهذهِ الكلماتِ البسيطة ، هي صنعَتْ حاجزًا يبعدهُ عن هذهِ المعضلةِ بالذاتْ
شعرَ بالطردِ من المسألةِ فتراجعَ عن السؤالِ مرةً أخرى وحكَّ رأسهُ ينطقُ محاولًا ألا ينظرَ إليهَا :
- ق-قلتي بإن هنَاكَ أمرًا تريدينَ مِنّي رؤيتهَ .. لذا أتيت !
إتسعتْ عينَاهَا قليلًا بتعجبٍ محاولةً أن تتذَّكر هذا الأمرَ .. لحينِ ببلاهةٍ قالت :
- آه .. أجل .. ذاك !
إبتسمتْ إبتسامةً ماكِرة ، أشارتْ لهُ بالذهابِ للغرفةِ ذاتِ البابِ المُوصَد ، تعَّجبَ من هذا
ولكنَّ قدميهِ حملتاهُ مباشرةً إلى حيثُ الباب . فتحه . ودخل موصدًا إياهُ خلفه ..
وخرَّ واقفًا .. أُخرِستْ كلِماتُه .. وعجزَ اللسانُ عن النطقِ والتعبِير !
كادَ رأسهُ ينفجِرْ .. كيف لا وهو يراهُ جالسًا كما كانَ قبلَ تسعِ سنين ؟!
ظنَّهُ ميتًا .. ظنَّه ميتًا .. هذا الألمْ .. أهيَّ السعادةُ التي تؤلمهُ موقظةً عَقلهُ اللاهِي في الذكرَيَاتْ ؟!
- عمِي .. آليكوس ..
بشرودٍ نطقَ إسمَه ، لينظرَ الآخرُ المنهمكُ بقراءةِ الكتَابِ إليه .. وكم إختلطتْ مشاعرهُ في تلكَ اللحَظَة
سقطَ الكِتَابُ من يديه .. ضمَّ صدره .. وكبتَ شهقةً كادتْ تفرُ من بينِ الشفتين :
- شاهان .. عزيزي !!
ما قويَّ على المكوثِ مكانَه .. هرعَ معانقًا عمَّهُ بشوقٍ كبير .. وهايسانث من خلفِ البابِ تراقبُ
خطَّ هذا المسير .. ممسكةً بـ سيجَارَتهَا .. ومبتسمةً كما لم تبتسمْ قبلًأ !
رسمَ طريقهُ قبلًا وعرفَ أن الواقِعَ لا يطابقُ الخططَ مُطلقًا
الأمرُ الذي جعلَ من الحيودِ واجبًا وتطبِيقَ العدلِ أمرًا خاطِئًا .. قد كرِهَ المرآتَان
و عَدَلَ عن توضيحِ الشُبهَات .. واكتَفَى فقط بأن يكون من الهُواةِ الذينَ يسقطونَ مع سقوطِ الألغَام
هو فقطْ .. لم تناسبهُ بذلةُ المُحتلِّين و لا استحَّبَ ان يكونَ من الغَاشمِينْ
إلا أنَّ وحسبْ .. شيئًا بسيطًا جذبهُ لهذَا الطريقِ بعدمَا قُتلتْ عائلتهُ وفرَّ من الصِينْ
الصفةُ القِيَادية .. في ذلكَ الشخصِ هي ما جلعتْ منهُ ما هو عليهِ اليومْ
ولن ينسى ذاكَ اليومَ قبلَ تسعِ سنينَ تقريبًا .. أولُ لقاءٍ وأولُ هدفٍ نظرَ إليهِ بوضوح !
وحالمَا عزمَ على أن يكونَ بيدقًا ، نالَ شرفَ أن يعملَ في نفسِ المجالِ مع صاحبِ القيَادة
يسعدهُ ذلك .. ولا يطيقُ صبرًا لحصدِ النتائجِ قريبًا ،
: - هل أنتَ بخيرٍ دانتي ؟!
صوتُ داليا أعادهُ للواقعِ بعدمَا راقبَ غروبَ يومِ الأربعاءِ البدِيعْ
كشَّر بقوةٍ يلتفتُ إليهَا بملامحَ مرعبةٍ هزَّت أمرًا ما في نفسِهَا ، تلاعبتْ بالمشاعرِ مُحَاوِلة :
- تبدو كمن سرقَ الغروبُ طياتَك .. ألحياتِكَ معنًى غيرَ الذي تُظهره ؟!
تجاهلَ كلِمَاتِهَا ، عاودَ النظرَ للغروبِ مرةً أخرى بـ إطراقِ الأباطِرةِ المُهِيبْ
لا تحبُ أن يتمَ تجاهُلهَا .. أخرجتْ سلاحَهَا بسكونٍ ما عرفَ أحدٌ به .. وحالمَا أرادتْ أن تشهرهُ
جاء صوتهُ مُحذرًا إياها :
- لن أمنعكِ حقًا أيتها اللعِينَة ولكن تذكري .. بإن لا ازالُ صينيًا يجيدُ فنونَ القِتال !
أعادت السلاحَ لمكانهِ تنظرُ إليهِ مُحتقرةً وجوده .. لما كانَ عليهِ القدومْ ؟! ماذا عن إيليا ؟! لما لم يحضر ؟!
تنهدتْ خَائِبَة الأملِ بشكلٍ واضِح ، وبقيَّ دانتي مفكرًا وحسبْ .. في كلِ شيء
ريثمَا الرياحُ تلاعبُ معطفهُ الأبيض المُختبري .. سألَ بغموضٍ وقلق :
- يومئذٍ بدأ كلُ شيءٍ .. ويومئذٍ إنتهى ! فهل نِهَايةُ ذاكَ اليومِ أتتْ يا تُرى ؟!