#81
| ||
| ||
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبَةُ الزّهرَاء في نِساء المُهاجِرِينَ وَالأنصَار قال سويد بن غفلة:لما مرضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي توفّيت فيها اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها فقلن لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا ابنة رسول الله؟ فحمدت الله، وصلّت على أبيها، ثم قالت: أصبحتُ - والله - عائفةً لدنياكنَّ(1) قاليةً لرجالكن(2) لفظتُهم بعد أن عجمتهم(3) وشنئتهم بعد أن سَبَرتهم(4) فقبحاً لفلول الحد(5) واللعب بعد الجدّ(6) وقرع الصفاة، وصدع القناة(7) وخطل الآراء، وزلل الأهواء(8) وبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون(9) لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتها(10) وحمّلتهم أوقتها(11) وشننت عليهم عارها(12) فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين(13). ويحهم!! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة(14) وقواعد النبوة والدلالة(15) ومَهبط الروح الأمين(16) والطبين بأُمور الدنيا والدين(17) إلا: ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموا من أبي الحسن(18) نقموا منه - والله - نكير سيفه(19) وقلَّة مبالاته بحتفه(20) وشدّة وطأته ونكال وقعته(21) وتنمّره في ذات الله عز وجل(22) والله لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول الله إليه لاعتلقه(23) ولَسارَ بهم سيراً سُجُحاً(24) لا يكلم خشاشُه(25) ولا يتعتع راكبه(26) ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً روّياً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه(27) ولأصدرهم بِطاناً(28) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ولم يكن يحلى من الغنى بطائل(29) ولا يحظى من الدنيا بنائل(30) غير ريِّ الناهل(31) وشبعة الكافل(32) ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب (ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(33). (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(34). إلا: هلمَّ واستمع. وما عشتَ أراك الدهر عجباً! وإن تعجب فعجبٌ قولهم!! ليت شعري إلى أيّ سِناد استندوا؟(35) وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأيَّة عروة تمسَّكوا؟ وعلى أيَّة ذريَّة أقدموا واحتنكوا؟(36) لبئس المولى ولبئس العشير. وبئس للظالمين بَدَلاً. استبدلوا - والله - الذُّنابا بالقوادم(37) والعَجُز بالكاهل(38) فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً(39) ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم!! (أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبَع أم من لا يَهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون؟)(40) أما: لعمري! لقد لقحتْ(41) فَنَظِرة ريثما تُنتج(42) ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً(43) وذعافاً مبيداً(44) هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولون(45) ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً(46) واطمئنوا للفتنة جاشا(47) وأبشروا بسيف صارم وسطوةِ معتد غاشم(48) وهرج شامل(49) واستبداد من الظالمين(50) يَدَع فيئكم زهيداً(51) وجمعكم حصيداً(52) فيا حسرةً لكم(53) وأنّى بكم؟(54) وقد عميت عليكم(55) أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون؟؟ قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن. فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء. لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد(56) ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!!! فقالت: إليكم عني! فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم(57). عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراء (عليها السلام ) لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟ أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟ أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟ خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ. وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به. فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة. والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر. فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في هذا الاجتماع ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرفين؟ (قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أن العائد يسأل المريض عن صحته وعّلته، فيجيبه المريض عما يشعر به من المرض والألم، ولكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية فالتحدث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدث عن أحوالها الصحية لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحة، فالتحدث عن السبب أولى من التحدث عن المسبب والإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول. وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال، لا تتعجب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحتها بل قالت: فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف (أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنها تبدي تنفرّها عن الحياة الدنيا وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيب، فلقد مرَّ عليك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها. (لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها. (وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم. (فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إياها، فكأنها (عليها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جرى على بنت نبيهم من الظلم والاضطهاد. (واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنهم يلعبون ألعاباً سياسية. (وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم: (وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به. (وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية. أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول. (وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس. (ولَبئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) إنها (عليها السلام) أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين. (لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) أنها (عليها السلام) تلقي المسؤولية مسؤولية الأجيال كلها على أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمت الحجة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقهم، وحيث أنهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ. (وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها. (وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أن عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت. (فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة وهناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم. ويستحق الظالمون أن يدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاهم وجرح الله أبدانهم. (ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، وقد يكون معناها الويل. (أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجب (عليها السلام) من سوء اختيارهم، أي كيف نحوّا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب. (وقواعد النبوة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها. (ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين. (والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلقة بالحياة وكذلك القضايا المتعلقة بالدين في جميع المجالات وشتى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسول (عليهم السلام) وتخص زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام). (ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأمة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأخروية. كل ذلك حين سلبت الأمةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر. فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء. والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب. إن المآسي التي شملت الأمة الإِسلامية (عبر التاريخ) مما تقشعرّ منها الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة. وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمين على مر التاريخ الإِسلامي. فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البريئة التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيهم ومناصبهم وملذاتهم وأما الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج. نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم. (وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ أي: أيَ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟ أنقصاً في العلم؟ أو جهلاً في الفتيا؟ أو سوءاً في الخلق؟ أو عاراً في الحسب؟ أو ضعفاً في الدين؟ أو عدم كفاءة في الأمور؟ أو جبناً في النفس؟ أو خِسّةً في النسب؟ أو قلّة في الشرف؟ أو بخلاً بالمال؟ أو أي عيب في مؤهلاته وكفاءاته؟ كل ذلك لم يكن، بل كان علي (عليه السَّلاَم) أعلم هذه الأمة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول وأقضاهم في الفتوى. وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خلق عظيم. وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش. وأعبد الناس في هذه الأمة. وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً. وكتلة من الفضائل. وفي أوج الشرف والعظمة. وأسخاهم كفاً، وأبذلهم للمال. إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟ إن السيدة فاطمة (عليها السلام) تجيب على هذا السؤال، وتقول: (نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود أن علياً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصياتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح. (وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنه يَقتل كذلك بُقتل، وكان علي (عليه السلام) يقول: واللَّه لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه. (وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذَّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين. (وتنمّره في ذات اللَّه عز وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام. لقد تخلص من كلامها (عليها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (عليه السلام) كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصلة في قلوبهم. فلقد قتل علي (عليه السلام) يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف علي (عليه السلام). وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم. والنجاح الكبير الذي أحرزه علي (عليه السلام) في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدم الباهر الذي كان من نصيب علي (عليه السلام) في شتى الميادين كان في قمّة فضائله. فالآيات القرآنية التي نزلت في حقه. والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره. والموفّقية التي حازها علي (عليه السلام) وحده. وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين. كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المريضة. وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلا الجو، وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل. بالله عليك انظر: لقد مرّ عليك أن جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن. أليس هذا مما يهيج الحسد في النفوس؟ ويأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أن يذهب إلى مكة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إن ربك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علياً أن يتوجه نحو مكة، ويتولى قراءة السورة على أهل مكة، ويأمر أبا بكر بالرجوع. أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب. وهكذا وهلم جرّاً، سِر مع علي (عليه السلام) عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته. والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين. ومن العجيب: أن علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً ومتجسدّاً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون علياً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟! في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علياً (عليه السلام) وقُرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟ فقال: بَهَر والله نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول: وكل شكلٍ لشكله ألفُ***أما ترى الفيل يألف الفيلا وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:وقائل كيف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فيه إنصاف : لم يك من شكلي فهاجرته***والناس أشكال وأُلاّف وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):ما تركت بدر لنت مذيقاً***ولا لنا من خلقنا طريقاً ومن الواضح أن الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس علياً بسببها ومعنى كلام الزهراء (عليها السلام): (نقموا منه والله نكير سيفه) من باب قول الشاعر:ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم***بهنَّ فلول من قراع الكتائب والمقصود: أنهم عابوا علياً على فضائله ومناقبه، وعلى انجازته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.هذا ومن المؤسف أن الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من هذا ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلى فرصة أخرى أو كتاب آخر. (والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه لاعتلقه) شبهت السيدة فاطمة (عليها السلام) المجتمع الإِسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت علياً (عليه السلام) بالدليل الذي يتقدم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة. ولم تنس السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إن القيادة الإِسلامية إنما صارت لعلي (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قام في الناس رافعاً صوته: (من كنت مولاه فعلي مولاه). وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها. (لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق علي (عليه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصور، وأفضل ما يرام. ثم وصفت (عليها السلام) نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت: (ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإن البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأن الراكب يتأذى من الحركة العنيفة، وتتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق. ثم البعير نفسه يتألم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذى الراكب والمركوب، ولكن السيدة فاطمة تقول: (لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكل سائره ولا يمل راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السير. (ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً روياً) إن الدليل الذي يتقدم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك. تقول السيدة فاطمة (عليها السلام): كان علي (عليه السلام) يقود المسيرة إلى منهل نمير والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها. والفضفاض: الواسع. (تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) النهر إذا كان ممتلئ يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر. فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء. وكلها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض والعدل يسود المجتمع والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية (بمعناها المعقول) والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع. (ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالبشع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة. (ونصح لهم سراً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أن علياً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرية وعلنية، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه. (ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامة. وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أن في العالم أفراداً يحبون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبون ليحكموا على الناس، ويتصرفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبون الرئاسة لأنها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة. وهناك أفراد (وقليل ما هم) يحبون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم. إن هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكملوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت بل إنهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها. وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل. بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمة (عليها السلام) حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق. تقول: (ولم لم يكن يحلى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً. (ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع. احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة، ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما!؟؟ كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب، نعم، إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيد ادعائها. فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة، فلقد كتب (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنيا بطمرية، ومن طعمه بِقُرصية.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين..) الخ. بقيت هنا كلمة لا ينبغي ترك ذكرها، وهي: ربما يتصور البعض أو يتبادر إلى ذهنه أن علياً الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بأنه لو كان يقود المسيرة لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه (إلى آخر أوصافه) فلماذا حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصة الخلافة حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأمة الإِسلامية في عهده؟؟ نجيب على هذا بما يلي: لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرفات غير مرضية، ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً لرأيت كمية وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا. ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام، ولكننا نكتفي هنا بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقية الأمثلة: خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته. وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أي عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، والرجل لم يتزوج بها. هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدراتهم؟ وكم تتبدل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟ وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)؟ إن الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد علي (عليه السلام) وهي مفككة العرى محطمة الجوانب، مشوهة السمعة. ولما أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدم وساق، وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأول والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة، وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار. نحن لا زلنا في شرح الخطبة: (ولبان لهم الزاهد من الراغب) إن السيدة فاطمة (عليها السلام) لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، ويظهر الراغب الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله. (والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرفاته. ثم إنها (عليها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمة، فقالت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(58). ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟ وتقصد السيدة فاطمة أن الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنة نعيم، ولكنهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم، وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(59)وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأمة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذة ومضاعفاتها. (ألا هلم واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة الأولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها. (وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر. (وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمة (عليها السلام) هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة والأمر العجيب هو ما يلي: (ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟ وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟) إن الناس كانوا يستندون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره، لأنه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) تنازلوا إلى مستوى نازل جداً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهلات. فالذي كان يستند ويعتمد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يتمسك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة. تتعجب السيدة فاطمة (عليها السلام) ويتعجب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحية والنفوس المعتدلة والقلوب السلمية من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين. (وبأية عروة تمسكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما) ومعنى الحديث أن الرسول أمر المسلمين أن يتمسكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأية عروة تمسكوا وتعلقوا واعتصموا. (وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أسرة على وجه الأرض؟ أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟ الذين أمرهم الله بمودتهم بقوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى). الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك، الذين مَن أحبّهم فقد أحب الله، ومن آذاهم فقد آذى الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله. فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذرية رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّأوا الناس على إيذائهم، وقد حكم الله تعالى بين عباده. بأي دين؟ وبأية شريعة؟ وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ أنا لا أدري، ولعل القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات. (ولبئس المولى ولبئس العشير) اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الحج آية 13: (يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) أي أن الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة. (وبئس للظالمين بدلاً) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً). (استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل) من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقية العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو قوتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد. ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طائفتان من أُمتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني. وإننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما وصلوا إلى القمة وحازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجعتهم على العمل. وهكذا نجد الشعوب المتأخرة والمتفسخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم). وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول: (استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم) إن التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة. شبّهت السيدة فاطمة (عليها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركب من عشر ريشات كبار، ويقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا). فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القوية في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء. فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها. (والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال. والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أن القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى من لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأمورها لعدم توفر الإمكانيات فيه، وعجزه عما يتطلبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة. إنهم باعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وباختيار منهما، ولكنهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يقاس بعليّ (عليه السلام) علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات. (فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) إنها تدعو على أقوام الذل والهوان، وهو إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرفاتهم. والحال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهل يشعر المنحرف أنه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنه على الحق وأن غيره على الباطل، ولا يؤثر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان. وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى: (قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)(60)ومن قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)(61). ثم أدمجت آية أخرى في كلامها بالمناسبة فقالت: ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)(62). هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمة؟ وهنا تقصد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من هذه المقارنة أن علياً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهب، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا كاملين في العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة، والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره. (أما لعمري! لقد لقحتْ) إن الميكروبات التي تتكون في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثر على الكريات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كله. تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسع والانتشار. (فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلها. وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصية متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام وهكذا تتبدل المفاهيم، وتتغير المقاييس. (ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً) الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكن الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء. انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء. تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين. وتجد التلال التي تكونت من جثثهم. فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوة معهم ضرباً وسباً وتبعيداً وتهديداً. وأخيراً أورثت أعماله في المسلمين هياجاً عاماً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وهكذا طلحة وابن العاص، وأخيراً قتلوا عثمان. وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضده خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!. ثم نهض معاوية زاعماً أنه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صفين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!. ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان. ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة عليّ في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل. خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى: 25.000 + 90.000 + 4000 + 30.000 = 149000. هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء، وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات. وهل انتهت المأساة هنا؟ لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعر منها الجلود، وسوف نذكر بعضها. نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد. ليس هذا التنبؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أصول الصحة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارة فإن الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة. وكذلك السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيئة التي يؤول إليها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!. تقول: (ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق. (وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين. (هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين. (ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون. (ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً) يقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك وأمثالها من الكلمات التي يراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة. (واطمأنوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يراد به العكس، فإن القلب لا يسكن للفتنة وإنما يسكن للأمان والسلامة. (وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس. (وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور. (واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين. (يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج حقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أن السلطة التي تحكم عليكم يتصرفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم. وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!. ولقد تحقّق كل هذا. وهذا كله، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فوالله أنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول: لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها: لو أردنا أن نذكر - هنا ما جرى على الأمة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة. ولكننا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدث عما أخبرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلبوهم القدرة والإمكانية. نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس. وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها: من الصحيح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم ولا السّنّة النبوية ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية ولا نظام العدل ولا تعاليم الإسلام. بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم. فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي. ولعلك - أيها القارئ تتصور وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعباسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل واعتبرت كلامي هذا أقل من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!. إنهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!. وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول: 1 - عائفة: كارهة. 2 - قالية: مبغضة. 3 - لفظتهم: رميت بهم. عجمتهم: مضغتهم. 4 - شنئتهم: أبغضتهم. سبرتهم: عرفت عمقهم، أي تأمّلتهم. 5 - فلول الحد: ثلمة حدّ السيف. 6 - الجِدّ - بكسر الجيم -: ضد الهزل واللعب. 7 - قرع الصفاة: ضرب الضخرة الملساء، وصدع القناة: استرخاء الرمح. وقيل: الصدع: الشق. 8 - خطل الآراء: فسادها. وزلل الأهواء: انحراف الميول والرغبات. 9 - سورة المائدة: آية 80. 10 - قلّدتهم: جعلت في أعناقهم، ربقتها: حبلها. 11 - حمّلتهم أوقتها: حمّلتهم الثقل والمسؤولية. 12 - شننت: أرسلت. والعار: السبة والعيب. 13 - الجدع - بفتح الجيم -: قطع الأنف. والعقر - بفتح العين -: الجرح. والسحق: البعد، وكلها في مقام الدعاء عليهم. 14 - زحزحوها: نحّوها. والرواسي: الثوابت. 15 - قواعد البيت: أسسه. 16 - مهبط الروح الأمين: محل نزول جبرئيل. 17 - الطبين: الحاذق الفطن العارف. 18 - نقموا منه: عابوا وكرهوا. 19 - نكير سيفه: لا يعرف سيفه أحداً ولا يفرّق بين الشجاع وغيره. 20 - الحتف: الهلاك. 21 - وطأته: أخذته. ونكال وقعته: إصابة صدمته. 22 - التنمّر: الغضب، والمقصود من ذات الله أي لوجه الله. 23 - تكافّوا: صرف بعضهم بعضاً. والزمام: مقود البعير. أو الخيط الذي يُشدّ في ثقب أنف البعير. 24 - السير السجح: السهل اللين. 25 - لا يكلم: لا يجرح. والخشاش - بكسر الخاء - الخيط الذي يدخل في عظم أنف البعير. 26 - يتعتع راكبه: يقلق ويتحرك حركة عنيفة. 27 - المنهل: محل ورود الماء. والنمير: الماء العذب السائغ النامي للجسد، والروي: الكثير. والفضفاض: الواسع. تطفح: تمتلئ حتى تفيض. ضفّتاه: جانباه. يترنّق: يتكدّر. 28 - بطاناً: عظام البطون من كثرة الشرب. 29 - يحلى: يصيب ويستفيد. والطائل: كثير الفائدة. 30 - يحظى: يظفر. والنائل: العطاء. 31 - الناهل: العطشان. 32 - الكافل - هنا -: المحتاج إلى الطعام. 33 - سورة الأعراف: 96. 34 - سورة الزمر: آية 51. 35 - ليت شعري: ليتني علمت. والسناد - بكسر السين -: ما استندت إليه من حائط أو غيره. 36 - احتنكوا: استولوا. 37 - الذناب: ذنب الطائر. القوادم: ريشات في مقدم الجناح. 38 - العجز - بفتح العين وضم الجيم -: المؤخر من كل شيء. والكاهل: ما بين الكتفين. 39 - رغماً: كناية عن الذل: والمعاطس: جمع معطس (مكان العطسة) وهو الأنف. 40 - سورة يونس: آية 35. 41 - لقحت: حملت 42 - فنظرة: فمهلة. ريثما: مقدار ما. وتنتج: تلد. 43 - القعب: إناء ضخم. والدم العبيط: الطري. 44 - الذعاف: السم السريع الفناء. والمبيد المهلك. 45 - التالون: التابعون. والغب: العاقبة. 46 - طابت نفسه عن كذا: رضيت به غير كارهة. 47 - الجاش: القلب. 48 - المعتدي: الجائر: والغاشم: الظالم. 49 - الهرج: الفوضى، والقتل، واختلاط الأمور. 50 - الاستبداد: التفرد بالشيء من غير منازع. 51 - الفيء: الخراج والغنيمة. وزهيداً: قليلاً. 52 - جمعكم: زرعكم. 53 - الحسرة: التلهف على الشيء الفائت. 54 - كيف يصنع بكم. 55 - عميت: التبست. 56 - نبرم العهد: نبايع لأبي بكر. 57 - التعذير: هو التقصير ثم الاعتذار. والتقصير: التواني عن الشيء 58 - سورة الأعراف: آية 96. 59 - سورة الزمر: آية 51. 60 - سورة الكهف: آية 104. 61 - سورة البقرة الآيتان 11 2. 62 - سورة يونس: آية 35. v |
#82
| ||
| ||
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبَةُ الزّهرَاء في نِساء المُهاجِرِينَ وَالأنصَار قال سويد بن غفلة:لما مرضت فاطمة (عليها السلام) المرضة التي توفّيت فيها اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يَعُدْنَها فقلن لها: كيف أصبحتِ من علَّتك يا ابنة رسول الله؟ فحمدت الله، وصلّت على أبيها، ثم قالت: أصبحتُ - والله - عائفةً لدنياكنَّ(1) قاليةً لرجالكن(2) لفظتُهم بعد أن عجمتهم(3) وشنئتهم بعد أن سَبَرتهم(4) فقبحاً لفلول الحد(5) واللعب بعد الجدّ(6) وقرع الصفاة، وصدع القناة(7) وخطل الآراء، وزلل الأهواء(8) وبئس ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون(9) لا جرَمَ لقد قلّدتهم ربقتها(10) وحمّلتهم أوقتها(11) وشننت عليهم عارها(12) فجدعاً وعَقراً وسُحقاً للقوم الظالمين(13). ويحهم!! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة(14) وقواعد النبوة والدلالة(15) ومَهبط الروح الأمين(16) والطبين بأُمور الدنيا والدين(17) إلا: ذلك هو الخسران المبين وما الذي نقموا من أبي الحسن(18) نقموا منه - والله - نكير سيفه(19) وقلَّة مبالاته بحتفه(20) وشدّة وطأته ونكال وقعته(21) وتنمّره في ذات الله عز وجل(22) والله لو تكافّوا عن زمام نَبَذَه رسول الله إليه لاعتلقه(23) ولَسارَ بهم سيراً سُجُحاً(24) لا يكلم خشاشُه(25) ولا يتعتع راكبه(26) ولأوردهم منهلاً نميراً، صافياً روّياً، فضفاضاً تطفح ضفّتاه، ولا يترنق جانباه(27) ولأصدرهم بِطاناً(28) ونصح لهم سرّاً وإعلاناً ولم يكن يحلى من الغنى بطائل(29) ولا يحظى من الدنيا بنائل(30) غير ريِّ الناهل(31) وشبعة الكافل(32) ولَبَانَ لهم الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب (ولو أنَّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(33). (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(34). إلا: هلمَّ واستمع. وما عشتَ أراك الدهر عجباً! وإن تعجب فعجبٌ قولهم!! ليت شعري إلى أيّ سِناد استندوا؟(35) وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأيَّة عروة تمسَّكوا؟ وعلى أيَّة ذريَّة أقدموا واحتنكوا؟(36) لبئس المولى ولبئس العشير. وبئس للظالمين بَدَلاً. استبدلوا - والله - الذُّنابا بالقوادم(37) والعَجُز بالكاهل(38) فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صُنعاً(39) ألا: إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ويحهم!! (أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبَع أم من لا يَهدي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون؟)(40) أما: لعمري! لقد لقحتْ(41) فَنَظِرة ريثما تُنتج(42) ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً(43) وذعافاً مبيداً(44) هنالك يخسر المبطلون ويعرف التالون غبّ ما أسَّسه الأولون(45) ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً(46) واطمئنوا للفتنة جاشا(47) وأبشروا بسيف صارم وسطوةِ معتد غاشم(48) وهرج شامل(49) واستبداد من الظالمين(50) يَدَع فيئكم زهيداً(51) وجمعكم حصيداً(52) فيا حسرةً لكم(53) وأنّى بكم؟(54) وقد عميت عليكم(55) أنُلزِمكموها وأنتم لها كارهون؟؟ قال سويد بن غفلة: فأعادت النساء قولها على رجالهن. فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء. لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد(56) ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!!! فقالت: إليكم عني! فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم(57). عيَادَةُ النِّساء لِفَاطمِة الزهْراء (عليها السلام ) لا نعلم - بالضبط - السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟ أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟ أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟ خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ. وعلى كل تقدير فلا يعلم - أيضاً - عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به. فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة. والنساء يشكلّن نصف المجتمع أو أكثر من النصف، وكل امرأة مرتبطة برجلٍ من زوج أو أب أو أخ أو ابن، فهي بإمكانها أن تقوم بدورٍ فعّال في المجتمع وخاصة في حقل الدعاية والإعلام والنشر. فلماذا تسكت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في هذا الاجتماع ولماذا لا تذكر استياءها من أولئك المتطرفين؟ (قلن لها: كيف أصبحتِ من علتّكِ يا ابنة رسول الله؟) هكذا جرت العادة والآداب أن العائد يسأل المريض عن صحته وعّلته، فيجيبه المريض عما يشعر به من المرض والألم، ولكن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لم تجبهن عن مرضها وتدهور صحتها، بل أجابتهن عن آلامها النفسية، ومصائبها الشخصية فالتحدث عن هذه الأمور أولى وأوجب من التحدث عن أحوالها الصحية لأن لتلك المصائب هي التي جرَّت العلّة والمرض إلى السيدة فاطمة وسلبتها العافية والصحة، فالتحدث عن السبب أولى من التحدث عن المسبب والإخبار عن العلة أفضل من الإخبار عن المعلول. وهنا أجابت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) على أسئلة النسوة كما تقتضي الحال، لا تتعجب إن كانت السيدة فاطمة ما نسيت أصول الفصاحة والبلاغة والأدب الرفيع والمستوى الأعلى بسبب انحراف صحتها بل قالت: فاطِمةُ الزهْرَاءُ تَضَعُ النقَاطَ عَلَى الحرُوف (أصبحتُ - والله - عائفة لدنياكن) نعم، إنها تبدي تنفرّها عن الحياة الدنيا وكراهتها لذلك المجتمع الذي لا يؤمن بالقيم.(قالية لرجالكن) ويحقّ لها أن تبدي اشمئزازها وغضبها على رجال المدينة، الذين كان موقفهم تجاه السيدة فاطمة الزهراء موقفاً غير طيب، فلقد مرَّ عليك أنهم أبدوا انزعاجهم من بكاء السيدة فاطمة الزهراء على فقد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ولم يتجاوبوا معها في إسعافها والوقوف معها. (لفظتهم بعد أن عجمتهم) أي رميتهم من فمي بعد أن عضضتهم، كما يرمي أحدنا اللقمة من فمه ويشمئز منها. (وشنئتهم بعد أن سبرتهم) أي أبغضتهم ومللتهم بعد أن اختبرتهم، وكرهتهم بقلبي بسبب سوء تصرفاتهم. (فقبحاً لفلول الحد) شبّهت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) رجال أهل المدينة بالسيف الذي انثلم حدّه فلا يقطع، إشارة إلى قعودهم عن نصرتها، وخذلانهم إياها، فكأنها (عليها السلام) تستقبح فيهم سكوتهم عما جرى على بنت نبيهم من الظلم والاضطهاد. (واللعب بعد الجد) والمقصود: عدم المبالاة بالحق بعد اهتمامهم بذلك، فإنهم كانوا جادّين في نصرة الإسلام، ولكن الآن صاروا وكأنهم يلعبون ألعاباً سياسية. (وقرع الصفاة) والمراد: التذلل والانقياد لكل مَن قادهم: (وصدع القناة) وفي نسخة: (خور القناة) إشارة إلى استرخاء الرمح بسبب انشقاقه، وينبغي أن يكون الرمح صلباً حتى يمكن الطعن به، وإذا كان الرمح رخواً لا يمكن أن يُطعن به. (وخطل الآراء) وفي نسخة: (أفول الرأي) وفي نسخة أخرى: (خطل القول) وعلى كل تقدير فهو إشارة إلى انحراف آرائهم وفسادها، وشذوذ مواقفهم السلبية، والإيجابية. أما مواقفهم السلبية فهي تجاه أهل بيت نبيهم (عليهم السلام) وعدولهم عن أهل البيت إلى غيرهم، وأما الإيجابية فاعترافهم بالسلطة المناوئة لآل الرسول. (وزلل الأهواء) ما أقبح تلك الرغبات المنحرفة التي لعبت بمقدرات المسلمين على مرّ التاريخ وعلى مرّ القرون، وتلك العثرات المنبعثة عن اتباع الأهواء الضالة المضلة، ومن مشتهيات الأنفس. (ولَبئْسَ ما قدَّمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) هذه الآية من سورة المائدة آية (80) وقبلها: (لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) إنها (عليها السلام) أدمجت هذه الآية في حديثها للمناسبة بين الموردين، ويظهر وجه المناسبة بالمقارنة بين الآيات وبين موقف أولئك المتخاذلين. (لا جرم لقد قلّدتهم ربقتها) أنها (عليها السلام) تلقي المسؤولية مسؤولية الأجيال كلها على أعناق أولئك الأفراد، إذ أنها لما حضرت في المسجد وخطبت، وأتمت الحجة على الحاضرين واستنجدت بالمهاجرين والأنصار فثبت التكليف الشرعي في حقهم، وحيث أنهم لم ينصروها فهم مسؤولون عن مضاعفات ذلك الخذلان أمام الله وأمام التاريخ. (وحمَّلتهم أوقتها) أي حمّلتهم ثقل المسؤولية وشومها. (وشننت عليهم عارها) شننت الماء على التراب: أرسلته وصببته بصورة متفرقة، وفي نسخة: (سننت) أي صببت بصورة متصلة غير متفرقة، وعلى كل تقدير فالمعنى، أن عليهم سبّة التاريخ وعاره للأبد بسبب ذلك الجفاء الذي أبدوه تجاه أهل البيت. (فجدعاً وعقراً وسحقاً للقوم الظالمين) وفي نسخة أخرى: (فجدعاً وعقراً وبُعداً) هذه كلمات دعاء عليهم بسبب ظلمهم لآل الرسول، والظلم: وضع الشيء في غير ما وضُع له، والظلم على درجات ومراتب، فهناك الظلم بالنملة وهناك الظلم بالأمة الإسلامية عبر التاريخ، والظلم بأولياء الله الذين يرضى الله لرضاهم، ويغضب لغضبهم. ويستحق الظالمون أن يدعى عليهم بالجدع والعقر والبُعد، فيقال: جدعهم الله جدعاً وعقرهم الله عقراً، ومعناهما: قطع الله أيديهم وآذانهم وشفاهم وجرح الله أبدانهم. (ويحهم) ويح: كلمة تستعمل في مقام التعجب، وقد يكون معناها الويل. (أنَّى زحزحوها عن رواسي الرسالة؟) وفي نسخة: (زعزعوها) تتعجب (عليها السلام) من سوء اختيارهم، أي كيف نحوّا خلافة رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مواضعها الثابتة التي هي بمنزلة الجبال لحركة الأرض وسيرها بصورة منظمة وحفظها من الاضطراب. (وقواعد النبوة) القواعد: جمع قاعدة وهي - هنا - الأساس للبناء، فكما أن البناء إذا بني على غير أساس ينهدم فكذلك الخلافة إذا وُضعت في غير موضعها اللائق بها تنهار معنوياً، ويختل نظامها، وتضطرب أركانها. (ومهبط الروح الأمين) كان جبرئيل يهبط في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبيوت أهل بيته، وبيت فاطمة مهبط الروح الأمين. (والطبين بأمر الدنيا والدين) الفطن الحاذق بأمور الدنيا المتعلقة بالحياة وكذلك القضايا المتعلقة بالدين في جميع المجالات وشتى الأحكام، وتقصد بذلك أهل بيت الرسول (عليهم السلام) وتخص زوجها الحكيم العظيم الإِمام أمير المؤمنين (عليه السلام). (ألا: ذلك هو الخسران المبين) أي والله، خسران واضح خسرته الأمة الإِسلامية في جميع مجالات حياتها من الحياة الفردية والزوجية والعائلية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية والعمرانية والدينية والدنيوية والأخروية. كل ذلك حين سلبت الأمةُ السلطةَ والقدرةَ من أهل بيت الرسول، وتصرّف في القيادة الإِسلامية أفراد كانوا هم والإِسلام على طرفي نقيض، إذ كان الإِسلام شيئاً آخر. فكانت إراقة الدماء البريئة أسهل وأهون عندهم من إراقة الماء. والتلاعب بالأحكام الإِلهيّة والقوانين الإِسلامية كالتلاعب بالكرة وغيرها من الألاعيب. إن المآسي التي شملت الأمة الإِسلامية (عبر التاريخ) مما تقشعرّ منها الجلود، وتضطرب منها القلوب، كل ذلك من جرّاء القيادة غير الرشيدة التي تسلّمها أفراد من هذه الأمة. وليس في هذا الكتاب مجال لاستعراض تلك المجازر الجماعية، والمذابح المؤلمة التي قام بها بعض حكام المسلمين على مر التاريخ الإِسلامي. فقد ستروا الكرة الأرضية بقشرة من المقابر التي ضمّت الآلاف المؤلفة من النفوس البريئة التي كانت ضحايا لأَهواءِ أفراد، وفداءً لكراسيهم ومناصبهم وملذاتهم وأما الكبت والاضطهاد والحرمان والجوع والبؤس الذي ساد العباد والبلاد فحدّث ولا حرج. نعم، هذا هو الخسران المبين، ولا يزال الحبل ممدوداً حتى اليوم وبعد اليوم. (وما الذي نقموا من أبي الحسن؟ أي: أيَ شيء عابوه من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حتى نحوّه عن السلطة، وقدّموا غيره عليه؟ أنقصاً في العلم؟ أو جهلاً في الفتيا؟ أو سوءاً في الخلق؟ أو عاراً في الحسب؟ أو ضعفاً في الدين؟ أو عدم كفاءة في الأمور؟ أو جبناً في النفس؟ أو خِسّةً في النسب؟ أو قلّة في الشرف؟ أو بخلاً بالمال؟ أو أي عيب في مؤهلاته وكفاءاته؟ كل ذلك لم يكن، بل كان علي (عليه السَّلاَم) أعلم هذه الأمة جمعاء، وهو باب مدينة علم الرسول وأقضاهم في الفتوى. وأشبه الناس خلقاً بالرسول الذي كان على خلق عظيم. وابن شيخ الأَباطح: أبي طالب، مؤمن قريش. وأعبد الناس في هذه الأمة. وأشجعهم نفساً، وأقواهم قلباً، وأكثرهم جهاداً. وكتلة من الفضائل. وفي أوج الشرف والعظمة. وأسخاهم كفاً، وأبذلهم للمال. إذن فما هو السبب في صرف الخلافة عنه إلى غيره؟ إن السيدة فاطمة (عليها السلام) تجيب على هذا السؤال، وتقول: (نقموا منه - والله - نكير سيفه) أي عابوا شدّة سيفه، والمقصود أن علياً كان قد قتل في الحروب والغزوات رجالات هؤلاء وأسلافهم، وحطّم شخصياتهم، فكانوا يكرهونه بسبب سيفه الخاطف للأرواح. (وقلة مبالاته بحتفه) أي عدم اهتمامه واكتراثه بالموت، فالمجاهد الذي ينزل إلى جبهة القتال ينبغي أن يكون قليل المبالاة بالموت، فكما أنه يَقتل كذلك بُقتل، وكان علي (عليه السلام) يقول: واللَّه لا يبالي ابن أبي طالب أوقَع على الموت أو وقع الموت عليه. (وشدِّة وطأتهُ ونكال وقعته) يقال: فلان شديد الوطأة أي شديد الأخذ وشديد القبض، والمقصود قوة العضلات ومعرفة القتال، ونكال الوقعة أي كان يصنع صنيعاً يحذَّر غيره ويجعله عبرة له، أي كانت ضربته وصدمته للأعداء نكالاً أي يورث الحذر والعبرة للآخرين. (وتنمّره في ذات اللَّه عز وجل) النمر شديد الغضب، إذا غضب لنفسه لم يبال: قلّ الناس أم كثروا، ولا يردّه شيء، ولا يحول دون هدفه حائل ولا يمنعه مانع، والرجل الشجاع الذي يجاهد بلا مبالاة ولا خوف، بل بكل غضب وشجاعة يقال في حقه: تنمّر، أي صار شبيهاً بالنمر في الاقتحام. لقد تخلص من كلامها (عليها السلام) أن سبب انحراف الناس عن علي (عليه السلام) كان لأغراض شخصية، وأمراض نفسية متأصلة في قلوبهم. فلقد قتل علي (عليه السلام) يوم بدر وأُحد وحنين والخندق وغيرها عدداً كبيراً لا يستهان به من أقطاب الشرك، ورجالات الكفر، وشخصيات الجاهلية، أمثال: عتبة وشيبة والوليد وعمرو بن عبد ودّ وعقبة بن الوليد وغيرهم، وأكثر قبائل العرب كانت موتورة بسيف علي (عليه السلام). وحتى، وبعد أن أسلمت تلك القبائل كانت رواسب الحقد والعداء كامنة في نفوسهم. والنجاح الكبير الذي أحرزه علي (عليه السلام) في جميع المجالات من الطبيعي أن يهيّج الحسد في القلوب، والتقدم الباهر الذي كان من نصيب علي (عليه السلام) في شتى الميادين كان في قمّة فضائله. فالآيات القرآنية التي نزلت في حقه. والأحاديث النبوية التي شملته دون غيره. والموفّقية التي حازها علي (عليه السلام) وحده. وخصائصه التي امتاز بها عن غيره من العالمين. كان لها أسوأ الأثر، في النفوس المريضة. وكانت تلك الرواسب والآثار كامنة في الصدور، كأنها نار تحت رماد حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلا الجو، وارتفع المانع فعند ذلك زال الرماد، وظهرت النار، وجعلت تلتهب وتشتعل. بالله عليك انظر: لقد مرّ عليك أن جماعة من الصحابة خطبوا السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) فرفضهم النبي، وحينما خطبها علي من الرسول وإذا به يجد الترحيب والتجاوب على أحسن ما يمكن. أليس هذا مما يهيج الحسد في النفوس؟ ويأمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أبا بكر أن يذهب إلى مكة بسورة البراءة ليقرأها على أهل مكة، ويخرج أبو بكر بالسورة متوجهاً نحو مكة، فينزل جبرئيل على الرسول قائلاً: إن ربك يأمرك أن تبلّغ هذه السورة بنفسك، أو يُبلّغها رجل منك. فيأمر النبي علياً أن يتوجه نحو مكة، ويتولى قراءة السورة على أهل مكة، ويأمر أبا بكر بالرجوع. أليس هذا الأمر يهيج الحسد في القلوب. وهكذا وهلم جرّاً، سِر مع علي (عليه السلام) عبر تاريخ حياته تجده المقدَّم على غيره في كافة المجالات، ويمطره جبرئيل بآيات من الذكر الحكيم تقديراً لبطولاته، وتنويهاً لإنجازاته، وتقبّلاً لصدقاته، ومدحاً لخدماته. والمسلمون يقرأون تلك الآيات آناء الليل وأطراف النهار راضين أو مرغمين. ومن العجيب: أن علياً كان يخوض غمار الحروب بأمر الرسول، ولأجل التحفظ على حياة الرسول، الرسول الذي كان الإسلام متمثلاً ومتجسدّاً فيه وقائماً به، فكيف كان الناس يكرهون علياً وهو الجندي ولا يكرهون الرسول وهو القائد للجيش؟! في البحار عن أبي زيد النحوي قال: سألت الخليل بن أحمد العروضي فقلت: لِمَ هجر الناس علياً (عليه السلام) وقُرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرباه، وموضعه من المسلمين موضعه، وعناؤه في الإسلام عناؤه؟؟ فقال: بَهَر والله نورُه أنوارهم، وغلبهم على صفو كل منهل، والناس إلى أشكالهم أميَل، أما سمعت الأول يقول: وكل شكلٍ لشكله ألفُ***أما ترى الفيل يألف الفيلا وأنشدنا الرياشي عن العباس بن الأحنف:وقائل كيف تهاجرتما؟***فقلت قولاً فيه إنصاف : لم يك من شكلي فهاجرته***والناس أشكال وأُلاّف وقال ابن عمر لعلي (عليه السلام): كيف تحبك قريش وقد قتلت في يوم بدر وأُحد من ساداتهم سبعين سيداً، تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):ما تركت بدر لنت مذيقاً***ولا لنا من خلقنا طريقاً ومن الواضح أن الأمور ليست عيوباً ونقائص حتى يكره الناس علياً بسببها ومعنى كلام الزهراء (عليها السلام): (نقموا منه والله نكير سيفه) من باب قول الشاعر:ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم***بهنَّ فلول من قراع الكتائب والمقصود: أنهم عابوا علياً على فضائله ومناقبه، وعلى انجازته وخدماته وعلى شجاعته وتضحياته، وجهاده وبطولاته، وليست هذه عيوباً حتى يُعاب علي عليها.هذا ومن المؤسف أن الموضوع يناسب الشرح والتفصيل أكثر من هذا ولكن رعاية لأسلوب الكتاب نرجئ البحث إلى فرصة أخرى أو كتاب آخر. (والله لو تكافوّا عن ذمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليه لاعتلقه) شبهت السيدة فاطمة (عليها السلام) المجتمع الإِسلامي أو الأمة الإسلامية بالقافلة، وشبّهت الخلافة والقيادة الإِسلامية بالزمام وهو المقود، أي الحبل الذي يقاد به البعير، وشبّهت علياً (عليه السلام) بالدليل الذي يتقدم القافلة، ويأخذ بزمام البعير ليقود المسيرة. ولم تنس السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن تقول: (نبذه رسول الله إليه) أي إن القيادة الإِسلامية إنما صارت لعلي (عليه السلام) بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قام في الناس رافعاً صوته: (من كنت مولاه فعلي مولاه). وبعد هذا تقسم بالله قائلة: (والله) فالمسألة مهمة وعظيمة جدّاً جدّاً وتستحق أن يقسم الإِنسان بالله لأجلها. (لو تكافّوا) أي كفّوا أيديهم، أي منع بعضهم بعضاً، بحيث لو أراد أحدهم تناوله منعه الآخرون (لاعتلقه) أي اعتلق علي (عليه السلام) الزمام، أي قام بالواجب كما ينبغي وقاد المسيرة على أحسن ما يتصور، وأفضل ما يرام. ثم وصفت (عليها السلام) نتائج تلك القيادة الرشيدة لو كان يفسح لها المجال، وذكرت الفوائد والمنافع والخيرات والبركات التي كانت تعمّ الأمة الإِسلامية على مرّ القرون والأجيال فقالت: (ثم لسارَ بِهم سيراً سجحاً) أي سار القائد بالمسيرة سيراً ليناً سهلاً، بكل هدوء وطمأنينة، فإن البعير إذا سار بالراكب سيراً عنيفاً فلا بدَّ وأن الراكب يتأذى من الحركة العنيفة، وتتحطم أعصابه لما في ذلك من الإزعاج والقلق. ثم البعير نفسه يتألم حينما يجاذبه الراكب الحبل الذي قد دخل في ثقب أنفه وربما يجرح أنفه أيضاً، فيتأذى الراكب والمركوب، ولكن السيدة فاطمة تقول: (لا يكلم خشاشه، ولا يتعتع راكبه) وفي نسخة: (ولا يكل سائره ولا يمل راكبه) أي الحبل أو الخشب الذي جعل في أنف البعير ويقال له (الخشاش) لا يجرح أنف البعير، ولا ينزعج راكب البعير، والمقصود: سلامة الراكب عن كل مشقة حال السير. (ولأوردهم منهلاً نميراً فضفاضاً) وفي نسخة: (منهلاً روياً) إن الدليل الذي يتقدم القافلة لا بد وأن ينزل بهم منزلاً حسناً، ومكاناً لائقاً للراحة، على شاطئ نهرٍ أو عين ماء، ليأخذوا حاجتهم من الماء، ويسقوا دوابهم وغير ذلك. تقول السيدة فاطمة (عليها السلام): كان علي (عليه السلام) يقود المسيرة إلى منهل نمير والمنهل: المورد أي محل ورود الإِبل، والنمير: العذب، النابع من عين لا ينقطع ماؤها. والفضفاض: الواسع. (تطفح ضفتاه، ولا يترنق جانباه) النهر إذا كان ممتلئ يفيض جانباه وإذا كان عذباً لا يتكدر جانباه بالطين كما هو المشاهد من تكدر الماء بالطين على جوانب النهر، بل وحتى البحر. فالكثرة والسعة في المجرى والعذوبة والنظافة وعدم التلوث بالطين وغيره من صفات ذلك الماء. وكلها إشارات وكنايات إلى الحياة السعيدة التي كان الناس يعيشونها لو كان الأمر بيد الإِمام أمير المؤمنين، فالخيرات كانت تشمل أهل الأرض والعدل يسود المجتمع والسلامة كانت تعمّ الجميع، والرفاهية والاستقرار والطمأنينة والأمان والحرية (بمعناها المعقول) والسعادة في الدنيا، والنعيم في الآخرة كان من نصيب الجميع. (ولأصدرهم بطاناً) وكانت نتيجة ذلك الورود هو الصدور من المنهل، والخروج من ذلك المورد بالبشع والارتواء، فلا جوع ولا حرمان، ولا فقر ولا مسكنة. (ونصح لهم سراً وإعلاناً) النصح: حُب الخير، وعدم الغش، والمعنى: أن علياً كان يسعى في إسعادهم وجلب الخير لهم بصورة سرية وعلنية، أي ما كان يطلب من وراء تلك القيادة إلاَّ الخير للناس لا لنفسه. (ولم يكن يحلَّى من الغنى بطائل، ولا يحظى من الدنيا بنائل، غير ريّ الناهل وشبعة الكافل) وهنا تذكر السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) موقف زوجها من تلك القيادة والزعامة العامة. وقبل كل شيء: ينبغي أن لا ننسى أن في العالم أفراداً يحبون القيادة والرئاسة لأنفسهم، أي يحبون ليحكموا على الناس، ويتصرفوا كما يشاءون وكما يريدون، ويحبون الرئاسة لأنها وسيلة تحقيق أهدافهم وأُمنياتهم الشخصية فهم يتنعمون من وراء تلك الرئاسة بشتى أنواع النعم، ويختارون لأنفسهم أفضل حياة. وهناك أفراد (وقليل ما هم) يحبون الرئاسة والقيادة ليخدموا الناس، ويصلحوا المجتمع، ويجلبوا الخير والسعادة للشعوب، ليعيش الناس آمنين مطمئنين، ولتكون لهم حياة مشفوعة بالراحة والخير والنعيم. إن هذه الطائفة من أولياء الله لا يشعرون بالنقص في أنفسهم كي يكملوا أو يستروا ذلك النقص بالفخفخة والجبروت بل إنهم يشعرون بالكمال في أنفسهم، فهم في غنى عن الناس، والناس بحاجة إليهم، إن هؤلاء لو حكموا لنفعوا الناس وأصلحوهم، وأمنّوا حياتهم من جميع نواحيها. وفي الوقت نفسه لا يستفيدون ولا ينتفعون من حطام الدنيا، ولا تطيب نفوسهم أن يتنعموا بأموال الفقراء، ويبنوا قصورهم على عظام الضعفاء، إنهم يحملون نفوساً أبيّة وأنوفاً حميّة، وأرواحاً طيبة تستنكف التنازل إلى هذا المستوى السافل. بعد هذا يتضح لنا كلام السيدة فاطمة (عليها السلام) حول موقف زوجها تجاه القيادة لو كان يفسح له المجال، ولا يغلق عليه الطريق. تقول: (ولم لم يكن يحلى من الغنى بطائل) أي لو كان علي جالساً على منصة الحكم ما كان يستفيد من أموال الناس لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من بيوت الأموال لنفسه فائدة كثيرة، وما كان يصيب من أموال الناس وكنوز الثروة خيراً. (ولا يحظى من الدنيا بنائل) ما كان ينال من ثروات الدنيا بالعطاء سوى مقدار إرواء نفسه من العطش، وإشباع عائلته من الجوع. احفظ هذه الجملة وانظر إلى حياة الحكام والسلاطين في العالم، تجدهم يسكنون أفخم المساكن، ويلبسون أفخر الملابس، ويأكلون ألذَّ المآكل، ويركبون أحسن المراكب ويؤثثون بيوتهم بأغلى الأثاث، ويعيشون أفضل المعيشة، ولا تسأل عن الذخائر التي يدّخرونها ليوم ما!؟؟ كل ذلك من بيت المال، وكل ذلك من أموال الدولة وأموال الشعب، نعم، إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هكذا تعرّف زوجها، والتاريخ الصحيح يصدّق كلامها والواقع يؤيد ادعائها. فلقد حكم الإِمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أربع سنوات وشهوراً، فكانت حياته هكذا مائة بالمائة، فلقد كتب (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف كتاباً يقول فيه: (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنيا بطمرية، ومن طعمه بِقُرصية.. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضكم شبراً بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّتها الخضراء، فشحّت عليها نفوس قوم وسختْ عنها نفوس قوم آخرين..) الخ. بقيت هنا كلمة لا ينبغي ترك ذكرها، وهي: ربما يتصور البعض أو يتبادر إلى ذهنه أن علياً الذي وصفته الزهراء (عليها السلام) بأنه لو كان يقود المسيرة لسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم خشاشة، ولا يتعتع راكبه (إلى آخر أوصافه) فلماذا حينما حكم على الناس، وتسلّم القيادة وجلس على منصة الخلافة حدثت الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية الدامية، والمشاكل والمصائب والمذابح التي شملت الأمة الإِسلامية في عهده؟؟ نجيب على هذا بما يلي: لا شك أن المجتمع الإسلامي في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مجتمعاً صالحاً من جميع النواحي، ولكن الذين حكموا المجتمع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال ربع قرن قد غيّروا وبدّلوا وتصرّفوا تصرفات غير مرضية، ولو ألقيت نظرة إمعان على تاريخ الحكام الذين تسلّموا السلطة بعد الرسول مباشرة خلال خمسة وعشرين عاماً لرأيت كمية وافرة من الأوامر والفتاوى والأحكام المضادّة للشريعة الإِسلامية من الكتاب والسنة، من تغيير الوضوء والأذان وكيفية الصلاة وعدد ركعاتها إلى الحج إلى الجهاد إلى النكاح وإلى الطلاق وهكذا وهلَّم جرَّا. ولو أردنا أن نذكر الشواهد والأمثلة لهذه المواضيع لطال بنا الكلام، ولكننا نكتفي هنا بمثال واحد كنموذج. ولك أن تقتبس من هذا المثال بقية الأمثلة: خرج خالد بن الوليد بجيشه إلى بعض قبائل المسلمين. وكان في تلك القبيلة رجل من المسلمين اسمه: مالك بن نويرة، قد أسلم على يد النبي وشهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجنة وشهد عمر بن الخطاب بإسلامه فقتله خالد بن الوليد بغير ذنب سوى ذنب واحد، وهو أن زوجته كانت من أجمل نساء قومها وقد رآها خالد بن الوليد وطمع فيها، ولم يجد طريقة للاستيلاء عليها سوى قتل زوجها المسكين فقتله خالد، وفي نفس الليلة زنى بزوجته. وحينما رجع خالد إلى المدينة لم يجد أي عقاب أو عتاب من رئيس الدولة يومذاك هذا هو المتفق عليه بين المؤرخين بلا استثناء، مع العلم أن الإِسلام لم يسمح بنكاح المعتدة ما دامت في العدة، والرجل لم يتزوج بها. هذه المأساة التي تجدها في أكثر التواريخ، أتعلم كم تشتمل هذه الفاجعة من إهدار الدماء البريئة وهتك الأعراض، وارتكاب الجرائم، والتلاعب بكرامات الناس ومقدراتهم؟ وكم تتبدل نظرة الناس إلى الدين وإلى الدولة الإِسلامية؟ وقد مرَّ عليك موقف هؤلاء اتجاه بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوحيدة العزيزة واتجاه زوجها العظيم، وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام)؟ إن الإسلام والقيادة الإسلامية وصلت إلى يد علي (عليه السلام) وهي مفككة العرى محطمة الجوانب، مشوهة السمعة. ولما أراد الإِمام علي أن يصلح تلك المفاسد، وأن يعيد الإِسلام إلى طريقه السوي ويلبسه حلّة القداسة والجمال، وإذا به يجد أصحاب المطامع يقومون ضدّه، ويشهرون سيوفهم في وجهه، فتكوّنت الحروب الداخلية وقامت المجازر على قدم وساق، وقد ذكرنا الشيء اليسير من تلك المآسي في الجزء الأول والثاني والثالث من شرح نهج البلاغة، وأنت إذا راجعت وقارنت فسوف تنكشف لك أمور، وتتضح لك أسرار. نحن لا زلنا في شرح الخطبة: (ولبان لهم الزاهد من الراغب) إن السيدة فاطمة (عليها السلام) لا تزال توالي حديثها عن زوجها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإنه لو كان يستلم القيادة كان يقنع من الدنيا بالشيء اليسير اليسير، وذلك بمقدار إرواء عطشه وإشباع عائلته، وعند ذلك كان يظهر للناس الزاهد الحقيقي الذي لا يطمع في أموال الناس، ويظهر الراغب الذي كان يخضم مال الله خضم الإِبل نبتة الربيع وأمثاله. (والصادق من الكاذب) وظهر لهم الصادق الذي يصدق في أقواله وأفعاله من الكاذب الذي يكذب في ادعاءاته وتصرفاته. ثم إنها (عليها السلام) ختمت هذه المقطوعة من حديثها بالآية الكريمة، وطبّقتها على هذه الأمة، فقالت: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)(58). ما أنسب هذه الآية بهذا المقام وما أجمل هذا التشبيه في هذا الكلام؟ وتقصد السيدة فاطمة أن الناس لو كانوا يقبلون كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) في تعيين علي بالخلافة وكانوا ينقادون له لكانت الدنيا لهم روحاً وريحاناً وجنة نعيم، ولكنهم خالفوه واختاروا غيره، وبعملهم هذا كذَّبوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تكذيباً عملياً، فسوف يشاهدون الويلات تنصبُّ عليهم، وأردفت هذه الآية بمثلها، فقالت: (والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين)(59)وسيأتيك القول بالتفصيل عن الويلات والمآسي التي انصبَّت على الأمة الإِسلامية من جرّاء تلك القيادة الشاذة ومضاعفاتها. (ألا هلم واستمع) وفي نسخة: (هلممن واستمعن) فعلى النسخة الأولى يكون الخطاب عاماً للجميع، وعلى النسخة الثانية يكون الخطاب خاصاً بالنساء اللاتي حضرن عيادتها. (وما عشت أراك الدهر عجباً) أي كلما عشتَ أو مدة عيشك في الدنيا رأيت العجائب التي لا بالبال ولا بالخاطر. (وإن تعجب فعجب قولهم) هذه الجملة من آية في سورة الرعد وهي: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أإنا لفي خلق جديد) اقتبست السيدة فاطمة (عليها السلام) هذه الجملة من الآية وأدمجتها في حديثها، والمقصود أن الناس يتعجبون من بعض الأمور وليست بعجيبة، ولا تستحق التعجب، وهناك أمور وقضايا عجيبة ينبغي أن يتعجب منها، لأنها أمور لا تنسجم مع الشرع ولا مع العقل ولا الوجدان ولا الضمير، ولا تدخل تحت أي مقياس من المقاييس الصحيحة والأمر العجيب هو ما يلي: (ليت شعري إلى أي سناد استندوا؟ وعلى أي عماد اعتمدوا؟ وبأية عروة تمسكوا؟ وعلى أية ذريّة أقدموا واحتنكوا؟) إن الناس كانوا يستندون على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وينقادون له، ويعتمدون على أقواله، ويطيعون أوامره، لأنه مرسل من عند الله، ومتصل بالعالم الأعلى، قد توفرت فيه الأهلية بجميع معنى الكلمة، فلا عجب في ذلك إذا خضع له الناس، وقدَّموه على كل شيء، ولكن العجب كل العجب أن بعض الناس بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) تنازلوا إلى مستوى نازل جداً فسلّموا القيادة إلى أفراد لا توجد فيهم المؤهلات. فالذي كان يستند ويعتمد على الرسول (صلى الله عليه وآله) يتمسك به كيف تطيب نفسه أو يرضى ضميره أن يعترف بالقيادة الإسلامية لأفراد ليسوا في تلك المرتبة وتلك الدرجة. تتعجب السيدة فاطمة (عليها السلام) ويتعجب معها عقلاء العالم وأصحاب الضمائر الحية والنفوس المعتدلة والقلوب السلمية من تلك الانتخابات المخالفة لجميع المقاييس والنواميس والموازين. (وبأية عروة تمسكوا) لقد ثبت عند المسلمين كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنكم لن تضلوا ما أن تمسكتم بهما) ومعنى الحديث أن الرسول أمر المسلمين أن يتمسكوا بالقرآن والعترة معاً، ولكن هؤلاء بأية عروة تمسكوا وتعلقوا واعتصموا. (وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا؟) أيعلم هؤلاء مَن هي فاطمة الزهراء؟ أيعلم هؤلاء ما منزلة هذه الذرية الطاهرة الشريفة الذين هم أشرف أسرة على وجه الأرض؟ أيعلم هؤلاء ما صنعوا اتجاه أهل البيت؟ الذين أمرهم الله بمودتهم بقوله: (قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى). الذين فرض الله طاعتهم على كل مسلم بقوله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم) الذين مَثَلهم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هوى وغوى وهلك، الذين مَن أحبّهم فقد أحب الله، ومن آذاهم فقد آذى الله، ومن أبغضهم فقد أبغض الله. فوالله الذي لا إله إلا هو إنهم آذوا ذرية رسول الله وعترته وأهل بيته، وظلموهم وأغضبوهم واعتدوا عليهم، وهتكوا حرمتهم، وجرّأوا الناس على إيذائهم، وقد حكم الله تعالى بين عباده. بأي دين؟ وبأية شريعة؟ وبأي مجوّز شرعي صنعوا ذلك الصنيع اتجاه آل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ أنا لا أدري، ولعل القوم ينحتون الأعذار التي تبيح لهم هتك تلك الحرمات، وإهدار تلك الكرامات. (ولبئس المولى ولبئس العشير) اقتبست السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الحج آية 13: (يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) أي أن الذي اختاروه للولاية بئس المولى وبئس العشير، والعشير هو الصديق الذي ينتخب للمعاشرة. (وبئس للظالمين بدلاً) هذه الجملة من قوله تعالى في سورة الكهف 50: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربّه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً). (استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل) من جملة العلوم التي لها الصدارة على بقية العلوم هو علم الاجتماع، وهو علم يبحث عن تقدم الأمم أو تأخرها، أسباب ضعفها أو قوتها، وصلاحها وفسادها، ونتائج الصلاح ومضاعفات الفساد. ومن الوسائل التي كان لها التأثير في توعية المجتمع نحو الخير والشر، ونحو الصلاح أو الفساد، وتقرير مصير الشعوب: هو جهاز الدولة وجهاز الدين، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (طائفتان من أُمتي إذا صلحتا صلح الناس، وإذا فسدتا فسد الناس: العلماء والأمراء) وفي ذلك اليوم كان جهاز الدولة وجهاز الدين واحداً، فالخليفة يُعتبر رئيس الدولة ورئيس الدين، ويدير دفة الحكم على الصعيدين: الدولي والديني. وإننا نجد الشعوب المتحضرة، المثقفة المتقدمة إنما وصلوا إلى القمة وحازوا التقدم في كافة المجالات بسبب الأسرة الحاكمة التي مهّدت لهم السبل، وهيأت لهم الوسائل وزوّدتهم بالتعليمات، وشجعتهم على العمل. وهكذا نجد الشعوب المتأخرة والمتفسخة التي استولى عليهم الجهل والفقر والمرض والذل والهوان والخلاعة والمجون هم ضحايا إهمال الحكام وأصحاب القيادة، وقد قيل: (الناس على دين ملوكهم). وهنا تنتقل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى حديثها عن علم الاجتماع، فتقول: (استبدلوا - والله - الذنابا بالقوادم) إن التشبيه في الكلام له تأثير عجيب في النفس، وتقريب المعنى إلى الذهن بصورة واضحة. شبّهت السيدة فاطمة (عليها السلام) الأمة الإسلامية بالطائر، وشبهت القائد أو القيادة بأجنحة الطائر، لأن الطائر لا يستطيع أن يطير إلاّ بجناحيه، والجناح مركب من عشر ريشات كبار، ويقال لها (القوادم) وتحت تلك الريشات الكبار عشر ريشات صغار يقال لها (الخوافي) وعلى موضع ذنب الطائر ريشات يقال لها: (الذنابا). فالقوادم هي قوام الطيران، ولا يمكن الطيران بغير القوادم، لأنها بمنزلة المحركات القوية في جناح الطائرة التي بإمكانها أن تقلع الطائرة وترتفع بها عن الأرض وتسير في الفضاء. فالطائر إذا قطعت قوادمه لا يستطيع الطيران بالخوافي وهي الريشات الصغار، ولا بالذنابا، لأن الذنابا لا تستطيع حمل جسد الطائر وإقلاعه عن الأرض لعجز الذنابا وضعفها. (والعجز بالكاهل) العجز - بفتح العين وضم الجيم -: من كل شيء مؤخره، ومن الإنسان ما بين الوركين، والكاهل ما بين الكتفين، والكاهل أقوى موضع في البدن لحمل الأثقال، وبالعكس: العجز لا يليق ولا يستطيع حمل الأثقال. والمقصود من هذين المثالين أو التشبيهين هو: أن القوم سلّموا الأمور العظيمة، والمناصب الخطيرة وهي القيادة إلى من لا يليق بها، ولا يستطيع القيام بأمورها لعدم توفر الإمكانيات فيه، وعجزه عما يتطلبه الأمر من العلم والعقل والتدبير، وذلك بعد أن سلبوا تلك الإمكانيات من أصحابها الأكفاء ذوي اللياقة والخبرة والبصيرة. إنهم باعوا علياً (عليه السلام) يوم الغدير بأمر من الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وباختيار منهما، ولكنهم نكثوا عهدهم، ونقضوا ببيعتهم، وبايعوا غيره الذي لا يقاس بعليّ (عليه السلام) علماً وشرفاً وفضلاً وسابقة وغير ذلك من المرجِّحات. (فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) إنها تدعو على أقوام الذل والهوان، وهو إرغام أنوفهم، وهم الذين يظنون أنهم مهتدون في أعمالهم، ومصلحون في تصرفاتهم. والحال: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) وهل يشعر المنحرف أنه منحرف وشاذ؟ بل بالعكس، يتصور أنه هو المهتدي المعتدل المستقيم، وأنه على الحق وأن غيره على الباطل، ولا يؤثر فيه المنطق ولا ينفع فيه الدليل والبرهان. وهاتان الجملتان مقتبستان من قوله تعالى: (قل هل نُنبَّئُكُمْ بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)(60)ومن قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)(61). ثم أدمجت آية أخرى في كلامها بالمناسبة فقالت: ويحهم! (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يُتَّبع أمن لا يهدّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون)(62). هذه الآية الشريفة تشير إلى بحث الهداية، والمقارنة بين الذي يهدي إلى الحق، ويرشد الناس إلى الطريق وبين الذي لا يهتدي ولا يعرف الطريق إلاَّ أن يُهدى أي يهديه غيره، أيهم أحق بالإتّباع؟ وأيّهما يستحق أن يكون قائداً للأمة؟ وهنا تقصد فاطمة الزهراء (عليها السلام) من هذه المقارنة أن علياً هو الرجل الكامل علماً وفضلاً وعقلاً، ومواهب، فهو أولى بالقيادة، وأحرى بالاتباع من أفراد ليسوا كاملين في العلم والعقل والتدبير وما شابه ذلك من لوازم القيادة، والتاريخ يثبت كلا الجانبين: جانب الكمال في عليّ، وجانب النقص في غيره. (أما لعمري! لقد لقحتْ) إن الميكروبات التي تتكون في البدن، وتنتج أمراضاً صعبة العلاج إنما تبدأ من الجرثومة التي تدخل في الدم، وهناك تتلاقح، وبمرور الزمان تنتشر الميكروبات في الدم، وتؤثر على الكريات البيض والحمر، وهناك الويلات، وهناك، الملاريا والكوليرا، وهناك السرطان، وهناك المرض الذي يعمّ البدن ويشمل الجسد كله. تقول السيدة فاطمة الزهراء: (أما لعمري! لقد لقحت) لقحت جرثومة الفتنة في الأمة الإسلامية، والفتنة في طريقها إلى التوسع والانتشار. (فنظرة ريثما تنتج) أي انتظروا حتى تنتشر الميكروبات في هيكل المجتمع الإسلامي فبعد أن كانت القيادة الصالحة اللائقة تقود المسلمين وإذا بقيادة معاكسة ومغايرة لها تماماً تزاحمها وتحل محلها. وبعد أن كانت الأحكام الإسلامية الطرية المعتدلة تسود المجتمع الإسلامي إذ بأحكام منبعثة عن الهوى وعن آراء شخصية متطرفة تقوم مقام تلك الأحكام وهكذا تتبدل المفاهيم، وتتغير المقاييس. (ثم احتبلوا ملء القعب دماً عبيطاً) الناقة إذا ولدت يُحلب منها اللبن، ولكن الفتنة إذا لقحت وأنتجت يحلب منها الدم لا اللبن، أي تتكون المجازر والمذابح، فبعد أن كان الدين الإسلامي دين الأمن والحياة والسلام في الواقع وإذا به ينقلب مفهومه لدى هؤلاء فيصبح دين الإبادة والهلاك، والدمار والفناء. انظر إلى التاريخ الإسلامي الذي شوّهه هؤلاء. تجد أنهاراً من الدماء التي جرت من أجساد المسلمين. وتجد التلال التي تكونت من جثثهم. فمثلاُ: ذكر المؤرخون أن عثمان بن عفان قام بأعمال منافية للقرآن والسنة، فعاتبه المسلمون على ذلك، ولكنه لم يرتدع بل استعمل العنف والقوة معهم ضرباً وسباً وتبعيداً وتهديداً. وأخيراً أورثت أعماله في المسلمين هياجاً عاماً، وكانت عائشة تهيّج الناس ضدّه وهكذا طلحة وابن العاص، وأخيراً قتلوا عثمان. وإذا بالذين كانوا يحرّضون الناس ضده خرجوا يطلبون بدمه، وقد قُتل عثمان في المدينة، وذهب هؤلاء إلى البصرة يطلبون بدمه، وبين المدينة والبصرة أكثر من ألف كيلو متر، فأجّجوا نيران الحرب هناك، فقتل في حرب البصرة خمسة وعشرون ألف إنسان!. ثم نهض معاوية زاعماً أنه يطلب بدم عثمان، فقامت الحرب في منطقة سورية بالقرب من مدينة حلب يقال لها (صفين) وهدأ القتال وعلى الأرض تسعون ألف قتيل!. ثم صارت واقعة النهروان فقتل فيها أربعة آلاف إنسان. ثم خرج بسر بن أرطاة من الشام وقصد المدينة ومكة واليمن وفي طريقه كان يقتل الناس، حتى قتل من شيعة عليّ في اليمن وغيره ثلاثين ألف قتيل. خذ القلم بيدك واحسب مجموع القتلى: 25.000 + 90.000 + 4000 + 30.000 = 149000. هؤلاء القتلى، ولا تسأل عن الجرحى، ولا تسأل عن أرامل هؤلاء، وأيتامهم، ومضاعفات تلك المآسي، ولا تسأل عن الدموع الجارية، والعيون الباكية، والقلوب الملتهبة، والآهات والأحزان التي جعلت تلك الحياة جحيماً على ذلك المجتمع بكافة جوانبه ونواحيه، كل ذلك في خلال أربع سنوات. وهل انتهت المأساة هنا؟ لا، بل هناك مآسي ومجازر ومذابح تقشعر منها الجلود، وسوف نذكر بعضها. نعم، لا تزال السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخبر عن الفجائع والفظائع التي هي في طريق الأمة الإسلامية، وكامنة لها بالمرصاد. ليس هذا التنبؤ إخباراً عن الغيب، بل إخبار عن نتائج الأعمال ومضاعفاتها فالطبيب الحاذق إذا نظر إلى إنسان لا يراعي أصول الصحة في مأكله ومشربه وتنفسّه ويستعمل الأشياء الضارة فإن الطبيب يخبره بمصيره المظلم، والأمراض الفتاكة التي تقضي على حياته من جرّاء تلك الأعمال المنافية لأصول الصحة العامة. وكذلك السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تنظر إلى ذلك المجتمع وسوء اختيار الأمة للقيادة غير الصالحة، فتنكشف لها العواقب السيئة التي يؤول إليها أمر الأمة الإسلامية ببركات تلك القيادة!!. تقول: (ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً) وفي نسخة: (طلاع القعب) أي القدح الكبير الضخم الذي يتفايض بالدم حتى يسيل منه، والمقصود كثرة الدماء التي تُراق. (وذعافاً ممقراً مبيداً) أي احتلبوا الدم، واحتلبوا السمّ المرّ المهلك، والمقصود منها: النتائج السيئة التي عمَّ شؤمها الإسلام والمسلمين من الويلات والمصائب التي انصبّت على المسلمين. (هنالك يخسر المبطلون) أي عند ذلك يظهر خسران المبطلين. (ويعرف التالون غبَّ ما أسَّسه الأولون) يعرف الآخرون عاقبة الأعمال التي أسّسها الأوّلون. (ثم طيبوا عن دنياكم أنفساً) يقال: طب نفساً: أي أسكن واهدأ عن القلق وهذا كما يقال للظالم: قرَّت عينك، أو بشراك وأمثالها من الكلمات التي يراد بها العكس في الكلام لا الحقيقة. (واطمأنوا للفتنة جاشاً) أي فلتسكن للفتنة قلوبكم، وهذا أيضاً يراد به العكس، فإن القلب لا يسكن للفتنة وإنما يسكن للأمان والسلامة. (وابشروا بسيف صارم وسطوة معتد غاشم) هذه الكلمة على غرار قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) وهذه الكلمة أو الجملة أيضاً على العكس. (وهرج شامل) وفي نسخة: (وهرج دائم شامل) الهرج: الفتنة والفوضى واختلال الأمور. (واستبداد من الظالمين) الاستبداد: الدكتاتورية، والعمل على خلاف المقاييس والموازين، لا تحت أي نظام أو قانون أو شريعة أو دين. (يَدَع فيئكم زهيداً وجمعكم حصيداً) أي ذلك الاستبداد أو المقصود من ذلك جميع ما تقدم من قولها: سيف صارم وسطوة معتد غاشم وهرج واستبداد ومجموع هذه الأشياء يدع فيئكم زهيداً أي يجعل الغنائم والخراج حقوقكم المالية زهيداً قليلاً (وجمعكم حصيداً) وفي نسخة: (وزرعكم حصيداً) أي محصوداً، والمقصود أن السلطة التي تحكم عليكم يتصرفون في غنائمكم حسب مشتهياتهم ويجرّونها إلى أنفسهم فلا ترون منها إلاّ القليل، ويحصدون جمعكم أي جماعتكم بسيوفهم. وكلها إخبارات بالمستقبل المظلم الذي كان بالمرصاد للمسلمين، والمآسي والكوارث التي تنزل بهم، والويلات التي تنصبّ عليهم!. ولقد تحقّق كل هذا. وهذا كله، لقد ابتلي المسلمون بفجائع ومذابح ومآسي لا يستطيع أحد أن يتصوّرها، فوالله أنّهم سوّدوا تاريخ الإسلام، وشوّهوا سمعة هذا الدين، وإليك بعض تلك الحوادث شاهداً على ما نقول: لقد ذكرنا - فيما مضى - بعض المجازر التي قام بها أصحاب الجمل ومعاوية والخوارج وبعض عملاء معاوية، والآن استمع إلى غيرها: لو أردنا أن نذكر - هنا ما جرى على الأمة الإسلامية من الظلم والجور والضغط والكبت والعنف والقسوة، والاستبداد بالأموال وإراقة الدماء البريئة على أيدي حكام الجور لطال بنا الكلام جداً جداً، فإن التحدّث عن هذه المصائب والفجائع يحتاج إلى موسوعة وموسوعة. ولكننا رعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة التحدث عما أخبرت به السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الويلات التي كانت بالمرصاد على طريق المسلمين الذين اختاروا تلك القيادة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونبذوا وراءهم ولاية آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلبوهم القدرة والإمكانية. نختار من بين المئات من الفجائع التي انصبت على أهل المدينة فجيعة واحدة تقشعرّ منها الجلود، وتشمئز منها النفوس. وقبل أن أذكر الواقعة لا بأس بذكر مقدمة تمهيدية كي تظهر نتائج تغيير القيادة الإسلامية عن مجراها وأُسُسها: من الصحيح أن نقول: إن حكام الجور الذين جلسوا على كراسي الحكم، وقبضوا بأيديهم أزمّة الأمور واستولوا على رقاب البشر عن طريق السيف قد رفضوا العمل بالإسلام الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله) فكانت تصرّفاتهم لا تتفق مع القرآن الكريم ولا السّنّة النبوية ولا منطق العقل ولا قانون الإنسانية ولا نظام العدل ولا تعاليم الإسلام. بل كانوا يحكمون على أموال الناس ودمائهم حسب رغباتهم الشخصية وشهواتهم النفسية، وإجابة للحرص والجشع، وإطاعة لأهوائهم. فالناس لا كرامة لهم ولا قيمة لحياتهم عند هؤلاء، وليس المهم عند أولئك الحكام أن يعيش الناس برخاء ورفاه أو يموتوا جوعاً وفقراً وإنما المهم المحافظة على عرش الحاكم وإبقاء جبروته وإشباع شهواته ورغباته وترفه وبذخه ولو كان مستلزماً لإراقة دماء الشعب المسلم البريء المسكين، وما قيمة المسلم وما حرمة الإسلام أمام أهواء الحاكم الدكتاتوري الظالم السفّاك الذي لو كان يؤمن بالله واليوم الآخر لكان سلوكه على خلاف تلك الأعمال المناقضة للدين الإسلامي. ولعلك - أيها القارئ تتصور وتظن أنّ في كلامي هذا شيئاً من المبالغة والإسراف، ولكنك لو اطلعت على تاريخ الأمويين والعباسيين والمجازر والمذابح الجماعية التي قاموا بها لصدّقت كلامي بل واعتبرت كلامي هذا أقل من القليل عن الواقع الذي مرّت به الأمة الإسلامية عبر القرون!. إنهم جعلوا الحياة جحيماً وعذاباً أليماً على المجتمع الإسلامي الذي كان يعيش تحت سياطهم وسيوفهم!. وهاك مثالاً واحداً على بعض ما نقول: |
#83
| ||
| ||
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عتَاب وخِطَابٌ مَعَ المُسْلِمين إيهاً بني قيلة!(1)أأُهضم تراث أبيه؟ وأنتم بمرأى منّي ومسمع ومنتدى ومجمع(2) تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة(3) وأنتم ذوو العدد والعُدّة والأداء والقوة وعندكم السلاح والجُنّة توافيكم الدعوة فلا تجيبون؟ وتأتيكم الصرخة فلا تعينون؟ وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت(4) قاتلتم العرب، وتحمَّلتم الكدَّ والتعب(5) وناطحتم الأُمم وكافحتم البُهَم(6) لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأْتمرون حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ودَرَّ حلب الأيام(7) وخضعت ثغرة الشرك(8) وسكنت فورة الإفك وخمدت نيران الكفر(9) وهدأت دعوة الهرج واستوسق نظام الدين فأنّى حِرتم بعد البيان؟(10) وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟(11) وأشركتم بعد الإيمان؟ (ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أوّل مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين)(12). ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض(13) وأبعدتم مَن هو أحقُّ بالبسط والقبض وخلوتم إلى الدعة(14) ونجوتم من الضيق بالسعة(15) فمججتم ما وعيتم(16) ودسعتم الذي تسوّغتم(17) ف(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ألا: قد قلتُ ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم(18) والغدرة التي استشعرتها قلوبكم(19) ولكنها فيضة النفس(20). ونفثة الغيظ(21). وخَوَر القنا(22) وبثَّة الصدر وتقدمة الحجة فدونكموها، فاحتقبوها دَبِرَة الظَّهر(23). نقبة الخُف(24) باقية العار موسومة بغضب الله وشنار الأبد(25) موصولة بنار الله الموقدة التي تطّلع على الأفئدة فبعين الله ما تفعلون (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون) وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون شرحها (إيهاً! بني قيلة) إيهاً بمعنى هيهات، وبمعنى الأمر بالسكوت، أو بمعنى طلب الزيادة من التحدث. يا أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، وقد تقدم الكلام عن شرحها.(أأُهضم تراث أبي؟) وفي نسخة: (أبيه) وقد تقدم أن الهاء - هنا - للوقوف والسكون والمعنى: هل يظلمونني في إرث أبي؟ (وأنتم بمرأى مني ومسمع) والحال أنتم في مجلس ومكان يجمع بيني وبينكم، والمقصود: أنتم حاضرون وتسمعون كلامي وشكايتي، وترون حالي ومظلوميتي. (تلبسكم الدعوة) تحيط بكم دعوتي وندائي. (وتشملكم الخبرة) ويشملكم العلم وتعلمون الخبر، وفي نسخة: (الحيرة) أي متحيرون أمام هذه المخاصمة. (وأنتم ذوو العدد والعدة) وأنتم أصحاب العدد الكثير والتأهب والاستعداد، أي لستم قليلين حتى تعتذروا بقلّة العدد، بل أنتم ذو العدد الكامل. (والأداة والقوة) عندكم الوسائل والقدرة والإمكانية لإسعافي ونصرتي. (وعندكم السلاح والجُنة) وعندكم الأسلحة التي حاربتم بها وجاهدتم في سبيل الله، وعندكم وسائل الدفاع. (توافيكم الدعوة فلا تجيبون) تبلغكم دعوتي واستغاثتي فلا تجيبوني؟ (وتأتيكم الصرخة فلا تعينون) تأتيكم صرختي، صرخة المظلومية والاضطهاد فلا تعينوني؟ (وأنتم موصوفون بالكفاح) الجهاد في سبيل الله، واستقبال العدو ومباشرة الحرب. (معروفون بالخير والصلاح) الأعمال الحسنة. (والنخبة التي انتخبت) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتخب المدينة وانتخبكم لهذه الغايات والصفات. (والخيرة التي اختيرت) واختاركم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنصرته، ولهذا هاجر إليكم. (قاتلتم العرب) لأجل نصرة النبي، وإعلاء كلمة الإسلام. (وتحملتم الكد والتعب) في الحروب والغزوات، ومضاعفاتها من الحر والبرد، والتضحية وتحمّل الجراح. (وناطحتم الأمم) قاتلتم الملل المختلفة من يهود ونصارى وغيرهم، كل ذلك دافعاً عن الرسول. (وكافحتم البُهم) قاتلتم الشجعان بدون ضعف وتواني. (لا نبرح أو تبرحون) أي لا نبرح ولا تبرحون (نأمركم فتأتمرون) أي كنّا لم نزل آمرين وكنتم لأوامرنا مطيعين. (وحتى إذا دارت بنا رحى الإسلام) أي قاتلتم وتحملتم وناطحتم وكافحتم بصورة مستمرة حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام حتى إذا انتظم أمر الإسلام بمساعينا وسببنا، ودارت رحى الإسلام دوراناً صحيحاً منتظماً. (ودرَّ حلب الأيام) وكثرت الخيرات والغنائم بسبب الفتوحات كاللبن الذي يدرّ أي يسيل بكثرة من الثدي. (وخضعت ثغرة الشرك) ذلّت رقاب المشركين وخياشيمهم للإسلام وسقطوا عن الاعتبار. (وسكنت فورة الإفك) وهي غليان الكذب وهيجانه. (وخمدت نيران الكفر) أي نيران الحرب التي كان الكفار يؤججونها. (وهدأت دعوة الهرج) سكنت دعوة الفتنة والباطل، وهدأت الإضطرابات. (واستوسق نظام الدين) أي اجتمع وانتظم أمر الدين بعدما كان متشتتاً. (فأنَّى حرتم بعد البيان؟) والآن وبعد هذه المقدمات كيف تحيرتم بعد بيان الحالة ووضوحها عندكم، وكيف وقعتم في وادي الحيرة؟ (وأسررتم بعد الإعلان؟) وكيف أخفيتم أشياء كانت معلنة، أو كنتم تتجاهرون بها. (ونكصتم بعد الإقدام) وكيف رجعتم القهقري بعد إقدامكم على الإسلام. (وأشركتم بعد الإيمان؟) أشركتم بالله بمخالفتكم للرسول (صلى الله عليه وآله) في أمر عترته. (ألا تقاتلون قوماً نكثوا إيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين). أدمجت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هذه الآية في حديثها، وإن كانت الآية نزلت في مشركي مكة الذين أرادوا إخراج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مكة أو نزلت في اليهود والنصارى الدين نقضوا عهدهم وهمّوا بإخراج الرسول من المدينة وعلى كل تقدير فإن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تستنفرهم وتستنهضهم لنصرتها، ولا تقصد بكلامها هذا إثارة الفتنة، ولا إراقة الدماء، ولا تريد أن تقود جيشاً، أو تتزعم حزباً، بل هي عارفة بأحوال الناس واتجاهاتهم، عالمة بأن الأمر دبّر بليل، ولهذا قالت: (ألا: قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض) أي أعلم أنكم قد أقمتم على الراحة وسعة العيش. (وأبعدتم مَن هو أحق بالبسط والقبض) أبعدتم الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي هو أحق وأولى بولاية الأمور، والتصرف في قضايا الإسلام من غيره. (وخلوتم بالدعة) أي انفردتم بالراحة والسكون. (ونجوتم من الضيق بالسعة) لأن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يهادن، ولا يصانع، ولا يفضّل أحداً على أحد بالعطاء، وهذا ضيق بالنسبة لكم، ولهذا نجوتم من هذا الضيق، وانتقلتم إلى مَن هو طوع أمركم، سلس القيادة، يفعل ما تشاءون، ويحكم بما تريدون. (فمججتم ما وعيتم) أي رميتم من أفواهكم ما حفظتم. (ودسعتم الذي تسوّغتم) أي تقيأتم الشيء الذي شربتموه بسهولة ولذة، والمقصود الانسحاب عن الدين، ورفض الإيمان ولهذا أردفت كلامها هذا بهذه الآية. ف(إن تكفروا أنتم ومَن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد) ولا تضرون إلاَّ أنفسكم، ولا تخسرون إلاَّ دينكم. (ألا: قد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم) تقول: (عليها السلام) أنا أعلم اتجاهاتكم، وأعرف نفسياتكم، وحينما خطبت فيكم واستنهضتكم كنت أعلم بأنكم لا تنصرونني ولا تسعفونني. (والغدرة التي استشعرتها قلوبكم) استشعر الثوب إذا جعله شعاراً أي جعله متصلاً لجسده، ملاصقاً لبدنه، تقول (عليها السلام) أنا أعرف الغدر الملاصق بقلوبكم، الغدر الذي جعلتها قلوبكم شعاراً لها، والغدر ضد الوفاء، أي لا أنتظر منكم الوفاء لمعرفتي بالغدرة الموجودة في قلوبكم. (ولكنها فيضة النفس) أي تعبير عن الآلام في النفس، فكما أن الإناء يفيض إذا امتلأ بالماء كذلك النفس تفيض من كثرة الحزن واستيلاء الهم. (ونفثة الغيظ) ظهور آثار الغضب الموجود كالنزيف الذي يدل على القرحة في الباطن (وخور القنا) أي ضعف الرمح، والمقصود عدم تحمّل لأكثر من هذه. (وبثة الصدر) قال يعقوب (عليه السلام): (إنما اشكو بثّي) أي همّي، وهو الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيظهره. (وتقدمة الحجة) إني خطبتُ فيكم، وقلتٌ ما قلت لا طمعاً في نصرتكم، ولا رجاءً في حمايتكم، وإنما كان ذلك لأسباب نفسية ودينية، أما الأسباب النفسية فقد ذكرتها، وأما الأسباب الدينية فهي تقدمة الحجة، أي إعلامكم بكل ما يلزم، وذكر كل دليل وبرهان وحجة على ما أقول، لئلا تعتذروا يوم القيامة، إنا كنا عن هذا غافلين أو ناسين، أو جاهلين، ما أبقيتُ لذي عذر عذراً، ولا لذي مقال مقالاً، عرَّفت نفسي ونسبي لكم، وذكرت ما يتعلق بالإمامة، وذكرت حقي في فدك، واستشهدت بالآيات البينات الثابتة عندكم حول الميراث بصورة عامة وحول ميراث الأنبياء بصورة خاصة، واستنهضتكم لنصرتي والطلب بحقي، فلم أجد فيكم مجيباً مُعيناً. (فدونكم إياها فاحتقبوها دبرة الظهر) خذوا الخلافة وشدّوا عليها حقائبكم، وكأنها ناقة مجروحة الظهر، (نقبة الخف) رقيقة الخف. (باقية العار) دائمة الخزي في الدنيا على مرّ التاريخ، وفي الآخرة وإلى الأبد. (موسومة بغضب الله وشنار الأبد) على تلك الناقة علامة غضب الله وسخطه، وعليها علامة العار الأبدي الذي ينتهي بكم إلى: (نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) التي تتوقد وتؤجج نارها بصورة دائمة التي تحرق الظاهر والباطن، وتصل إلى الأفئدة والقلوب. (فبعين الله ما تفعلون) إن الله تعالى يرى أعمالكم وأفعالكم ولا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء فكأنَّ أفعالكم هذه بمحضر من الله تعالى. (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وأي جزاء سيجازون وأي جحيم وعذاب سيصيرون إليه. (وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً) أنا ابنة محمد (صلى الله عليه وآله) الذي أنذرتكم بعذاب الله الذي أعدّه للظالمين. (فاعملوا إنا عاملون) اعملوا ما شئتم من ظلمنا فإنا عاملون ما يجب علينا من الصبر والتحمل (وانتظروا إنا منتظرون) انتظروا عواقب أفعالكم ونحن ننتظر عواقب الصبر على المحن. 1 - إيهاً: بمعنى هيهات أو مزيداً من الكرم. 2 - منتدى: مجلس القوم. 3 - الخبرة: العلم بالشيء 4 - الخيرة - بكسر الخاء وسكون الياء - المفضّل من القوم. 5 - الكد: الشدة. 6 - البهم - جمع بهمة -: الشجاع. 7 - حلب البلاد (خ ل). 8 - فورة الشرك (خ ل). 9 - خبت نيران الحرب (خ ل). 10 - أفتأخرتم بعد الإقدام (خ ل). 11 - وفي نسخة: وناكصتم بعد الشدة، وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا إيمانهم. 12 - سورة التوبة: آية 13. 13 - الخفض: الراحة. 14 - الدعة: خفض العيش. 15 - وفي نسخة: إلى السعة. 16 - مججتم: رميتم. ووعيتم: حفظتم. 17 - دسعتم: تقيأتم وتسوّغتم. شربتم بسهولة. 18 - خامرتكم: خالطتكم. 19 - استشعرتها: لبستها. 20 - فاض صدره بالسر: باح به. 21 - كالدم الذي يرمي به من الفم ويدل على القرحة. 22 - ضعف النفس عن التحمل. 23 - دونكموها: خذوها. دبرة: مقروحة. 24 - نقبة الخف: رقيقه. 25 - شنار: العيب العار. |
#84
| ||
| ||
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مَدْخَل إلى خُطْبَةِ فَاطِمَة الزهْرَاء (عليها السلام ) مأساة فدك والعوالي أحسن كلام نفتتح به هذا البحث، وأصدق حديث نبدأ به في هذا الموضوع هو كلام الله تعالى، ومَن أصدق من الله قيلاً؟ ومَن أصدق من الله حديثاً؟قال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). هذه الآية كما تراها خطاب من الله عز وجل إلى حبيبه محمد (صلى الله عليه وآله) يأمره أن يؤتي ذا القربى حقه، فمن ذو القربى؟ وما هو حقه؟ لقد ذكرنا - في آية القربى أو آية المودة - أن المقصود من القربى هم أقرباء الرسول وهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فيكون المعنى: وأعطِ ذوي قرباك حقوقهم. روى عن أبي سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً وسلّمه إليها، وهو المروي عن الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) وهو المشهور بين جميع علماء الشيعة. وقد ذكر ذلك من علماء السنة عدد كثير بطرق عديدة، فمنها: صرَّح في (كنز العمال) وفي مختصره المطبوع في الهامش من كتاب (المسند) لأحمد بن حنبل في مسألة صلة الرحم من كتاب (الأخلاق) عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: (وآت ذا القربى حقه) قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة لك فدك. قال: رواه الحاكم في تاريخه وفي 77 من الجزء الرابع من تفسير (الدر المنثور) للسيوطي أنه أخرج البزار وأبو يعلي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية: (وآت ذا القربى حقه) أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة فدكاً. قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: وقد روى من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب: أنه لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) دعا النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة فأعطاها فدك. فما هي فدك؟ التحدث عن فدك يشمل الموارد الآتية: ما هي فدك؟ 2 - هل كانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خاصة أم للمسلمين عامة؟ 3 - هل دفع الرسول فدكاً إلى ابنته فاطمة الزهراء نحلة وعطية في حياته أم لا؟ 4 - هل يورّث رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم لا؟ 5 - هل كانت السيدة فاطمة الزهراء تتصرف في فدك في حياة أبيها الرسول أم لا؟ أما الأول: فقد ذكر اللغويون أقوالهم في فدك: في القاموس: فدك قرية بخيبر. وفي المصباح: فدك - بفتحتين - بلدة بينها وبين مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة وهي مما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله). وفي معجم البلدان للحموي، باب الفاء والدال: فدك: بالتحريك، وآخره كاف قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقبل ثلاثة، أفاءها الله على رسوله (صلى الله عليه وآله) في سنة سبع صلحاً، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما نزل خيبر وفتح حصونها ولم يبق إلا ثلاث، واشتد بهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم، فأجابهم إلى ذلك فهو مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله). الثاني: وأما كيف صارت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقد قال تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)(1)أفاء الله أي ردّ الله ما كان للمشركين على رسوله بتمليك الله إياه منهم أي من اليهود الذين أجلاهم (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) أوجف خيله أي أزعجه في السير، والركاب هنا - الإبل، والمعنى ما استوليتم على تلك الأموال بخيولكم أي ما ركبتم خيولكم وإبلكم لأجل الاستيلاء عليها (ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء) أي يمكّن الله رسله من عدوهم من غير قتال، بأن يقذف الرعب في قلوبهم، فجعل الله أموال بني النضير لرسوله خالصة يفعل بها ما يشاء، وليست من قبيل الغنائم التي توزّع على المقاتلين. (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) أي من أموال كفار أهل القرى (فلله) (وللرسول) أي جعل تلك الأموال ملكاً لرسوله (ولذي القربى) يعني قرابة النبي (واليتامى والمساكين وابن السبيل) من القربى. روى الطبرسي عن ابن عباس قال: نزل قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى..) في أموال كفار أهل القرى، وهم قريظة وبني النضير وهما بالمدينة وفدك وهي في المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله، يحكم فيها ما أراد، وأخبر أنها كلها له، فقال أناس: فهلاّ قسَّمها؟ فنزلت الآية. وقد مر عليك كلام الحموي في معجم البلدان حول فدك أنها مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله). الثالث: وقد مرّ عليك ما ذكره المحدثون في تفسير قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) إن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطماً فدكاً. وهاك مزيداً من الأدلة حول الموضوع تأكيداً لهذا البحث: ذكر ابن حجر في الصواعق المحرقة، والشيخ السمهودي في تاريخ المدينة أن عمر قال: إني أحدثكم عن هذا الأمر: إن الله خصَّ نبيّه في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحداً غيره فقال: (ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلّط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)، فكانت هذه خالصة لرسول الله.. الخ. الرابع: إذن فالمستفاد من مجموع الآيات والروايات أن فدك كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله) خالصة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) أعطى فاطمة فدكاً بعنوان النحلة والعطية بأمر الله تعالى حيث أمره بقوله: (وآت ذا القربى حقه). الخامس: يستفاد من تصريحات المؤرخين والمحدّثين أنَّ السيدة فاطمة الزهراء كانت تتصرف في فدك، وأنَّ فدك كانت في يدها. فمنها تصريح الإمام أمير المؤمنين بن أبي طالب (عليه السلام) في الكتاب الذي أرسله إلى عثمان بن حُنيف وهو عامله على البصرة فإنه ذكر فيه.. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلّته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحَكَم الله.. الخ(2). وذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) في الباب الثاني: إن أبا بكر انتزع من فاطمة فدك.. الخ. ومعنى كلام ابن حجر أن فدك كانت في يد الزهراء (عليها السلام) من عهد أبيها الرسول فانتزعها أبو بكر منها. وقد روى العلامة المجلسي عن كتاب (الخرائج): فلما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة (بعد استيلائه على فدك) دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: يا بنية إن الله قد أفاء أبيك على أبيك بفدك، واختصَّه بها، فهي له خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء، وإنه قد كان لأُمّك خديجة على أبيك مهر، وإن أباك قد جعلها لك بذلك، وأنكحها لك ولولدك بعدك قال: فدعا بأديم ودعا بعلي بن أبي طالب فقال: أكتب لفاطمة بفدك نِحلة من رسول الله. فشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولىً لرسول الله وأم أيمن. ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) واستولى أبو بكر على منصة الحكم ومضت عشرة أيام. واستقام له الأمر بعث إلى فدك مَن أخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله). كانت فدك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: أنها كانت ذات اليد، أي كانت متصرفة في فدك، فلا يجوز انتزاع فدك من يدها إلا بالدليل والبيّنة. كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) (البيّنة على المدعي، واليمين على من أنكر) وما كان على السيدة فاطمة أن تقيم البيّنة لأنها ذات اليد. الوجه الثاني: أنها كانت تملك فدك بالنحلة والعطيّة والهبة من أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله). الوجه الثالث: أنها كانت تستحق فدك بالإرث من أبيها الرسول ولكن القوم خالفوا هذه الوجوه الثلاثة، فقد طالبوها بالبينة، وطالبوها بالشهود على النحلة، وأنكروا وراثة الأنبياء. وبإمكان السيدة فاطمة أن تطالب بحقها بكل وجه من هذه الوجوه. ولهذا طالبت بفدك عن طريق النحلة أوّلاً، ثم طالبت بها عن طريق الإرث ثانياً كما صرّح بذلك الحلبي في سيرته ج 3 9 قال: إن فاطمة أتت أبا بكى بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالت: إن فدك نحلة أبي، أعطانيها حال حياته. وأنكر عليها أبو بكر وقال: أُريد بذلك شهوداً فشهد لها علي، فطلب شاهداً آخر فشهدت لها أُم أيمن فقال لها: أبِرَجُلٍ وامرأة تستحقينها؟؟ وذكر الطبرسي في الاحتجاج: فجاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر ثم قالت: لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول الله؟ وأخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأمر الله تعالى؟ فقال: هاتي على ذلك بشهود فجاءت أُم أيمن فقالت: لا أشهد يا أبا بكر حتى أحتج عليك بما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنشدك بالله ألست تعلم أن رسول الله قال: أم أيمن امرأة من أهل الجنة؟ فقال: بلى. قالت: فاشهد أن الله عز وجل أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وآت ذا القربى حقه..). فجعل فدك لها طعمة بأمر الله تعالى. فجاء عليّ (عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال: إن فاطمة ادَّعت في فدك وشهدت لها أُم أيمن وعليّ، فكتبته لها. فأخذ عمر الكتاب من فاطمة، فتفل فيه فمزَّقه، فخرجت فاطمة (عليها السلام) تبكي. وفي سيرة الحلبي ج3 9 أن عمر أخذ الكتاب فشقّه. نعود إلى ما ذكره الطبرسي قال: فلما كان بعد ذلك جاء عليّ (عليه السلام) إلى أبي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار فقال: يا أبا بكر لِمَ منعت فاطمة ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد مَلَكته في حياة رسول الله؟؟ فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين، فإن أقامت شهوداً أن رسول الله جعله لها وإلا فلا حق لها فيها فيه! فقال عليّ: يا أبا بكر تحكم بيننا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه فادَّعيت أنا فيه مَن تسأل البينة؟ قال: إياك أسأل، قال: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما في يديها، وقد مَلَكته في حياة رسول الله وبعده، ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادَّعوها شهوداً كما سألتني على ما ادَّعيت عليهم؟؟ فسكت أبو بكر فقال: يا علي دعنا من كلامك، فإنّا لا نقوى على حجتك، فإن أتيت بشهود عدول، وإلاّ فهي فيء للمسلمين، لا حقَّ لك ولا لفاطمة فيه!!. فقال عليّ (عليه السلام): يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم. قال: أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم! قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بفاحشة ما كنت صانعاً بها؟ قال: كنت أُقيم عليها الحد كما أُقيم على نساء المسلمين!!! قال عليّ: كنت إذن عند الله من الكافرين! قال: ولِمَ ؟ قال: لأنك رددت شهادة الله بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل لها فدك وزعمت أنها فيء للمسلمين وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): البينة على المدعي، واليمين على من ادُّعي عليه. قال: فدمدم الناس، وأنكر بعضهم بعضاً، وقالوا: صدق - والله - عليّ. وقد روى العلامة في كشكوله عن المفضَّل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) رواية لا تخلو من فائدة نذكرها بصورة موجزة قال: لما قام أبو بكر بن أبي قحافة بالأمر نادى مناديه: من كان له عند رسول الله دين أو عدة فليأتني حتى أقضيه. وجاء جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي، وادَّعى كلٌّ منهما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنجز أبو بكر لهما. فجاءت فاطمة إلى أبي بكر تطالب بفدك والخمس والفيء فقال: هاتي بينة يا بنت رسول الله، فاحتجت فاطمة (عليها السلام) بالآيات وقالت: قد صدّقتم جابراً بن عبد الله وجرير بن عبد الله البجلي ولم تسألوهما البيّنة وبَيّنتي في كتاب الله، وأخيراً طالبوها بالشهود، فبعثت إلى عليّ والحسن والحسين وأُم أيمن وأسماء بنت عميس وكانت تحت أبي بكر (أي زوجة أبي بكر) وشهدوا لها بجميع ما قالت. فقالوا: أما علي فزوجها، وأما الحسن والحسين فابناها وأما أُم أيمن فمولاتها، وأما أسماء بنت عميس فقد كانت تحت جعفر بن أبي طالب فهي تشهد لبني هاشم، وقد كانت تخدم فاطمة وكل هؤلاء يجرّون إلى أنفسهم. فقال عليّ: أما فاطمة فبضعة من رسول الله ومَن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن كذَّبها فقد كذَّب رسول الله. وأما الحسن والحسين فابنا رسول الله وسيدا شباب أهل الجنة، من كذَّبهما فقد كذّب رسول الله، إذ كان أهل الجنة صادقين. وأما أنا فقد قال رسول الله: أنت مني وأنا منك، وأنت أخي في الدنيا والآخرة، والراد عليك هو الراد عليَّ من أطاعك فقد أطاعني ومن عصاك فقد عصاني. وأما أُم أيمن فقد شهد لها رسول الله بالجنة، ودعا لأسماء بنت عميس وذريتها. فقال عمر: أنتم كما وصفتم به أنفسكم، ولكن شهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل فقال عليّ: إذا كنا نحن كما تعرفون ولا تنكرون وشهادتنا لأنفسنا لا تقبل وشهادة رسول الله لا تقبل فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذا ادَّعينا لأنفسنا تسألنا البيّنة فما من معين يعين، وقد وثبتم على سلطان الله وسلطان رسوله فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بينة ولا حجة، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ثم قال لفاطمة: انصرفي حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولما رأت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن القوم أبطلوا شهودها الذين شهدوا لها بالنحلة ولم تنجح مساعيها، جاءت تطالب حقها عن طريق الإرث، واتخذت التدابير اللازمة لتقوم بأكبر حملة دعائية واسعة النطاق وهي تعلم أن السلطة لا يخضعون للدليل الواضح والبرهان القاطع، فقد قال الشاعر: وآية السيف تمحو آية القلم. وكل قوم تحكم فيهم الدكتاتورية فإن المنطق فاشل ولا يجدي فائدة. وعلى كل فللسيدة فاطمة هدف آخر، وهو يتحقق قطعاً، وهدفها تسجيل مظلوميتها في سجل التاريخ، وكشف الغطاء عن أعمال القوم ونواياهم، فقررت أن تذهب إلى المسجد وتخطب خطبة تتحقق بها أهدافها الحكيمة. وقبل أن نذكر الخطبة لا بأس بذكر رواة الخطبة ومصادرها من كتب الفريقين الشيعة والسنة لنعلم مدى أهمية هذه الخطبة لدى أهل البيت باعتبارها وثيقة تاريخية تثبت مظلومية أهل البيت، ومدى الاضطهاد والعنف والكبت الذي قام به بعض الأفراد تجاه أُسرة الرسول (صلى الله عليه وآله) ولا ندّعي أننا استوعبنا جميع المصادر، بل ذكرنا ما عثرنا عليه من الوثائق التاريخية. 1 - السيد المرتضى علم الهدى المتوفي 436 في كتاب (الشافي) يروي هذه الخطبة بإسناده عن عروة عن عائشة. 2 - السيد ابن طاووس في كتاب (الطرائف) بإسناده عن الزهري عن عائشة. 3 - الشيخ الصدوق بإسناده عن زينب بنت عليّ (عليه السلام). 4 - ويروي بطريق آخر بإسناده عن زيد بن علي الشهيد عن عمته زينت بنت عليّ عن أُمها فاطمة الزهراء (عليها السلام). 5 - وهكذا يروي بإسناده عن أحمد بن محمد بن جابر عن زينب بنت عليّ (عليها السلام). 6 - ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة يروي عن كتاب (السقيفة) تأليف أحمد بن عبد العزيز الجوهري بأربعة طرق. بإسناده عن رجال من أهل البيت عن زينب بنت عليّ (عليها السلام). (ب) بإسناده عن الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام). (ج) بإسناده عن الإمام الباقر بن عليّ (عليهما السلام). (د) بإسناده عن عبد الله بن الحسن (عليهما السلام). 7 - عليّ بن عيسى الأربلي في كتابه (كشف الغمة) يروي عن كتاب (السقيفة) للجوهري. 8 - المسعودي في (مروج الذهب) يشير إلى هذه الخطبة. 9 - الطبرسي في كتاب (الاحتجاج). 10 - أحمد بن أبي طاهر في كتاب (بلاغات النساء). إلى غير هؤلاء ممن يطول الكلام بذكرهم، وإسناد هذه الخطبة إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الأمور المسلّمة عند أهل العلم من المؤرخين وغيرهم. ونقل ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة عن السيد المرتضى أنه قال: وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني عن علي بن هارون عن عبيد الله بن أحمد عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد (الشهيد) بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) كلام فاطمة عند منع أبي بكر إياها فدك وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء، لأن الكلام منسوق البلاغة. فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلّمونه أولادهم، وقد حدثني أبي عن جدي يبلغ بها فاطمة على هذه الحكاية، وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جدُّ أبي العيناء. وقد حدّث الحسين بن علوان عن عطية العوفي أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسين يذكر عن أبيه هذا الكلام ثم قال أبو الحسين زيد: وكيف ينكرون هذا من كلام فاطمة وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة ويحققونه؟ ولولا عداوتهم لنا أهل البيت!!. هذا بعض ما ظفرنا به من المصادر لخطبة سيدة النساء، ولعل غيرنا من الباحثين يجدون المزيد من المصادر لهذه الخطبة. بقيت هنا كلمة نذكرها كجملة معترضة، ثم ننتقل إلى الخطبة وشرحها بإذن الله. السر في مُطَالَبَةِ فَاطِمَة الزهْراء (عليها السلام) بفَدك من الممكن أن يقال: أن السيدة فاطمة الزهراء الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علوِّ النفس وسمو المقام؟ وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟ وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلّف هذا التكليف، وتتجشّم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟؟ هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع. أولاً: إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أَرادوا أن يحاربوا علياً محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون عليّ فقيراً حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي، وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضُّوا من حوله. ثانيا: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت مثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد. وذكر الشيخ المجلسي عن كشف المحجة أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أُخرى سبعين ألف دينار ولعل هذا الاختلاف في واردها حسب اختلافهم السنين. وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة، لا يصح التغاضي عنها. ثالثاً: إنها كانت تطالب (من وراء المطالبة بفدك) بالخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه قال: سألت عليّ بن الفارقي، مدرّس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاماً لطيفاً مستحسناً مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته قال: لو أعطاها اليوم فدك، بمجرد دعواها لجاءت إليه غداً وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار، والموافقة بشيء، لأنه يكون قد سجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدّعي، كائناً ما كان من غير حاجة إلى بينة وشهود. رابعاً: الحق يُطلب ولا يُعطى، فلا بد للإنسان المغصوب منه ماله أن يطالب بحقه، لأنه حقه، حتى وإن كان مستغنياً عن ذلك المال وزاهداً فيه، وذلك لا ينافي الزهد وترك الدنيا، ولا ينبغي السكوت عن الحق. خامساً: إن الإنسان وإن كان زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة فإنه مع ذلك يحتاج إلى المال ليصلح به شأنه، ويحفظ به ماء وجهه ويصل به رحمه، ويصرفه في سبيل الله كما تقتضيه الحكمة. أما ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو أزهد الزهاد كيف انتفع بأموال خديجة في سبيل تقوية الإسلام؟ كما مرَّ كلامه (صلى الله عليه وآله) حول أموال خديجة في 9. سادساً: قد تقتضي الحكمة أن يطالب الإنسان بحقه المغصوب، فإن الأمر لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يفوز الإنسان ويظفر بما يريد وهو المطلوب وبه يتحقق هدفه من المطالبة. وإما أن لا يفوز في مطالبته فلن يظفر بالمال، فهو إذ ذاك قد أبدى ظلامته، وأعلن للناس أنه مظلوم، وأن أمواله غصبت منه. هذا وخاصة إذا كان الغاصب ممن يدّعي الصلاح والفلاح، ويتظاهر بالديانة والتقوى، فإن المظلوم يعرّفه للأجيال أنه غير صادق فيما يدَّعي. سابعاً: إن حملة المبادئ يتشبثون بشتى الوسائل الصحيحة لجلب القلوب إليهم، فهناك من يجلب القلوب بالمال أو بالأخلاق أو بالوعود وأشباه ذلك. ولكن أفضل الوسائل لجلب القلوب (قلوب كافة الطبقات) هو التظلّم وإظهار المظلومية فإن القلوب تعطف على المظلوم كائناً من كان، وتشمئز من الظالم كائناً من كان. وهذه خطة ناجحة وناجعة لتحقيق أهداف حملة المبادئ الذين يريدون إيجاد الوعي في النفوس عن طريق جلب القلوب إليهم. وهناك أسباب ودواع أُخرى لا مجال لذكرها. لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجل المطالبة بحقها. إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله). كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضاً ليكون المسجد غاصّاً بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار ولم تخرج وحدها إلى المسجد، بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلّقوا ستراً لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات وسيدة المحجبات. كانت هذه النقاط مهمة جداً، واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد وأعلم امرأة في العالم كله. خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية، منظمة، منسقّة، بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزّهة عن المغالطة والمراوغة، والتهريج والتشنيع. بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذَّة، ومكانتها السامية. وتُعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء. وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوّع البحث، فالقلم وحده لا يستطيع استيعاب الوصف، بل لا بدَّ من الاستعانة بذهن القارئ. كانت السيدة فاطمة مسلّحة بسلاح الحجة الواضحة والبرهان القاطع، والدليل القوي المقنع وكان المسلمون الحاضرون في المسجد ينتظرون كلامها، ويتلهّفون إلى نتيجة ذلك الحوار والاحتجاج الذي لم يسبق له مثيل إلى ذلك اليوم. جلست السيدة في المكان المعدّ لها خلف الستر، ولعل دخولها يومذاك كان لأول مرة بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). فلا عجب إذا هاجت بها الأحزان، وأنَّت أنَّة. إنني أعجز عن التعبير عن تحليل تلك الأنَّة، ومدى تأثيرها في النفوس. أنَّة واحدة فقط - بلا كلام- تهيّج عواطف الناس، فيجهش القوم بالبكاء. أنا ما أدري ما كانت تحمل تلك الأنّة من المعاني؟ ولماذا أجهش الناس بالبكاء؟ وهل الأنَّة الواحدة تُبكي العيون، وتُجري الدموع وتُحرق القلوب؟ هذه ألغازٌ لا أعرف حلَّها، ولعل غيري يستطيع حلّ هذه الألغاز!!!. رؤوس نُقَاط الخطْبَة اختارت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لخطبتها هذا الأُسلوب للبداية والنهاية إنها لم تكتف بالتركيز على مطالبة حقها فقط، بل انتهزت الفرصة لتفجر للمسلمين عيون المعارف الإلهية، وتكشف لهم محاسن الدين الإسلامي، وتبيِّن لهم علل الشرائع والأحكام وضمناً تهيئ الجو لكلامها المقصود وهدفها المطلوب.وهذه رؤوس أقلام الخطبة ومواضيعها: الحمد والثناء على الله. التوحيد الاستدلالي. النبوة. التحدث عن العهد الجاهلي. إنجازات الرسول. توجيه الخطاب إلى الحاضرين. التحدث عن القرآن. بيان علل الشرائع وفلسفة الإسلام. الدخول في صميم الموضوع. حوادث فترة الرسالة. موقف زوجها العظيم من تلك الأحداث. بيان انقلاب الحكم ضد آل الرسول. بيان تخاذل المسلمين تجاه أهل البيت توجيه الخطاب إلى رئيس الدولة حول الإرث. إقامة الأدلة والبراهين. توجيه العتاب إلى الأنصار وتوبيخهم. جواب رئيس الدولة. تزييف كلامه وتفنيد مغالطاته. اعتذار رئيس الدولة. توجيه الخطاب إلى الحاضرين، شكوى إلى رسول الله. |
#85
| ||
| ||
رد: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الاخ احمد المحلاوي السلام عليكم اعلم يا اخي العز يز انه لايوجد مصحفا بمعنى المصحف الحالي لدى السيده فاطمة الزهراء عليها السلام بل هو كتاب عادي فيه مجموعه من الاعمال والادعيه التي كانت السيده تقوم بها اما القول ان السيده لديها قران اخر فهذا ليس له اساس من الصحه وانما هذامن الدسائس التي يضعها اليهود واعداء الدين ليزرعوا التفرقه والاختلاف بين فرق المسلمين . |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
سنن غفل عنها اكثر الناس | فريال (نور الإسلام ) | نور الإسلام - | 6 | 05-24-2017 01:32 PM |
أروع قصص الحب | قتيبة الهيتي | نور الإسلام - | 19 | 09-25-2007 10:05 PM |
كتاب الطب النبوي ... | ABUMOHANAD | نور الإسلام - | 1 | 05-08-2007 05:38 PM |
الاذكار | omaymah | نور الإسلام - | 4 | 04-29-2007 01:12 AM |
تفسير سورة البقرة | ربي وربك الله | نور الإسلام - | 3 | 04-15-2007 04:43 PM |