مَسْبَغَة المَوتى
لن تمحو الأيام تلك الليلة من كتاب الذكريات المنقوش على جدار قرية (ميرسبورغ) الصغيرة، القرية التي تغسل ضفائر أشجارها على البر الغربي من بحيرة (كونستانس.)
هذه البلدة التي آثرت العيش بعيدًا عن صخب الحياة وصفير قطارها الذي يعبر العمر دون وقوف.
فتلك الليلة.. كانت بداية كل شيء
كان نورالصباح الرقيق قد توارى مع بعض نجيمات الليل المكافحات، خلف السحب البيضاء المحملة بماءالحياة.
ارتفع صياح ديك وحيد في تلك المنطقة المنعزلة من أقاصي القرية الألمانية... وبدأ النور يشق رحلته الصباحية المعتادة عبرالظلام يقهره.
في منزل على أطراف القرية، تسكن (واندا أنسيلمو)... صبية أكملت عامها الرابع عشرمنذ أيام فحسب.
كانت واندا تعيش مع والدتها المريضة في بيتٍ صغير مائل السقف، باروكي الهيئة.
كان البيت الصغير قديمًا رطبًا، تفوح منه رائحة احتراق حطب خفيفة، ممتزجة وروائح الزمن.
المنزل الصغير بدا أقرب إلى كوخ يقع على طريق الغابة.
وكما يحدث كل عام في مستهل أكتوبر، كانت أكوام من أوراق الشجر المتساقطة قد غطت الطريق والأرض حول المنزل الصغير.
لم تكن أم واندا قادرة على مغادرة الفراش إثر المرض، ولذا وقع على عاتق واندا العناية بشؤون البيت كلها.
فكانت تهتم بتنظيف المنزل وتعتني بالمزروعات والحيوانات دون أي مساعدة
من الفجر وحتى مغيب الشمس، كانت الصبية الصغيرة تكدّ ُفي العمل الشاق دون تذمر.
في الربيع كانت تزرع الخضر والقمح، وعند الخريف تبدأ بتقطيع الحطب استعدادا للشتاء.
وكل نهار، بغض النظر عن حالة الطقس والجو، كانت تجمع أغطية سرير أمها وملابسها لتغسلها عند البحيرة.
إن كان الجو صحوًا تركت الثياب تجف خارجًا، وإن أمطرت علقتها أمام المدفأة.
والواقع أن واندا أحبت العمل وأن تشغل نفسها باستمرار، فلم تكن تملك جيرانا أو أصدقاء.. ولا الوقت لتتسلى كغيرها من أبناء جيلها.
لم يكن بوسع أمها –الشخص الوحيد الذي يؤنسها- القيام بأي شيء... كانت والدتها غير قادرة حتى على اطعام نفسها رغم جوعها الدائم.
وصعب عليها معظم الأحيان رفع الملعقة الصغيرة، ماجعل مهمة اطعامها جزءا من مهام واندا اليومية العديدة.
بالنسبة لواندا كان العمل شيئا يجب القيام به وحسب... شيئا لاجدوى من الشكوى منه.
ومع ذلك... كانت ثمة مهمة واحدة تكرهها واندا بشدة....
ففي اليوم الثالث من كل شهر، كانت والدتها تأمرها بأن تخبز قدرا كبيرا من الخبز ثم تأخذه إلى الغابة، حيث يتوجب عليها أن تضع الخبز فوق قبر كل من إخوتها الثلاث...
جميعهم كانوا قد توفوا قبل زمن من ولادتها، إلا أن أمها استمرت في التحدث عنهم كما لو كانوا أحياء يعيشون معهم في المنزل الصغير.
مهمة الطهو والخبز تلك بدت لواندا عديمة المغزى، ومضيعة كبيرة للوقت.
كانت تقضي وقتا طويلا في جمع البيض من الدجاج، وحلب الماعز، ثم طحن القمح لتجهيز الدقيق –الجزء الأصعب من عملها-... فلأجل طحن دقيق كاف لإعداد كمية الخبز الكبيرة تلك،
توجب عليها أن تطحن القمح حتى تدمى يداها الصغيرتان جراء حجر المطحن القاسي.
وصباح ذلك اليوم الذي صادف الثالث من شهر أكتوبر، ذكرتها أمها بأن الوقت قد حان لتجهيز الخبز لإخوتها..
سألتها واندا، حذرة من أن تلبس نبرتها شيئا من الشكوى:
"لكن أماه، أيجب علي فعل ذلك؟"
أجابت أمها بصوت حازم رغم ضعفه:
سألت واندا بشيء من الغضب من فكرة هدركل ذلك الطعام، وأردفت:
"إن إخوتي قد رحلوا قبل زمن طويل جدا،فأي فائدة نجنيها من إعداد الطعام لهم؟!"
اكتفت أمها بأن ردت بنبرة غامضة:
لم تعلم واندا إن كان ما قالته تحذيرا أم أمرا، لكنها لم تجادل أمها أكثر.
نادرا ما كانت أمها تتكلم، وحين تختار أن تفعل، لم تكن تسمح بأن يتم تجاهلها!
لاعنة إخوتها الموتى، خرجت واندا صباح ذلك اليوم لتستهل عملها بجمع البيض من الدجاج.
وحين دارت حول البيت الصغير ووقفت أمام خم الدجاج، أدركت أن شيئا ما كان خاطئا.
باب الخم كان مفتوحا، والهواء حوله يعبق برائحة الصدأ..
وفي الداخل رأت فوضى من الريش والأعشاش المقلوبة لكنها لم تجد أي طير.
أدركت بغم أن ذئبا بريًا تسلل إلى الخم وقتل كل دجاجاتها العزيزات!
بحذر فتشت واندا بين القش علّها تجد بيضًا لم يُكسر.
وحين انتهت من تنظيف الفوضى، ثلاث بيضات فقط كان كل ما تبقى لديها، وهي كمية لا تكفي البتة لإعداد الخبز المطلوب لإخوتها.
تمهلت واندا تفكر بالأمر مليًا... كانت حاجتها ووالدتها للطعام أهم من طقس أمها الغريب في الخبز للموتى،
لقد أهدرت الطعام فوق قبور إخوتها سنوات عديدة دون تقصير... حارمة نفسها من الأكل أحيانا كي لا تنقص الكمية المطلوبة... وكله دون مغزى!
ما كانت أمها تغادر سريرها أبدا، لذا لن يكون بوسعها أن تعلم إن قامت بإعداد الخبز حقًا أم لا.... لذا.. ولأول مرة في حياتها، قررت واندا أن تعصي أمرا لوالدتها.
ألقت نظرة من النافذة لتتأكد من كون أمها نائمة.
كان الجو باردا خارجا رغم أن الشتاء لم يحلّ بعد... ولأنها لم تكن تجيد البقاء دون عمل،
التقطت واندا عباءتها الصوفية الزرقاء وتوجهت لقطع الحطب.
بعد ساعات بدأت الشمس تغيب، وراحت السحب الداكنة تحتشد في الأفق.. فعادت واندا إلى المنزل.
راحت تدندن لنفسها بينما ترص قطع الحطب بجانب المدفأة في ردهة المنزل.
ثم توجهت إلى المطبخ.. علقت عباءتها، وجمعت شعرها الأشقرالطويل بمنديل، ثم شرعت في إعداد الحساء لأمها.
راح الطقس في الخارج يزداد سوءا... فما إن غابت الشمس حتى قرر البرد أن يمارس نفوذه، ويفرض كامل سطوته... فإختفى القمر وسط السماء المكفهرة، التي لم تتوانى لحظة بأن تذيق الأرض بأسها، وتغسلها بعنف وبلا رحمة...
وتسلل الزمهرير ليحيط بالموجودات ويبعث القشعريرة في النفوس والأجساد... وبين الحين والآخر كانت ألسنة البرق تهوي من وسط الظلام فتتوهج الأشجار.. الأشجار التي توشك العواصف على اقتلاعها من موضعها... والريح تعوي بلا انقطاع.
في الداخل.. لم تكن واندا قلقة من الطقس العاصف...
كانت قد فرغت من تحضير العشاء وصبت جزءا منه في طبق حملته في يد.. وحملت بالأخرى شمعدانا تستنير به،واتجهت إلى غرفة أمها.
وضعت الشمعدان أمام الباب، بعيدًا حيث لا يضايق نوره والدتها المريضة، فقد كان الضوء يسبب لها الصداع...
لم يزعجها غياب النور عن الحجرة، فقد قامت بمهمة اطعام والدتها سنوات بحيث لم تعد تزعجها العتمة ولارائحة المرض العالقة في هواء الغرفة الصغيرة.
أدركت كم كان الكذب سهلًا على شخص بحالة أمها الصحية، يمكنها أن تكذب طوال الوقت إن شاءت ولن يكتشفها أحد.
ابتسمت لفكرة كل الأعمال التي لن تضطر للقيام بها مجددا، ثم قالت:
"أعددت بعض الحساء لأجلك أماه."
وبمشقة بالغة أسندت الأم نفسها على السرير بوضعية الجلوس، كانت ذراعاها نحيلتين جدا، جلدها شديد الشحوب، وشعرها مشعث للغاية،
تذكر واندا كيف راح يتساقط في حزم كلما حاولت تسريحه في الماضي.. ما جعلها تتخلى عن تلك الفكرة.
كان شعر أمها الرمادي يغطي جزءا كبيرا من وجهها الآن، كستارة اسبانية عتيقة، ولم يكن بيدها شيء لترتيب مظهره.
تذوقت واندا الحساء لتتأكد من أنه ليس ساخنًا جدا، وفجأة..
ما جعلها تجفل وتوقع الطبق، فانسكب الحساء على الأرض.
تساءلت واندا وهي تسرع لتنظيف الفوضى التي أحدثتها.
حسب علمها أقرب جار لهم كان يبعد مسافة عشرة أميال عن منزلها.. ومن غير الممكن أن يكون هو من يطرق باب البيت في هذا الوقت المتأخر.
انتفضت واندا حين رفعت أمها يد عظمية النحول لتمسك برسغها، هامسة بغضب:
"لم تصنعي الخبز..أليس كذلك؟"
سألتها وشيء من الخوف يتسلل لقلبها الصغير... كان بوسعها أن تستشعر خطبًا جللا على وشك الحدوث.
قالت أمها بذات النبرة، وتابعت مفلتة رسغها:
"دعيه يدخل وقدمي له الطعام."
عضت واندا على شفتها، رغم كون ما تسمعه مستحيلًا، إلا أنها تعرف جيدا أن أمها لم تكن لتهدر كلماتها بكذبة.
والأهم من هذا، كانت تستطيع شم رائحة الأرض المبتلة واللحم المتعفن قادمين من الباب الخارجي!
طرق آخر ارتفع، أكثر إلحاحا من سابقه.
لم يكن صوتها أكثر من همس مرعوب.
كانت خائفة مما قد تجده خلف الباب.. فلم يسبق لها وأن سمعت عن أموات يغادرون قبورهم!
ومع تلك الكلمات أخذت واندا نفسًا عميقًا، وتقدمت نحو الباب ببطء... لم يسبق لها لقاء أخيها، ولكنها افترضت أنه طالما يربطهما دم واحد فحتما لن يؤذيها!
يمكنها أن تعتذر عن نسيانها أمر الخبز، تسقيه بعض الحساء.. وسيكون كل شيء بخير... رددت ذلك في سرها مطمئنة نفسها قدر الإمكان.
ثم رسمت أفضل ابتسامة استطاعتها في ظرف كهذا، وفتحت الباب.
أصغر أشقاء واندا كان قد توفي في العام الذي ولدت فيه كما قيل لها،
لكنه بدا الآن كمن مات حديثا، وجهه كان أبيض كغسيل واندا النظيف المعلق أمام المدفأة، لم يكن يملك شعرا.. وجلده بدا متشققا مطاطي الهيئة.
سالت دماء عفنة من حذاءه وملابسه المبتللة حين خطا إلى الداخل...
وتساقطت ديدان وحشرات من طيات ثيابه حين ارتمى جالسا على المقعد أمام طاولة المطبخ!
تسمرت واندا مكانها وقلبها يهدر بعنف، بغرابة كانت الحشرات الشيء الوحيد المألوف فيه والذي لم يخفها، ودت لو تسحق الديدان الزاحفة أسفل قدميها... وفكرت بأنها ستفعل ذلك لاحقا... حين يعود شقيقها إلى قبره.
حدق أصغر إخوتها فيها بنظرة جوفاء... وأعلن:
"أنا جائع.... أحضري لي شيئا لآكله."
تدفقت الدماء من فمه حين تكلم...
فشعرت بالسقم وأومأت واندا برأسها، تحركت مذعورة عبر المطبخ، لم تكن قد أعدت أي خبز، لكنها كانت تملك كمية من الحساء الذي أعدته لأمها، وقطعة من الجبن كانت تحفظها للطوارئ.
جلبت الطعام سريعا لأخيها ووضعته أمامه فابتلعه دفعة واحدة...
صرخ أصغر أشقائها حانقا، يضرب بقبضته الضخمة سطح الطاولة:
رائحة أنفاسه أشعرتها بالدوار... وركضت واندا تلتقط مرطبان من مربى الخوخ من رف المطبخ وتناوله إياه.
قام أصغر إخوتها بفتح المرطبان بأسنانه الصفراء محدثا صريرا مريعا، ثم تجرع محتواه دفعة واحدة.
أرادت واندا أن تعترض، لكن وقبل أن تستطيع شرح ما أصاب دجاجاتها هذا الصباح، نهض أصغر أشقائها من المقعد، كان أقوى و أضخم بنية منها، لذا أزاحها عن طريقه ببساطة قبل أن يلتقط مرطبان مربى آخر من الرف.
وحين لم يستطع فتحه بأسنانه هذه المرة، حطمه على الرف.. مريقا نصف محتوياته، ثم راح يبتلع ملء كفه من المربى والزجاج المهشم...
سالت دماء متخثرة ببطء من فمه إثر جروح التي أحدثها الزجاج، لكنها استمر في الأكل دون أن يلاحظ!
حدقت واندا في المشهد أمامها شاحبة، متسعة العينين... حتى سمعت طرقا آخر على الباب.
كانت الضربات قوية هذه المرة أشبه بهزيم الرعد، ما بعث قشعريرة في عمودها الفقري.
نادت أمها من غرفتها، وقالت:
"شقيقك الأوسط على الباب، افتحي له وقدمي له شيئا يأكله."
"لكن أماه... أصغر إخوتي قد أجهز على كل شيء."
كانت العبارة رد أمها الوحيد.
ولأنها غير قادرة على فعل شيء لإيقاف أصغر أخوتها من تحطيم مطبخها، أطلت واندا من النافذة.. وكما توقعت أمها كان شقيقها الأوسط أمام الباب.
ورغم أنها كانت تتنفس بهدوء ولم تصدر أي صوت إلا أنه انتبه إليها على نحو ما..
فالتفت لينظر بإتجاهها... لم يكن يملك عيونا... فجوتان مظلمتان صوبتا نحوها بدقة، ما أشعرها بأنه قادر على رؤيتها بطريقة ما.
رفع يده ليطرق الباب من جديد.. فانسابت حية من كمه الممزق تتلوى على الأرض... واتسعت عينا واندا الزرقاوان أكثر حتى.. وشهقت تبتعد عن النافذة قليلا.
في الداخل كانت أمها تكرر أمرها:
"لن أفعل! وإن كنت تحبينه إلى هذا الحد فافتحي له بنفسك!"
لم يكن من طبعها أن تكون وقحة أو ترفض أمرا لأمها، لكن الرعب الذي كان ينتابها جراء ما تراه كان أكثر مما تستطيع أعصابها أن تحتمله.
حين لم تفتح واندا الباب، استدار شقيقها الأوسط وتحرك ببطء نحو حقل المزروعات... أثارت السرعة التي راح يلتهم بها كل ما في الحقل مزيدا من الذعر في قلبها وشعرت بأنفاسها تختنق...
كانت واندا قد قطعت سنابل القمح لكنها لم تكن قد جمعتها بعد.. وراح شقيقها الثاني يأكل كل ما تقع عليه عيناه بما في ذلك عيدان القمح، ويلقي بما لا يستطيع حشره في حلقه على الأرض.
اندفعت واندا إلى غرفة أمها وركعت بجوار سريرها، توسلتها بعيون دامعة وصوت مهزوز:
"أماه..أرجوك افعلي شيئا.... أرجوك... إنهما يحطمان كل شيء!"
"كان عليك أن تعدي لهما الخبز!"
قالتها ثم دفعت واندا بعيدًا عن سريرها واستدارت إلى جانبها الآخر توليها ظهرها... كما لو كانت ستستسلم للنوم.
ارتمت واندا على الأرض أمام المدفئة باستسلام، احتضنت ركبتيها وأصغت للضوضاء التي يحدثها أخواها وهما يدمران كل شيءعملت عليه بجهد.
إذا ما رحلا في الصباح... –وهي كانت تتمنى بحرارة أن يفعلا-... ستكون مفلسة.. بدون أي شيء في مواجهة الشتاء القادم... لا حيوانات ولا مزروعات.. لن يعود بوسعها توفير أي قوت لها ولأمها، ناهيك عن إخوتها الملعونين.
كان الوقت قرابة الفجر حين سمعت من جديد طرقا خافتًا على الباب...
برد صقيعي انسل من الفتحة أسفل الباب.. فارتجفت واندا وفي ذات الوقت تعرقت بشدة.
"شقيقك الأكبر أمام الباب وهو جائع."
سمعت صوت أمها قادما من الغرفة..
ولاحظت من فورها أن أمها لم تطلب منها إدخاله إلى البيت.
"ارحل... لم يتبقى شيء تتناوله..."
صاحت واندا بالزائر خلف الباب..
بدأ شقيقها الأكبر بضرب الباب بقوة اهتزت معها أركان البيت الصغير، وطقطقت مفاصل الباب...
"ارحل... لا أستطيع اطعامك... لم يتبقى شيء في المنزل!!"
وفيما تنطق كلماتها تلك سمعت ثغاء معزتها الوحيدة يرتفع برنة غريبة... تبعها صوت تمزق باعث على السقم.
وأيقنت أن شقيقها الأوسط قد قتل آخر حيواناتها فعلا.. محاولا تغذية جوعه الفظيع..
مر ببالها بينما تحتضن نفسها أقوى.. خاطرجعل أسنانها تصطك... حين لا يتبقى شيء في المنزل هل سيقتلها اخوتها؟!
بدا لها هذا الاحتمال قائما...
سألت بهدوء غريب رغم كل ما يعتمر داخلها:
"أماه... ماذا سيفعل أخي الأكبر حين لا أتمكن من اطعامه؟!"
لم تجب أمها، فراحت تتوسلها:
"أماه..أجيبيني... إذا مت،من سيعتني بك؟!"
نطقت أمها ببطء وأشارت يدها المرتعشة بضعف ناحية الفأس المسندة بجوار كومة الحطب يسار المدفأة...
التقطت واندا نفسا عميقا تحاول السيطرة على ارتجافها.. حتما لم تكن أمها تعني أن تستخدم الفأس ضد أخيها الأكبر!
بعد لحظات تردد، أحكمت واندا قبضتها على الفأس.. ووقفت أمام الباب تنتظر..
أحدثت قبضة شقيقها الأكبر شرخا كبيرا في الباب.. ما سمح لها بأن تلمح هئته على نور المدفأة..
شقيق واندا الأكبر كان قد توفي قبل أخويها الآخرين بسنوات.. فبدا تقريبا خاليا من أي شيءعدا العظم.
قيح أسود راح يقطر من أطرافه التي كانت مثقلة بالثياب الممزقة واللحم المتحلل...
لم يتكلم... بل مد أصابعه الشبيهة بمخالب عظمية اتجاه واندا.. وكان وجهه العظمي نصف المتحلل ينظر إليها كوجبة شهية...
لم تتردد واندا،نصل فأسها اللامع ضرب بعنف عنق أخيها..
فسقط رأسه عن كتفيه.. وتدحرج عبر الأرضية... ثم تفتت جسده كله متكوما على الأرض كومة من العظام واللحم المتفسخ والدماء السوداء... كومة خالية من الحياة!
أدركت واندا قوتها الجديدة.. فتحركت إلى الخارج... وجدت شقيقها الأوسط على ركبتيه لايزال منشغلا في التهام بقايا المعزة الممزقة، وبضربة دقيقة فصلت واندا رأسه عن جسده..
مرتجفة... وغير قادرة على تتبع هيجان مشاعرها العديدة... عادت إلى المنزل كي تنهي أمر أصغر إخوتها كذلك.
"توقفي واندا... لا تفعلي!"
ردت بهمس، شقيقها الثالث كان مستلقيا على الأرض وسط فراش من الزجاج وبقايا المربى..
وقبل أن يدرك ما يحدث حتى.. أنزلت واندا الفأس بقوة تفصل رأسه عن جسده...
وقع الرأس أرضا.. وتدفق من حنجرته المقطوعة مزيج من الدماء والمربى.. والديدان الملتوية..
أسقطت واندا الفأس.. كانت قد نجت... قضت عليهم جميعا ونجت..
لكنها لم تنقذ شيئا من محتويات المنزل...
لهثت تلتقط أنفاسها الثائرة.... وسرت رعدة أخرى في جسدها الصغير..
في الخارج كانت الشمس تشق طريقها بالكاد عبر العاصفة والظلام..
تجاوز الوقت موعد العشاء بزمن... ما كانت تملك شهية لأي شيء.. لكنها نسيت أن تطعم والدتها في الموعد المحدد...
وببطء أدارت واندا رأسها لتنظر وراء كتفها..
كانت أمها قد نهضت عن سريرها.. وتسللت لتقف خلفها دون أن تلحظ... ملابس نومها كانت مبتلة بشيء داكن ارتابت في كونه دمًا... فالتصقت بجسمها النحيل نحول العظام.
وأسفل شعرها الرمادي الذي يغطي وجهها التمعت عيناها كعيون الأسماك النافقة... تحدق فيها بجوع...
اتسعت عينا واندا ولأول مرة في حياتها شعرت بالرعب من مظهر أمها..