عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة > روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة

روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة يمكنك قراءة جميع الروايات الكاملة والمميزة هنا

 
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #6  
قديم 09-25-2015, 10:00 AM
 


×الفصل الثـآنـي×

- 1-


خارج محطة أوكبريدج وقف حشد من الناس يبدو عليهم شيء
من الحيرة، وخلفهم وقف حمّالون معهم حقائب سفر،

وصاح صوت من بينهم : جيم.
فتقدم أحد سائقي سيارات الأجرة وقال بلهجة أهل ديفون الرقيقة:
هل بينكم من يريد الذهاب إلى جزيرة الجنود؟

ردّت أربعة أصوات بالإيجاب، ثم ما لبثوا أن تبادلوا نظرات متشكّكة،
فوجّه السائق كلامه إلى القاضي وارغريف

باعتباره أكبر المجموعة سنّاً وقال: توجد هنا سيارتان يا سيدي،
إحداهما يجب أن تنتظر حتى يصل القطار البطيء

من إكستر بعد نحو خمس دقائق من الآن، وسيصل رجل واحد
في ذلك القطار. هل يستطيع أحدكم الانتظار إن لم

يكُن لديه مانع؟ سيكون ذلك مريحاً أكثر لكم.

وبدافع من إدراكها أنها تمثل دور السكرتيرة قالت فيرا كلايثورن
على الفور: أنا سأنتظر، إن أردتم أنتم الذهاب.

أوحت نظرتها ولهجتها بشيء من السلطة المكتسّبة من تعوّدها
ممارسة منصب قياديّ، وبدت كما لو كانت توجّه

مجموعة من الفتيات وهنْ يلعبن التنس.
قالت الآنسة برنت بلهجة جافة: " شكراً ". ثم دخلت سيارة
كان سائقها يمسك بابها المفتوح بيده، وتبعها القاضي
وارغريف
في حين قال الكابتن لومبارد: سأبقى مع الآنسة...

قالت فيرا: كلايثورن.
- اسمي لومبارد ، فيليب لومبارد.
كان الحمّالون يضعون الحقائب داخل سيارة الأجرة حين
قال القاضي وارغريف بتحفّظ رجل قانون:
لدينا طقس
جميل اليوم.
فردّت الآنسة برنت: أجل، هذا صحيح.
وفكّرت بينها وبين نفسها بأن هذا العجوز تبدو عليه سمات
الرجال الفضلاء الذين يختلفون تماماً عن نوعيات هؤلاء

الذين يرتادون فنادق الشواطئ. يبدو أن السيدة أو الآنسة أوليفر ذات علاقات جيدة. قال القاضي وارغريف مستفسراً:
هل تعرفين هذه المناطق جيداً؟

- سبق أن زرت كورنوول وتوركاي، ولكن هذه أول زيارة لي
إلى هذا الجزء من ديفون.

قال القاضي: وأنا أيضاً لست ملّماً بهذه المنطقة.
تحركَت سيارة الأجرة فقال سائق السيارة الثانية:
هل تريدون الجلوس في أثناء انتظاركم؟

فردّت فيرا بحزم: لا.
ابتسم الكابتن لومبارد وقال: ذلك الحائط المشمس يبدو أكثر جاذبية،
إلا إذا أردت الدخول إلى المحطة
.

- في الواقع لا أريد؛ فمن المبهج أن يخرج المرء من
جو ذلك القطار الخانق.

- أجل، السفر بالقطار متعب في هذا الطقس.
قالت فيرا: آمل أن يدوم هذا... أعني الطقس. إن صيفنا
الإنكليزي مخادع للغاية!

سأل لومبارد بنبرة يُعوِزها الصدق قليلا :
هل تعرفين هذا الجزء من العالَم جيداً؟

- لا ، لم آتِ هنا من قبل.
ثم أضافت بسرعة وهي عازمة على توضيح موقفها في التوّ :
ولا حتى شاهدت مستخدمي بعد.

- مستخدِمك؟
- نعم، أنا سكرتيرة السيدة أوين.
- آه ، فهمت.
ثم ران عليه هدوء واضح وأصبح أكثر اطمئناناً ولهجته
أكثر ارتياحاً وقال: أليس هذا غريباً نوعاً ما؟

فضحكت فيرا وقالت : لا أظنه غريباً؛ لقد مرضَت سكرتيرتها
فجأة فأبرقَت إلى وكالة توظيف تطلب بديلة لها،
فأرسلوني.
- هكذا كان الأمر إذن؟ ولكن ماذا لو لم تعجبك الوظيفة
عندما تصلين هناك؟

ضحكت فيرا ثانية وقالت: إنها وظيفة مؤقَّتة على أي حال؛
وظيفة صيفية ، ولديّ وظيفة دائمة في مدرسة بنات.

أنا
في الواقع مشتاقة بشدة لرؤية " جزيرة الجنود " ؛ فقد نُشر
الكثير عنها في الصحف. هل هي بهذه الروعة حقاً؟

قال لومبارد: لا أعرف؛ لم أرَها من قبل.
- حقاً؟ إن عائلة أوين مغرَمون بها للغاية كما أظن.
أيّ نوع من الناس هم ؟ أخبرني.

ففكر لومبارد وقال لنفسه: يا لها من ورطه! هل المفروض أنه
سبق لي الالتقاء بهم أو لا؟

ثم قال بسرعة: أرى دبّوراً يزحف على ذراعك! لا ، لا تتحركي.
وطوح يده بما يوحي بإزاحته، وقال: حسناً ، تخلصّنا منه الآن.
- يا إلهي! شكراً لك. توجد دبابير كثيرة هذا الصيف!
- أجل، لعلها الحرارة. مَن هو الذي ننتظره؟ هل تعلمين؟
- ليست لدي أيّ فكرة.
ثم تناهى إليهم الصوت الزاعق الطويل المميّز لقطار يقترب
فقال لومبارد: ها هو القطار قادماً.

ثم ظهر من باب الخروج من الرصيف رجل عجوز طويل ذو
مظهر عسكري وشعر أشيب مصفَّف بعناية وشارب

أبيض مشذَّب، وتبعه حمّال ينوء قليلاً بحمل حقيبة سفر جلدية،
وأومأ باتجاه فيرا و لومبارد فاندفعت فيرا بطريقة تنمّ

عن الكفاءة وقالت: أنا سكرتيرة السيدة أوين. توجد سيارة في الانتظار.
وأضافت بسرعة: وهذا هو السيد لومبارد.
نظر الوافد الجديد بعينين زرقاوين باهتتين يلمع فيهما الذكاء،
وكانت نظرته إلى لومبارد نظرة تقييم، فلو كان

شخصُ ما يراقبه لرأى عينيه تزنان الرجل، وقال لنفسه:
رجل حسن المظهر، ولكنّ فيه شيئاً يثير الريبة.

ركب الثلاثة سيارة الأجرة فسارت بهم عبر شوارع أوكبريدج النائمة،
ثم تابعت السير ميلاً آخر على طريق

بلايموث قبل أن تدخل في شبكة من الطرق الريفية الخضراء
الضيقة شديدة الانحدار.

قال الجنرال ماك آرثر : لا أعرف هذه المنطقة من ديفون إطلاقاً؛
إن منزلي الصغير يقع في شرق ديفون قرب خط

الحدود مع دورست.

قالت فيرا: المكان جميل هنا حقاً، التلال والأرض الحمراء،
وكل شيء أخضر ومنمَّق.

قال فيليب لومبارد منتقداً قولها: المنطقة مغلقة إلى حد ما،
وأنا أفضّل المناطق الريفية المفتوحة حيث بوسعك

مشاهدة الأشياء عن بعد.

فقال الجنرال ماك آرثر: أظن أنك شاهدت جزءاً لا بأس به من العالَم،
أليس كذلك؟

فهزّ لومبارد كتفيه باستخفاف وقال: لقد تجولت هنا وهناك يا سيدي.
وقال بينه وبين نفسه: سيسألني الآن عمّا إذا كنت قد عاصرت الحرب.
هؤلاء العجائز يسألون أشياء كهذه دائماً
.

إلاّ أن الجنرال ماك آرثر لم يذكر شيئاً عن الحرب.

-2-
صعدت بهم السيارة مرتفَعاً حادّاً، ثم نزلت في طريق
متعرج
إلى ستيكلهيفن
التي لم تكُن سوى مجموعة صغيرة
من
الأكواخ وقارب صيد أو اثنين يرسوان على الشاطئ.
وفي ضوء الشمس التي توشك على المغيب شاهدوا للمرة
الأولى " جزيرة الجنود" تبرز من البحر من الجهة الجنوبية.
قالت فيرا بدهشة: المسافة بعيدة إلى هناك!
كانت قد تصورَتها أقرب إلى الشاطئ ويعلوها بيت أبيض جميل،
ولكن لم يكُن هناك بيت يمكن رؤيته على هذه الجزيرة.
وشعرت لدى رؤيتها بشعور غير مريح، وأحسّت برعشة خفيفة!

-3-
خارج نُزُل صغير يُدعى " النجوم السبعة " جلس ثلاثة أشخاص
بدا بينهم الهيكل الأحدب للقاضي العجوز والقامة المنتصبة
للآنسة برنت وشخص ثالث ضخم عريض الكتفين تقدّم نحوهما
مقدّماً نفسه قائلا : رأينا أن ننتظركم لنتابع معكم بقية الرحلة.
اسمحوا لي بأن أقدّم نفسي: اسمي ديفيس ناتال، ومسقط
رأسي جنوب إفريقيا.

قالها وأطلق ضحكة خفيفة، فنظر إليه القاضي وارغريف بحنق ظاهر
وبدا كما لو أنه يرغب بإعطاء أمر " بإخلاء المحكمة " ،
أمّا الآنسة برنت فلم تكُن تميل إلى رجال المستعمَرات.
وسأل السيد ديفيس داعياً المجموعة: هل يوجد
من يرغب في تناول شراب قبل أن نستقلّ القارب؟

ولم يتلقَّ ردّاً من أحد فاستدار رافعاً إصبعه وقال :
إذن يجب أن لا نتأخر؛ فمضيفنا ومضيفتنا الكريمان في
انتظارنا.

ولعله لاحظ توتراً غريباً على بقية أفراد المجموعة، وكأنما
كان لذكر المضيف والمضيفة أثر محبِط بشكل غريب
على الضيوف.
واستجابة للإشارة التي أبداها السيد ديفيس بإصبعه برز رجل
من جانب حائط مجاور كان يميل عليه، وبدا من
مشيته أنه رجل يعمل في البحر ؛ كان ذا وجه بدت عليه
آثار تقلبات الطقس وذا عينين داكنتين وإيحاء خفيف
بشخصية مراوغة، وقال بصوت ديفوني رقيق:
هل أنتم مستعدون للتحرك إلى الجزيرة أيها السيدات والسادة؟
القارب في الانتظار. سيصل رجلان بالسيارة، ولكن السيد
أوين أمر بأن لا ننتظرهما لأنهما قد يصلان في أيّ وقت
.
نهض أفراد المجموعة وساروا خلف دليلهم على ممرّ
المرفأ الحجري الصغير متجهين إلى قارب بخاريّ كان راسياً
في انتظارهم، فقالت إميلي برنت: هذا قارب صغير جداً.
ردّ صاحب القارب بلهجة من يحاول الإقناع:
هذا قارب ممتاز يا سيدتي ، وبوسعك الإبحار على
متنهى إلى بلايموث بكل سهولة.

قال القاضي وارغريف بحدّة: ولكن عددنا كبير.
- هذا القارب يتسع لضعف العدد يا سيدي.
قال فيليب لومبارد بصوته العذب الخفيف: كل شيء على ما يرام،
الطقس ممتاز ولا توجد أمواج.

وبشيء من التشكك استجابت الآنسة برنت لعرض مساعدتها
في ركوب القارب، ثم تبعها الآخرون، لم تكُن الألفة
قد
حلّت بين أفراد المجموعة بعد،
وبدا كما لو أنّ كلّ فرد فيها كان في حالة حيرة من أمر الآخرين.
كانوا على وشك الانطلاق حين توقف الدليل فجأة
ومرساة القارب في يده، وأبصروا سيارة قادمة في طريق القرية
المنحدر، بدت سيارة قوية جميلة ملفتة للنظر،
وقد جلس خلف مقودها شابّ جعلت الريح شعره يتطاير إلى الوراء ،
وبدا في غسق المساء كما لو لم يكُن رجلاً،
بل تمثالاً ! وعندما ضغط بوق السيارة دوّى صوت تردّد
صداه على
صخور الميناء،
وكانت لحظة رائعة بدا فيها أنتوني مارستون
كما لو كان مخلوقاً خالداً!
كثيرون من أفراد المجموعة تذكروا هذه اللحظة فيما بعد..

-4-
جلس فريد ناراكوت إلى جانب متحرّك القارب وفكّر بينه
وبين نفسه بأن هذه المجموعة تبدو غريبة، فما كان يتوقع
أن يكون ضيوف السيد أوين من هذا الطراز بل كان
يتوقع أشخاصاً أكثر رقيّاً، رجالاً ونساء في ثياب فاخرة،
أثرياء وذوي مظهر محتَرَم، هؤلاء ليسوا كضيوف السيد إلمر روبسون.
وافترت شفتا فريد ناراكوت عن ابتسامة
باهتة وهو يتذكر ضيوف ذلك المليونير،
كان ذلك ما يستطيع أن يسمّيه حفلة حقاً.
أما السيد أوين هذا فلا بدّ أنه رجل مختلف.
قال فريد لنفسه: غريب! أنا لم أرَ السيد أوين ولا زوجته،
فهما لم يأتيا هنا من قبل. كل شيء تمّ طلبه ودُفعت
تكاليفه
من قِبَل السيد موريس،
والتعليمات واضحة دائماً والفواتير تُدفَع في وقتها، ولكن
مع ذلك كان الأمر غريباً!

الصحف
ذكرت أن بعض الغموض يحيط بالسيد أوين،
والسيد ناراكوت يتفق مع هذا الرأي.
فكّر أنه ربما كانت الآنسة غابرييل تيول هي التي اشترت الجزيرة فعلاً،
ولكن تلك النظرية لم تصمد في ذهنه حين نظر إلى ركّابه.
لا ، ليست هذه المجموعة ؛ لا أحد منهم يبدو ذا صلة
بنجمة سينمائية شهيرة.
واستعرضهم في ذهنه ببرود:
سيدة كبيرة السن من ذلك النوع الجافّ الذي يعرفه جيداً،
ورجل عسكري عجوز عليه هالة حقيقية لضابط
في الجيش، وفتاة شابّة حلوة ولكنها ليست من النوع الفاتن،
بل فتاة عادية ليست فيها لمسة هوليوودية.
وذلك الرجل الضخم المرح، لم يكن سيّد مجتمعات حقاً،
ربما كان تاجراً متقاعداً.
كان ذلك ما يدور في ذهن فريد ناراكوت.
أما الرجل الآخر الرشيق الذي بدا جائعاً وذا عينين تتحركان
بسرعة فهو شخص غريب، نعم ، هو كذلك.
يُحتمل أن تكون له علاقة بالعمل في مجال الأفلام السينمائية.
فقط شخص واحد يثير الإعجاب في القارب، الرجل الأخير
الذي وصل بالسيارة. ويا لها من سيارة!
سيارة لم تشهد
ستيكلهيفن مثلها من قبل!
لا بدّ أن سيارة كهذه ثمنها مئات ومئات! هذا هو الشخص المناسب.
من الواضح أنه وُلد ثريا.ُ
لو كانت المجموعة كلها على شاكلته لكانت تبدو مقنعة له.
الحكاية كلها غريبة حين تمعن النظر فيها...
كل شيء غريب، غريب جداً!

-5-
شقّ القارب طريقه حول الصخرة، وعندئذ ظهر البيت واضحاً.
كان الجانب الجنوبي للجزيرة مختلفاً تماماً؛
كان
ينحدر تدريجياً باتجاه البحر وكان البيت يواجه الجنوب،
كان بناء منخفضاً مربعاً ذا طراز عصري ونوافذ مستديرة
تسمح بدخول الكثير من الضوء. كان بيتاً مدهشاً كما كان متوقَّعاً.
أطفأ فريد ناراكوت المحرك فانساب القارب بلطف من
خلال فجوة طبيعية بين الصخور، وقال فيليب لومبارد بحدّة:
لا بدّ أن الرسوّ هنا صعب في الطقس السيَّئ.
فردّ فريد ناراكوت بمرح: لا يمكن الرسوّ في جزيرة الجنود
عندما تهبّ الريح الجنوبية الشرقية، وأحياناً تصبح
الجزيرة معزولة لمدة أسبوع أو أكثر.

فكرت فيرا كلايثورن قائلة لنفسها: لا بدّ أن تأمين اللوازم الغذائية
سيكون صعباً للغاية، وهذا أسوأ ما في موضوع
العيش في جزيرة ، المشكلات المنزلية مقلقة جداً.

وحين لامس القارب الصخور قفز فريد ناراكوت واشترك مع
لومبارد في مساعدة الآخرين على النزول، وبعد أن
ربط ناراكوت القارب إلى حلقة معدنية مثبتة في الصخر
سار في مقدّمة المجموعة صاعداً الدرَج المحفور في
المنحدَر الصخري، وقال الجنرال ماك آرثر:
يا له من مكان جميل!
لكنه لم يكُن مرتاحاً للمكان الذي بدا في عينيه وكأنه
مكان لعين غريب. وعندما صعدت المجموعة الدرجات
ووصلت إلى الشرفة في الأعلى بدا أنهم استعادوا حيويتهم،
ووجدوا في انتظارهم في مدخل البيت مسؤول الخدم
بهيئة لائقة ومظهر بعث فيهم شعوراً بالاطمئنان.
وكان البيت نفسه جميلاً للغاية والمنظر من الشرفة رائعاً،
وقد كان
مسؤول الخدم رجلاً طويِّلاً ناحلاً
ذا شعر أشيب وهيئة تبعث على الاحترام .
وانحنى لهم انحناءة خفيفة وقال: أرجو التفضل من هنا.
في القاعة الواسعة كانت أنواع من المرطبات الباردة جاهزة للتقديم،
وفهم الضيوف من الخادم أن السيد أوين تأخّر
لسوء الحظ ولن يستطيع الوصول إلى المكان قبل الغد،
وقد ترك تعليمات بتنفيذ كل ما يرغب فيه الضيوف.
وهم
يستطيعون الذهاب إلى غرفهم،
أما العشاء فسوف يكون جاهزاً في الثامنة تماماً.

-6-
تبعت فيرا السيدة روجرز إلى الطابق العلوي، وفتحت المرأة باباً
في نهاية الممرّ فدخلت فيرا غرفة نوم جميلة ذات
نافذة كبيرة تطلّ على البحر ونافذة أخرى جهة الشرق،
ورددت كلمات إعجاب قصيرة فقالت لها السيدة روجرز:
آمل أن تكوني قد وجدت كل ما تريدين يا آنستي.
نظرت فيرا حولها، وكانت حقائبها قد أُحضرت إلى الغرفة.
وفي أحد جوانب الغرفة كان باب يُفضي إلى حمّام ذي
بلاط أزرق فاتح فقالت بسرعة: أجل، أعتقد أن كل شيء على ما يرام.
- أرجو أن تدقَّي الجرس إذا احتجتِ إلى أيّ شيء يا آنستي.
كان صوت السيدة روجرز خافتاً رتيباً، فنظرت إليها فيرا بفضول.
كانت تراها كامرأة أشبه بالشبح الأبيض الجامد،
وكان مظهرها يبعث على الاحتلام بثوبها الأسود وشعرها
المصفَّف إلى الخلف وعينيها الباهتتين
الغريبتين اللتين تتحركان طول الوقت،
فقالت فيرا لنفسها : تبدو كأنها مذعورة من خيالها! نعم،
هي كذلك ، مذعورة!

كانت تبدو كأنها امرأة دخلت حالة من الخوف المميت،
فشعرت فيرا برجفة في جسمها. ما الذي تخاف منه هذه
المرأة يا ترى؟
وقالت لها بموّدة: أنا سكرتيرة السيدة أوين،
وأعتقد أنك تعرفين ذلك.

ردّت السيدة روجرز: لا يا آنسة، أنا لا أعرف شيئاً.
فقط لديّ قائمة بأسماء الرجال والسيدات والغرف
المخصَّصة لهم
.
قالت فيرا: ألم تذكر السيدة أوين شيئاً عنِّي؟
برقت عينا السيدة روجرز وقالت: أنا لم أرَ السيدة أوين بعد،
لقد وصلنا هنا منذ يومين فقط.

فقالت فيرا لنفسها: الزوجان أوين شخصان غير عاديَّين!
ثم قالت بصوت عال : مَن العاملون هنا؟
- أنا وزوجي فقط يا آنستي.
فقطّبَت فيرا حاجبيها وهي تفكّر. ثمانية أشخاص في المنزل،
عشرة مع المضيف والمضيفة، ولا يوجد سوى رجل
وزوجته لخدمتهم!
قالت السيدة روجرز: انا طاهية ماهرة وزوجي ملمّ بصيانة
المنزل. لم أكن أعرف أنه ستكون في المنزل مجموعة
كبيرة كهذه بالطبع.

قالت فيرا: ولكنك ستتدبرين الأمر، أليس كذلك؟
- طبعاً، طبعاً يا آنسة؛ أستطيع تدبّر الأمر ، وحتى إذا كان
سيتم إقامة حفلات كبيرة فقد تستطيع السيدة أوين جلب
أشخاص إضافيتين.

قالت فيرا: أعتقد ذلك.
واستدارت السيدة روجرز للخروج فتحركت قدماها بخفّة ودون
صوت وخرجت من الغرفة كما لو كانت شبحاً.
ذهبت فيرا إلى الشباك فجلست على المقعد المجاور له،
وكانت تشعر باضطراب خفيف؛ كل شيء كان يبدو غريباً
بعض الشيء على نحو ما: عدم وجود السيد والسيدة أوين، السيدة
روجرز الشاحبة كالشبح، والضيوف.... الضيوف
أيضاً كانوا غريبين ، مجموعة ملفَّقة بطريقة عجيبة! قالت لنفسها:
أتمنى لو كنت أعرف السيد والسيدة أوين، أتمنى
لو أعرف كيف يبدوان.

ثم نهضت فتمشّت في الغرفة بقلق.
كانت غرفة نوم ممتازة مجهَّزة كلَّياً بطراز عصري،
سجاجيد فاتحة اللون على
الأرضية الخشبية اللامعة،
وجدران خفيفة التلوين، ومرآة طويلة محاطة بالأضواء،
وسطح مدفأة خال من أيّ
زخرفة
باستثناء قطعة ضخمة من الرخام الأبيض على شكل دبّ
من النحت العصري وفي داخلها ساعة وفوقها
إطار من الكروم اللامع، ورأت هناك مخطوطة مربَّعة الشكل تمثّل
قصيدة، فوقفت فيرا أمام المدفأة وقرأت القصيدة.
وكانت هي ذاتها الأنشودة التي تذكرها من أيام طفولتها:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِقَ فمات فبقي تسعة
تسعة جنود صغارا سهروا حتى ساعة متأخرة
أحدهم أخذه النوم فبقي ثمانية
ثمانية جنود صغار سافروا إلى ديفون
أحدهم قال إنه سيبقى هناك فبقي سبعة
سبعة جنود صغارا كانوا يقطعون خشباً
أحدهم قطع نفسه نصفين فبقي ستة
ستة جنود صغار كانوا يلعبون بخلية نحل
أحدهم لسعته نحلة طنّانة فمات فبقي خمسة
خمسة جنود صغار ذهبوا إلى القضاء
أحدهم بقي في المحكمة فبقي أربعة
أربعة جنود صغار ذهبوا إلى البحر
سمكة رنجة حمراء ابتلعت أحدهم فبقي ثلاثة
ثلاثة جنود صغار ذهبوا إلى حديقة الحيوان
دبّ كبير احتضن أحدهم فبقي اثنان
جنديان صغيران جلسا في الشمس
أحدهما أصيب بضربة شمس فبقي واحد
جندي صغير بقي وحيداً تماماً
فذهب وشنق نفسه
ثم لم يبقَ أحد ~

ابتسمت فيرا وقالت لنفسها: طبعاً، فهذه هي " جزيرة الجنود" .
ثم ذهبت
وجلست ثانية إلى جوار النافذة.
كم هو كبير هذا البحر!
من هنا لم يكُن بالإمكان رؤية أيّ أرض أينما كانت ،
بل مساحات شاسعة من الماء الأزرق الذي يتموج
في شمس المغيب.
قالت لنفسها كم هو هادئ هذا البحر اليوم!
أحياناً يكون في غاية القسوة.
انطلقت إلى ذاكرتها عدّة كلمات فجأة: البحر الذي
سحبك إلى أعماقه...غريب...وُجد غريقاً..
غرق في البحر.... غرق، غرق ، غرق...!
ثم أفاقت فجأة وقالت لنفسها:
لا ، لا أريد التذكر، لا أريد التفكير في ذلك! كل هذا قد انتهى.

-7-
وصل الدكتور آرمسترونغ إلى " جزيرة الجنود " عند مغيب الشمس،
وفي طريقه إلى الجزيرة كان يتبادل الحديث
مع عامل القارب، وهو رجل من المنطقة نفسها.
كان الدكتور آرمسترونغ مهتماً بمعرفة بعض المعلومات عن
الأشخاص الذين يمتلكون الجزيرة، ولكن ذلك الرجل ناراكوت
بدا جاهلاً، أو ربما لم يكُن يريد الكلام،
ولهذا فقد
حوّل الدكتور آرمسترونغ حديثه إلى الطقس
وصيد الأسماك
. كان متعَباً بعد رحلته الطويلة بالسيارة،
وكانت مقلتاه تؤلمانه فالسير غرباً يعني السير باتجاه الشمس.
نعم ، كان متعَباً جداً، والآن هو مع هذا البحر وهذا الهدوء التامْ .
هذا ما كان يحتاجه حقّاً؛ كان يودّ أن يقضي إجازة
طويلة فعلاً، ولكن ذلك لم يكُن بوسعه. لم تكُن لديه مشكلة
من الناحية المالية بالطبع، ولكنه لا يستطيع ترك عمله
لأن هذا يمكن أن يتسبب في أن ينساه الناس.
والآن ها هو قد وصل وعليه التركيز فيما هو فيه.
قال لنفسه: هذا
المساء سأتخيّل أنني لن أعود
وأنني قد انتهيت من لندن ومن شارع هارلي وكل ما يتعلق به.
شيء سحري كان يتعلّق بكلمة " جزيرة " ،
الكلمة ذاتها توحي بالخيال، بمغامرة تجعلك تنفصل عن العَالم؛
فالجزيرة
عالَم قائم بذاته،
عالَم قد لا تعود منه أبداً.
قال لنفسه: " فلأترك حياتي الرتيبة خلفي ".
ثم بدأ يرسم خططاً خيالية للمستقبل وهو يبتسم لنفسه،
وكان لا يزال يبتسم وهو يصعد الدرجات المنحوتة
في صخرة الجزيرة.
رأى في الشرفة رجلاً عجوزاً يجلس على مقعد،
وبدا منظره مألوفاً بشكل غامض للدكتور آرمسترونغ.
أين رأى
ذلك الوجه الذي يشبه الضفدع
وتلك الرقبة التي تشبه رقبة السلحفاة وذلك الجسم المنحني
وهاتين العينين الشاحبتين الذكيّتين ؟
آه، إنه العجوز وارغريف بالطبع! لقد سبق أن طُلب آرمسترونغ
للشهادة أمامه، وكان يبدو دائماً شبه نائم
ولكنه كان يقظاً تماماً إذا برزت نقطة قانونية.
كان ذا سلطة كبيرة على المحلّفين،
وكان يُقال إن بوسعه الإيحاء لهم
بقرارهم في أيّ وقت يشاء، وقد استطاع أن ينتزع منهم
قرارات إدانة غير متوقَّعة مرة أو اثنتين، حتى إن بعض
الناس وصفوه بأنه " قاضي الإعدام "!
غريب أن يقابله في هذا المكان البعيد النائي من العالَم!

-8-
قال القاضي وارغريف لنفسه وهو يصافح الطبيب:
آرمسترونغ!
إنني أذكرك على منصّه الشهود ؛ دقيق وحَذِر
تماماً، الأطباء كلهم حمقى، وأكثرهم حمقاً أطباء شارع هارلي.

وتذكّر حانقاً مقابلة جرت له مع شخصية لطيفة في
ذلك الشارع مؤخَّراً، ثم قال بصوت عال أجشّ :
المرطبات المنعشة في القاعة.
فقال الدكتور آرمسترونغ: يجب أن أذهب لتحيّة مضيفي
ومضيفتي أولا
.
فأغمض القاضي وارغريف عينيه ثانية وقال وهو يبدو
كأحد الزواحف: ليس بوسعك ذلك.
قال الدكتور آرمسترونغ مدهوشاً: لِمَ لا؟
قال القاضي: لا مضيف ولا مضيفة! إنه لأمر غريب؛
لا أفهم ما الذي يحدث هنا!

حدّق إليه الدكتور آرمسترونغ قليلاً ، وعندما ظنّ أن العجوز
قد تام بالفعل قال وارغريف فجأة: هل تعرف
كونستانس كلمنغتون؟

ل... لا ، لا أظن أنني أعرفها.
قال القاضي: ليس لذلك أهمية. إنها امرأة غامضة جداً وخطّها
لا يكاد يمكن قراءته. لقد كنت أتساءل – للتوّ - ما إذا
كنتُ قد أخطأت طريقي إلى هذا المكان.

فهزّ الدكتور آرمسترونغ رأسه وتوجه إلى المنزل،
في حين أخذ القاضي وارغريف يتأمل موضوع كونستانس
كلمنغتون، كانت امرأة لا يمكن الاعتماد عليها مثل
سائر النساء. ثم تحول تفكيره إلى المرأتين الموجودتين في
المنزل، العجوز منقبضة الفم والفتاة.
لم يكترث بأمر الفتاة فهي مجرَّد فتاة مبتذلة عديمة الإحساس...
ولكن لا ، في
المنزل ثلاث نساء
إذا أخذنا السيادة روجرز في الحسبان، تلك المخلوقة الغريبة
التي تبدو ميّتة من الخوف، مع أنها
هي وزوجها شخصان محترَمان ويجيدان عملهما.
في تلك اللحظة خرج السيد روجرز إلى الشرفة فسأله القاضي:
هل تتوقعون قدوم السيدة كونستانس كلمنغتون؟ هل
لديك علم بذلك؟

فحدّق إليه روجرز وقال: لا يا سيدي ، لا علم لي بذلك.
ارتفع حاجبا القاضي ، ولكنه اكتفى بالغمغمة وقال لنفسه
: جزيرة الجنود....
يبدو وكأن جندياً يختبئ في كومة
الحطب!

-9-
كان أنتوني مارستون في حمَامه ينعم بالمياه الساخنة تنساب
على جسده، وكان يشعر بتصلّب أطرافه بعد رحلته
الطويلة.
لم تكُن تدور في رأسه أفكار كثيرة، فقد كان مخلوقاً عملياً.
قال لنفسه: أعتقد أنني يجب أن أؤدَي تلك
المهمّة، لا مناص.
ثم صرف تفكيره عن أيّ شيء وقال لنفسه:
سأنتهي – أولاً – من هذا الحمّام اللطيف وأريح جسدي المتعَب ،
ثم أحلق ذقني وأتناول بعض المرطبات ،
ثم أتناول العشاء، ثم .... ثم ماذا؟!


-10-
كان السيد بلور يعقد ربطة عنقه، ولكنه لم يكُن ماهراً في
هذه الأمور فقال لنفسه: هل أبدو على ما يرام؟ أعتقد ذلك.
لم يُبدِ أحد له أيْ مودّة فعلية، وكانت طريقة نظرهم
بعضهم إلى بعض غريبة؛ بدا وكأنهم يعرفون .... حسناً ،
الأمر عائد له؛ لقد عَزَم على أن لا يفشل في مهمته.
سرح ببصره إلى الأنشودة فوق المدفأة، كان وضْع تلك الأنشودة
هناك لمسة أنيقة.
قال لنفسه: أذكر هذه الجزيرة عندما كنتُ طفلاً، ولم يخطر لي قَط
أنني سأقوم بعمل كهذا في منزل هنا.
ربما كان أمراً جيداً أن المرء لا يستطيع التنبؤ بالمستقبل.


-11-
قطب الجنرال ماك آرثر جبينه مفكّراً وقال: كل شيء
يبدو غريباً! ليس هذا ما كنتُ أتوقعه أبداً.

تمنّى لو استطاع أن يجد عذراً ويغادر الجزيرة تاركاً كل شيء،
ولكن القارب كان قد عاد إلى الشاطئ فأضحى
مجبّراً على البقاء .
هذا المدعو لومبارد شخص غريب،
وهو ليس فوق مستوى الشبهات، هذا أمر مؤكَّد...
ليس فوق مستوى الشبهات.

-12-
خرج لومبارد من غرفته فيما كان جرس العشاء يُقرَع
ومضى إلى رأس الدرَج. كان يتحرك بخفَة كالفهد،
شي ء ما فيه يشبه الفهد أو الوحش المفترس،
ولكنه كان جميل الشكل!
كان يبتسم بينه وبين نفسه وهو يقول : سيكون أسبوعاً ممتعاً.

-13-
جلست إميلي برنت في غرفتها تقرأ كتاباً دينياً وقد ارتدت ثوباً
حريرياً أسود استعداداً للعشاء.
تحرّكت شفتاها وهي
تقرأ:
" الكَفَرة سوف يغرقون في الحفرة التي حفروها هم أنفسهم،
في الشِّباك التي أخفَوها ستنزلق أقدامهم "
.
ثم زمّت شفتيها وأغلقت الكتاب،
ونهضت فوضعت حلية في رقبتها ونزلت إلى العشاء ..

-


التعديل الأخير تم بواسطة دُونـــآي ❝ ; 09-25-2015 الساعة 10:12 AM
  #7  
قديم 09-27-2015, 03:14 PM
 






الفصل الثالث
-1-

أوشك العشاء على الانتهاء، وكان الطعام جيداً والشراب
ممتازاً وكانت خدمة السيد روجرز جيدة شعر الجميع
بروح معنوية أفضل، وقد أخذوا يتحادثون بصورة أكثر حرية وألفة.
القاضي وارغريف أصبح ممتعاً بحديثه الساخر الذي
كان يستمع إليه الدكتور آرمسترونغ وتوني مارستون،
والآنسة
برنت تحدثت مع الجنرال ماك آرثر
وقد اكتشفا أن لديهما بعض الأصدقاء المشترّكين،
أما فيرا كلايثورن فقد كانت توجّه أسئلة ذكية للسيد ديفيس
حول جنوب إفريقيا، وكان السيد ديفيس ملمّاً تماماً

بالموضوع، فيما كان لومبارد يستمع إلى الحديث
وقد رفع رأسه مرة أو مرتين فجأة وضاقت عيناه،
وبين فينة
وأخرى
كان يدور بعينيه حول الطاولة متأملاً الآخرين.
فجأة قال أنتوني مارستون: هذه الأشياء طريفة، أليس كذلك؟
كان في وسط الطاولة تحف خزفية صغيرة وُضعت
على حامل زجاجي ، وقال توني: جنود.. جزيرة الجنود،
أعتقد
أن هذه هي الفكرة،
انحنت فيرا للأمام وقالت: تُرى كم عددها؟ عشرة؟
ثم هتفت : يا للطرافة! يبدو لي أنهم هؤلاء الجنود العشرة
في الأنشودة، الأنشودة المعلَّقة في غرفتي داخل إطار فوق

المدفأة.

قال لومبارد: وفي غرفتي أيضاً.
وتوالت أصوات الحضور تشير إلى أنها في
غرفهم جميعاً فقالت فيرا: فكرة مسلية ، أليس كذلك؟

وعلّق القاضي وارغريف بصوت أجشّ قائلاً :
بل فكرة طفوليّة للغاية.

ثم تناول مزيداً من القهوة. ونظرت إميلي برنت إلى فيرا كلايثورن
فنظرت فيرا إليها ، ثم نهضتا واقفتين فاتجهتا

إلى غرفة الجلوس حيث كانت النوافذ مفتوحة على الشرفة،
وتناهى إليهما صوت الأمواج وهي ترتطم بالصخور

على الشاطئ، فقالت إميلي برنت : إنه صوت لطيف.
فقالت فيرا بحدَّة: أنا أكره هذا الصوت.
رفعت الآنسة برنت نظرها إليها بدهشة فشعرت فيرا
ببعض الحرج وقالت بهدوء أكثر : لا أعتقد أن هذا المكان
سيكون ملائماً إذا ما هبّت عاصفة .

وافقتها إميلي برنت قائلة: ليس لديّ شك في أن هذا
المكان يُغلّق في الشتاء. لا يمكن تأمين خدم هنا
في الشتاء على
أية حال.
قالت فيرا: لا بدّ أن توفير الخدم في هذا المكان صعب أصلا .
قالت الآنسة برنت : السيدة أوليفر محظوظة لاستخدامها
هذين الزوجين، إن المرأة طاهية ماهرة.

فقالت فيرا لنفسها: " عجيب أن يخطئ هؤلاء العجائز في الأسماء!" ،
ثم قالت بعد هنيهة صمت : أجل ، أعتقد أن

السيدة أوين محظوظة حقاً.

كانت الآنسة برنت قد أخرجت قطعة تطريز صغيره من حقيبتها،
وبينما كانت على وشك إدخال الخيط في الإبرة

توقفت فجأة وقالت بحدّة: أوين؟ هل قلتِ أوين؟
- نعم
فقالت إميلي برنت بحدّة مرة أخرى :
لم أقابل أحداً في حياتي يُدعى أوين.

فحدّقت إليها فيرا وقالت: ولكن بالتأكيد....
ولم تكمل جملتها؛ فقد فُتح الباب وانضمّ الرجال
إليهما يتبعهم روجرز حاملاً صينية القهوة،
ثم جاء القاضي فجلس
بجوار إميلي برنت،
وجلس آرمسترونغ إلى جوار فيرا، وذهب توني مارستون
ليفتِح النافذة، وأخذ بلور يتفحص

تمثالاً نحاسياً بدهشة ساذجة، ووقف الجنرال ماك آرثر
وظهره إلى المدفأة وأخذ يعبث بشاربه الأبيض الصغير،
فقد
كان العشاء جيداً تماماً يقلّب صفحات مجلة
كانت مع صحف أخرى على طاولة بجانب الجدار.

دار روجرز بصينية القهوة، وكانت القهوة جيدة ومركِّزة وساخنة جداً.
كان الجميع قد استمتعوا بالعشاء وكانوا في

حالة من الرضا بأنفسهم وبالحياة، وكانت الساعة تشير
إلى التاسعة والثلث وقد ساد المكانَ صمت شامل مريح.

وفجأة قطع ذلك الصمتَ صو ت مفاجئ مرتفع شديد يقول:
أيها السيدات والسادة، أرجو الصمت.
ذُهل الجميع ونظر بعضهم إلى بعض ونظروا حول المكان
والجدران ... مَن كان يتحدث؟!
ولكن الصوت استمرّ
واضحاً وعالياً يقول:
أنتم متّهَمون بما يلي: إدوارد جورج آرمستورنغ ،
أنت متّهم بأنك تسببت يوم الرابع عشر من

آذار عام 1925 بقتل لويزا ماري كليز.
إميلي كارولين برنت، أنتِ متهمة بأنك
مسؤولة عن وفاة بياتريس
تايلور
يوم الخامس من تشرين الثاني عام 1931 .
ويليام هنري بلور، أنت متَهم بأنك تسببت في موت

جيمس ستيفن لاندور يوم العاشر من تشرين الأول عام 1928 .
فيرا إليزابيث كلايثورن، أنت متَهمة بأنك

قتلتِ سيريل أوغليف هاملتون يوم الحادي عشر من آب
عام 1935 .
فيليب لومبارد، أنت متَهم بأنك

. مذنب بالتسبب في موت واحد وعشرين رجلاً من قبيلة
في شرق إفريقيا خلال شهر شباط عام 1932

جون غوردون ماك آرثر، أنت متَهم بأنك دفعت بعشيق زوجتك
آرثر ديتشموند عامداً إلى الموت يوم الرابع عشر

من كانون الثاني عام 1917 .
أنتوني جيمس مارستون، أنت متَهم بقتل جون ولوسي
كومبس يوم الرابع
عشر من تشرين الثاني الماضي.
توماس روجرز و إيثيل روجرز، أنتما متهمان بأنكما
تسببتما في موت
جنيفر برادي
يوم السادس من أيار عام 1929 .
لورنس جون وارغريف، أنت متهَم بأنك كنت مذنباً بقتل

إدوارد سيتون يوم العاشر من حزيران عام 1931.
وصمت الصوت هنيهة ثم عاد يقول بلهجة قوية:
أيها السجناء في قفص الاتهام، هل لديكم ما تدافعون به عن

أنفسكم؟

-2-
توقف الصوت، وللحظة ساد صمت وذهول بين الجميع،
ثم دوّى صوت تحطم بعض الأواني؛
فقد أسقط روجرز
صينية القهوة،
وفي نفس اللحظة جاء من خارج الغرفة صوت صراخ وارتطام،
وكان لومبارد أول من تحرك فقفز

إلى الباب وفتحه على مصراعيه، وفي الخارج كانت
السيدة روجرز راقدة متكومّة على نفسها فصاح لومبارد:

مارستون.
اندفع أنتوني لمساعدته فرفعا المرأة معاً وحملاها
إلى غرفة الجلوس، وجاء الدكتور آرمسترونغ بسرعة
فساعدهما
في رفعها إلى الأريكة ثم انحنى عليها وقال بسرعة:
لم يصبها شيء، لقد أُغمي عليها فقط وسوف تفيق خلال دقائق.

قال لومبارد للسيد روجرز: أحضر بعض الليمون.
كان وجه روجرز أبيض ويداه ترتعشان وقال : حالاً يا سيدي.
ثم غادر الغرفة مسرعاً في حين صاحت فيرا:
من ذلك الذي كان يتكلم؟ من هو؟! لقد كان الصوت عالياً،
عالياً جداً!

وجاء صوت الجنرال ماك آرثر مدمدماً :
ماذا يحدث هنا؟ ما هذا المزاح؟

كانت يداه ترتعشان وكتفاه متهدّلَين ، وبدا فجأة أكبر
من عمره بعشر سنوات، وكان بلور يمسح وجهه
بمنديل بسبب
العرق المتصبب عليه.
الوحيدان اللذان لم يتأثراً نسبياً كانا القاضي وارغريف
والآنسة برنت التي جلست بشكل
منتصب
رافعه رأسها إلى أعلى وقد تدفّق لون داكن في وجنتيها،
أما القاضي فقد جلس بهيئته المعتادة ورأسه غارق

بين كتفيه، ثم أخذ يحكّ أذنه بإحدى يديه،
وكانت عيناه فقط نشطتين تدوران وتدوران حول الغرفة بحيرة،
ولكن
بيقظة وذكاء.
مرة أخرى كان لومبارد هو البادئ، فبينما كان آرمسترونغ
مشغولاً بالمرأة المنهارة وجد لومبارد نفسه حراً ليبادر

قائلا : ذلك الصوت بدا صادراً من داخل الغرفة.
فصاحت فيرا: مَن كان صاحب الصوت؟ مَن؟
لم يكُن واحداً منّا.

أخذت عينا لومبارد تدوران حول الغرفة كما يفعل القاضي ،
واستقرّتا لحظة على النافذة المفتوحة ثم هزّ رأسه
بحزم،
وفجأة لمعت عيناه وتحرك بسرعة إلى الإمام
حيث يوجد باب بجانب الموقد يؤدي إلى الغرفة المجاورة،

وبحركة سريعة أمسك بمقبض الباب ففتحه واندفع
إلى الداخل مُطلقاً على الفور صيحة رضا وقال:
وجدتها.
وتدافع
الآخرون نحوه ما عدا الآنسة برنت التي
بقيت جالسة بهيئتها المنتصبة على مقعدها.
داخل الغرفة الأخرى وُضعت
طاولة ملاصقة للجدار
الذي يفصلها عن غرفة الجلوس، وعلى الطاولة وجدوا
مكبّر صوت من النوع القديم يتصل
به بوق كبير،
وكانت فوهة البوق موجَّهة إلى الجدار،
وحين أزاحه لومبارد جانباً بدا له ثقبان أو ثلاثة كان قد
تمّ
حفرها بشكل خفيّ في الجدار، وأعاد تهيئه
مكبّر الصوت ووضع الإبرة على الأسطوانة فسمعوا الصوت
ثانية
يقول: أنتم متَهمون بما يلي...
فصاحت فيرا: أوقفه، أوقفه! يا له من صوت مريع!
فاستجاب لها لومبارد، وقال الدكتور آرمسترونغ بارتياح:
أعتقد انه مزاح سقيم وحقير.

ثم جاء صوت القاضي وارغريف واضحاً يقول :
إذن فأنت تعتقد أن المسألة مزاح، أليس كذلك؟

فحدّق إليه الطبيب وقال: ماذا يمكن أن تكون غير ذلك؟
فمسح القاضي بيده شفته العليا برفق وقال:
لستُ مستعداً لإبداء أيّ رأي في الوقت الحاضر.

فتدخّل أنتوني مارستون وقال: أيها السادة،
أعتقد أنكم نسيتم شيئاً هامّاً: مَن أدار هذا الشيء
وجعله يُخرِج هذا
الصوت؟
غمغم وارغريف، هذا صحيح ، علينا أن نحقق في ذلك.
وتقدّم المجموعة عائداً إلى غرفة الجلوس وتبعه الآخرون.
كان روجرز قد عاد للتوّ ومعه كأس من عصير الليمون،

في حين كانت الآنسة برنت منحنية على جسد السيدة روجرز
التي كانت تتأوه، واندسّ روجرز برشاقة بين المرأتين

قائلا : اسمحي لي يا سيدتي ، سأكلمها.
إيثيل ، إيثيل... كل شيء على ما يُرام.
هل تسمعينني؟ عليك التماسك قليلا .

أخذت السيدة روجرز تتنفس لاهثة بسرعة ودارت عيناها
المتحجرتان برعب حول حلقة الوجوه المحدّقة إليها،

وكان صوت زوجها فزعاً وهو يقول: تماسكي يا إيثيل، تماسكي.
وتحدّث إليها الدكتور آرمسترونغ مخففاً عنها قائلا :
سيدة روجرز، ستكونين على ما يرام الآن، هذه مجرَّد نوبة

بسيطة.

فسألّته: هل أُغمي عليّ يا سيدي؟
- نعم
- ذلك الصوت ... ذلك الصوت المريع بدا أشبه بحكم قضائي!
وتحوّل لون وجهها إلى الأخضر ثانية وارتعشت جفونها،
فقال الدكتور آرمسترونغ بحدّة: أين ذلك الشراب؟

كان روجرز قد وضع عصير الليمون على طاولة صغيرة،
فناوله أحدهم للطبيب الذي انحنى على المريضة اللاهثة
وقال لها: اشربي هذا يا سيدة روجرز.

شربت الكأس وهي تلهث، وكان الشراب جيّداً لها،
وسرعان ما عاد وجهها إلى لونه الطبيعي وقالت:
أنا بخير الآن،
لقد سبّب لي غثياناً فقط.
قال روجرز بسرعة: طبعاً سبب لك ذلك.
لقد سبّب لي أنا أيضاً الغثيان وجعلني أُسِقط تلك الصينية.
يا لها من
أكاذيب شريرة! أودّ لو أعرف...
وعندئذ قوطع بسعال أحدهم، سعال واهن جافّ
ولكنه كان كافياً لإيقاف صراخه.
ونظر إلى القاضي وارغريف

الذي سعل مرة أخرى وقال: مَن الذي وضع تلك الأسطوانة على
مكبّر الصوت؟ هل كان ذلك أنت يا روجرز؟

صاح روجرز: لم أُكن أعرف ما هي، أقسم بالله إني لم أكن
أعرف ما هي يا سيدي، ولو كنت أعرف لما وضعتُها

قط.

فقال القاضي بجفاء: الأرجح أن هذا صحيح،
ولكن أعتقد أنه من الأفضل لك أن تقدم شرحاً مفصَّلاً
لذلك يا
روجرز.
مسح الخادم عرقه بمنديل وقال بصدق:
كنت أطيع الأوامر يا سيدي، هذا كل ما هنالك.

- أوامر من؟
- أوامر السيد أوين.
قال القاضي وارغريف: دعني استوضح تلك النقطة قليلا
. ماذا كانت أوامر السيد أوين بالضبط؟

قال روجرز: أمرني أن أضع الأسطوانة على مكبّر الصوت،
فكان عليّ إخراج الأسطوانة من الدرَج، وكان على

زوجتي تشغيل مكبّر الصوت عند دخولي غرفة الجلوس
حاملاً صينية القهوة.

غمغم القاضي: قصة مثيرة جداً.
فقال روجرز: إنها الحقيقة يا سيدي، أقسم بالله إنها الحقيقة.
لم أكُن أعرف ما بها، ولا حتى للحظة واحدة.
كان عليها عنوان وأعتقدت أنها مجرَّد قطعة موسيقية.

نظر وارغريف إلى لومبارد وقال: هل كان عليها عنوان؟
فأوما لومبارد إيجاباً، ثم انفرجت شفتاه بهمهمة
فظهرت أسنانه البيضاء وقال: صحيح تماماً يا سيدي،
كان عنوانها "
أغنية البجعة".
-3-
فجأة تدخّل الجنرال ماك آرثر وتساءل متعجّباً:
الموضوع كله غير معقول... غير معقول إلقاء الاتهامات
جزافاً على
هذا النحو!
لا بدّ من عمل شيء نحو السيد أوين هذا كائناً من كان.

قاطعته إميلي برنت وقالت بحدّة:
هذا هو السؤال
، مَن هو؟
تدخّل القاضي فقال بلهجة السلطة التي استمدّها
من حياة طويلة في المحاكم:
هذا هو بالضبط ما يتوجب علينا بحثه
بعناية.
أعتقد أن عليك أولاً أخذ زوجتك إلى سريرها
يا روجرز ثم عُد إلى هنا.

- أمرك يا سيدي.
وقال الدكتور آرمسترونغ: سأساعدك يا روجرز.
خرجت السيدة روجرز مستندة إلى الرجلين،
وعندما مضوا خارج الغرفة قال توني مارستون للباقين:
ماذا عنكم؟ أنا

أفكر في تناول بعض المرطّبات بعد هذا كله.

فقال لومبارد: وأنا أيضاً.
فقال توني: سأذهب وأجلب شيئاً.
ثم خرج من الغرفة، وعاد بعد ثانية أو ثانيتين وقال:
وجدتها كلها جاهزة على صينية بانتظار من يحملها إلى

الداخل.

ثم وضع الصينية بعناية.
وانقضت الدقائق التالية في توَّزيع المشروبات.
أخذ كل من الجنرال ماك آرثر والقاضي

وارغريف كوباً من القهوة، والحضور جميعاً شعروا بالحاجة
إلى ما يريح أعصابهم فتناولوا بعض المرطبات ،
فيما
عدا إميلي برنت التي أصرّت على كوب من الماء فقط.
وأخيراً عاد الدكتور آرمسترونغ إلى الغرفة فقالِ :
السيدة بخير الآن، وقد أعطيتها دواء مسكّناً.

وبعد لحظات عاد روجرز إلى الغرفة، وتولى القاضي وارغريف
زمام إدارة الحديث وتحولت الغرفة إلى قاعة

محكمة مرتجّلة.
قال القاضي: حسناً يا روجرز، يجب أن نفهم هذه النقطة تماماً:
مَن هو السيد أوين؟

فحدّق إليه روجرز وقال: إنه مالك هذا المكان يا سيدي.
- أعرف ذلك، لكن ما أريده منك هو أن تخبرني
بما تعرفه عن الرجل.

هزّ روجرز رأسه وقال: لا أستطيع القول يا سيدي.
أرجو أن تفهمني، أنا لم أرَه في حياتي قط.

حدث تململ خفيف في الغرفة ، وقال الجنرال ماك آرثر:
لم يسبق لك أن رأيته! ماذا تعني؟

- لقد مضى علينا هنا أسبوع فقط، زوجتي وأنا.
لقد تمّ تعييننا في العمل بموجب رسالة عن طريق وكالة توظيف،

وكالة ريجينا في بلايموث.

اومأ بلور موافِقاً وقال مؤيّداً: أعرف أنها مؤسَّسة عريقة.
وقال القاضي وارغريف: هل الرسالة موجودة معك؟
- رسالة التوظيف ؟ لا يا سيدي؟ لم احتفظ بها.
- أكمل قصتك. تمّ توظيفك كما تقول بموجب رسالة؟
- نعم يا سيدي. كان علينا أن نصل في يوم معيِّن،
وفعلاً هذا ما حدث. كل شيء منظَّم هنا، المؤن وفيرة
وكل شيء
على ما يُرام.
فقط كنّا بحاجة لنفض الغبار وما إلى ذلك.

- وبعد ذلك؟
- لا شيء يا سيدي. تلقّينا أوامر بموجب رسالة أخرى
لإعداد الغرف لمجموعة من الضيوف، ثم تلقّيت في
بريد بعد
ظهر أمس رسالة أخرى من السيد أوين تخبرنا
بأنه والسيدة أوين لم يستطيعا السفر وأن علينا
التصرف بأفضل ما
في وسعنا،
وتضمّنَت الرسالة تعليمات حول العشاء والقهوة
ووضع الأسطوانة في مكبّر الصوت.

قال القاضي بحدّة: من المؤكَّد أنك تملك تلك الرسالة،
أليس كذلك؟

- بلى يا سيدي، ها هي.
وأخرجها من جيبه فناولها للقاضي الذي فتحها وغمغم:
إنها رسالة مطبوعة بالآلة الكاتبة على أوراق فندق ريتز

الرسمية.

وبحركة سريعة انتقل بلور إلى جانبه وقال:
اسمح لي بإلقاء نظرة عليها.

وانتزع الورقة منه بخفّة فألقى نظرة عليها وغمغم:
ألة من نوع كورنيشن جديدة تماماً لا عيب فيها،
وورق من نوع
إينساين،
أكثر أنواع الورق استخداماً. ليس بوسعك استخلاص
شيء من هذا. قد يكون عليها بصمات أصابع، ولكني

أشك في ذلك.

وحدق إليه وارغريف بانتباه مفاجئ.
كان أنتوني مارستون واقفاً إلى جانب بلور محدثاً من
فوق كتفيه وقال: يا لها
من أسماء راقية!
أوليك نورمان أوين، يا له من اسم طويل !

قال القاضي بنبرة يشوبها اهتمام مفاجئ:
أنا ممتنّ لك يا سيد مارستون، لقد لفتّ انتباهي إلى
نقطة مثيرة وموحية.

ثم
نظر إلى الآخرين وقال وهو يدفع رقبته إلى
الأمام كالسلحفاة الغاضبة: أعتقد أن الوقت قد حان ليضع
كل واحد منّا
ما لديه من معلومات أمام الجميع،
وأعتقد أنه سيكون مفيداً لنا أن يقدّم
كلُّ منّا ما لديه من معلومات حول مالك هذا البيت.
وتوقف قليلاً ثم تابع: نحن جميعاً ضيوفه، وأعتقد أنه سيكون
من المفيد أن يوضّح كل واحد منّا كيف حصل ذلك

بالضبط.

ساد صمت قصير، ثم تكلمت إميلي برنت فقالت
بحزم: يوجد شيء غريب حول هذه المسألة برمّتها.
لقد تلقيت
رسالة بتوقيع لم يكُن من السهل قراءته،
ومفادها أنها مرسَلة من قِبل سيدة كنتُ قد قابلتها في
منتجع صيفي قبل
سنتين أو ثلاث سنوات، وقد قدّرتُ
أن الاسم هو إما أوغرين أو أوليفر؛ فلي صلة بسيدة
تُدعى السيدة أوليفر وأخرى
تُدعى الآنسة أوغرين.
أنا متأكدة تماماً أنني لم أقابل أو أتعرف
على أيّ شخص باسم أوين قط.

قال القاضي وارغريف: هل لديك تلك الرسالة يا آنسة برنت؟
- نعم ، سأحضرها لك.
وخرجت برهة ثم عادت وبيدها رسالة أعطتها للقاضي
الذي قرأها ثم قال:
بدأت أفهم. وماذا عنك يا آنسة
كلايثورن؟
شرحت فيرا ظروف استخدامها للعمل كسكرتيرة،
فقال القاضي: وماذا عنك يا سيد مارستون؟

فقال أنتوني: تلقّيتُ برقية من صديق لي اسمه بادغر بيركلي،
وكانت مفاجأة لي وقتها لأنني كنت أعتقد أن الرجل

كان قد سافر إلى النرويج، وطلب مني في برقيته أن أحضر هنا.

أومأ وارغريف ثانية ثم قال: وأنت يا دكتور آرمسترونغ؟
- تلقيّت الدعوة كطبيب.
- فهمت، ولكن هل لديك معرفة سابقة بالعائلة؟
- لا ، ولكن كانت في الرسالة إشارة إلى زميل لي.
- قال القاضي : لإضفاء مصداقية، نعم.
وأفترضُ أن صلتك بذلك الزميل كانت مقطوعة؟

- حسناً، نعم ، هذا صحيح .
وفجأة قال لومبارد الذي كان ينظر إلى بلور:
لحظة أرجوكم، لقد خطر لي خاطر.

فرفع القاضي يده وقال: انتظر دقيقة.
- ولكني...
- ستبحث في كل مسألة على حدة يا سيد لومبارد،
فنحن حالياً ندقّق في الأسباب التي أدّت إلى تجمعنا هنا
هذه
الليلة. ماذا عنك يا جنرال ماك آرثر؟

- غمغم الجنرال وهو يعبث بشاربه:
وصلتني رسالة من ذلك الشخص المدعوّ أوين،
ذكر فيها أسماء بعض
أصدقائي وقال إنهم سيكونون هنا.
كنت مرتاحاً للصيغة غير الرسمية للدعوة،
ولكن يؤسفني أنني لم أحضر
الرسالة.
قال وارغريف: وماذا عنك يا سيد لومبارد؟

- كان لومبارد غارقاً تماماً في التفكير، ولم يكُن يدري إن كان
من الأفضل له أن يكشف أوراقه أم لا ، ثم بدا أنه

قد حسم أمره فقال :
الحكاية ذاتها ؛ دعوة وأصدقاء مشترَكون.
واقتنعتُ بالفكرة بسرعة، أما الرسالة فقد مزّقتها.

ثم تحول القاضي وارغريف بانتباهه إلى السيد بلور،
وأخذ يمسح بإصبعه على شفته العليا وأصبح صوته مهذَّباً

بشدة وقال: منذ قليل مرّت بنا تجربة مزعجة؛ ذلك الصوت
وهو يجلجل ذاكراً كل واحد باسمه وموجّهاً هذه التهم

المحدّدة إلينا. ولكني – في هذه اللحظة، مهتمّ بنقطة بسيطة،
فمِن بين الأسماء التي تم ذكرها اسم ويليام هنري بلور،

ولكن – حسب علمنا- لا يوجد بيننا شخص باسم بلور،
كما أن اسم ديفيس لم يُذكر. ما رأيك بذلك يا سيد ديفيس؟

فقال بلور بتجهْم : يبدو أن القطة خرجت من كيسها!
أعتقد أنه من الأفضل أن أعترف بأن اسمي ليس ديفيس.

- هل أنت ويليام هنري بلور؟
- هذا صحيح.
فقال لومبارد: أودّ أن أضيف شيئاً: أنت لست هنا فقط
باسم مستعار يا سيد بلور، ولكن إضافة إلى ذلك
فقد لاحظت
أنا هذا المساء بأنك كاذب من الطراز الأول.
أنت تدّعي أنك من ناتال في جنوب إفريقيا،
وأنا أعرف ناتال وجنوب
إفريقيا، وأنا مستعدّ للقسم
بأنك لم تدخل جنوب إفريقيا طوال حياتك.

اتجهت كل الأنظار إلى بلور مفعّمة بالغضب والشك،
وتحرك توني مارستون خطوة باتجاهه وقد تكورت قبضتاه

وقال: والآن أيها الخنزير، هل لديك أيّ تفسير؟
دفع بلور رأسه إلى الوراء وحرّك فكيّه ثم قال:
لقد فهمتموني خطأ أيها السادة: إن لديّ أوراقاً
موثَّقة بوسعكم
رؤيتها، أنا رجل عملت سابقاً في
التحقيقات الجنائية وأدير حالياً وكالة تحريات في بلايموث،
وقد كُلّفت بهذه
المهمة.

فسأله القاضي وارغريف: من قِبَل مَن؟
- من قِبَل هذا الرجل أوين؛ بعث لي بمبلغ محترَم
لتغطية مصروفاتي وأصدر لي تعليماته حول ما يريد عمله.

لقد
طلب منّي أن أنضمّ إلى هذه المجموعة باعتباري ضيفاً،
وقد أعطاني أسماءكم وطلب منّي أن أراقبكم جميعاً.

- هل ذكر لك أيّ أسباب تدفعه إلى ذلك؟
- فقال بلور بمرارة:
جواهر السيدة أوين... هراء وكلام فارغ،
لا أعتقد أنه توجد سيدة بهذا الاسم.

قال القاضي وارغريف وهو يمسح بإصبعه على شاربه
باستحسان هذه المرة:
أعتقد أنه يوجد ما يبرّر استنتاجاتك .

أوليك نورمان أوين... وفي خطاب الآنسة برنت ورغم
أن اسم العائلة في التوقيع كان مجرَّد خربشة إلاّ
أن الأسماء
الأولى كانت واضحة بدرجة معقولة:
أونا نانسي.. في كلتا الحالتين الأحرف الأولى من الأسماء
هي نفسها: أوليك
نورمان أوين،
أونا نانسي أوين؛ أيّ أنه بالإمكان كتابتها
أ. ن. أوين، أو بشيء من التخيّل يصبح الاسم مجهولا
.

صاحت فيرا: ولكن هذا خيال مجنون!
فأومأ القاضي برأسه بلطف وقال:
أجل، هذا صحيح؛ ليس لديّ أيّ شك في أننا
قد دُعينا إلى هنا بواسطة رجل مجنون،

على الأرجح قاتل خطير مجنون.

-



التعديل الأخير تم بواسطة دُونـــآي ❝ ; 09-27-2015 الساعة 03:57 PM
  #8  
قديم 09-27-2015, 03:42 PM
 





الفصل الرابع
-1-
سادت فترة من الصمت ، صمت الفزع والذهول،
ثم عاد صوت القاضي منخفضاً واضحاً والتقط الخيط
مرة أخرى وقال:
سننتقل الآن إلى الخطوة التالية في تحقيقنا، ولكن دعوني
أولاً أضيف معلوماتي إلى قائمة معلوماتكم.

وأخرج من جيبه رسالة فألقى بها على الطاولة،
ثم استأنف الكلام قائلا :
فحوى هذه الرسالة أنها موجَّهة لي من
صديقة قديمة هي الليدي كونستانس كليمنغتون
التي لم أرَها منذ عدَّة سنوات، فقد رحلَت إلى الشرق.
وهي رسالة من ذلك النوع من الرسائل الغامضة غير
المترابطة المتوقَّع أن تكتبها، وفيها تحثني على
الانضمام إليها هنا وتشير
إلى مضيفها ومضيفتها بأكثر العبارات غموضاً.

لاحظوا أنه الأسلوب نفسه، أذكر هذا فقط لأنه
يتوافق مع الدلائل الأخرى، ومن كل ذلك تبرز نقطة هامّة
واحدة، وهي أنه أيّاً كان الشخص الذي استدرجنا
إلى هذا المكان فهو يعرف، أو أنه بذل جهداً
ليعرف الكثير عنّا جميعاً.
إنه – أيّاً كان- على علم بصداقتي مع الليدي كونستانس،
وهو ملمّ بأسلوبها في كتابة الرسائل، ويعرف شيئاً عن زملاء
الدكتور آرمسترونغ وأماكن وجودهم حالياً،
ويعرف لقب صديق السيد مارستون ونوع البرقيات التي يكتبها،
ويعرف تماماً أين كانت الآنسة برنت تقضي عطلتها
قبل عامين ونوع الأشخاص الذين التقت بهم هناك،
وهو يعرف كل شيء عن رفاق الجنرال ماك آرثر القدماء.

وصمت لحظة ثم تابع:
إنه يعلم الكثير كما ترون ، ومن مع
" هذا ظلم"،لوماته هذه عنّا استطاع
أن يوجَه لنا تُهَماً معيَّنة محددة.

وعلى الفور انطلقت التعليقات من كل جانب،
فصاح الجنرال ماك آرثر: إنها مجموعة من
الأكاذيب اللعينة....افتراءات!

وقالت فيرا صارخة: هذا ظلم ،
ثم أضافت لاهثة: هذا هو الشر بعينه!
وقال روجرز بصوت أجشّ :
هذه كذبة، كذبة شرّيرة! لا ، لم نفعل ، كلانا لم نفعل.
ودمدم أنتوني مارستون قائلا :
لا أعرف ما الذي كان هذا الأحمق اللعين يقصده!
رفع القاضي وارغريف يده فوضع حداً لنوبة الهياج هذه،
ثم قال وهو ينتقي كلماته بعناية، أودّ أن أقول أن صديقنا
المجهول يتهمني باغتيال شخص يُدعى إدوراد سيتون،
وأنا أتذكر سيتون جيداً.
لقد جيء به إلى المحكمة أمامي في
شهر حزيران عام 1931 ، وكان متهَماً بقتل امرأة عجوز،

وقد حظي بدفاع ممتاز وأعطى للمحلفين انطباعاً
جيداً حين وقف على منصة الشهود، ومع ذلك فقد
ثبت بالأدلة أنه مذنب بالتأكيد. وقد أجملتُ المحاكمة
وأعطيت توجيهاتي للمحلّفين على هذا الأساس،
ووجدَته هيئة المحلفين مذِنباً، وعندما نطقتُ بالحكم عليه
بالإعدام كان ذلك متفقاً مع قرار المحلفين.
تلا ذلك أنه قدّم استئنافاً على أساس أنني
وجهت المحلّفين توجيهاً خاطئاً، ولكن الاستئناف
رُفض وتمّ إعدام الرجل أودّ أن أقول أمامكم
الآن بأنَ ضميري مرتاح تماماً في هذه القضية،
فقد قمتُ بواجبي ولا شيء غير ذلك.
لقد نطقت حكماً عادلاً بحق مجرِم جُرِّم بصورة قانونية.

بدأ آرمسترونغ يتذكر في تلك اللحظة قضية سيتون.
كان قرار الإدانة مفاجأة كبيرة؛ كان قد التقى بماثيوس محامى
المتَهم في أحد أيام المحاكمة وهو يتناول الطعام في أحد المطاعم،
وكان ماثيوس واثقاً من النتيجة حيث قال: لا شك
فيما سيكون عليه قرار المحلفين ، إن البراءة مؤكَّدة.

ثم فيما بعد سمع تعليقات متناثرة:
" القاضي كان منحازاً تماماً، أثّر على المحلفين وقلبهم ضده فأدانوه"
، " كل شيءقانوني، وارغريف العجوز يعرف كيف يستخدم القانون"،
" كما لو أن لديه ضغينة شخصية ضد ذلك المسكين"...
كل هذه الذكريات تتابعت في مخيّلة الطبيب، ثم نظر إلى
القاضي فوجّه إليه سؤالاً، دون أن يتريث للتفكير
في المحكمة عن سؤاله.
قال: هل كنت تعرف سيتون بأيّ شكل، ؟ أعني قبل القضية.
فحدّق إليه القاضي وأجابه بصوت بارد واضح:
لا ، لم أعرف شيئاً عن سيتون قبل القضية.
قال آرمسترونغ لنفسه: الرجل يكذب، أنا متأكد أنه يكذب.
-2-
تحدثَت فيرا كلايثورن بصوت مرتعش وقالت:
أودّ أن أخبركم عن الطفل سيريل هاملتون.
كنت أعمل مربيّة له، ولم يكُن مسموحاً له أن يسبح
بعيداً عن الشاطئ، وذات يوم غفلت عنه قليلاً
فسبح مسافة بعيدة فسبحت خلفه،
ولكني لم ألحق به في الوقت المناسب.
كان ذلك مريعاً ولكنها لم تكُن غلطتي،
وعند التحقيق برّأني المحقّق، وأمّ الطفل.. أمّ
الطفل كانت في غاية اللطف.
إذا كانت أمّه لم تُلمني فلماذا...؟
لماذا ينبغي أن تُقال أشياء فظيعة كهذه؟ هذا ظلم،
ظلم!

ثم انفجرت في بكاء مرير فجأة،
قرّب الجنرال ماك آرثر على كتفها وقال:
هوّني عليك يا عزيزتي، هذا غير صحيح بالطبع.
هذا الرجل مجنون، مجنون ولديه خلل في عقله،
إنه يمسك العصا من طرفها الخطأ وكل أموره مشوَّشة.

ثم وقف منتصباً وشدّ كتفيه وصاح قائلا :
الواقع أن من الأفضل ترك هذا النوع من الأمور دون تعليق،
أنا أشعر أن عليّ القول إنه لا توجد ذرة من الصدق فيما قاله
عن ذلك الشاب آرثر ريتشموند؛ فريتشموند كان أحد الضباط
العاملين معي، وقد أرسلتُه في مهمة استكشافية فقُتل،
وهذا حادث طبيعي في وقت الحرب.
وأودّ أن أضيف أنني استأتُ كثيراً من تلطيخ سمعة زوجتي،
فهي أفضل امرأة في العالَم، لا شك في ذلك.

ثم جلس الجنرال ويده المرتعشة تمّسح شاربّيه،
وكان الجهد الذي بذله في الحديث قد أثَر عليه كثيراً.
وتحدّث لومبارد وفي عينيه نظرة ساخرة فقال:
بخصوص أولئك السكان الأصليّين...
قال مارستون : ماذا بخصوصهم؟
همهم فيليب لومبارد قائلا :
القصة صحيحة تماماً؛ لقد تركُتهم. كانت مسألة حياة أو
موت بالنسبة لي، كنّا قد تُهنا في
الغابة فأخذتُ أنا ورفيقان آخران ما تبقّى من طعام وتركناهم.

قال الجنرال ماك آرثر:
تخلّيت عن رجالك؟ تركتهم يجوعون حتى الموت؟!
فأجاب لومبارد: ليس تماماً بهذا الوصف،
ولكن النجاة بالنفس هي الواجب الأول للإنسان،
والحياة بالنسبة لهؤلاء السكان الأصليين ليست على
هذه الدرجة من الأهمية كما تعلم، فهم لا يشعرون
بالحياة كما يشعرون بها الأوروبيون.

رفعت فيرا وجهها من بين يديها وقالت وهي تحدّق إليه:
تركتهم يموتون؟!
فردّ لومبارد قائلا : نعم، تركتهم يموتون.
تعلقت عيناه الساخرتان بعينيها المرعوبتين،
وقال أنتوني مارستون بصوت بطيء وحائر:
كنت أفكر للتو بجون
ولوسي كومبس. لا بدّ أنهما الطفلان اللذان صدمُتهما
بسيارتي قرب كامبردج ، حظ سيئ جداً.

قال القاضي وارغريف بسخرية: لهما أم لك؟
فقال أنتوني: حسناً، قصدت أنه...
أعني أن حظي هو السيئ. أنت على حق سيدي،
كان حظهما سيئاً تماماً. بالطبع
كان الأمر كله مجرَّد حادث؛ فقد اندفعا بسرعة
من كوخ أو مكان ما. لقد تمّ سحب رخصتي لمدة سنة،
وكان هذا غاية في الإزعاج.

قال الدكتور آرمسترونغ بحماسة: السرعة خطأ تماماً ،
خطأ تماماً، إن الشبان من أمثالك خطر على المجتمع.

هزّ أنتوني كتفيه وقال:
إن الطرق الإنكليزية سيئة جداً ولا يمكنك السير
فيها بسرعة معقولة.

ثم نظر حوله حائراً بحثاً عن كوبه، وأخيراً التقطه
عن إحدى الطاولات ومشى إلى الطاولة الجانبية،
فملأه بالعصير مرة أخرى وقال وهو يلقي نظرة جانبية:
حسناً، لم تكُن غلطتي على أيّة حال، كان مجرَّد حادث.
-3-
بلّل روجرز شفتيه وهو يحرك يديه حركات دائرة،
وقال بصوت خافت ونبرة توحي بالاحترام لسامعيه:
هل لي ان أقول كلمة يا سيدي؟
فقال لومبارد: تفضل يا روجرز.
فتنحنح روجرز ومرّر لسانه مرة أخرى فوق شفتيه
وقال: لقد ورد اسمي ومعي السيدة روجرز والآنسة برادي،
لا توجد ذرة من الحقيقة في هذا،
فزوجتي وأنا كنّا إلى جانب الآنسة برادي حتى وفاتها.
كانت دائماً معتلّة الصحة منذ التحقنا بخدمتها ،
وكانت تلك الليلة عاصفة، ليلة موتها، وكان الهاتف متعطلاً
ولم نتمكن من طلب الطبيب ، فذهبت
بنفسي سيراً على الأقدام لإحضار الطبيب ولكنه
وصل بعد فوات الأوان. لقد بذلنا كل شيء ممكن من أجلها
– يا سيدي – وكنّا مخلصَين لها، وكل الناس يعرفون ذلك.
لم يسمع احد كلمة ضدْنا قط، ولا كلمة واحدة
.
نظر لومبارد بتأمّل إلى الوجه المرتعش للرجل
وشفتيه اليابستين والرعب في عينيه، وتذكّر ارتطام صينية
القهوة بالأرض عند سقوطها فقال في نفسه ساخراً: حقاً؟
ثم تكلم بلور، تكلم بلهجته الاستعلائية القوية وقال:
ولكنكم – مع ذلك – وجدتم هدية صغيرة لكم عند موتها،
أليس كذلك؟

فاعتدل روجرز في وقفته وقال بلهجة جافة:
لقد تركت لنا الآنسة برادي إرثاً تقديراً منها لخدماتنا المخلصة،
فماذا في ذلك؟ أوّد لو أعرف.

قال لومبارد: وماذا عنك يا سيد بلور؟
- ماذا عنّي؟!
- اسمك ورد في القائمة.
فامتقع وجه بلور وقال: تعني لاندور؟
تلك كانت حادثة سرقة البنك ، بنك لندن التجاري.

تململ القاضي وارغريف وقال:
أذكر القضية، لم انظر فيها ولكنّي أذكرها.
جُرَّم لاندور نتيجة شهادتك ، ألم تكُن
أنت ضابط الشرطة المكلّف بالقضية؟

- بلى.
- وقد حُكم على لاندور بالأشغال الشاقة المؤبَّدة
ومات في سجن دار تمور بعد سنة من ذلك.
كان رجلاً رقيقاً بسيطاً.

- بل كان نصّاباً، وكان هو الذي قتل الحارس.
كانت التهمة واضحة ضدّه تماماً.

فقال وارغريف ببطء:
أعتقد أنك نلت ثناء على كفاءتك في معالجة القضية،
أليس كذلك؟

ردّ بلور مقطّباً: " لقد حصلت على ترقية".
ثم أضاف بصوت أجشّ : كنت أؤدّي واجبي فقط.
وضحك لومبارد فجأة ضحكة رنّانة عالية وقال:
يا لنا من مجموعة من عشّاق أداء الواجب وطاعة القانون!
باستثنائي أنا بالطبع. ماذا عنك يا دكتور
وخطئك المهني البسيط؟ هل كانت عملية غير قانونية؟

نظرَت إليه إميلي برنت بازدراء حادّ وارتدّت للوراء بعض الشيء،
وقال الدكتور آرمسترونغ بثقة وهزّة دعابة برأسه :
لست قادراً على فهم الموضوع. الاسم لا يعني لي شيئاً ،
ماذا كان الاسم؟ كليز، كلوز... لا أذكر حقّاً أنني
عالجت مريضاً بهذا الاسم أو أن تكون لي صلة بحالة
موت من أي نوع. إن الموضوع كله غامض تماماً بالنسبة
لي.
الحكاية قديمة – بالطبع – وليس مستبعَداً أن تكون إحدى
حالات العمليات التي أجريتها في المستشفى، والكثير
من هؤلاء الناس يأتون متأخّرين جداً وعندما يموت المريض
يعتبرون أنها غلطة الطبيب دائماً.

وتنهد وهزّ رأسه وهو يفكر قائلاً لنفسه:
سكران، نعم ، كنت سكرانْ وأجريت العملية! كانت أعصابي
منهارة ويدايترتعشان.
لقد قتلتها دون شك، تلك المرأة العجوز المسكينة.
كانت عملية بسيطة لو كنت متنبهاً. وكان من حسن
حظي ذلك الولاء في مهنتنا، فالممرضة كانت تعرف بالطبع،
ولكنها أمسكت لسانها. يا إلهي! كان ذلك صدمة لي
هزّتني بعنف، ولكن من الذي كان يمكن أن يعرف
تلك الحكاية بعد كل هذه السنين؟!

-3-
ساد صمت في الغرفة، وكان الجميع ينظرون خفية
أو مباشرة إلى إميلي برنت، ومرّت دقيقة أو دقيقتان قبل
أن تشعر بوطأة النظرات المترقبة، فارتفع حاجباها على
جبينها الضيّق وقالت:
هل تنتظرون منّي أن أقول شيئاً؟ ليس
لديّ ما أقوله.

فقال القاضي: لا شيء يا آنسة برنت؟
- نعم ، لا شيء.
وأطبقت شفتيها، فمسح القاضي على وجهه وقال بلطف :
هل تحتفظين بحقك في الدفاع؟
فقالت الآنسة برنت ببرود: لا ضرورة للدفاع؛
لقد كنت أعمل دائماً بوحي من ضميري وليس لديّ ما أخجل منه.

أشاع ردّها إحساساً بالإحباط، ولكن إميلي برنت
لم تكُن ممّن يؤثر فيهم الرأي العام.
واستمرّت في الحفاظ على رباطة جأشها، فتنحنح القاضي
مرة أو مرتين ثم قال:
لنترك تحقيقنا عند هذه النقطة. والآن يا سيد روجرز، مَن
يوجد أيضاً على هذه الجزيرة بالإضافة لنا وأنت وزوجتك؟

- لا أحد يا سيدي، لا أحد أبداً.
- هل أنت متأكد من ذلك؟
- متأكّد تماماً يا سيدي.
قال وارغريف : لست متأكداً بالضبط من قصد مضيفنا
المجهول في جمعنا هنا، وفي رأيي أن هذا الشخص
– كائناً مَن كان – ليس بكامل قواه العقلية
بالمعنى المتعارَف عليه. قد يكون خطيراً ، ومن الأفضل لنا
– في رأيي – أن نغادر هذا المكان بأسرع ما يمكننا،
وأقترح أن نغادره الليلة.

فقال روجرز: عفواً يا سيدي ، ولكن لا يوجد قارب على الجزيرة.
- لا يوجد أيّ قارب؟!
- نعم يا سيدي.
- كيف تتصلون بالشاطئ؟
- فريد ناراكوت يأتي صباح كل يوم يا سيدي،
يحضر معه الخبز والحليب والبريد ويأخذ قائمة بطلباتنا.

فقال القاضي وارغريف: إذن قد يكون من الأفضل
أن نغادر غداً صباحاً حالما يصل قارب ناراكوت.

سرت همهمة موافقة باستثناء معارض واحد هو أنتوني
مارستون الذي لم يتفق مع الأغلبية وقال: أليس هذا نوعاً
من الانهزام؟ يتعيّن علينا كشف هذه المسألة الغامضة قبل أن
نغادر المكان، ويبدو لي الأمر كله كقصة بوليسية في
غاية الإثارة.

فقال القاضي بسخرية لاذعة: في مثل سنّي هذه ليس
لديّ أيّ رغبة في تلك الإثارة التي تتكلم عنها.

فقال أنتوني مدمدماً : إن الحياة القانونية تصيب المرء بالضيق!
ثم رفع كأسه وأفرغها مرة واحدة في جوفه،
وبسرعة بدأ يشرَق بصورة سيئة؛ فقد بدا على
وجهه أنه يتلوّى ألماً، ثم أصبح وجهه أزرق اللون وأخذ
يشهق محاولاً التنفس، ثم سقط عن كرسيه ووقعت الكأس من يده!

-
  #9  
قديم 09-27-2015, 04:27 PM
 



الفصل الخامس
-1-
كانت مفاجأة مذهلة وغير متوقَّعة، مفاجأة حبست أنفاسهم فجمدوا في
أماكنهم ينظرون ببلاهة إلى الجسد المتكوّم على
الأرض، ثم قفز الدكتور آرمسترونغ وذهب وركع إلى جانبه، وعندما رفع رأسه بدت
في عينيه حيرة شديدة وحشرج
هامساً بفزع : يا إلهي ، لقد مات!
لم يستوعبوا الأمر في الحال. مات؟ مات ؟! ذلك الشاب
في عنفوان صحّته وقوته يصبح جثة هامدة في لحظة واحدة!
الشباب الأصحّاء لا يموتون هكذا بمجرَّد أن يَشرَقوا بجرعة من
العصير بالصودا! لا، لم يكُن بوسعهم أن يصدّقوا ما حصل.
راح الدكتور آرمسترونغ يحدّق إلى وجه الرجل الميت،
وأخذ يشتمّ شفتيه الملتويتين الضاربتين للزرقة ثم رفع الكأس
التي كان أنتوني مارستون يشرب منها، وقال الجنرال ماك آرثر:
مات؟ هل تعني أن الرجل شَرِقَ فقط و... ومات؟!
فقال الطبيب : يمكنك القول أنه شرِق إذا شئت ، ولكنه مات اختناقاً.
كان يشتمّ الكأس، ثم غمس إصبعه في البقية الباقية فيها
وبكل حذر لمس بإصبعه طرف لسانه، وتغيرت ملامحه فوراً!
قال الجنرال ماك آرثر: لم أعرف قط أن رجلاً قد يموت بهذه السهولة،
فقط لأنه شَرِقَ بجرعة شراب.

وقالت إميلي برنت بصوت واضح : هذا في وسط الحياة،
ولكننا هنا في مواجهة الموت.

ونهض الدكتور آرمسترونغ وقال بحدة: لا ، لا ، أحد يموت لمجرَّد أنه شَرِق بشيء،
إن موت مارستون لم يكُن طبيعياً.

فقالت فيرا على الفور بما يشبه الهمس:
هل يوجد شيء في العصير؟
أومأ آمسترونغ إيجاباً وقال: نعم ، لا أعرف المادة بالضبط
ولكن كل شيء يشير إلى نوع من السيانيد. لم أشتمّ رائحة
حامض البروسيك. قد يكون سيانيد البوتاسيوم، فهي مادة تفعل فعلها فوراً.

قال القاضي بحدّة: هل كانت تلك المادة في كأسه؟
- نعم.
خطا الطبيب إلى الطاولة التي كانت عليها المشروبات
فرفع غطاء زجاجة العصير وشمّها وذاقها،
ثم هزّ رأسه قائلا : لا عيب فيه.
قال لومبارد : أتعني أنه وضع المادة في الكأس بنفسه؟
أومأ آرمسترونغ بتعبير يدلّ على عدم ارتياحه وقال: يبدو الأمر كذلك؟
وقال بلور : أتعني أنه انتحار ؟! هذه ميتة غريبة!
قالت فيرا ببطء : لا يخطر بالبال أبداً أنه قد يقتل نفسه .
لقد كان ، كان ... يا إلهي لا أستطيع الوصف!

ولكنهم كانوا يعرفون ماذا كانت تعني؛ كان أنتوني مارستون يبدو
في أوج شبابه ورجولته ، وها هو الآن هامد متكوّم
على الأرض لا حياة فيه .
قال الدكتور آرمسترونغ : هل ترون احتمالاً آخر غير الانتحار؟
هزّ الجميع رؤوسهم ببطء، فلا يمكن أن يكون للأمر تفسير آخر؛
المشروبات نفسها لم يعبث بها أحد ، وجميعهم
شاهدوا أنتوني مارستون يذهب ويصبّ شرابه بنفسه،
إذن فمعني ذلك أن أي مادة سامّة وُضعت في الشراب قد
وُضعت بيد أنتوني مارستون نفسه! ولكن ما الذي
يدفع أنتوني مارستون إلى الانتحار؟!
قال بلور متفكراً: أتدري أيها الطبيب؟ الأمر لا يبدو مقنعاً؛ ليس بوسعي القول
بأن السيد مارستون كان من نوع الرجال
الذين قد يُقِدمون على الانتحار.

فأجاب آرمسترونغ : أوافقك الرأي.
-2-
ترك الجميع الأمر على حاله، فلم يكُن لديهم ما يمكن أن يُقال.
وحمل آرمسترونغ ولومبارد معاً جثة أنتوني آرمسترونغ
إلى غرفته فأرقداها هناك وغطّياها بملاءة، وعندما عادا إلى الطابق السفلي
كان الآخرون يقفون مجتمعين ويرتعشون
قليلاً رغم أن المساء لم يكُن بارد اً.
قالت إميلي برنت: الأفضل أن نأوي إلى غرفنا؛ لقد تأخر الوقت.
كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل فبدا الاقتراح معقولاً،
ومع ذلك فقد تردد الجميع، وبدا كما لو أنهم يودّون البقاء
معا ليشعروا بالطمأنينة، وقال القاضي: أجل ، علينا أن ننام بعض الوقت.
قال روجرز: لم أنتهِ من التنظيف في غرفة الطعام بعد.
فقال لومبارد باقتضاب: قُم بذلك في الصباح.
وقال له آرمسترونغ: هل زوجتك على ما يرام؟
- سأذهب واراها يا سيدي.
ثم عاد بعد دقيقة أو دقيقتين وقال : إنها نائمة كالملائكة.
فقال الطبيب : حسناً ، لا تزعجها.
- بالطبع يا سيدي، فقط سأضع الأشياء في غرفة الطعام
وأتأكد من إغلاق الأبواب ، ثم سآوي إلى غرفتي.

وخطا عبر القاعة إلى غرفة الطعام، وصعد الجميع الدرَج في
طابور بطيء متردد.
لو كان هذا البيت قديماً تئن أخشابه وتمتلئ زواياه بالظلال
المعتمة ولو كانت جدرانه داكنة لوُجد ما يثير مشاعر الخوف،
ولكن هذا البيت كان غاية في الحداثة وليست فيه أي زوايا معتمة،
كانت الأضواء تغمره ولم يكُن فيه أشياء مخبّأة،
لم يكن له جو خاص. ولكن هذه الحقيقة كانت – على نحو ما –
أكثر الأشياء مدعاة للخوف!
تبادلوا تحية المساء عندما وصلوا أعلى الدرَج ،
وذهب كل منهم إلى غرفته، وبصورة تلقائية ودون انتباه تقريباً أقفل
كل منهم باب غرفته على نفسه.
-3-
في غرفته المريحة التي طُليت جدرانها بألوان باهتة جميلة خلع القاضي
وارغريف ملابسه واستعدّ للنوم.
كان يفكر بإدوارد سيتون. إنه يذكر سيتون جيداً؛
شعره ، عينيه الزرقاوين ، عادته في النظر إليك مباشرة،
الهالة اللطيفة من الاستقامة والصدق التي كانت تبدو عليه...
كان ذلك قد ترك في نفوس المحلفين انطباعاً جيداً عنه.
كان ليولين، المدّعي العام، قد أدّى مهمته بطريقة سيئة مبدياً حماسة
مبالَغاً فيها ومحاوِلاً إثبات الكثير، أما ماثيوس محامي الدفاع.
فقد كان جيّداً؛ كانت أدلته قاطعة وكانت مناقشته للشهود دقيقة،
وكان بارعاً للغاية في استجواب موكّله على منصة الشهود.
كما أن سيتون كان قد أبلى بلاء حسناً في مواجهة استجواب الادّعاء ،
فلم يتحمس أو يبالغ أكثر ممّا ينبغي
وأعطى المحلفين انطباعاً جيّداً.
ولعله بدا لماثيو كما لو أن كل شيء يسير كما ينبغي.
وضع القاضي ساعته بعناية إلى جوار سريره، وتذكّر بدقّة كيف كان يشعر
وهو جالس هناك يستمع ويأخذ ملحوظات
ويقيّم كل شيء مرتّباً كل ما فيه دليل ضدّ المتهَم . كان قد استمتع بالقضية،
وكانت كلمة ماثيو النهائية مرافعة من الطراز الأول،
وحين جاء الدور على ليولين بعده فشل في إزالة الانطباع الحسن الذي تركه
محامي الدفاع،
ثم جاء دوره هو لإجمال القضية وإعطاء توجيهاته للمحلّفين.
خلع القاضي وارغريف بعناية طقم أسنانه ووضعه في كوب ماء،
فتراجعت شفتاه المنكمشتان داخل فمه الذي بدا قاسياً
ومتوحشاً، وابتسم القاضي لنفسه وهو يضع قناعاً على عينيه،
لقد مكر لسيتون بكل براعة! وتمدّد على السرير وهو
يئن قليلاً من آلام المفاصل ، ثم أطفأ النور.
-3-
وقف روجرز حائراً في غرفة الطعام في الطابق الأرضي. كان ينظر إلى تماثيل الجنود
الخزفية في وسط الطاولة، ثم غمغم قائلاً لنفسه :
إنه لأمر غريب؛ أستطيع أن أقسم أنه كان هنا عشر قطع!
تقلب الجنرال ماك آرثر على سريره ولم يستطع النوم،
وفي ظلال الغرفة ظلّ يرى وجه آرثر ريتشموند.
كان قد أحب آرثر، بل كان معجَباً به إعجاباً شديداً ،
وكان سعيداً بأن ليزلي قد انسجمت معه أيضاً.
كانت ليزلي امرأة متعالية تنظر بتعال إلى كثير من الشبان المتميّزين
وتصفهم بأنهم أغبياء، هكذا ببساطة ، أغبياء،
إلاَ أنها لم تجد آرثر ريتشموند غبياً
بل انسجما معاً منذ البداية، فكانا يتحدثان عن المسرح
والموسيقى وكانت تمازحه وتسخر منه.
وكان ماك آرثر مسروراً بفكرة أنّ ليزلي تبدي به اهتمام الأم.
ولكن أيّ أمومة ؟! يا لها من حماقة لعينة حين لم ينتبه
وقتها إلى أن ريتشموند كان في الثامنة والعشرين وليزلي في التاسعة والعشرين!
لقد أحب ليزلي ، وبوسعه أن يراها
الآن في خياله بوجهها المستدير وعينيها الراقصتين بلونهما الرمادي العميق
وشعرها البني الكثيف الملفوف... لقد أحبّ
ليزلي ووثق بها تماماً.
كان هناك في فرنسا وسط الجحيم، كان جالساً يفكر فيها ناظراً
إلى صورتها التي كان قد أخرجها من جيب قميصه،
وعندها اكتشف الأمر، تماماً كما تحدث الأشياء في الروايات؛
الرسالة في الظرف الخطأ، كانت تكتب لكليهما، وكانت
قد وضعت رسالتها إلى ريتشموند في الظرف المعنوَّن إلى زوجها!
وحتى الآن، وبعد كل هذه السنوات ، ما زال يشعر
بوقع الصدمة وبالألم . كم كان ذلك مؤلماً!
كانت علاقتهما قد بدأت منذ بعض الوقت،
وكان ذلك واضحاً في الرسالة: عطلات نهاية الأسبوع، إجازة ريتشموند
الأخيرة...
قال لنفسه بسخط : ليزلي ! ليزلي وآرثر ! لعن الله ذلك الرجل، لعن الله وجهه
البسّام و " نعم سيدي " التي يهتف بها
بكل نشاط... يا له من كاذب منافق يسرق زوجة رجل آخر!

تجمّع غضبه ببطء، ذلك الغضب البارد القاتل،
واستطاع الاستمرار في التعامل معه كالمعتاد ولم يُظهر له شيئاً.
حاول المحافظة على سلوكه الطبيعي مع ريتشموند كما هو ،
وهو يعتقد أنه نجح في ذلك فلم يتطرق إلى نفس ريتشموند أيّ شك .
اختلاف المزاج كان له ما يبرره هناك حيث تضغط أهوال الحرب
على أعصاب الرجل باستمرار.
وحده أرمتياج الشاب نظر إليه بفضول مرّة أو مرّتين .
كان شاباً صغيراً ولكن كانت لديه قدرة قوية على الملاحظة،
وربما كان أرمتياج قد عرف عندما حان الوقت.
لقد أرسل ريتشموند بتدبير محكّم إلى حتفه، فلم يكُن ممكناً له النجاة
إلا بمعجزة والمعجزة لم تحدث، نعم ، لقد أرسل ريتشموند إلى الموت،
ولم يكن نادماً. كانت المسألة سهلة تماماً؛
الأخطاء كانت تقع طول الوقت والرجال يُرسَلون إلى الموت دون مبرر ،
وكان الجو مشحوناً بالاضطراب والرعب،
فكان يمكن للناس أن يقولوا فيما بعد :
" لقد فقد ماك آرثر أعصابه قليلاً فارتكب بضعة أخطاء كبيرة وضحّى ببعض
خيرة رجاله ... "

، ولكن لم يكُن بوسعهم أن يقولوا أكثر من ذلك.
ولكن الفتى أرمتياج كان مختلفاً؛ لقد نظر إلى قائده بدهشة شديدة.
ربما علم أن ريتشموند كان مرسَلاً إلى موته بتدبير مسبّق.
تُرى هل تكلّم أرمتياج بعد انتهاء الحرب؟ ليزلي لم تعلم.
افترضَ أنها بكت صاحبَها ، ولكن بكاءها كان قد انتهى حين عاد هو إلى إنكلترا .
لم يخبرها قط أنه اكتشف الأمر واستمرا معاً ، ولكنها لم تعُد إلى طبيعتها كما كانت .
ثم أصيبت بالتهاب رئوي بعد ثلاث سنوات أو أربع وماتت.
كان ذلك منذ وقت طويل، خمسة عشر عاماً أو سنة عشر.
وقد ترك الجيش وجاء للعيش في ديفون فاشترى بيتاً صغيراً
من النوع الذي كان يحلم بامتلاكه دائماً، جيران طيّبون ومنطقة جميلة
من العالَم وبعض الصيد البّري وصيد الأسماك...
كان الناس جميعاً ودودين في البداية، ولكنه بدأ يشعر بعد ذلك بالقلق
من إحساسه بأن الناس يتحدثون من وراء ظهره،
وبدا له أنهم ينظرون إليه – على نحو ما – بصورة مختلفة كما
لو أنهم سمعوا شيئاً، إشاعة ما. هل هو أرمتياج ؟ هل
من الممكن أن يكون أرمتياج قد تكلم؟
تجنّب الناس بعد ذلك وتقوقع داخل نفسه.
كم هو مؤلم أن تشعر أن الناس يتحدثون عنك!
كان ذلك كله منذ وقت طويل، كلام لا جدوى منه الآن.
ليزلي تلاشت بعيداً وكذلك ريتشموند ،
لا شيء ممّا حدث تبدو له أهمية الآن، ولكن ذلك جعله
وحيداً في حياته وأصبح حريصاً على تجنّب رفاقه القدامى في الجيش؛
فإذا كان أرمتياج قد تكلم فسيكونون على علم بالموضوع.
والآن ، الليلة ، دوّى صوت خفيّ معلناً تلك القصة القديمة المخفيّة.
هل تعامل مع الموضوع كما ينبغي؟ هل تجنّب الثرثرة؟
هل أظهر القدر الكافي من مشاعر الغضب والاحتقار دون الإحساس بالذنب أو الارتباك؟
من الصعب أن يجزم بذلك.
من المؤكَّد أن أحداً لم يحمل الاتهام على محمل الجدّ .
لقد كان في ذلك الحديث الكثير من الهراء غير المعقول أيضاً،
تلك الفتاة الجميلة اتهمها الصوت بإغراق طفل! إنه اتهام أحمق؛
رجل مجنون يرمي الناس بالتهم جِزافاً!
إميلي برنت أيضاً، وهي ابنة أخي توم برنت زميله في الكتيبة،
اتهمها الصوت بارتكاب جريمة قتل! إن بوسع أيّ واحد حتى لو
كان بنصف عين أن يرى كم هي تقية صالحة.
المسألة كلها شيء غريب لعين... جنون، لا أقلّ من ذلك.
منذ وصولهم إلى هذا المكان و... ولكن متى كان ذلك؟ كان ذلك هذا المساء فقط!
ولكن تبدو المدة أطول من هذا بكثير!
قال لنفسه: تُرى متى سنخرج من هنا ثانية؟
غداً طبعاً عندما يعود القارب من الشاطئ.
ولكنه لم يكُن – في تلك اللحظة- مهتمّاً كثيراً بمغادرة الجزيرة أو بالعودة إلى
الشاطئ ثم إلى بيته الصغير، العودة إلى
كل ذلك القلق والمتاعب،
كان بوسعه سماع صوت الأمواج وهي ترتطم بالصخور من
خلال نافذته المفتوحة، كان الصوت أعلى قليلا مما كان عليه في وقت
سابق من المساء، وكانت الريح تشتدّ أيضاً .
وفكّر قائلاً لنفسه: هذا صوت هادئ ومكان هادئ.
أفضل ما في أية جزيرة انك عند وصولك إليها لا تستطيع
الذهاب إلى أبعد منها ،
فأنت تصل إلى نهاية الأشياء.

وأدرك فجأة أنه لا يريد مغادرة الجزيرة!
-6-
استلقت فيرا كلايثورن في سريرها مفتوحة العينين تحدّق إلى سقف الغرفة.
كان المصباح إلى جانبها مضاء، لقد كانت تخاف الظلام.
وكانت تفكر قائلة لنفسها: هوغو ، هوغو ... لماذا أشعر انك قريب جداً
منّي في هذه الليلة؟ قريب جداً في مكان ما.
أين هو حقاً؟ لا أعرف ، ولن أعرف أبداً.
لقد خرج من حياتي وذهب بعيداً جداً.

لم يكن ممكناً عدم التفكير في هوغو ؛ لقد كان قريباً منها
وكانت مجبّرة على أن تفكر فيه، وأن تتذكر ، كورنوول ..
الصخور السوداء، ألرمال الناعمة، السيدة هاملتون مرحة الطباع ،
وسيريل المتذمر قليلاً دائماً وهو يشدّ يدها.
كان يقول لها : أريد أن أسبح إلى الصخرة يا آنسة كلايثورن.
لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟

ترتفع عيناها وتلتقيان بعينيّ هوغو وهو يراقبها،
وتلك الأمسيات بعد ذهاب سيريل إلى النوم. كان يقول لها:
هل تأتين لتتمشّي معي يا آنسة كلايثورن؟
- نعم ، سآتي.
المشّي بهدوء على الشاطئ، وضوء القمر، ونسيم المحيط الأطلسيّ العليل ،
ثم كفّ هوغو وهي تحتضن كفّها وصوته
الرقيق وهو يقول : أحبك ، أحبك ، أتعرفين أنني أحبك يا فيرا؟
نعم ، كانت تعرف، أو لقد خُيّل لها أنها كانت تعرف.
تذكّرَته حين قال لها : لا أستطيع أن أطلب منكِ أن تتزوجيني ؛
فليس في جيبي بنس واحد ولا أستطيع أن أعول غير نفسي.
شيء غريب! هل تعلمين؟ لقد حانت لي فرصة مرّة لمدة
ثلاثة أشهر لأن أطمح إلى أن أكون ثرياً، فسيريل لم يولَد إلاَ بعد ثلاثة شهور
من وفاة موريس. لو انه كان بنتاً...
لو كان هذا الطفل بنتاً لكان هوغو قد حصل على كل شيء.
لقد اعترف بأن أمله قد خاب،

كان يقول: لم أعتمد على ذلك بالطبع، ولكنها كانت صدمة نوعاً ما.
الحظ هو الحظ! سيريل طفل لطيف وأنا معجَب به للغاية.

وفعلاً كان معجَباً به . كان مستعداً دائماً ليلعب مع ابن أخيه
أو يسليّه بأي شكل، ولم يكُن الحقد في طبع هوغو.
لم يكُن سيريل قوياً حقاً بل كان طفلاً ضعيفاً ولا قدرة له على الاحتمال،
وربما كان من نوع الأطفال الذين لا يعيشون حتى يكبروا.
ثم... اقتحم ذاكرتها صوته وهو يلحّ عليها في السؤال:
آنسة كلايثورن، لماذا لا أستطيع السباحة إلى الصخرة؟
كان السؤال مزعجاً ومتكرر اً ، وكانت تجيبه دائماً :
لأن الصخرة بعيدة يا سيريل.
- ولكن يا آنسة كلايثورن....
نهضت فيرا وتوجهت إلى طاولة الزينة فأخذت ثلاث حبّات من الأسبرين،
وقالت لنفسها: حبذا لو كان لديّ حبوب منوّمة حقيقية.
لو أنني فكرت في قتل نفسي لأخذت جرعة زائدة من الفيرونال أو شيء
من هذا النوع وليس سيانيداً!
سرت في جسدها رجفة حين تذكَرت وجه أنتوني مارستون الأحمر
المتشنج، وحين مرّت بالمدفأة نظرت إلى مقطوعة
الشعّر المعلّقة فوقها:
عشرة جنود صغار خرجوا للعشاء
أحدهم شَرِقَ فمات فبقي تسعة

وقالت لنفسها: يا له من أمر مُخيف؛ تماماً مثلما حدث هذا المساء!
لماذا كان أنتوني مارستون يريد الموت؟

هي لا تريد الموت، لا تستطيع تخيّل أنها تريد الموت!
الموت من نصيب ال... الآخرين.

-

  #10  
قديم 09-27-2015, 05:06 PM
 
-



الفصل السادس



-1-

كان الدكتور آرمسترونغ يحلم: كان الجو حارّاً في غرفة العمليات،
من المؤكَّد أنهم ضبطوا الحرارة على درجة
مرتفعة. كان العرق يسيل على وجهه، وكانت يداه لزجتين ولم
يكن بوسعه إمساك المشرط جيداً.
كم كانت جميلة حدّة المشرط!
من السهل القيام بالقتل باستخدام سكين كهذه، وهو بالطبع
كان بصدد القتل.
بدا جسد المرأة مختلفاً، كان ضخماً ثقيلاً، ولكن تلك المرأة كانت نحيفة وضئيلة،
وكان الوجه مخفياً. مَن الذي كان عليه أن يقتله؟
لم يستطع التذكر، ولكنه يجب أن يعرف هل يسأل الممرضة؟
الممرضة كانت تراقبه. لا ، لا يستطيع سؤالها،
لقد كانت متشككة وكان بوسعه رؤية ذلك. ولكن مَن كان على طاولة العمليات؟
ما كان ينبغي لهم أن يُخفوا الوجه على هذا النحو.
ليته يستطيع رؤية الوجه.
آه ، هذا أفضل . وجد شابّاً متدرّباً يسحب المنديل، وها هو .
الوجه. نعم، إميلي برنت بالطبع، كان عليه أن يقتل إميلي برنت.
كم كانت عينها خبيثة! كانت شفتاها تتحركان، ماذا
كانت تقول؟ كانت تقول: وسط الحياة نحن في مواجهة الموت.
كانت تضحك، وكان هو يقول للممرضة :
لا أيتها الممرضة، لا تعيدي وضع المنديل، عليّ أن أرى ،
عليّ أن
أعطيها المخدّر. أين المخدّر؟
لا بدّ أنني أحضرته معي! ماذا فعلتِ بالمخدر أيتها الممرضة؟
حسناً، هذا يكفي تماماً.
أنزعي المنديل بعيداً أيتها الممرضة.

بالطبع كنت أعرف ذلك كل الوقت، هذا أنتوني مارستون.
إن وجهه أحمر متشنج ولكنه ليس ميت اً. إنه يضحك،
نعم ، يضحك لدرجة أنه يهزّ طاولة العمليات!
- انتبه أيها الرجل ، انتبه ، ثبّتي الطاولة أيتها الممرضة ، ثبّتي الطاولة!
وفجأة استيقظ الدكتور آرمسترونغ ، وكان الصباح قد طلع وأشعة الشمس تتدفق في الغرفة.
كان شخص ما ينحني فوقه ويهزّه، وكان ذلك الرجل روجرز.
كان ممتقع الوجه ينادي: دكتور، دكتور.
واستيقظ الدكتور آرمسترونغ تماماً وجلس في سريره
وقال بحدّة: ما الأمر؟
- زوجتي يا دكتور ، لا أستطيع إيقاظها! يا إلهي! لا أستطيع إيقاظها ،
وهي... وهي لا تبدو لي طبيعية.

كان الدكتور آرمسترونغ سريعاً، فلفّ نفسه في ثوب النوم وتبع روجرز.
-2-
انحنى الدكتور آرمسترونغ فوق السرير الذي كانت ترقد
عليه المرأة بسلام على جنبها، ورفع يدها الباردة وفتح جفنها ،
ومرّت دقائق قبل أن يرفع قامته ويتحول عن السرير.
همس روجرز: هل هي...؟ هل هي...؟
ومرّر لسانه على شفتيه الجافتّين، فأومأ الدكتور آرمسترونغ قائلا :
نعم ، لقد ماتت.
واستقرّت عيناه بتأمّل على الرجل الواقف أمامه ثم على الطاولة
المجاورة للسرير ثم على حوض الغسيل، ثم
رجعتا إلى المرأة النائمة، وقال روجرز:
هل كان .... هل كان قلبها يا دكتور؟
وانتظر الدكتور آرمسترونغ دقيقة أو اثنتين قبل الإجابة ثم سأل:
كيف كانت صحتها في العادة؟
قال روجرز : كانت تعاني قليلاً من آلام العظام.
- هل كان يشرف عليها أيّ طبيب مؤخَّراً؟
قال روجرز: طبيب؟ لم ترَ طبيباً منذ سنوات، لا هي ولا أنا.
- هل لديك أيّ سبب يجعلك تعتقد أنها عانت من مشكلات في القلب؟
- لا يا دكتور ، لم أعرف شيئاً كهذا من قبل.
قال آرمسترونغ: هل كانت تنام جيداً؟
فتجنّب روجرز النظر إليه وأخذ يشبّك يديه
ويديرهما بقلق ثم غمغم قائلا : لا ، لم تكُن تنام جيداً.
فقال الطبيب بحدّة: هل كانت تأخذ شيئاً لمساعدتها على النوم؟
فحدّق إليه روجرز مدهوشاً وقال:
تأخذ شيئاً لمساعدتها على النوم؟! ليس حسب علمي.
أنا على يقين من أنها لم تكُن
تأخذ شيئاً.
خطا آرمسترونغ إلى حوض الغسيل حيث كان هناك عدد
من الزجاجات على رفّ الحوض، معجون للشعر، ماء عطري، زجاجة مليّن للمعدة،
سائل غلسرين للأيدي، مطهّر سائل للفم، معجون آسنان...
وساعده روجرز بفتح أدراج خزانة الملابس، ثم انتقلا من هناك
إلى خزانة أدراج أخرى ولكنهما لم يجدا أية دلائل على وجود شراب
أو حبوب منوّمة.
قال روجرز: لم تأخذ شيئاً الليلة الماضية – يا سيدي –
ما عدا الدواء المسكّن الذي أعطيتَه أنت لها.

-3-
عندما دقّ جرس الإفطار في تمام التاسعة كان الجميع قد نهضوا
وخرجوا ينتظرون دعوتهم إلى غرفة الطعام،
وكان الجنرال ماك آرثر والقاضي يذرعان الشرفة الخارجية
ويتبادلان تعليقات متقطعة حول الموقف السياسي،
وكانت فيرا كلايثورن وفيليب لومبارد قد صعدا إلى قمة الجزيرة خلف المنزل،
وهناك وجدا ويليام هنري بلور واقفاً ينظر إلى الشاطئ،
وحين رآهما قال: لا أثر للقارب البخاري حتى الآن،
كنت أرقب الشاطئ بحثاً عنه.

فقالت فيرا مبتسمة: ديفون منطقة يحبّ أهلها النوم،
والأمور هنا تتأخر عادة.

وكان فيليب لومبارد ينظر إلى البحر في الاتجاه المعاكس فقال فجأة:
ما رأيكم في الطقس؟
نظر بلور إلى السماء وقال: يبدو لي جيد اً.
وصفر لومبارد بفمه وقال: ستهبّ الريح قبل نهاية اليوم.
قال بلور : أتعني عاصفة؟
ثم تناهى إليهم صوت جرس يأتي من أسفل فقال فيليب لومبارد:
الإفطار؟ حسناً، أنا بحاجة إليه.
وفيما كانوا يهبطون المنحدّر الحادّ قال بلور للومبارد بنبرة تأمّل:
أتعرف؟ تحيرّني مسألة ما. لماذا أراد ذلك الشابّ
وضع حدّ لحياته؟ ! لقد كنتُ أفكر في الأمر طول الليل.

كانت فيرا تتقدمهما ، فتباطأ لومبارد قليلاً وقال:
هل لديك نظرية أخرى؟
- أحتاج إلى بعض الإثباتات. لا بدّ من وجود حافز أولاً،
وهو كان رجلاً ميسور الحال فيما أعتقد.

وأطلّت عليهم إميلي برنت من نافذة غرفة الجلوس فسألت:
هل القارب قادم؟
فقالت فيرا: ليس بعد.
ثم دخلوا إلى قاعة الإفطار حيث كان طبق واسع يحوي
بيضاً وعلى الطاولة الجانبية رقائق مقلية من اللحم إضافة
إلى الشاي والقهوة، وأمسك روجرز بالباب مفتوحاً لكي يدخلوا ثم أغلقه من الخارج.
فقالت إميلي برنت: ذلك الرجل يبدو مريضاً اليوم.
فتنحنح الطبيب الذي كان يقف إلى جوار النافذة وقال:
عليكم تحمّل أية نواقص هذا الصباح؛ فقد تعيّن على روجرز
أن يبذل كل ما في وسعه لإعداد الإفطار وحده لأن السيدة روجرز
لم تستطع استئناف العمل هذا الصباح.

قالت إميلي برنت بحدّة: ما خطب هذه المرأة؟
فقال الدكتور آرمسترونغ بهدوء: دعونا نبدأ فطورنا؛
البيض سيبرد، وبعد الإفطار لديّ عدّة أمور أودّ أن أبحثها

معكم.

وإذ وافقوه على ملاحظته أقبلوا يملؤون أطباقهم بالطعام
وأقداحهم بالشاي والقهوة، وبدأت الوجبة، وبدا أنهم
مجمعون على عدم التحدث عن أيّ شيء يخصّ الجزيرة ،
وبدلاً من ذلك دار حديث متقطّع حول الأحداث،
الجارية: الأخبار من الخارج، الأحداث الرياضية العالَمية،
آخر الأنباء حول عودة وحش بحيرة نيس للظهور...
ثم رُفعت الأطباق، فدفع الدكتور آرمسترونغ كرسيّه إلى الوراء قليلاً وتنحنح بطريقة
تثير الاهتمام وقال: رأيتُ من
الأفضل أن أنتظر حتى تنتهوا من إفطاركم لأبلغكم بخير سيّئ.
لقد ماتت السيدة روجرز في أثناء نومها.

حلّ عليهم ذهول وعلت أصواتهم بهمهمة جماعية،
وقالت فيرا بدهشة: يا إلهي! حالنا موت على هذه الجزيرة منذ
وصولنا!

- قال القاضي وارغريف وعيناه تضيقان وبصوت خفيض وواضح ودقيق:
أمر عجيب جد اً! ماذا كان سبب موتها؟
هزّ الدكتور آرمسترونغ كتفيه وقال:
من المستحيل معرفة ذلك في التوّ .
- لا بدّ من إجراء تشريح.
- بالتأكيد لا أستطيع إعطاء شهادة؛ فليس لديّ أيّ معرفة بحالة المرأة الصحيّة.
قالت فيرا : كانت تبدو امرأة عصبية للغاية، وقد تلقّت صدمة أمس.
قد يكون السبب نوبة قلبية.

قال الدكتور آرمسترونغ بجفاء: مؤكد أن قلبها قد توقف عن النبض،
ولكن ما سبب توقفه عن النبض؟ هذا هو
السؤال.
وأفلتت كلمة واحدة من إميلي برنت وقعت بشدّة
ووضوح على المجموعة المصغية إذ قالت: الضمير.
فالتفت إليها آرمسترونغ وقال:
ماذا تقصدين بالضبط يا آنسة برنت؟
قالت إميلي برنت بحزم وشدّة:
لقد سمعتم جميعاً، لقد ا تهِمت مع زوجها بتدبير اغتيال مستخدِمتها
السابقة السيدة
العجوز.
- وهل تعتقدين هذا؟
- أعتقد أن الاتهام كان صحيحاً؛ لقد رأيتموها جميعكم الليلة الماضية
حين انهارت وغابت عن الوعي، فقد كانت
صدمة كشُف عملها الشرير أكبر من أن تحتملها.
لقد ماتت من الخوف فعلياً.

هزّ الدكتور آرمسترونغ رأسه متشككاً وقال:
إنها نظرية محتَملة، ولكن المرء لا يستطيع تبنّي نظرية كهذه دون
معرفة دقيقة بحالتها الصحية وما إذا كان لديها ضعف في القلب مثلا .

قالت إميلي برنت: سمّه تدبيراً ربانياً إن شئت.
بدت الصدمة على الجميع وقال السيد بلور بقلق:
هذه مبالَغة في الأمور يا آنسة برنت.
نظرَت إليهم بعينين لامعتين وارتفع ذقنها وهي تقول:
أتعتبرون من المستحيل أن يتعرض خاطئ لغضب الله؟ أنا لا
أعتقد ذلك.

مسح القاضي ذقنه وغمغم:
سيدتي العزيزة، من خلال خبرتي في الجريمة وجدت أن
مهمّة إثبات الجرم وإيقاع
العقاب أمور مَنوطة بناء علينا نحن البشر،
وهذه المهمّة محفوفة بالمخاطر، ولا توجَد طرق مختصَره لإنجازها.

فهزّت إميلي برنت كتفيها وقال بلور بحدّة:
ماذا أكلت أو شربت الليلة الماضية بعد أن ذهبت إلى سريرها؟
فقال آرمسترونغ: لاشيء.
- ألم تتناول أيّ شيء؛ كوب شاي أو كوب ماء مثلاً؟
أراهنك أنها تناولت كوب شاي فهي من نوع النساء اللاتي
يفعلن ذلك دائماً.

- لقد أكّد لي روجرز أنها لم تتناول شيئاً على الإطلاق.
وقال بلور: آه ، طبعاً ، من المتوقَّع أن يقول شيئاً كهذا.
كانت نبرته عميقة الدلالة بحيث نظر إليه الطبيب بحدّة،
وقال فيليب لومبارد: أهذا ما تظنه إذن؟
فقال بلور بلهجة عدائية: حسناً، لِمَ لا؟ لقد سمعنا جميعاً ذلك الاتهام ليلة أمس،
وقد يكون كله كلاماً فارغاً ومحض
ثرثرة حمقاء، ولكن – من جهة أخرى – قد لا يكون الأمر كذلك.
لنفترض للحظة أن الاتهام صحيح وأن روجرز
وزوجته قتلا تلك السيدة، فماذا بعد؟ لقد غمرهما إحساس بالسلام
والطمأنينة و...

قاطعته فيرا وقالت بصوت خفيض :
لا ، لا أظن أن السيدة روجرز شعرت بالأمان قط.

بدا بلور منزعجاً بعض الشيء لمقاطعته ولمحها بنظرة كمن يقول:
أنتنّ النساء ! ثم استأنف حديثه قائلا :
هذه احتمالات على أيّ حال. لم يكونا يعرفان أن الخطر يحيط بهما،
ثم جاء يوم أمس وخرج ذلك الصوت الأحمق وكشف الأمر،
فماذا حدث ؟ انهارت المرأة وتحطمت.
هل لاحظتم كيف كان زوجها يخفيها عن أعيننا عندما بدأت
تفيق من إغماءتها؟ لم يكُن ذلك كله قلقاً على زوجته، بالتأكيد لا ،
بل كان مرعوباً حتى الموت مما يمكن أن تقوله زوجته.

ثم أخذ نفساً عميقاً وعاد يقول: دعوني أشرح الوضع لكم: لقد ارتكبا جريمة
ولم يُكشف أمرهما، ولكن إذا كان سيتمّ
نبش المسألة من جديد فماذا سيحدث؟
الاحتمال الأغلب بنسبة عشرة إلى واحد أن المرأة ستنهار وتعترف؛
فهي لا تملك الأعصاب التي تجعلها تتصدى للتهمة
بقوة، أيّ أنها قنبلة موقوتة بالنسبة لزوجها.
نعم، هي كذلك، أمّا زوجها فليس لديه مشكلة؛ فبوسعه الكذب بوجه جامد
حتى يوم القيامة، ولكنه لا يستطيع الاطمئنان إليها لأنها
إذا انهارت فستكون حياته في خطر. لهذا يدسّ لها شيئاً في كوب الشاي،
وبذلك يضمن إغلاق فمها إلى الأبد.

قال آرمسترونغ ببطء: لم يكُن إلى جانب سريرها قدح فارغ، لم يكُن هناك شيء
على الإطلاق، لقد نظرت بنفسي.

فقال بلور ساخراً: بالطبع لم يكُن هناك شيء. أول ما هو متوَّقع منه أن يقوم به
بعد أن شربَت ما في القدح هو أن
يأخذه مع صحته ويغسله جيّداً.
ساد الصمت هنيهة ثم قال الجنرال ماك آرثر مشككاً:
قد يكون الأمر كذلك، ولكن من الصعب عليّ أن أصدق أن
رجلاً قد يفعل شيئاً كهذا لزوجته.

فأطلق بلور ضحكة قصيرة وقال:
عندما تكون حياة رجل في خطر فهو لا يتوقف كثيراً للتفكير في العواطف.
ثم حلّ الصمت فترة أخرى، وقبل أن يستأنف أحد الحديث
فُتح الباب ودخل روجرز وقال وهو ينقل بصره بينهم:
هل يمكنني تقديم شيء آخر لكم؟
فتحرك القاضي وارغريف قليلاً في كرسيه وسأله:
متى يأتي ذلك القارب البخاري عادة؟
- بين السابعة والثامنة يا سيدي، وأحياناً بعد الثامنة بقليل.
لا أعرف ما الذي أخّر فريد ناراكوت هذا الصباح!
لو كان مريضاً لأرسل أخاه.

فسأله فيليب لومبارد: كم الساعة الآن؟
- العاشرة إلاَ عشر دقائق يا سيدي.
فارتفع حاجبا لومبارد وهزّ رأسه متأملاً، وانتظر روجرز دقيقة أو اثنتين،
ثم تكلم الجنرال ماك آرثر فجأة وباندفاع فقال:
أنا آسف لسماع هذه الأخبار عن زوجتك يا روجرز،
كان الدكتور يخبرنا بذلك للتوّ .

فأطرق روجرز برأسه وقال: شكراً لك يا سيدي.
ثم أخذ الطبق الفارغ وخرج، وحلّ الصمت مرة أخرى.
-3-
في الشرفة الخارجية قال فيليب لومبارد:
بخصوص هذا القارب البخاري... فنظر إليه بلور
وهز رأسه قائلا : أعرف
في أي شيء تفكر يا سيد لومبارد. لقد وجهّت لنفسي السؤال ذاته،
ذلك القارب كان يجب أن يكون هنا قبل ساعتين
تقريباً ولكنه لم يصل، فلماذا ؟

فقال لومبارد: وهل عرفت الجواب؟
- ليست هذه مصادفة، هذا ما أقوله. إنه جزء من الموضوع بكامله،
الأحداث كلها يرتبط بعضها ببعض.

- إذن أنت لا تعتقد أنه سيأتي.
وجاء من خلفه صوت نزِق نافد الصبر يقول: القارب لن يأتي.
فاستدار بلور بكتفيه العريضتين ونظر إلى المتحدث
الأخير متأملاً ثم قال: أتظن ذلك يا جنرال؟
فقال الجنرال ماك آرثر بحدّة: طبعاً لن يأتي. نحن نعتمد على أن يأتي القارب
ويأخذنا من الجزيرة، هذه هي النقطة
الأساسية،
ولكننا لن نغادر هذه الجزيرة، لن يغادرها أيّ منّا أبداً.
هذه هي النهاية، هل تدرك ذلك؟ نهاية كل شيء.

وتردّد قليلاً ثم قال بصوت منخفض غريب: هذا هو السلام، السلام الحقيقي؛
أن تصل إلى النهاية ، أن لا يكون

عليك الاستمرار. نعم ، السلام.

ثم استدار فجأة وانصرف عابراً الشرفة، ثم انحدر باتجاه البحر
ومشى حتى نهاية الجزيرة إلى حيث تناثرت أحجار
متفرقة على أطراف الماء ، ومشى مختلّ التوازن قليلاً
كما لو كان نصف نائم فقال بلور: ها هو شخص طيّب آخر
يفقد عقله. يبدو أننا سننتهي جميعنا كذلك.

فقال فيليب لومبارد: لا أظن انك ستفقد عقلك يا بلور.
فضحك المفتش السابق وقال: " لن يكون ذلك سهلا ".
ثم أضاف جاد اً: ولا أظن أن هذا سيحدث لك أنت أيضاً يا سيد
لومبارد.

فقال فيليب لومبارد: أشعر أنني بكامل قواي العقلية حتى الآن، شكراً لك.
-5-
خرج الدكتور آرمسترونغ إلى الشرفة ووقف هناك متردداً.
كان عن يساره كلّ من بلور ولومبارد، وعن يمينه
القاضي وارغريف يذرع المكان جيئة وذهاباً حانياً رأسه.
وبعد فترة ترددّ استدرار آرمسترونغ باتجاه وارغريف،
ولكن روجرز جاء في تلك اللحظة خارجاً من البيت بسرعة وقال له:
هل أستطيع أن أكلمك على انفراد يا سيدي؟
فتحول آرمسترونغ إليه وقد جفل حين رآه.
كان وجه روجرز في غاية الاضطراب وقد تحول لونه إلى أخضر
رمادي وكانت يداه ترتجفان، بدا متناقضاً مع حالة تماسكه قبل دقائق قليلة
مما أدهش آرمسترونغ تماماً.
وقال روجرز: أرجوك يا سيدي، أريد أن أكلمك على انفراد في الداخل.
استدار الدكتور عائداً داخل البيت مع الخادم المضطرب
وقال : ما الأمر يا رجل؟! تماسك وكن رابط الجأش.
- هنا يا سيدي ، تفضل هنا.
وفتح باب غرفة الطعام فدخل الطبيب وتبعه روجرز وأغلق الباب خلفه،
وقال آرمسترونغ : حسناً ، ما الأمر؟
كانت عضلات حنجرة روجرز تتحرك في حين كان يبلع ريقه هلعاً،
ثم انتفض وهو يقول: تجري هنا أشياء لا
أستطيع فهمها يا سيدي!

فقال آرمسترونغ بحدّة: أشياء! أية أشياء؟
- ستظنني مجنوناً يا سيدي، ستقول إنها أمور سخيفة. ولكن يجب
تفسير هذه الأشياء، يجب تفسيرها- يا سيدي-
لأنها غير معقولة أبد اً.

- حسناً أيها الرجل، ما هذه الأشياء؟ لا تواصل الحديث بالألغاز.
فبلع روجرز ريقه ثانية وقال: تلك التماثيل الصغيرة يا سيدي! تلك التماثيل
الموضوعة وسط الطاولة، عشرة
تماثيل،
كان هناك عشرة منها، أقسم أنه كان هناك عشرة منها.

فقال آرمسترونغ: أجل ، عشرة؛ لقد أحصيناها الليلة الماضية عندما
كنّا على العشاء.

فاقترب روجرز وقال: هذه هي المسألة يا سيدي. الليلة الماضية عندما كنت أنظف
غرفة الطعام كان هناك تسعة يا
سيدي!
لقد انتبهت إليها وفكّرت بأنه أمر غريب، ولكن هذا كل ما خطر لي وقتها،
والآن يا سيدي، هذا الصباح لم
أنتبه إليها عند إعداد المائدة للإفطار ؛ كنت حزيناً مهموماً فلم أنتبه،
أما الآن – يا سيدي – عندما أتيت لإعادة
ترتيب المكان... انظر بنفسك إن لم تكُن تصدقني، يوجّد فقط ثمانية يا سيدي،
ثمانية فقط! هذا غير معقول يا سيدي،
هل هذا معقول ! ثمانية فقط!

-


التعديل الأخير تم بواسطة دُونـــآي ❝ ; 09-27-2015 الساعة 05:55 PM
 

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
سَنتألم قليلاً ثُمّ نْنسى | psd ᶫᵉᵉᶰᵃ ملحقات الفوتوشوب 6 07-05-2014 07:15 AM
أسباب تسلط الذل على المسلمين oays tamim نور الإسلام - 0 01-10-2009 03:53 PM


الساعة الآن 04:52 PM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
Content Relevant URLs by vBSEO
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011