#281
| ||
| ||
الفصل الثالث و الخمسون *لا تندهش* شعرت بأوصالي تتجمد و أنا قابعة في مكاني أسمع وقع أقدامه التي تقترب .. أغمضت عيني - و ضحكات العقارب الخافتة ترن في أذني - في محاولة يائسة للهرب من مواجهته ، لكنه لم يكن ليسمح لي بالفرار أبدا. أخذت الخطوات تدنو و تدنو حتى توقفت .. و شعرت بجسده أمامي يبعث هالات نارية نحوي و أنفاسه اللاهثة تسحب كل ما حولي من الهواء. "ها أنت هنا !" أجفلني صوته المغمور بالغضب و حاولت فتح إحدى عيني قليلا لأرى وجهه و ليتني لم أفعل ! كان أكثر إخافة مما تصورت. التزم العقارب الحياد في هذه المواجهة و راقبوا كلارك يصيح في و هم صامتون. "لماذا فعلت ذلك ؟! كيف تخفين عني أمر كهذا ؟! لقد أعطيتك كل ثقتي لكنك .." لوح بيديه في اضطراب و قد خانته كلماته ، ثم عاد يقول بصوت مجروح : "كيف .. كيف تفعلين ذلك بي ؟! هل فكرت لحظة في مشاعري ؟!" فتحت كلتا عيني بهدوء رافعة رأسي إليه .. و لاحظت للمرة الأولى على بعد متر و نصف خلف كلارك جان - الذي حافظ على صمته رغم التوتر البادي على ملامحه - لكن كلماتي التي أردت نطقها غاصت في صدري عندما تناهى إلى مسامعي صوت باب غرفة العمليات و هو يفتح. انتفضنا جميعا واقفين و نسي كلارك أمري كليا محولا ناظريه نحو الطبيب الذي خرج من الغرفة و اتجه صوبنا. تقدمت إلى جوار كلارك دون اهتمام بما قد يكلفني إياه هذا الاقتراب ، و أنزل الطبيب الكمامة عن فمه و بانت ابتسامته المطمئنة و هو يمثل أمامنا .. "لقد سار كل شيء جيدا و الآنسة على ما يرام الآن لكن .. " التفت وراءه و تبعت نظراتنا عينيه إلى السرير الذي خرج من الغرفة يدفعه طبيب آخر و ممرضتان . كانت لونا مستلقية فوقه بسكون و شعرها الأحمر يتناثر على الملائة البيضاء. أحسست بجسد كلارك يهتز و رأيت الدماء تفر من وجهه ، أما جان فبدا أن شدة الصدمة قد أفقدته القدرة على النطق و الحركة ، و حين اندفع كلارك نحو شقيقته النائمة و دموعه تنهمر بحرارة على خديه ظل هو قابعا في مكانه مشيحا بوجهه بعيدا عن عيوننا. مد الطبيب ذراعه لمنع كلارك من الذهاب قائلا : "لا يمكنك رؤيتها الآن يجب .. " لكن المعني لم يأبه بكلامه .. لم يبد عليه الاستماع أصلا ! ركض مسرعا و دفع إحدى الممرضتين مما جعلها تجفل و ترمقه بنظرة حادة. تبادلت النظرات العابسة مع سوزان التي بدت متأثرة كثيرا بما ترى ثم رفاييل الذي تنهد بهم و هز رأسه في غير رضا. أخذت نفسا ثم زفرته بوهن ، و خطوت ببطء للأمام . كنت أرى كلارك ينحني فوق شقيقته يتلمس خدها و دموعه تتساقط و تبلل شعرها و سمعت و أنا أقترب همسه الباكي : "أ.. نا آسف .. سامحيني .. كنـ.. كنت مخطئا .. " شعرت بالأسف الشديد نحوه .. هو لم يقترف أي خطأ و لا ذنب له فيما حصل للونا .. كل ما في الأمر أن ابتعاده عنها و الذي كان بغرض حمايتها في المقام الأول أدى لنتائج سلبية لم تكن واردة في حساباته ، فهو لم يعلم باستعادتها ذاكرتها إلا اليوم. وضعت يدي برفق على كتفه و قلت هامسة : "لا تلم نفسك ! ليس لك ذنب بما ألم بها ! إنه .. " و دون أن يرفع رأسه قال بصوت متهدج : "حقا ؟! لماذا إذن أخفت نفسها عني و لم ترغب برؤيتي ؟!" فتحت فمي .. لكن الكلمات خذلتني و ظل لساني معلقا و عقلي عاجز عن التفكير في إجابة تقنعه بالتوقف عن لوم نفسه. لم تدم حيرتي طويلا ، فقد أخرجني صوت الطبيب من بحر أفكاري العقيمة قائلا : "عفوا أيها السيد ، لكن الآنسة متعبة للغاية و يجب أن ترتاح . أنا لا أعرف ما نوع صلتك بها ، لكن يبدو أنك تهتم بتعافيها .. أليس كذلك ؟!" رفع كلارك رأسه ببطء و نظر نحو الطبيب نظرة سارحة .. و عندما شعر الأخير بتجاوبه تابع كلامه بنبرة تحذيرية : "إنها كما أرى لا تتغذى جيدا و لا تنام بالقدر الكافي كما أنها مصابة في كتفها أيضا و الجرح لم يبرأ تماما ، و إن بقي الوضع على ما هو عليه من الإهمال ، فلن تعيش أكثر من شهر في أفضل الأحوال !" ارتعد كلارك بشدة من هذه الفكرة المروعة و تراجع للوراء بخطوات مضطربة لم يرفع خلالها عينيه الخائفتين عن وجه لونا. عاد السرير يسير في الممر و الممرضتان تدفعانه كل من جانب بينما اتخذ الطبيبان الاتجاه المعاكس و هما يتنهدان في تعب. ثم لمحت رفاييل و سوزان ينطلقان وراء صديقتي مهرولين .. كان واضحا أنهما سيتوليان حراستها ، فمن غير المقبول أن يتركوا غرفتها مكشوفة و الخطر ما زال محدقا ، لذلك لم يكن هناك من داع لتوضيح سوزان : "سنذهب لحراسة الغرفة !" أضاف رفاييل و هو يبتسم ابتسامة مغايرة لتلك الساخرة أو الشامتة التي ألفت رؤيتها على وجهه "اعتن بنفسك !" ثم ابتعدا و لم يبق في الممر سواي أنا و كلارك و جان و .. ماريان التي بدت تعابيرها جامدة غامضة العواطف. كان كلارك ما يزال ينظر إلى الجهة التي سار فيها السرير المتحرك و قد فزع حين قبضت على ذراعه .. نظر نحوي متفاجئا فقلت بهدوء : "تعال لنجلس .. " ثم استدرت بنصف جسدي للوراء و ناديت : "جان !" رفع المعني رأسه و التقت عيوننا لثانية لمحت فيها لمعان دموعه ، ثم أطرق بصمت .. كان كلارك غير واع تقريبا بما حوله ، فقدته بسهولة و أجلسته على أحد المقاعد .. أخذت أنا جانبه الأيسر بينما اختار جان الأيمن . بدا الأخير هادئا أكثر مما توقعت بشكل بدا لي زائفا ، و أظنه التزم تصنع رباطة الجأش هذه من أجل كلارك فقط ، ففقدانه لأعصابه هو الآخر سيزيد من تفاقم المشكلة. نظرت إلى كيس المأكولات الذي تركته سوزان خلفها و سألتهما بتردد : "هل .. تشربان شيئا ً!" اكتفى جان بهز رأسه نفيا ، أما كلارك فشعرت أنه لم يسمع ، كانت تعابير وجهه الخاوية و نظراته الغائمة توحيان أن عقله غائب عن الواقع . تنهدت و الأسى يعتصر قلبي .. كان من الصعب تصديق أن كلارك قبل بضع ساعات فقط كان يضحك ، و جان يرمي شتائمه علي .. بدا الأمر و كأن دهورا مرت على تلك الأوقات. لا أدري كيف و ما الذي دفعني لما فعلته .. التقطت من الكيس علبة كولا ، ثم رججتها بقوة و قدمتها لكلارك قائلة : "اشرب !" لكن كلمتي دخلت من أذن و خرجت من الأخرى كما يبدو ، فهو لم يتحرك .. فتحتم علي التصرف بنفسي . عضضت شفتي بمكر ، و فتحت العلبة لينفجر الكولا في وجه كلارك و يغسل وجهه و حذائه و أكثر من نصف جسده و لم نسلم أنا و جان من رذاذه المتطاير. فغر جان فاه غير مصدق "هل أنت مجنونة ؟!" و ألقت ماريان نحونا نظرة مصدومة. ضحكت باستمتاع خبيث .. لقد نجحت فكرتي و آتت مفعولها فها هو جان استعداد نطقه ، و الغيط بات يعرف طريقه إلى وجه كلارك. كنت أمسك بطني و الضحك يكاد يخنقني في الوقت الذي ترتعش شفة كلارك من الغضب و الكولا يقطر من وجهه و شعره و ملابسه .. كان يغمض عينيه كما لو كان يسأل الله الصبر و عندما فتحهما حدجني بنظرة مشتعلة واجهتها بابتسامة واسعة "تعلم أن تستمع لغيرك حين .. " ثم قفزت من الكرسي عندما رأيته يهم بالهجوم علي و انطلقت راكضة كالارنب الهارب ، ثم توقفت في آخر الممر و نظرت خلفي ، فوجدته حيث تركته جالسا يتفحص ملابسه المبتلة .. لم أستطع منع نفسي من الضحك و أنا أعود أدراجي متصنعة بعض الحذر. أشار لي جان أن أبتعد ، لكني لم أكترث و واصلت خطاي .. أبقيت على مسافة ثلاث أمتار بيننا قبل أن أتوقف أخيرا . راقبتني ماريان مضيقة ما بين عينيها في انتظار اللحظة التي أتلقى فيها الضربة و أنا أنحني قليلا و أقول مخاطبة كلارك بنرة استفزازية : "ما بك ؟! هل يعجبك منظرك و أنت ملطخ بالكولا ؟!" ظل مطأطئا رأسه و لم يرد . لم يظهر أنه مهتم بالسائل الغازي الذي يوشك أن يجف على جلده و كأن عقله عاد لغيبوبته. أخذت أدنو منه بحذر شديد مترقبة أي رد فعل منه.. "ما الأمر ؟! هل عدت لغيبوبتك ؟! اسمع لا.. " لكنه قفز فجأة نحوي ، فانزلقت و أنا أستدير لأركض بأسرع ما يمكنني ، لكنه كان قد أمسك يدي فعلا و قبض عليها بقوة عجزت عن الافلات منها .. قلت و أنا أحاول تحرير يدي من قبضته بلا جدوى : "لا تضربني ! الرجل النبيل لا يمد يده على فتاة !" "هذه أول مرة أعرف أنك فتاة يا للمفاجأة !" التفت نحوه مزمومة الشفتين باستياء .. لم يكن يبتسم لكنه على الأقل لم يعد مكتئبا ، و استطعت لمح ابتسامة جان الصغيرة و جسد ماريان الذي يهتز من ضحكاتها الشامتة. رفع كلارك علبة كولا لم أعرف متى جاء بها و أخذ يرجها بعنف و هو يقول ناظرا نحوي بحقد : "لن أضربك سأغسل شعرك بهذا فقط !" "يا سيد !" هرولت إحدى الممرضات نحونا و شرارات الغضب تتطاير من عينيها "هذا مستشفى أيها السيد و ليس حديقة ملاهي !" نظر كلارك نحوها و قد بدا عليه الشعور بالاهانة و قبضته على يدي ترتخي .. ضحكت في سري ، ثم قلت باستياء مزيف موجهة كلامي للممرضة : "أنت محقة ، يا له من تصرف طفولي غير مسؤول ! "ثم التفت إلى كلارك الذي قطب جبينه بحدة و أضفت بلهجة توبيخ مصطنعة : "كمواطن صالح أرى من واجبي تنبهيك إلى ضرورة المحافظة على نظافة الممتلكات العامة و أن تكون أكثر وعيا في تصرفاتك و .. " أنزل يده الممسكة بالعلبة و أخلى سبيلي قائلا بحنق : "أغلقي فمك أيتها الثرثارة المزعجة !" تبسمت بظفر و الممرضة تتمتم بكلمات غير واضحة و تعود من حيث أتت .. أما كلارك فرمى جسده على كرسيه بإرهاق كبير. "هل ستظل على هذه الحال ؟!" هذه المرة جان من سأل باستهجان واضح .. تردد كلارك قبل أن يقول : "لكن .. أختي .." اندفعت أنا قائلة : "إنها بخير ، ما من داع لبقائك فأنا و العـ.. أعني أصدقائه "هو" بجانبها !" رمقني بنظرة حادة ، فرائحة الكولا التي تفوح منه حالت دون نسيانه لجرمي ، و شعرت بالكثير من الامتنان لجان حين قال : "إنها محقة ، لونا في أمان هنا !" ثم قام من مقعده و أردف : "هيا سآتي معك !" نظر كلارك إليه متسائلا : "إلى أين ؟!" "إلى أقرب فندق ! يجب أن تأخذ حماما و تبدل ثيابك كما أنك تحتاج قسطا من الراحة بعد .. ما حدث اليوم .. هيا انهض ماذا تنتظر ؟!" نهض كلارك بتثاقل عقب الكثير من التردد .. ثم التفت نحوي بنظرة قاسية و أنا أقترب منه .. هذه المرة لم أضحك أو أبتسم بطفولية بل تحدثت بجدية تامة فالموقف لم يعد يحتمل مزيدا من الفكاهة : "يجب أن تكون قويا !" رمقني هو و جان باستغراب "إن أردت مساعدة أختك عليك أن تظهر القوة و الصلابة مهما بلغ ضعفك ! إنها في أمس الحاجة لرجل يحميها و يشد من أزرها ، أنت شقيقها و سندها الوحيد و كل ما تبقى من عائلتها لذلك إياك أن تبدو مهزوزا أمامها !" خيم الذهول على وجهه مزيحا ما سبقه من حدة و استياء .. قال بخوف : "لكني .. لا أستطيع !" فقلت بصرامة شديدة جعلت الثلاثة المستمعين يجفلون : "لا تقل لا أستطيع ! عليك القيام بذلك ! إن كنت تهتم لأمرها .." قال كلارك بعصبية : "بالطبع أهتم لأمرها !" هتفت بصوت آمر : "أثبت ذلك بأفعالك إذن !" ليس وحده بل حتى جان و ماريان بدا عليهما الاندهاش الشديد من تصرفي .. فهذا ليس المتوقع من فتاة مستهترة مثلي. و لم يأت رد المعني سريعا بل بعد فترة ليست بقصيرة من التردد و التفكير العميق. "حسنا !" ابتسمت مسرورة بعودته التدريجية لطبيعته .. لكنه لم يبادلني الابتسام .. أشاح بوجهه و سار متجهما خلف جان. ⭐⭐⭐ "آليكسي هل تسمعني ؟! لقد فقدت الاتصال بإلسا ، انزل إلى الحديقة و انظر ماذا حدث !" "يا إلهي .. تلك الكنغر لا يمكن الاعتماد عليها أبدا !" قال آليكسي و استدار من فوره باتجاه السلالم و شرع يعدو و يقفز الدرجات بأسرع ما استطاع ثم اندفع خارج القصر . جال بناظريه حوله و قبل أن يتوجه بالسؤال إلى أحد رفاقه الذي يجوبون أرض الحديقة رأى المروحية تهبط و تهبط حتى لم تعد تبعد عن الأرض سوى متر و نصف ، ثم قفزت منها روبين حاملة بندقيتها على كتفها و أشارت لآليكسي بأن يتبعها. انطلقت مهرولة بين الأشجار و آليكسي يركض محاولا إدراكها .. فأبطأت قليلا لتسمح له بذلك. قالت مشيرة أمامها و قد عادت لسرعتها في الجري : "لقد سارت من هذا الطريق !" لم يأخذا من الوقت ثوان حتى وصلا إلى البقعة التي ترقد إلسا فيها مشلولة الحركة و الأنفاس. خلعت روبين خوذتها ليظهر القلق الذي يلف وجهها و اندفعت مع آليكسي نحو رفيقتهما فاقدة الوعي . ركعا قربها و قامت روبين بنزع خوذتها و إلقائها جانبا .. ثم حدقت بشحوب إلى عضلات وجهها المتشنجة "ما .. بها ؟!" فتحت أزرار سترتها .. و أضافت بحيرة : "ليست مصابة بأي مكان.. " ثم وضعت أذنها على صدرها لتلتقط نبضها في حين مد آليكسي يده أمام أنفها .. قبل أن يهتفا بخوف : "قلبها لا ينبض !" "إنها لا تتنفس !" ألقى آليكسي نظرة متفحصة سريعة على الغطاء المعدني ، ثم أردف بتوتر شديد : "لا شك أنه مكهرب ، فالأعراض الظاهرة عليها هي تلك التي تنجم عن الصعقات الكهربائية . بسرعة يجب أن نجري لها الاسعافات الأولية !" تعاونا على سحب جسدها المتصلب بعيدا عن ذلك المعدن ، ثم جلسا قربها و شرعت روبين تضغط بكلتا يديها على صدرها عدة مرات و هي تقول بصوت متقطع : "ذلك الـ.. خادم ! كان.. برفقتها خادم .. لكنه ليس .. موجودا هنا .. و لم نره يخرج من .. الحديقة !" قطب آليكسي جبينه و التمع الحقد في عينيه الفيروزيتين : "إنه مورفان ! لا شك أنه احتال عليها ، ثم صعقها و هرب عن طريق ذلك الغطاء المكهرب !" اتسعت عينا روبين من الرهبة و الذهول "مورفان ؟!" ثم استدركت نفسها بعدما انتبهت لتوقفها عن الضغط و عادت تقول : "يجب أن نبلغ الكونت بذلك إذن !" ضغط آليكسي زرا في سماعته و قال : "سأخبر إنزو و هو سيتولى إعلامه !" ***** حث الكونت خطاه على السلالم يتبعه غلبيرت و ماكس .. و كان للخدم ردود أفعال متفاوتة لرؤيته ، فمنهم من بدت عليه الراحة ظنا منهم أنه صديق للسيد لامارك و قد جاء لتقديم العون ، و آخرون كانوا أكثر ذكاء ظهرت الصدمة قوية على ملامحهم ، فما الذي يجعل الكونت يسير متقدما المقتحمين غير أن يكون قائدهم و المتسبب في هذه الفوضى ؟! و بينما هو يقطع طريقه في الطابق الثالث اندفع جسم صغير من إحدى الغرف و تشبث بساقه .. تفاجأ لوهلة لكنه سرعان ما تبسم و قال بلطف : "مرحبا بعميلتنا الجميلة !" رفعت الصغيرة رأسها فظهرت عيناها المغرورقتين بالدموع : "السيد لامارك .. " شهقت باكية و هي تضيف : "شخص سيء !" ربت على رأسها بتعاطف و قال : "لا تقلقي سينال جزاءه قريبا !" توقفت الصغيرة عن البكاء فجأة و أخذت ترمقه بنظرة ارتياب. تبادل غلبيرت و ماكس النظرات و كل منهما يحاول ألا يبتسم ، أما الكونت فعاد يربت على رأسها برفق سائلا : "هل يمكنك أن تدليني على مكان بيكارت ؟!" استمرت نظرة الشك ثانية أخرى قبل أن تهز الطفلة رأسها و تشير إلى الممر أمامها قائلة : "إنه في آخر غرفة في الممر !" شكرها الكونت بابتسامة عذبة ، ثم سار مع تابعيه خلفها . كان الباب مفتوحا فاستطاعوا قبل دخول الغرفة سماع نحيب و أنين صادرين منها. كان بيكارت مضرجا بدمائه الغزيرة التي لطخت الأرضية حوله و أوشكت أن تجف ، يئن و يتأوه بوهن على صدر والدته الباكية .. رفعت الأخيرة رأسها بأمل حين رأتهم يدخلون. اقترب الكونت منها و قال متفحصا جراح ابنها : "إنه في حال سيئة فعلا !" للحظة بدت و كأنها نسيت تماما إصابة ابنها .. أخذت تحملق في وجه الكونت فاغرة فاها و الصدمة قد خطفت الدماء من وجهها و بعثرت كلماتها. "أ.. أ.. أنت .. ذ.. ذلك الـ.. وجه .. هل .. " هز الكونت رأسه بابتسامة غير سعيدة "نعم الأمر هكذا !" زاد وجهها شحوبا و لم تنفك الرهبة عنها حتى فتح بيكارت عينيه و نظر إلى الكونت نظرة شوشها الضعف. "أنت ؟! ما .. الذي .." ضيق المعني ما بين عينيه في شك بدا أنه كان على وشك قول شيء قبل أن يغير رأيه و يدير رأسه نحو الطفلة التي وقفت عند الباب و يقول : "يجب أن تشكر مايا فهي صاحبة الفضل الأكبر في إنقاذك !" رمقت إيلينا الصغيرة بنظرة امتنان دامعة فيما بدا بيكارت متفاجئا .. قال بوهن متطلعا إليها : "حقا ؟! لقد .. حسبتها هربت !" عقدت مايا حاجببها و ارتفع أنفها بكبرياء : "لقد تسللت من الغرفة حينما كان الشرير منشغلا بالحديث معكم و اتصلت بهم !" مشيرة إلى العقارب أمامها "ثم اختبأت حتى لا يستعملني كرهينة للضغط على سيدي !" و تحاشت النظر نحو الكونت الذي تبسم بفخر و قال : "أليست طفلة ذكية ؟! لم تنضم لنا بشكل رسمي لكننا نعدها أصغر عقرب في منظمتنا !" ثم استدار إلى تابعيه مردفا : "قوما بشد جراحه حتى يتوقف النزيف ، ثم احملاه إلى إحدى سيارتنا ! بسرعة !" و قبل أن ينصرف الكونت سأل بيكارت بقلق كبير : "ماذا .. حدث لكوبرا ؟! هل هي بخير ؟!" رسم الكونت ابتسامة سرور على وجهه و أجاب : "إنها على ما يرام !" تنفس بيكارت الصعداء و بدت عليه الراحة العميقة في حين اندفعت مايا نحو الكونت بأسئلتها التواقة : "حقا ؟! أين هي أختي ؟! هل أستطيع رؤيتها ؟!" أخذت ابتسامتها تخبو .. "ليس الآن يا مايا .. لكني أعد بأن آخذك إليها في أقرب فرصة !" لم تستطع الصغيرة كبح شعورها بالخيبة .. تنهدت و عبست بحزن. مسد شعرها بعطف و كاد يقول بعض الكلمات المواسية قبل أن يدلف أحد العقارب إلى الغرفة حاملا ظرف رسالة في يده "سيدي لقد وجدنا هذه الرسالة مخبأة في صندوق حديدي داخل مكتب لامارك المزيف ! و هي موجهة إليك !" التفتت الرؤوس كلها بدهشة إلى المظروف الذي التقطه الكونت و أوشك على فتحه ، لكنه و لسبب ما أحجم عن ذلك في آخر لحظه و دسه في جيبه. وجه إليه بيكارت نظرة مستنكرة و عضلات وجهه تنقبض من الألم : "لم .. لم تفتحها ؟!" قال الكونت باقتضاب : "ليس الآن !" و حول ناظريه إلى العقرب الذي وقف منتظرا أوامره "هل وجدتم شيئا آخر ؟!" "نعم سيدي .. في الواقع كل الغرف التي قمنا بتفتيشها حتى الآن باستثناء مكتب لامارك كانت مزروعة بالقنابل !" شهقت إيلينا بصوت مكتوم و ظهر بعض الخوف على مايا .. لكن الكونت و عقاربه ظلوا على هدوئهم .. قال القائد آمرا : "واصلوا التنقيب عن باقي القنابل و قوموا بتعطيلها بأسرع وقت !" "حاضر !" و خرج العقرب مسرعا .. أمسك الكونت يد مايا و قال : "هيا لنذهب نحن أيضا !" كان العقارب قد أخلوا القصر من الخدم خشية انفحار ما تبقى من القنابل .. لذا كانت الحديقة مكتظة بالرجال و النساء الخائفين حين نزل إليها الكونت و مايا . ظل الأول قريبا من جدران القصر أما مايا فلم تستطع الاعتراض حين طلب إليها الصعود إلى الحوامة. أخذ يتجول لبعض الوقت بين أحواض الزهور و الأشجار المقلمة بإتقان حتى لمحت عيناه شعرا أبيض يتحرك قرب مقعد عن يمينه .. التفت ليجد آليكسي واقفا خلف إلسا التي استوت فوق مقعد خشبي ملفوفة ببطانية سميكة و الإعياء باد عليها. أسرع الكونت إليهما .. و دهش آليكسي عندما رآه مقبلا و حين توقف أمامهما انقلبت دهشته لشك ظهر واضحا في نظراته. انحنى قليلا فوق إلسا و سأل بقلق : "ماذا حدث ؟! هل أصابك مكروه ؟!" نظرت إليه بضعف .. ثم هزت رأسها نفيا . لكن آليكسي أخذ على عاتقه شرح ما حصل : "لقد أصيبت بصعقة كهربائية .." أضاف مطمئنا حين رأى الرعب يبزغ من عيني الكونت : "لكنها بخير الآن و كل ما تحتاجه هو الراحة" تنهد الكونت بعمق "جيد.. " ثم اعتدل واقفا.. دون أن تفوته النظرات الخفية لآليكسي ، لكن ما أثار انتباهه هي إلسا التي باتت تنظر بعيدا عنه و عيناها تطرفان مرارا في ذهول و عدم تصديق و كأنها ترى شبحا ! عادت تنظر إلى الكونت أمامها ، ثم أرسلت بصرها سريعا نحو تلك الجهة . التفت آليكسي بدوره ليرى ما أدهشها و فعل الكونت المثل مع أنه في الواقع لم يكن بحاجة لذلك ، فهو يعرف ماذا شاهدت و قد منع نفسه بصعوبة من الضحك. نظر جهة بوابة القصر .. كان هناك ثلاثة أشخاص يقتربون منهم .. لوح لهم الكونت بمرح و هو يهتف : "و أخيرا وصلتم !" تبسم آوتنبورغ ابتسامته التهكمية المعتادة ، و ضحك إيريك بخفوت في حين قال الرجل الأوسط ذو العيون الذهبية : "عمل جيد يا سيباستيان !" فتحت إلسا فمها في اندهاش شديد محملقة في سيباستيان المتنكر ، لكن الابتسامة القططية ارتسمت بثقة على وجه آليكسي : "عرفت ذلك !" |
#282
| ||
| ||
السلام عليكم mygrace بارت جميييييييييل و خصوصا بوجود ويندي المجنونة أعجبني تصرفها مع كلارك لا اعرف من اين تأتي بهذه الأفكار الجهنمية انا أشفق على كلارك هههه وااااو إذن مايا من العقرب وووو هذا الآلويس دائماً يفاجئني في انتظار البااااااقي مع السلامـــــــة |
#283
| ||
| ||
ايييه يا قلبي انتي راجعتلك لما افضى اعلق ع الفصلين اللي فاتوني اسفة ع التقصير |
#284
| ||
| ||
اقتباس:
و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته من جمال ذوقك عزيزتي حب3 سعيدة حقا لأنه أعجبك (:6 ههههههههه هذه هي المجنونة ويندي التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها :3 نعم أعتقد أنه يمكن اعتبارها عقربا ! و هذا الآلويس ما زال في جعبته المزيد ! في حفظ الله اقتباس:
لا داعي للاعتذار غاليتي سأكون في انتظارك دوما إن شاء الله (:6 ودي لك حب4 |
#285
| ||
| ||
الفصل الرابع و الخمسون *رسالة الثعبان* اعتدلت إلسا بصعوبة و هي توزع نظراتها الدهشة بين الكونت الحقيقي و المزيف الذي خلع قناعه و العدسات اللاصقة ، و خلل أصابعه في شعره الأسود باسما. بينما أرسل الحقيقي بصره يمينا و يسارا متجاهلا نظرات الذهول على وجوه تابعيه المنتشرين في الحديقة و هو يقول : "يبدو أن المحنة مرت على خير .. " قال سيباستيان مخاطبا إياه : "نعم ، كان ظنك في محله سيدي . مورفان كان متأهبا بالفعل لهجومنا ، فالقصر بكامله تقريبا وجدناه مفخخا بالقنابل !" سأل آليكسي مقطبا جبينه في استغراب : "لكن لم تنكرت بهيئة الكونت ؟!" سكت ثم هتف فجأة عند مرور خاطر غريب على فكره : "مهلا .. لا يمكن أن يكون السبب.. " أكد الكونت ظنه بقوله : "بل هو ذاك ! مورفان لن يقدم على تفجير القصر و أنا فيه يا آليكسي !" تبادل آليكسي و إلسا و سيباستيان - الذي لم يسمح له ضيق الوقت بتلقي الكثير من التفاصيل عن أهداف مهمته - النظرات و قد عقدت الصدمة ألسنتهم ، فتبسم الكونت ابتسامة خالية من المرح و أجاب عن السؤال الذي يدور في أذهانهم و لم يسعهم طرحه : "لا تسيؤوا الفهم ! ليست الأبوة هي من يردع مورفان عن قتلي ، فهو لم يعتبرني يوما ابنه !" أطرق المستمعون رؤوسهم و ذكرى الأمس تعود لأذهانهم و تطوق ردود أفعالهم . قبل يوم واحد فقط أفصح لهم الكونت عن هويته الحقيقية و كل ما خالجها من مقاس و آلام تردي القوي الجلد قيعان اليأس . أخبرهم عن الأب الأبعد ما يكون عن الأبوة ، القريب بدمائه الغريب عن قلبه و روحه ، الذي لطخ يديه الاثمتين بدماء الفتاة البريئة التي وهبته حبها و اهتمامها و كاد يودي بلا اهتمام بحياة ابنه الوحيد . قص عليهم كيف أجبره جرم أبيه أن يعيش باسم ليس له في كنف أسرة لا تجمعه بها أية قرابة ، لكنه أحبها و خسرها كما خسر أمه ثم عائلته الحقيقية بعدها. لم يكن هذا الخبر ليزعزع ثقتهم في قائدهم بل زادهم احتراما و تقديرا و إيمانا به و حقدا و بغضا لمن يفترض أن يكون أباه. "إنه يريدني أن أعاني و أتجرع مرة أخرى ألم الفقدان و لن يتم له هدفه إن كنت ميتا أليس كذلك ؟!" قال الكونت ذلك بحياد و هدوء شديد كما لو أنه يتحدث عن شخص آخر لا يمت له بصلة ، فيما تتوقف عيناه عن التجوال و تثبتان بشرود على شرفة واسعة في الطابق الثاني حيث اعتاد لعب الشطرنج مع أبيه المزعوم . كان ساهما ، فلم يلحظ التأثير الذي خلفته كلماته على وجوه أتباعه .. كان مزيجا عنيفا من الأسى و الغضب و الاحتقار. عاد يقول بصوته الرصين : "إذن .. كيف أفلت مورفان من أيديكم ؟!" "كان .. أنا !" اتجهت أنظار الجميع نحو إلسا و التي اضطرت لتكرار كلامها عندما لاحظت أن صوتها الضعيف لم يصل أبعد من مقعدها الذي تجلس فوقه. قالت بصوت أعلى و الشعور بالخزي يتملكها : "أنا السبب .. في هروبه . كنت حمقاء .. و قد نجح في خداعي بسهولة .." ثم شدت البطانية حولها و الدموع تتلألأ في عينيها. فتكرم آليكسي و حدثهم عما حصل بالتفصيل مركزا على الخدعة الخبيثة التي لجأ مورفان إليها حتى يفر من القصر . أخذ الكونت ينصت بهدوء لا تكدره أدنى إشارة على الغضب أو الانفعال ، في حين اندفعت الدموع غزيرة من مقلتي الفتاة ، فهب سيباستيان إليها و أحاطها بذراعه من الخلف بعطف و مواساة. قال آوتنبورغ معقود الحاجبين بعدما فرغ آليكسي من الكلام : "لكن إلى أين يمكن أن يهرب ؟!" مرت فترة وجيزة من الصمت المشوب بالحيرة قبل أن ينطق الكونت أخيرا بلهجة آمرة مخاطبا إنزو عبر السماعة : "أتسمعني يا إنزو ؟! أرسل رجالنا لتفتيش كل مقرات المنظمة و مخابئها على أطراف المدينة ! و شددوا المراقبة على المطارات و محطات القطار أيضا.. " ثم أضاف وهو يدير وجهه نحو آوتنبورغ : "اتصل بلينيكس و اطلب إليه استجواب القادة الأربعة حول القواعد السرية التي لا نعلم عنها و يمكن أن يلجأ إليها مورفان ! لا شك أنهم جهزوا مثل تلك القواعد لاستخدامها في حالات الطوارئ و حصنوها بسرية كاملة حتى لا يسعنا الوصول إليها !" هز آوتنبورغ رأسه و على الفور التقط هاتفه و أخذت أصابعه تضغط على لوحة المفاتيح بسرعة كبيرة. و بينما يقطع الكونت طريقه إلى القصر استوقفه سيباستيان بهتافه : "عفوا سيدي ، لكن مورفان ترك شيئا لك !" ليس الكونت وحده من استدار نحوه بتلك الدهشة الشديدة بل جميع من وصلتهم كلماته المقتضبة. أسرع سيباستيان الخطا باتجاه الكونت ، ثم أخرج مظروف الرسالة من جيبه و حين تحدث بانت مسحة واضحة من الكراهية في صوته : "لقد وضع مورفان هذه الرسالة في غرفة مكتبه و التي كانت الوحيدة الخالية من القنابل في القصر كله ، يبدو أنه كان حريصا جدا على وصولها إليك !" تشكلت تقطيبة حادة فوق عينيه الصفراوين بينما يستقر المظروف في راحة يده و أمعن النظر في اسمه المكتوب على ظهره بخط أنيق متمايل "إلى الكونت" مورفان يترك له رسالة ؟! لماذا ؟! ما الذي يمكن أن يكون فيها يا ترى ؟! شق المظروف بعجالة و فض الرسالة و عيون من حوله تتابع حركاته و تعابير وجهه بتركيز و اهتمام شديدين. على خلاف الظرف كان نص الرسالة موجها لاسم آخر لكن للشخص نفسه. "عزيزي مورفان الصغير .." خفق قلب آلويس و فارت الدماء في عروقه عندما حطت عيناه على الاسم الذي عنون به كل الشرور . كان يدرك في قرارة نفسه ألا مفر من الاعتراف بانتمائه غير المشرف لأسرة مورفان ، و أن اسمها سيظل ملاصقا لوجوده مهما حاول نكرانه ، لكن أن يدعوه من أبغضه هذا الاسم به فهذا شيء لا يطاق و لا يغتفر ! أخذ يقرأ بإمعان و كلمات الرسالة تتردد في ذهنه كهسيس الثعبان كما لو كانت حروفها مخطوطة بالسم بدل الحبر. "أدعوك بهذا الاسم و لا أتوقع أن يشكل ذلك مفاجأة لك ، فما كانت الرسالة لتصل إليك و لا كنت لتلبغ المكان الذي أنت فيه ما لم تكن على معرفة بحقيقة انتمائك و صلة الدم التي تربطك بي . لا أظنك فخورا بهذه الصلة و أنا بدوري لم أردها ، و حاولت بكل السبل قطعها و إنهائها إلى الأبد ، لكن الأقدار لا تسير وفق أهوائنا أليس كذلك ؟ لقد عشت رغم كل الخطط التي دبرتها لقتلك و نجوت من الفخاخ التي نصبتها بسخاء في طريقك ، و لم تتوقف عند ذلك بل بدأت تصيد رجالي واحدا تلو الآخر و ترد لي الضربات بقوة و دهاء لم أتخيل أن تملكهما . أتدري ؟! قال لي جدك في ساعته الأخيرة على فراش الموت "لن تفعل يا مورفان ، حتى لو أردت قتله لن تستطيع !" كنت أضحك ساخرا و متحديا كلما مرت كلماته ببالي ، لكني شيئا فشيئاً أخذت أدرك صوابها .. أنا فعلا و حقيقة لا أقدر على قتلك ! أخطأت بشأنك في البداية ، تسرعت كثيرا في إصدار الحكم عليك و كذلك فعل جدك . قد تحمل دماء الايون و حتى بعض خصالهم ، لكن الغلبة بلا ريب لمورفان ! ولدت مورفان و ستبقى مورفان حتى آخر يوم في حياتك . قد تنكر و تحتج و تلعن ربما ، لكن ما يلفظه لسانك عديم القيمة إن عارضته أفعالك . أخبرني أسمعت أن أحدا من الايون مهما يكن دافعه سمم زملاءه و مدرسيه ثم أحرق جثثهم مع المدرسة بكاملها ؟! أو تلذذ بقتل الناس و إن كانوا مجرمين ؟!" كانت يدا آلويس و دون وعي منه تقبضان بإرتعاش على أطراف الرسالة ، و قد شخصت عيناه أمام الكلمات الهدامة التي هاجمت كيانه على حين غرة و بثت في نفسه أفظع المخاوف . هل يمكن أن يكون مورفان مصيبا و أن كفة دماء الخونة هي الراجحة لديه ؟! هذا غير صحيح .. لا يمكن أن يكون كلامه حقيقيا .. لو كان جانب الشر هو المسيطر - كما زعم - ما كان ليتخذ من أبيه المجرم عدوا و يقود حرب شعواء ضده ، لكن .. لكن النزاعات لا تقوم بين الخير و الشر فقط ، فالتاريخ يزخر بعدد لا يحصى من الحروب كان كلا الطرفين فيها منقادا لشياطينه و إن كان بأقدار متفاوتة. صر على أسنانه و قد أصدعه ثقل أفكاره و أعياه تشاؤمها .. أطبق جفنيه ، ثم فرجهما بحسم قاطعا تدفق خواطره السوداء ليتابع قراءة الرسالة المقيتة. "ربما لا تماثلني في أكثر طباعك ، لكن هذا لا يغير من أوجه التشابه القوية بيننا . كلانا لا يغفر ، لا ينسى ، لا يتنازل عن أهدافه و لا يرضى بالهزيمة . قد أكون أنا الشر في نظرك و أنت المدافع عن الخير ، لكن مهما اختلفت الغايات و المبررات تبقى النتيجة واحدة .. القتل ! هذه هي نقطة التلاقي بيننا ، و في اللحظة التي فطنت لهذه الحقيقة فقدت كل قدرة و رغبة في إنهاء حياتك . أنت لم تعلم و ربما لا تعلم حتى الآن أني كنت على دراية تامة بنجاتك من الخنجر المعقوف في نيس . حاول أرماندو الكذب علي و إقناعي بموتك حتى يفلت من العقاب العسير الذي ينتظره ، لكني لم أنخدع و لو للحظة بتزييفه الأحمق . كنت أعرف أن الطفل الذي قتل ببراعة مبهرة ثلاثة مغتالين و فقأ إحدى عيني قائدهم تاركا الأخرى يشوهها الرعب لا يمكن أن يسقط بتلك البساطة ، و لن تتوقف أدواره على قتل بعض الأتباع ذوي الأهمية الدنيا ، بل ستكبر و تتعاظم لتطال الرؤوس الكبيرة . لذلك .. تظاهرت بتصديق حكاية أرماندو و أعلنت موتك ! قد تستغرب تصرفي ، لكني ما كنت لأسمح بخسران أعظم متعة جربتها . مشاهدتك و أنت تحاربني و تحيك الخطط و المؤامرات ضدي أضفت لحياتي حفنة كبيرة من الإثارة و التسلية . كنت تسير على النهج الذي أحببته و تثبت انتمائك لي يوما بعد آخر .. حتى ظهرت تلك الطفلة الكريهة و أعادتك للوراء أميالا ! كان يجب أن أقتلها حين واتتني الفرصة لذلك ، لكني و يا للأسف أخطأت في حساباتي بشأنها . كنت ستفوقني و تبلغ منازل لم أحلم بالوصول إليها لولا الهراء الذي حشرته تلك المزعجة داخل رأسك . أردت قتلها و هممت حقا بتنفيذ ذلك يوم رحيلك من عندها ، لكن قادة المنظمة الحمقى أجمعوا على رفض هذه الفكرة ، لذلك أضمرتها في نفسي و أجلت تنفيذها بضع سنوات .. حتى أتى الوقت المناسب و كلفت أقرب حراسي باتمامها بمنتهى السرية .. لكني أخطأت مرة أخرى فيما توقعته من طفلة الايون ، فالشراسة و الحنكة اللتان أبدتهما فاقتا كل مقاييسي . فشلت في قتلها ، لكني نجحت كل النجاح في تدميرها .. و كثير من الفضل في ذلك يعود إليك أنت !" كان آلويس غير مدرك للنظرات القلقة و حتى الخائفة التي يحدجه بها المحيطون به . انغمس بين سطور الرسالة و ابتلعته ظلماتها و حين بلغ العبارة الأخيرة .. انحبست أنفاسه في صدره و شعر بقلبه يدق بعنف و يضرب أضلاعه كما لو كان سيخلع من مكانه .. ماذا يقصده بهذا الكلام ؟! كيف يمكن له أن يتسبب في تدمير لونا ؟! ما الذي .. ما الشيء الأحمق الذي فعله دون انتباه منه و ساعد مورفان في خطته الوضيعة ؟! هل .. يمكن أنه يقصد تخليه عنها ؟! ذلك آلمها دون ريب لكن لا يعقل أن يدمرها ! هناك شيء .. أمر خفي عنه و مورفان يعلم بشأنه لكنه اكتفى بالتلميح و لم يوضح حقيقته. أخذت الورقة تنزلق رويدا من بين أصابعه المتعرقة حتى أفلتت .. و لمح أثناء ترنحها في الهواء آخر كلماتها. "إن سار الأمر كما أتوقع سيكون لنا لقاء آخر .. قريبا !" كانت حالة الجمود التي أصابته مثيرة للقلق أكثر مما لو انهار أرضا أو أجهش بالبكاء . ظل متسمرا في مكانه ، مبحرا في ظلمات عقله ، غير مدرك لمحيطه ، و لا منتبها للاستفسارات التي انهالت من أفواه أتباعه و لبثت معلقة في الهواء بلا إجابة. لم يكن ما انتشل انتباهه من عالم أفكاره صوتا .. بل كفا صغيرة دافئة قبضت على يده برفق. رفت جفونه و قد استرجع كامل إدراكه ، و التفت إلى مايا التي كانت ترنو إليه بنظرة قلق تقارب الخوف .. انقبض فؤاده و أحس بالألم يسري في صدره حين وقعت عيناه على وجهها . نفس النظرات ، نفس الملمس الحاني ، و ذات التعبير الذي استبد بملامح لونا عندما استشعرت مخاوفه من حضور سوزان المفاجئ. "هل أنت بخير سيدي ؟!" فما كان منه إلا أن تبسم بأسى .. هذا هو الفرق الوحيد .. "سيدي" ، لونا لا يمكن أن تخاطبه بهذا الاحترام تحت أي ظرف. ربت على رأسها و قال بصوت مبحوح : "أنا بخير .. لا تقلقي يا مايا !" ثم انحنى ليلتقط الرسالة و عندما اعتدل لاحظ للمرة الأولى الوجوه القلقة التي تتطلع إليه. كان آوتنبورغ أول من تجرأ و سأل : "هل كل شيء على ما يرام سيدي ؟!" اغتصب ابتسامة أراد لها أن تكون مطمئنة ، لكنها بدت أوهن من أن تقنعهم "نعم.. لا داعي لهذا القلق !" لم تقع كلماته موضع تهدئة لهم بل زادت قلقهم استفحالا .. ملأ العبوس وجه إيريك و هو يقول مستنكرا : "لكنك لم تبد أبدا بحالة طبيعية و أنت تقرأ .. رسالته !" قال كلمته الأخيرة باشمئزاز صارخ. و أيده الآخرون بإيماءة جماعية لم يسع الكونت أمامها إلا أن يتنهد و يلوذ بالصمت. تردد سيباستيان لبرهة قبل أن يتجرأ أخيرا و يقول : "مـ.. ما بها تلك الرسالة ؟!" ظل الكونت متحصنا بصمته .. لم ير جدوى من إطلاعهم على مضمون الرسالة فهو يعرف مسبقا كيف سيكون رد فعلهم. "أريد قراءة الرسالة .. هل يمكنني ؟!" رفع الكونت رأسه باندهاش شديد و استدارت الوجوه كلها في مزيج من الصدمة و الانبهار بالجرأة المتهورة التي أبداها آليكسي بعفويته و عدم اكتراثه العجيب بالعواقب. قال الأخير باستنكار ردا على نظراتهم المذهولة : "ماذا ؟! إنه مجرد سؤال !" قال الكونت بسرعة و قد تخلى عن دهشته : "لا" ثم طوى الرسالة و دسها في جيبه دون أن تفوته آمارات الخيبة والامتعاض على وجه آليكسي "واصلوا البحث عن مورفان و أعلموني بكل جديد !" ولى لهم ظهره و اتجه نحو القصر تاركا إياهم يحترقون حيرة و غيظا ، و همت مايا باللحاق به غير أن سيباستيان استوقفها قائلا : "دعيه لوحده يا مايا .. أظنه يريد الخلوة بنفسه لبعض الوقت" طأطأت رأسها و قد أذهبت الخيبة بإشراق وجهها البريء .. و ركل آوتنبورغ حجرا صغيرا بعصبية و هو يقول : "سحقا لذلك الحقير ! ما الذي كتبه في تلك الرسالة الكريهة ؟!" ****** انتأى عن أتباعه داخل إحدى حجرات القصر الخالية ، و ارتمى فوق الاريكة الوثيرة بإرهاق . سحب الهواء إلى رئتيه ، فملأت رائحة نفاذة منفرة أنفه و أرقت نَفَسه . كانت مزيجا خانقا من دخان السجائر و العطور النسائية . إذن فعمته إيلينا أقامت أثناء زيارتها المشؤومة لباريس في هذه الغرفة. لم يعرف كثيرا عن تلك العمة حتى يعطي حكما بشأنها ، لكنه مما وصله من بعض أخبارها لم يحبها ، و لم تعجبه تصرفاتها و لا الطريقة التي اختارت العيش بها ، و بالطبع لم يفكر لحظة في مقارنتها بأبيه الحنون ، لأنها ستغدو على الفور ملاكا طاهرا . على الأقل لم تقتل زوجها و لا حاولت تعذيب ابنها و إن سببت له العديد من المشاكل بسبب أسلوبها الأعوج في تحديد الأصلح له. أرجع رأسه للوراء و استند إلى حافة الاريكة الذهبية المزخرفة مغمض العينين .. أحس بالظلام يبتلع ضوء الشمس رويدا رويدا و سواد الليل يزحف إلى الغرفة خلسة ، و عندما فتح عينيه أخيرا لم يجد سوى العتمة . أطلق تنهيدة خاوية ، و فيما يسترخي في جلسته لمحت عيناه وميضا ذهبيا خافتا . كان سطحا معدنيا مستطيل الشكل يعكس الأضواء الباهتة التي تبعثها عواميد الإنارة في الحديقة. التقطه و أخذ يقلبه بين يديه .. كانت قداحة ! فتح غطاءها و أشعل شعلة .. فظهر النقش أسفلها بوضوح "إ.ف" و دون تخطيط مسبق امتدت يده إلى جيبه و أخرجت الرسالة و ما لبث أن عرضها للنار التي انقضت عليها بشراهة . راقب الكلمات و هي تحترق و تتفحم و يتناثر فتاتها عند قدميه و كأنه بذلك يأمل في محو نسختها المحفورة في ذهنه ، و عندما التهمت النار نصفها بزغ في أعلاها رمز أسود على شكلِ معين ! حملق الكونت في الرمز و ألسنة النار تتخاطفه حتى محته تماما .. ماذا يعني ذلك ؟! ما الذي يريد أن يوصله إليه مورفان عن طريق هذا الشكل الغريب ؟! انفتح الباب بغتة و داس الكونت بحذائه ما تبقى من الورقة المشتعلة قبل أن يرفع عينيه نحو القادم . كان آوتنبورغ و قد بدا عليه استغراب كبير من حبس الكونت نفسه داخل هذه الغرفة المظلمة ، لكن سرعان ما عاد وجهه متجهما عندما تذكر سبب مجيئه .. قال متنهدا : "لم نعثر على مورفان في أي مكان سيدي !" عقد المعني حاجبيه و أطل الغضب من عينيه رغم أن صوته خرج هادئا كما أراد له : "ماذا ؟! هل بحثتم في مقرات المنظمة ؟!" "لم نترك مكانا نعرفه إلا و قمنا بتفتيشه شبرا شبرا .. لكن لا أثر لمورفان و كأنه تبخر في الهواء !" تريث الكونت و فكر بصورة محمومة قبل أن يقول : "لقد توقع هجومنا ، لذلك لا شك أنه قد أعد لنفسه مخبأ جيدا يحتمي به ريثما تواتيه الفرصة للهروب خارج المدينة.. " أضاف بعد برهة "ربما يختبئ عند أحد عملائه الخفيين عنا .. أو في منزل في ضواحي المدينة اشتراه سالفا باسم مزيف .. و قد .. " و انقطع صوته في تلك اللحظة .. كان يحدق إلى حذائه فاغرا فاه و كأنه يرى شيئا رهيبا لا يبصره سواه. اقترب آوتنبورغ ببطء و على وجه علامات القلق و التوجس "سيدي هل.. " لكن الكونت هب واقفا بصورة فجائية أجفلت تابعه و صاح : "لقد عرفته ! عرفت أين يختبئ مورفان !" ثم اندفع كالريح خارج الغرفة مخلفا وراءه آوتنبورغ في حالة من الذهول. |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |