05-28-2016, 12:49 PM
|
|
هاجي نهض مفضفضاً ثيابه عن الطعام: متى موعد عملِك؟!
ميرنا باستنكار: لكن هاجي...
نظر لها نظرةً رأت من خلالها الإصرارَ و العناد اللذان لن تجاريهما في هذا الوقت الضيق التي تسابقه للذهاب قائلاً لها: أخبريني متى ما أردتِ الذهاب لأحَضِّر نفسي.
نكسَّت رأسها مستسلمةً بيأس : إنَّه الآن..
...............
خوفٌ يزداد بكلِّ خطوة تعلن الاقتراب من المركز التجاري .....
أفكارٌ مشوشة لا تعرف أيها صحيحة و أيُّها وهمٌ فارغ....
( ماذا لو لم يعجبه مكان عملي؟....ماذا لو أغضب ساي أخي؟...ماذا لو تصرف هاجي بجنون كعادته فأطرد؟...يا إلهي..)
عينيه كادت أن تخرج من مكانها لشدَّةِ التعجب فهو لم يكن يتصوَّر أنَّ أخته ستحظى بعملٍ في مكانٍ كهذا: وااااو....رائع.
قالت ميرنا بابتسامةٍ مفتعلةً واضحة: حسناً ,ها قد رأيتَ ما كنتَ تريدُ رؤيته..عد للمنزلِ الآن.
تجاهلها و كأنَّهُ لم يسمع شيئاً و هو يدخل المركز: أين موقعكِ الإعرابي في هذا المكان ميرنا..؟
تمالكت غضبها دونَ أن تجيبه .....
تتحرك بؤبؤتيه البنيتين لتستكشف كلَّ زوايا ذلكَ المكتب الفخم مع تعجب جليِّ على ملامحه فهو لم يكن يتصوَّر جلوسها على مقعدٍ إداري و العمل على ملفاتٍ تجارية...
سمح لأقدامه أن تقوده نحو المقعد الرئيسي الكستنائي اللون في هذا المكتب و جلسَ براحةٍ مبعداً قديميه عن بعضها واضعاً يديه على جانبي المقعد: يبدوا أنَّكِ مرتاحة بالعمل هنا.
كانت ميرنا واقفة أمامَ مكتبةِ الملفاتِ الناقصة لتستخرج بعضاً منها مجيبةً ببرود: ليسَ سيئاً.
غيَّر هاجي جلسته سائلاً بانزعاج: لما تعاملين أخيك الأكبر بهذا الأسلوبِ الجاف ؟..يجب عليكِ أن تكوني لطيفةً معي و لو ليوم بعدَ أربعةِ أعوام.
أدارت جسدها ناحيته: و كأَنَّكَ لا تعرفُ الإجابة...أنا مستغربة من أنَّكَ حتى لم تأخذ قسطاً من الراحة منذُ أتيت ,لقد وصلت تواً يا رجل..!
قالَ لها بروية: من قالَ هذا ,لقد وصلتُ البارحة لكني لم أشأ أن أوقظكِ و أنتِ منهكة من العمل فأنا لم أكن أتصوّر أنَّ عملكِ بهذه البساطة.
أخرجت شهقةً بعدَ سماعها هذه الجملة: بساطة!!..أيُّ بساطةٍ تقصد؟! يجب عليكَ أن تأخذ ساعةً واحدة لتندم على ما تقول.
جلست على مقعدٍ فرعي و بدأت تفتحُ تلكَ الملفات و تنظر لها بعنايةٍ و دقة: لم أرَكَ صباحاً و أمي لم تنطق بشيء !
أجابها و هوَ يتحرك بالمقعدِ يمنةً و يسرة: كنتُ نائماً طيلةَ الوقت و أوصيتُ أمي أن لا تخبركِ لأرى ردَّةَ فعلكِ برؤيتي...
أكمل بخبث: و يا لها من ردَّةُ فعل...احتضنتني فوراً.
كانت تحاوره ببرودٍ و جفاف للغضبِ الذي يجتاحها كلَّما تصورت وصول المدير ساي و رؤيته هاجي جالسٌ في هذا المكان بهذا الأسلوب..: أمازلتَ تحبُّ المقالب؟ كنتُ أظنُّ أنَّ أخي الأكبر أصبحَ ناضجاً.
أجابها بمرحٍ غير مبالي بأسلوبها: و ظننتُ أنَّ أختي الصغيرة تحمل روحَ اللَّطافةِ و الفكاهة.
تقلِّب الصفحات: ليسَ فكاهتك.
كانت ميرنا تترقب ما يدورُ في ذهنها من ردَّةِ فعلِ السيد شيوكي و تحاول طردَ هذه الأفكارَ المشومة من ذهنها لكن كما يُقال "تمشي الرياح بما لا تشتهي السفنُ" فما هيَ إلاَّ عشر دقائق و هيَ تنظر لمديرها الواقف بتسمر حيث ترى خلالَ عينيه المُضيَّقتين الحدَّةَ و التأنيب الشديدين: من معكِ اليوم؟..هل هوَ صديقك؟!
نهضتْ بسرعة لتؤدي أداءَ الاحترام الذي اعتادت أن تفعله كلَّ يوم بشكلٍ رسمي و حاولت أن توصل إجابتها لولا أن منعها التلبك: إنَّهُ...
تركَ هاجي الظاهر عليه الكبرياء و الجرأة مقعدِ المكتب الرئيسي متقدِّماً نحو المدير الشاب: و ماذا في ذلك؟
أجابه ساي بحدَّة و جدِّية: لا شيء , فقط لم أتصوَّر أنَّها ستأتي بشخصٍ هنا و خاصَّةً في أيامها الحاسمة.
لم يعي هاجي ما يرمي إليه ساي لكنَّه مدَّ يده مسلِّما بابتسامة: أنا هاجي.
مدَّ ساي يده برسميه لتتم المصافحة: سررتُ بلقائك.
كان يخرج تلكَ الكلمات رغمَ انزعاجه و عدم ارتياحه لهذا الفتى الذي بدا للحظة متعجرفاً يرمي لشيءٍ ما...
استولى هاجي سؤالٌ لم يمسك لسانه حتى أطلقه بينَ شفتيه: هل أنتَ تعمل هنا أيضاً؟
تعجب ساي قليلاً لكنه عبر مرور الكرام : أجل ,أنا كذلك...
تعقب بعينيه ميرنا التي تسمرت مكانها متفحمة: كانَ يجب عليكِ أن تخبريه بالأمورِ المهمة يا آنسة.
تلبكها كان واضحاً في تصرفاتها و عبثها بأناملها تارة و خصلاتِ شعرها أخرى و انحنت معتذرة عن الموقف الذي حصلَ توَّاً: آسفة سيدي.
"سيدي!!"
كلمةُ تعجب تطلبُ توضيحاً...
تغيرت ملامحه لأكثر أريحية : هل هناكَ خطبٌ ما سيد هاجي؟
نظر له بطرف عينيه المنحدرتين قليلاً: إذاً أنت مدير هذا المكان.
أجابه: أجل.
نظرَ له بجدية و مباشرة وجه لوجه: مازلتَ طفلاً.
كانت هذه الجملة كفيلة لزيادةِ انزعاجه من وجوده في هذا المكان...
(رغم هدوءه إلاَّ أنه يزعجني..)
جلسَ ساي على أحد المقاعد الستة الموجودة هناك و أشر بيده على المقعدِ المقابل ليفهم هاجي أنَّ ساي يطلب منه الجلوس...: و أنتَ كبيرٌ على أن تتخذ صديقةً صغيرةَ السن كالآنسة ميرنا.
همَّت ميرنا لتجيب رافعةً سوءَ التفاهمِ هذا لكن سبقها هاجي بما صدمها: هل تظنُّ هذا حقاً؟...لكنَّها مناسبة ,المهم أن تشعر بالراحة بجانبِ من تحب.
(من أينَ أتت هذه الجملة السخيفة ؟..أمام السيِّد شيوكي أيضاً..)
شعرت ميرنا بحرارةِ شعلةِ النار المتوقدة في قلبِ ساي فهوَ يعاني من هذهِ النقطةِ تماماً و كأنَّ هاجي كان يتقصد الوتر الحساسِ دونَ أن يعلم...
أجابَ ساي: أنا أوافقكَ بهذه النقطة...لكن لم أكن أظن أنَّ الأخبار تتناقل بسرعة.
فهمت ميرنا ما يرمي إليه فقالت بسرعة غير واعية: أنتَ مخطئ سيدي..أنا لم..
قاطعها ساي بإتمامِ حديثه مع هاجي بهزلٍ صبياني: و متى تخطط لبدايةِ مسيرة حياتك معها؟
احمر وجه ميرنا كالطماطم و كذا لم تكن تريد استمرار هذا الوضع السخيف فنهضت منفعلة صارخة لإنهاء هذه المهزلة...
أمسك هاجي يدها و توجه بسؤاله نحو ساي: ماذا تقصد؟
ساي يغيِّر نحوَ جلوسه: واضحٌ يا رجل.
أبعدَ هاجي يده عن أخته مبدياً ضحكةً خفيفة: بالفعل هيَ عزيزةٌ علي و أنا أحبها و أشعر بالراحةِ معها لكنَّها ليست صديقتي.
شعورٌ بغباء و بلاهة استولى عليه: إذاً..!!
عادت ميرنا للجلوس قائلة بإحراجٍ واضح: إنه أخي.
بدأ ساي بتحريك يده شعره : أشعر بالغباءِ فجأة...
شعرت ميرنا بالشماتةِ قليلاً ( هكذا أحسُّ بعضَ الأحيان..)
أتت القهوة التي طلبتها النائبة بعدَ مدَّة و جلسَ الجميع يشربها و من بدأ كانَ هاجي و ما أن قرَّبَ الفنجان من فمه حتى أبعدها مقطباً حاجبيه: ساخن..
شعر ساي ببعض الغبطة حينَ نظر لميرنا تقول لأخيها بعطفٍ أخوي: انتظر قليلاً حتى يبرد قليلاً أخي.
لكنَّه لم يترك استجوابه الذي لم يتممهُ بعد: ما الذي جعلَ نائبتي أن تأتي بأخيها لهذا المكان؟
أجابه هاجي و هو يضع فنجانه على الطاولة: بصراحة ,وددتُ أن أستطلع محيط عملها بعدَ أن عدتُ من استراليا.
" استراليا !!ظننتُ أنَّ الآنسة ميرنا من عائلةٍ فقيرة"
لاحظ ساي غضبَ هاجي بعدَ سماعه تلكَ الجملة لكنَّة ظلَّ منتظراً إجابته بهدوء و رزانة فسمعَ الإجابة بعدَ لحظات من الصمت و تمالك هاجي لأعصابه: بعثةٌ دراسية..استغللتها للعمل هناك.
اكتفى بقول: اها.
عينا ميرنا كانت تنظر لهذين الشابين بدقة و حذر لتترقب أيَّ مصيبةٍ قد تحصل منهما فابتسم ساي قائلاً: ما بال هذه النظراتِ الغريبة يا آنسة؟
أجابته بابتسامةٍ مفتعلة: لا شيء سيدي.
" هل ستبقينَ صامتة تنظرينَ لنا فقط؟"
" لا أعرف ما الذي يجب عليَّ قوله سيدي"
" تسهبينَ بالكلامِ تارة لتفجرينَ رأسي و تارةً تشعريني بغرابةِ صمتكِ الطويلِ يا آنسة"
تغيرت قليلاً لتجيبه : أسهب بالكلامِ إذاً!!..يبدوا أنَّكَ نسيتَ مشاكلكَ التي تقحمني بها بينَ آونةٍ و أخرى لأسهبَ بالحديث التافه معك.
تقدَّم قليلاً مبتعداً عن مسندِ الكرسي: أنا من أقحمكِ؟!..عفواً آنسة ميرنا لكن إنَّكِ أنتِ من يتدخل في أمورٍ لا تخصك.
" أنا من أتدخل؟!..أنتَ ناكرٌ للجميل أيها المدير الأحمق"
كانت المحادثةُ لن تنتهي لولا أن سمعا ضربةَ هاجي على الطاولة..: طفلانِ ثرثاران.
صمتَ الاثنين و عيناهما متوجهتان نحوه و هوَ يقول بتعجبٍ و فكاهة: آنسة...سيدي...لم أر في هذا المكان أكثر رسميةً منكما..من في هذا القرن يقولُ هذه الكلمتين؟!
ساي: و ما يجب أن أناديها؟
هاجي بنيَّةِ خبث يخفيها: ميرنا فقط..هذا هو الطبيعي.
صمتَ ساي متجاهلاً كلامه بينما هوَ يتوجه لأخته : و أنتِ أبعدي هذه الكلمة المزعجة عن حديثك.. لا أحد يستخدم كلمةَ سيدي الآن.
بدأت تفكِّر ميرنا لحظات بنت آمالاً في قلبِ هاجي ثمَّ أجابت: حسناً, أنا أناديه سيد شيوكي أيضاً.
نكَّسَ رأسه بيأس و قالَ لساي: ما اسمك يا فتى؟
..: ساي.
قالَ له: ما دمتَ مديراً لا تتحدَّث معها باحترامٍ كبير..قل لها ميرنا.
" مستحيل.."
"لماذا؟..ما الضير؟!"
" لم أنادي أحداً بالاسمِ من قبل"
" و أنتِ ميرنا"
" أنا..لا تفكر بذلك, كيفَ أجرأ على مناداته بالاسم؟!"
" أحمقان...أكرهُ أن أُنادى سيدي يوماً"
" و من قالَ أنَّ هذا يريحني..؟سيد شيوكي ستكون كافية"
أنهى هاجي هذا الموضوع ليبدأ بآخر: حسناً ,أيها المدير الطفل كيفَ هوَ عمل ميرنا؟
اصفرارُ وجهها كانَ حافزاً لجوابه المهدئ : ممتاز.
وضعَ قدميه فوقَ بعضها ليغير وضعية جلوسه مرَّةً أخرى: لم تمضِ فترةً طويلة منذُ أن أتت لكنَّها تعلَّمت أغلب أسسِ العمل و كذا فهيَ تجيدُ إدارةَ المركزِ في غيابي ..هذهِ ليست بالأمورِ البسيطة التي يستطيع أيُّ شخص التسلُّطِ عليها.
أتمَّ هاجي: جيِّد بشرطِ أن لا تزيدَ الأعمالِ على عاتقِ أختي..
ميرنا تنظر له باستنكار: أخي..!
أجابَ المدير بما أخرج ميرنا عن طورها : لا تقلق عليها فهيَ تستطيع تدبر أمور عشرةِ مدراء مثلي.
نظرت له فوراً مع غضبِ مصطنع: و لا تظن أنتَ أيضاً أنَّكَ تستطيع إلقاء تلكَ العشرة علي.
ضحكَ الشابان لسماعهما هذه الجملة.....
بعدَ مدةٍ من تبادل أذيالِ الحديث و تعرفهم على بعضهم البعض نهضَ هاجي خارجاً تاركاً ساي و ميرنا لوحدهما...
عادت الجدية و الصرامة في أسلوبه و هوَ يتمشى بخطواته في ذلكَ المكتب و نبرته مليئةٌ بالاستفزازِ الواضح: اليوم أخيكِ...و غداً يجب أن أنتظر والدك..و بعدها أمك ...و بعدها خالكِ أو عمك...ما رأيُكِ؟..أيهما أفضل؟
كانت ميرنا مستغربة فقبلَ دقائق كانَ يجلسُ يمزح و يسخر و الآن يؤنبها لكنها أجابته: لقد كنتُ مضطرة سيدي..لقد أصرَّ علي.
ازدادَ حدَّة و ارتفعت نبرةُ حديثه قليلاً: كانَ عليكِ أن تتركيه في طابقٍ آخر على الأقل و ليسَ في مكتبكِ الذي يضم كلَّ هذه الملفاتِ المهمة.
شعرت ميرنا بالاستياء حقاً و ظهرَ هذا في إجابتها: إن كنتَ خائفاً على ملفاتكَ هذه فأخي شخصٌ مضمون ,لكن كما تشاء..لن يتكرر هذا مرَّةً أخرى.
............................
ضيقٌ يكادُ يفجر رأسه...
الدنيا تدورُ في رأسه و كأنها ستنقلب رأساً على عقب....
يحسُّ و كأنَّ حرارته ارتفعت فجأة...
بدأ مستقبله يُمحى من شيءٍ يطلق علي " السعادة"..
خبرُ مجيء والد فيونيكا و ذلكَ لتحديد موعد زفافه معها يجعله في دوامةٍ من الصعب الخروجِ منها...
مرَّتِ اللحظاتِ ببطءٍ شديد و هو مازالَ يفكِّر بطريقةٍ تمنع هذا الزفاف المشئوم أو على الأقل تؤجله حتى حانَ موعد إغلاقِ المركز التجاري و خروج جميع العملاء و آخرهم المدير و نائبته..
توجهت ميرنا نحوَ مكتب المدير : أنا ذاهبة سيدي ,هل تأمر بشيء؟
لم يكن يود أن يتوقف هذا الصوت الذي يؤنسه دونَ أن يعي ذلك لكنه أجابَ بالنفي: لا ..
قالت له : إلى اللقاء إذن.
خرجت و هيَ تفكر بملامحه التي بدا عليها الإرهاق مرَّةً أخرى لكن لم تكن لديها الجرأة للعودة و السؤال عن حالته الصحية أو عن الجديد الذي أساءها فتقدمت للخروج للشارع العام متجهةً نحوَ طريقِ منزلها....
كانَ ساي قد صعدَ سيارته و هو ينظر لخطواتِ ميرنا المبتعدة شيئاً فشيئاً ..كانَ يعلم أنَّها ستخرجه من هذه الحالة على كلِّ حال بل ستنسيه ما يدور حوله بحديثها مرَّةً أخرى فكل ما يرغب به الآن الحديث معها...في أيِّ شأن ,سخيفاً كانَ أو طفولياً ,المهم أن يسمع صوتها يتبادل الحديث معه...فتقدم بالسيارةِ نحوها متوقفاً مما أثار تعجبها نوعاً ما لتوقف سيارة غريبة أمامها ...
نزلت نافذة السيارة المظللة لتعرف ميرنا أنَّهُ ساي: سيدي!!...هل هناكَ شيءٌ ما؟
أجابها ساي ببرودٍ و جفاف: اصعدي..سأوصلك.
ابتسمت مُجاملة كما تفعل الناسُ عادةً: حسناً ,شكراً لك سيدي..لكن لا داعي لأن تزعج نفسك.
نظر لها بصرامة قائلاً: قلتُ اصعدي..لا تجعليني أعيدُ ما قلته ,أنا لم أستشيرك.
بدأ قلقها يزداد فهيَ تراهُ يلفظ أنفاسه بصعوبة و حالته تسوء لحظةً بلحظة لكنَّها صعدت كما أمر و كأنَّها منقادة و مجبورة على فعل ذلك ..لكنَّها تعلم أنه يريدُ أن يقول شيئاً و من السهلِ معرفةِ نوع ما يريد قوله لها فلا شيء يتحدث عنه سوى العمل و جزءٍ بسيط من مشكلته مع مخطوبته...
من أفضل ما تستطيعُ فعله أن تزيلَ جزئاً من همه ببعضِ الحديثِ المرح لكن وضعية ساي الجامدة هذه المرة منعتها من الحديث بتاتاً...
بدأ القيادة قائلاً: خذي راحتك..أنا لستُ مديركِ هنا..
( تصرفاتك تنبئ عن ما تقول..)
اكتفت بالقول: أنا كذلك سيدي..
قال: لا تقولي سيدي هنا..قلت أنني لست مديرك في هذا المكان ,ألم تفهمي؟
أجابته باستدراك: أوه..آسفة سيد شيوكي.
لم يكن يستطيع التخلص من الجدية و الجفاف و هوَ يحمل في قلبه أكبر هموم العالم كما يظن لكنَّه حاول ببعضِ الكلمات شدَّها للمرح لاستدراجِ الحديث: كم بقيَ على مدَّةِ عملِكِ المؤقت؟
سؤاله لم يكن نذيرَ خير لكنها كانت مضطرة للإجابة: خمسةِ أيام على ما أظن.
كان يرَكِّز على قيادته كأيِّ سائقٍ آخر: ماذا لو قلتُ أن لا داعي لإتمام هذه الخمسةِ أيام فالمدة التي مضت كانت كافية؟
هذه المصيبة التي تصورتها بعد مجيء أخيها : أنتَ تمزحُ معي! أليسَ كذلك؟
أتم بأسلوبه و كأنه يريد منها مجاراته الحديث: ماذا لو قلتُ أن تتمي عملكِ لخمس سنينَ أخرى؟
استوعبت ميرنا هذا لكنها هذه المرَّة قررت أن تحلَّ مشكلته من جذورها لرؤيتها أن لا فائدة من موضوعه الذي يكاد يجعله ينهار بينَ آونةٍ و أخرى فحاولت التلاعب بالكلام لاستدراجه : و ما يجب عليَّ أن أقول؟...ربما سأتشرف برؤيةِ الشيب على رأسكَ هذا بهذا المنحنى الذي أنتَ عليه؟..سيكون جيداً.
علته بسمةٌ خفيفة مراوغاً : أظنُّ أن الشيب سيكونُ مبكراً على فتىً في الرابعةَ و العشرينَ في عمره ,إلَّا إذا كنتِ أنتِ من سيقودني للمشيب فهذا أمرٌ آخر.
وضعت يدها على حدِّ النافذة و هيَ تنظر للخارج: ألا تظنُّ أنَّ من سيقودك للمشيب هو أنتَ نفسك؟
سمحَ ساي لبؤبؤتيه بالنظر لها بشكلٍ مباشر مما جعلها تلتفت له و تعود للنظر نحوَ الأمام بسرعة خجلاً...
قال لها:ما بالك؟..الشعر الأبيض يليقُ بك.. ألا توافقينني الرأي؟
لم تتمهل لتجيب فهيَ لن تستلم بسهولة : إنَّ ذوقكَ سيءٌ بالفعل...أنتَ سيءٌ في كلِّ شيءٍ على ما يبدوا ,الذوق ,الفكاهة و حتى إخفاء ما بداخلك.
" هل تعرفينَ ما يجولُ بداخلي؟"
" تلكَ الفتاةُ مرَّةٌ أخرى"
شعورٌ لا تستطيع ميرنا تغييره ....
استياءِ شاب من رفيقةِ دربه حتى أنه يريدُ الانفصالَ عنها على ما يبدوا ,من المستحيل أن يكون هذا لعبث أو لمشكلةٍ سطحيةٍ كهذه...ما المشكلةُ في حبها للمال؟..ميرنا بذاتها تعشقُ المال لأنه سيحل مشاكلها و يزيل صعوباتِ حياتها...
توقفت السيارة بعدَ قليل لتنتبه لصوت ساي: ها قد وصلنا.
وقعت أنظارها للمكانِ الهائلِ خارجاً: لماذا أتيت بي لهذا المكان؟... ألم تقل أنَّكَ ستوصلني للمنزل؟
ابتسمَ مجيباً: وهل أخبرتني أين يقع؟!..و ما أدراني بعنوانه؟
ترجلت ميرنا متجهةً نحو المكان المقابل الصاخب...
ذهبَ ساي خلفها : إلى أين؟
أدارت ميرنا جسدها نحوه بمرحٍ طفولي : إلى حيث وجهتني ..لا تقل أنَّكَ أتيتَ لتعود هكذا...ما دمنا هنا دعنا نلعب إذاً..
حركاتها هذه كانت تزيل عبئ َ التفكير بفيونيكا و المشاكل التي تصاحبها فكلُّ ما تقوم به يقول له " أنا أهتم بما تريد"...
بدأت تدورُ و تدور لتظهر الفرحةِ التي غمرت قلبها: رائع .
كانت فتاةً ساحرة في كلِّ تحركاتها و سكناتها...ليس لمظهرها بل لنظراتها الحنون التي تكاد تضمّه بين ثنايا عطفها اللامتناهي, فهي لم تصمت حينَ حزنه و لم تتجاهله لحظاتِ إخفائه حاجته لأنيسٍ يحكي له ما بقلبه ...أجل ,من يحكي له عن جروحِ روحه ....هوَ أتى بها لهذا الغرض من الأساس و هيَ منذ صعدت تلك السيارة تحاول أن تجد ثغرةً تضمد بها هذه الجروح....
وضعَ يديه في جيبي بنطاله : تتصرفين و كأنكِ تأتين لمدينةِ الملاهي لأول مرة.
سبقت خطواتها صوتها: إنّهُ كذلك.
سألها باستغراب: لماذا؟!
نظرت له و هيَ تفكر بالإجابة التي ستخرجها من فمها: ليسَ لدي الوقت و يجب أن أبقى مع أمِّي و أرعاها فهي مريضة.
..: مريضة..ما هوَ مرضها؟
( يبدوا أنَّ ثمن راحةَ أعصابه تحطيم أعصابي)
لم تجبه بل أعطت للصمت مكاناً ثم قالت بتلهف و هيَ تنظر لأحدِ الألعاب: يااااه كم أتمنى أن أصعد تلك اللعبة.
أجابها: لكن تلكَ اللعبة ليست مناسبة للفتيات مثلك.
ميرنا بانزعاجٍ متصنع بادٍ عليها: لا أسمح لك بهذه الإهانة.
أخرج ساي يده اليمنى من جيبه مشيراً على تلك اللعبة: إذاً تريدين صعودها؟
أجابته بابتسامةٍ لطيفة و إغماضِ جفنين: أهم...
استمتعا بوقتهما باللعب و أكلِ البوظة و الفشار و ركوب قطار الموت السريع و في النهاية....
جلسَ كلٌّ منهما على كرسيٍ يلفظ أنفاسه لأخذِ بعضِ الراحة...
أنفاسها العميقة كانت تدل على شدة إنهاكها: تعبت.
لم يكن حال الشاب الذي بجانبها يفرق عنها: لكن الأمر ممتع..لم أحس بمتعةٍ كهذه من قبل.
رفعت يديها البيضاء لتلملم خصلاتها المتناثرة على جانبيها: لو سمحت سيد شيوكي...لا أرغب بالمزيد من الصراخ.
قال ساخراً: إنَّ من تحمل صراخكِ طيلةَ تلك الفترة كانَ أنا..حتى كادت تنفجر طبلةُ أذني.
نظر لها نظرةً خبيثة نوعاً ما: لدي فكرة.
أخذتها الريبة و قليل من الخوف: ماذا في ذهنكَ مرَّةً أخرى؟
نهض ممسكاً بيدها جارياً نحو مكانٍ مجهول: لا تقلقي ,سيعجبك.
كانت ميرنا تجاريه بصمت لأنَّها لم تشأ أن تعارضه بأي شيء ما دامَ مستمتعاً و متجاهلاً تلكَ المشاكل التي لا تعرف منها سوى القليل....
علوٌّ يضاهي ناطحةَ السحاب ....
كأنهما يلامسان غيوم السماء...
أو يطيران محلقين مع بقية الطيور...
مكانٌ يظهر خفايا هذه المدينة بقصورها و خرابها ,شوارعها و أزقتها....
برجٌ لم تتخيل ميرنا صعوده أبداً إلاَّ أنَّ بفضل محطم الأعصابِ ساي تحققت أحد أحلامها....
بادر ساي بالسؤال: هل أعجبكِ هذا المكان؟
طغى نبرتها المرح و الانفعال: لا تعليق البتة...منظرِ الغروبِ المذهل جلي كوضوح الشمسِ من هذا المكان.
نظر لها للحظات ثمَّ انفجر بالضحك....
قطبت حاجبيها بانزعاج: ما المضحك الآن؟!...دائماً ما ترغب بأذيتي بتصرفاتك.
هدأَ بعدَ ثوانٍ: آسف...لكن ما قلته كان غريباً نوعاً ما.
" و ما هوَ الغريب؟!"
اكتفى بالسخرية: غروب الشمس يحدث في كبد السماءِ فبالفعل هوَ جلي كظهورها أيتها البلهاء.
أخذتها الضحكة لكنها تمالكتها بالابتسامةِ فقط: لم أكذب .
رفعَ ساي سبابته مشيراً نحوَ مبنىً ضخم فائقِ الجمال: هل تعرفين هذا المكان؟
تأملت ذلك المبنى للحظة : لا..
قال لها : هذا هوَ مكانُ عملك.
توسعت عيناها الأرجوانيتان تعجباً و دهشة: جميل!!...يبدوا مختلفاً ...من المتيقن صرف مبالغ طائلة في بناءه.
جلسَ ساي على أرضيةِ البرج لتجلس هيَ أيضاً بعدَ أن رأت ملامحه المتغيرة: هل مشكلتكَ عويصة..؟
شدَّ قبضةَ يده على الأرض دونَ أن يُسمعها إجابته....
استندت على الحائط الحديدي لتكمل: أنا لا أفهمُك ,ليسَ لأني لا أريد لكن مشكلتي هيَ ما تملكه..أي النقود.
عيناهُ كانت تحوم بحزن: لماذا تريدين النقود؟..أقصد..ما هدفكِ من اكتسابها؟
شبكت أناملها ببعض و هيَ تجيبه: شفاءُ والدتي متوقف على ذلك.
تأوه بحزنٍ أكبر و كأنَّ هماً آخر ازدادَ الآن: لكنها لم تنقذ أمي...نقود أبي الطائلة كانت سبباً في موتها بالأساس.
إدراكِ الألم الذي يعتصر قلبه لم يكن سهلاً بعدَ أن علمت بوجودِ ألمٍ آخر تخافه قد تملك وجوده ..تخافُ أن تنهض يوماً لترى أنفاسِ أمها انقطعت و تركتها...أن تعيشَ يوماً محرومةً من مناداتها و سماعِ صوتها الرءوف يجيبها ...حتى تخيل هذا المنظر يجعل ميرنا تأن حزناً فماذا عن هذا الشابِ الذي يحس بهذا الفقدانِ ..أخرجت كلماتها بصدق ليتقبلها ساي : آسفة حقَّاً..لم أقصد أذيتك ,كلُّ ما هنالِك أنَّ ظروفي تفرض عليَّ هذا.
حرَّك رأسه نافياً: لا بأس..لن يزداد حزني أو تتغير حياتي للأسوأ بهذه الكلمة.
حرَّكت شفتيها بهمس: لكن الألمِ الذي لا يزداد يضمحل و يمحوا إن أردت.
رفعت صوتها قليلاً: أليسَ كذلك؟
سرحَ الاثنين قليلاً بأفكارَ مجهولة حتى حاولت ميرنا إعادة المرح كعادتها لهذا الوضع الكئيب و هيَ تنظر لحواف هذا المكانِ الرفيع: ما رأيك لو نقفز من هذا المكان؟...ستزدادُ متعتك لكن قبل أن تصل أجسادنا على الأرض ستطفو أرواحنا نحو السماء.
اكتفى بالتحديقِ بها معَ ابتسامةٍ ارتسمها بخفة ...
أشاحت ميرنا ناظريها بحمرةِ وجنتيها الخجلتين و بحزنٍ عميقٍ استولى قلبها على ساي الذي بدا كالطفل الذي يسترجي العطف الذي حرم منه بهدوءٍ و صمت : ماذا هناك؟
على ما يعتقد ,هذه الفتاة هيَ الملاك التي تحتضنه بجناحيها البيضاويين لتسمع حديثَ قلبه فمدَّ يده نحوَ يدها المبسوطةِ على الأرض ليشدَّ قبضته عليها قليلاً: أتعلمين؟
نبضاتها بدأت بالتسارع و لكن قلبها كانَ مليء بالاطمئنان و الراحة و معَ هذا ودَّت لو تستطيع إبعادِ يده لكنها لم تستطع و يده قد أحكمت الشد عليها: ماذا؟
" تلك الفتاة ستأخذ روحي"
حروفٌ هزَّت كيانها...
تمالكت دموعها التي كادت أن تهطل على وجنتيها و حاولت أن تدقق على حديثه علَّها تجد ثغره تستطيع منها إنهاء هذه المشكلة...
بدأ ساي بصلب الموضوع: أتذكر ذلكَ اليوم جيداً..حينَ كنتُ في الرابعةَ عشرة ,أتى والدي إلي قائلاً " لقد كبرتَ بني و يجب أن تخطط و تؤمن مستقبلك"...كنتُ حدثَ السن لا أعي ما حولي و لا أختلف عن باقي الأغنياء في تفكيري...اختارَ لي أبي الفتاةَ المناسبةَ في وجهةِ نظره ...فالمصلحة المالية و التجارية هيَ أساس حياتنا ...لم أعارض في بدايةِ الأمر....فإدراكِ معاني الحب و العاطفة أو حتى التعامل الإنساني كانَ سيظهر بعدَ الارتباطِ بها بحسبِ الأساس الذي تربيتُ به...لكن منذُ أول يوم و سؤالها كانَ عن مدى ثرائي و كيفيةِ عملي و كلُّ ما سيؤمن الراحةِ لها .. همها الوحيد التسوق من مالي و السفر للدول المحببة من ثروتي.
وضعَ يده على فمه للحظة و هو يبلع ريقه..: يقولون أنَّ الخطوبة هيَ فترةُ الحب و الاهتمام لكني لم أرها يوماً تزورني في مرضي حتى...لم أطلب منها البقاء و الاهتمام بي ,زيارةً قصيرة كافية لإسعادي.
حيرةٌ في ذهنها من هذه المشكلة...كلُّ ما يتعلق بها العواطف فقط لا غير : حسناً ,بما أنَّكَ كنتَ في الرابعة عشرة فهي كانت طفلة أيضاً...دع الزمن يُكسبها بعض التجارب و تحدث معها.
"كلُّ ما اكتسبته المزيدَ من الغيرة...تحدثتُ معها كثيراً و بجيدة ,حاولتُ وضعها تحت الأمرِ الواقع لكن لا جدوى...كلُّ ما تعلَّمته تهديدي بوالدها الموقر كلَّما رأتني أتكلم مع أحدى الفتيات ..و ها الآن أتى لتحديد موعد زفافي معها..كيفَ لوالدي أن يرمي بي لهذا المصير؟!"
" حدِّث والدك و اطلب منه مساعدتك..هذه وظيفته كأب"
أبعد يده ليحركها دونَ توازن مما أقلق ميرنا: أتعلمين ما هوَ جوابُ والدي حين أخبرته بقراري بالانفصالِ عن فيونيكا ؟...قال لي لو فعلتُ هذا فالأنسَ وجود أبٍ لي...أتستوعبين معنى هذا؟!...رغمَ أني لم أطلب سوى حريتي في حياتي الخاصة.. من فتاةٍ تقول لي بوقاحة " لو لم تكن غنياً لما سنحتُ لعيني أن تلقيا نظرتيهما عليك"....
بدأ يرتجف بشدَّة مما جعل ميرنا تقطع كلامه واضعةً يديها على كتفيه : توقف عن الكلام...كفَّ عن هذه التفاهاتِ التي تضرُّ صحتك هكذا.
أخذَ نفساً ليقول: ألا ترين أني سأكون أكثر ارتياحاً بإغماضِ عيني هاتين دونَ أن أفتحهما مرَّةً أخرى؟....سأتخلص من كلِّ هذه الأمور التافهة بسهولة في ذلكَ الحين.
توترها لم يترك لها مجالاً للتفكير لكنها ما زالت تحت تأثير فكرتها بتغير الجو للمرح: أصمت فقط..كيفَ تجرأ على التلفظِ بهذا
أمامي...ألا تعرف أنني لن أسمح لك بالرحيل..إن متَّ من سيعطيني فرصة عمل؟هل فكرتَ بهذا؟
علته بسمةٌ خفيفة لم تُذهب اصفرار وجهه : لا داعي لكلِّ هذا القلق..ليسَ سوى ضعفِ أعصابٍ بسيط ,لحظاتِ و أكون بخير...عملكِ محفوظ نائبتي.
"أعصاب؟!"
بدأ بتحريكِ يده حول رقبته: لقد لاحظتِ سوء حالتي ,فلا داعي لإخفاءِ الأمر ...كلُّ ما في الأمر أنِّي ضعيفُ الأعصابِ قليلاً و هذا ما يجرني لهذه الحالة.
نهضت ميرنا و هيَ تجرَّه من يده: إذاً عليكَ أن تراجع الطبيب سيد شيوكي.
حاول ساي التثاقل: قلتُ سأكونُ بخير بعدَ لحظات.
لم تتركه بل بدأت بجرِّه بقوَّةٍ أكبر: لا تكن عنيداً...
لم تتمم جملتها حتى سقطت من حافةِ ذلكَ البرج المرتفع ليهم ساي بمدِّ يده بفزع.......
قراءة،ممتعة ،،،،،
تعليقات مفتوحة..
. |
|