06-01-2016, 01:38 AM
|
|
خطبة الغراء للامام علي بن ابي طالب رضوان الله عليه الحمد للهّ الأحد الصَّمد، الوِاحد المُنفرد، الذي لا مِن شيء كان ولا مِن شيء خُلق إلا وهو خاضع له، قُدْرة بان بها من الأشياء، وبَانت الأشياء منه، فليست له صفة تّنال، ولا حَدّ يُضرب له فيه الأمثال، كلِّ دون صِفته تَحْبير اللّغات، وضَلَّت هناك تَصاريف الصِّفات، وحارت دونَ مَلكوته مذاهبُ التَّفْكير، وانقطعت دون عِلْمه جوامعُ التَّفْسير، وحالت دونَ غَيْبه حُجبٌ تاهت في أَدْنىَ دُنوّها طامحات العُقول. فتَبَارك الله الذي لا يَبْلغه بُعْدُ الهِمَم، ولا يَناله غَوْصُ الفِطن؛ وتَعالى الذي ليس له نَعْت مَوْجود، ولا وَقْتٌ مَحدود. وسُبحان الذي ليس له أوَلُ مُبتدأ، ولا غايةُ مُنْتهى، ولا آخِرٌ يَفْنى؛ وهو سُبحانه كما وَصف نفسه، والواصفون لا يَبْلغونَ نعْته، أحاط بالأشياء كُلِّها عِلْمُه، وأتْقنها صُنْعه، وذلّلها أمرُه، وأحصاها حِفْظُه، فلا يَغْرُب عنه غُيوب الهَوى، ولا مَكنون ظُلَم الدُّجى، ولا ما في السموات العُلى، إلى الأرض السابعة السُّفلى؛ فهو لكلّ شيء منها حافظ وَرَقيب، أحاط بها. الأحد الصَّمد، الذي لم تُغيره صُروف الأزمان، ولم يَتكاءده صُنْع شيِء منها كان. قال لِما شاء أن يكون؛ كُنْ فكان؛ ابتدع ما خَلق، بلا مثال سَبق، ولا تعب، ولا نَصَب؛ وكلُّ عالم من بعد جهْلِ تَعلَّم، والله لم يَجهل ولم يَتعلَّم؛ أحاط بالأشياء كلِّها عِلماً، ولم يَزْدَد بتجربتها خُبراً؛ عِلْمه بها قبل كَوْنها كِعلْمه بها بعد تكوينها؛ لم يُكَوَنها لتَسْديد سُلطان، ولا خَوْفٍ من زوال ولا نُقصان؛ ولا استعانة على ضد مُناوئ، ولا نِذ مُكاثر؛ ولكنْ خلائق مَرْبوبون، وعِباد داخرون. فسُبحان الذي لم يؤده خَلْقُ ما ابتدأ، ولا تَدْبير ما بَرأ، خَلَق ما عَلِم وعِلم ما أراد، ولا يتفكّر على حادث أصاب، ولا شُبهة دَخلت عليه فيما شاء؛ لكنْ قضاء مُتقن، وعِلْم مُحْكم، وأمر مُبْرَم. توحّد فيه بالربوبية، وخَص نفسه بالوَحْدانية؛ فلَبِسَ العز والكِبرياء، واستخلص المَجد والسناء، واستكمل الحَمْد والثناء؛ فانفرد بالتَوحيد، وتوحّد بالتمجيد؛ فجل سبحانه وتعالى عن الأبناء، وتَطَهّر وتقدّس عن مُلامسة النساء؛ فليس له فيما خَلق نِدّ، ولا فيما ملك ضِدّ هو اللّه الواحد الصَّمد، الوارثُ للأبد، الذي لا يَبيد ولا يَنْفد، مَلَك السمواتِ العُلى، والَأرَضين السُّفلى، ثم دَنَا فَعَلاً، وعَلا فَدَنَاً، له المَثَل الأعلى، والأسماء الحُسنى، والحمدُ للّه ربّ العالمين. ثم إنّ اللهّ تبارك وتَعالى سُبحانه وبحَمْدِه، خَلَقَ الخلق بِعلمه، ثم اختار منهم صَفْوَته لنفسه، واختار من خيَار صَفْوَته أُمناء على وَحْيه، وخَزنة له على أَمره، إليهم تَنْتهي رسالتُه، وعليهم يَنزل وَحْيه؛ جعلهم أَصْفِياء، مُصْطَفين أَنبياء، مَهديِّين نُجباء. استودعهم وأقرَّهم في خير مُستقر، تَناسختهم أكارمُ الأصلاب، إلى مطهّرات الأمّهات؛ كلّما مضى منهم سَلف، انبعث لأمره منهم خَلف؛ حتى انتهت نُبوَّة اللّه وأَفضت كرامتُه إلى محمد صلى الله عليه وسلم فأخرجه من أَفضل المَعادن مَحْتِداً، وأَكرم المَغارس منبتاً، وأمنعها ذِرْوة، وأَعزّها أَرُومة، وأَوْصلها مَكْرمة؛ من الشجرة التي صاغ منها أمناء، وانتخب منها أنبياء؛ شجرة طيِّبة العُود، مُعتدلة العَمود، باسقة الفُروع، مُخضَرّة الأصول والغصون، يانعة الثِّمار، كريمة المُجْتنى؛ في كرم نَبتت، وفيه بَسقت وأَثْمرت، وعزت فامتنعت؛ حتى أكرمه اللّه بالروح الأمين، والنُّور المبين، فختم به النّبيين، وأتمّ به عِدْة المُرسلين؛ خليفتُه على عباده، وأمِينُه في بلاده؛ زَيّنه بالتَّقوى، واثار الذِّكرى؛ وهو إمام مَن اتقى، ونَصْر من اهتدى؛ سراجٌ لمع ضَوؤه، وزَنْد بَرقَ لمعه، وشِهابٌ سطع نُوره. فاستضاءت به العِباد، واستنارت بهِ البلاد، وطَوى به الأحساب، وأزجى به السّحاب، وسَخّر له البُراق، حتى صافحته المَلائكة، وأَذعنت له الأبالسة، وهَدم به أصنام الآلهة. سِيرتُه القَصْد، وسُنته الرشد؛ وكلامه فَصْل، وحُكمه عَدْل. فَصدع صلى الله عليه وسلم بما أمره به، حتى أفصح بالتّوحيد دعوتَه، وأظهر في خَلْقه: لا إله إلا الله، حتى أُذعن له بالرُبوبية، وأُقرّ له بالعُبودية والوَحدانية. اللهم فخُص محمداً صلى الله عليه وسلم بالذِّكر المحمود، والحَوض المَوْرود. اللَّهم آتِ محمِداً الوَسيلة، والرفعة والفَضيلة؛ واجعل في المُصطَفين مَحِلَته، وفي الأعلين درجتَه، وشرِّف بُنيانه، وعَظَم بُرهانه؟ واسقنا بكأسه، وأوْرِدنا حَوضَه، وأحشُرنا في زُمرته؛ غيرَ خَزايا ولا ناكِثين، ولا شاكَين ولا مُرتابين، ولا ضالين ولا مَفتونين، ولا مذَلين ولا حائدين ولا مضلين. اللهم أعط محمداً من كل كرامة أفضلَها، ومن كُل نعيم أكملَه، ومن كل عَطاء أجزلَه، ومن كل قَسْم أَتمًه؛ حتى لا يكون أحد من خَلقك أقربَ منك مَكاناً، ولا أحظَى عندك منزلة، ولا أدنى إليك وسيلة، ولا أعظم عليك حقّاً ولا شَفاعة من محمد؛واجمع بيننا وبينه في ظِلّ العيش، وبَرد الرَّوح، وقُرة الأعين، ونضرة السُّرور، وبهجة النعيم؛ فإنا نشهد أنه قد بلّغ الرِّسالة، وأدّى الأمانة والنَّصيحة، واجتهد للأمّة، وجاهد في سَبيلك، وأُوذي في جَنبك، ولم يَخف لَومة لائم في دِينك، وعَبدك حتى أتاه اليقين. إمام المُتقين، وسيّد المُرسلين، وتَمام النبيين، وخاتَم المُرسلين، ورسولُ ربّ العالمين. اللّهمِ. ربَّ البيت الحرام، ورب البلد الحرام، وربَّ الركن والمَقام، ورب المَشْعر الحرام، بَلغ محمداً منّا السلام. اللَّهم صلِّ على ملائكتك المُقربين، وعلى أنبيائك المُرسلين، وعلى الحَفظة الكرام الكاتبين، وصلّى اللّه عليه أهل السموات وأهل الأرضين، من المُؤمنين. |