|
نور الإسلام - ,, على مذاهب أهل السنة والجماعة خاص بجميع المواضيع الاسلامية |
| LinkBack | أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
| ||
| ||
وصف الجنة والنار الجنة والنار الباب الثاني: الجنة (1/115) الجنة تعريف وبيان الجنة هي الجزاء العظيم، والثواب الجزيل، الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص، ولا يعكر صفوه كدر، وما حدثنا الله به عنها، وما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحير العقل ويذهله، لأن تصور عظمة ذلك النعيم يعجز العقل عن إدراكه واستيعابه. استمع إلى قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" ثم قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " اقرؤوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] ". (1) وتظهر عظمة النعيم بمقارنته بمتاع الدنيا، فإن متاع الدنيا بجانب نعيم الآخرة تافه حقير، لا يساوي شيئاً. ففي صحيح البخاري عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ". (2) ولذا كان دخول الجنة والنجاة من النار في حكم الله وتقديره هو الفلاح العظيم، والفوز الكبير، والنجاة العظمى قال تعالى: (فمن زحزح عن النار __________ (1) رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في كتاب: بدء الخلق، باب: ما جاء في صفة النار. فتح الباري: (6/318) . ورقم الحديث: 3244. (2) صحيح البخاري: 3250. (1/117) وأدخل الجنة فقد فاز) [آل عمران: 185] ، وقال: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم) [التوبة: 72] ، وقال أيضا: (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) [النساء: 13] . (1/118) الفصل الأول: دخول الجنة لا شك أن سعادة المؤمنين لا تعادلها سعادة عندما يساقون معززين مكرمين زمراً إلى جنات النعيم، حتى إذا ما وصلوا إليها فتحت أبوابها، واستقبلتهم الملائكة الكرام يهنئونهم بسلامة الوصول، بعدما عانوه من الكربات، وشاهدوه من الأهوال (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) [الزمر: 73] ، أي طابت أعمالكم وأقوالكم وعقائدكم، فأصبحت نفوسكم زاكية، وقلوبكم طاهرة، فبذلك استحققتم الجنات. (1/119) المبحث الأول: الشفاعة في دخول الجنة ثبت في الأحاديث الصحيحة أن المؤمنين عندما يطول عليهم الموقف في يوم الجزاء يطلبون من الأنبياء أن يستفتحوا لهم باب الجنة، فكلهم يمتنع ويتأبى، ويقول: لست لها حتى يبلغ الأمر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في ذلك، فيُشفّع، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون، حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا، استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لست بصاحب ذلك.. ". الحديث. (1) وذكر فيه تدافع الأنبياء لها، حتى يأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيؤذن لهم. __________ (1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (4/186) ، ورقمه: 195. (1/120) المبحث الثاني: تهذيب المؤمنين وتنقيتهم قبل الدخول بعد أن يجتاز المؤمنون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار، ثم يهذبون وينقون، وذلك بأن يقتص لبعضهم من بعض إذا كانت بينهم مظالم في الدنيا، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهاراً أبراراً، ليس لأحد عند الآخر مظلمة، ولا يطلب بعضهم بعضاً بشيء. روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة منه بمنزلة كان في الدنيا ". (1) ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - هو أول من يستفتح الجنة بعد أن يأبى أبو البشر آدم وأولوا العزم من الرسل التعرض لهذه المهمة. __________ (1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب القصاص يوم القيامة، فتح الباري: (11/395) . (1/121) المبحث الثالث: الأوائل في دخول الجنة أول البشر دخولاً الجنة على الإطلاق هو رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأول الأمم دخولاً الجنة أمته، وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وقد ساق ابن كثير الأحاديث الواردة في ذلك (1) . فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أول من يقرع " أي: باب الجنة. وفيه أيضاً: " أنا أول شفيع في الجنة ". (2) وروى مسلم عن أنس أيضاً، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " آتي باب الجنة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ". (3) وثبت في الصحيحين وسنن النسائي، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة ". (4) وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أتاني جبريل، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي " فقال أبو بكر: يا رسول الله، وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي ". (5) __________ (1) النهاية لابن كثير: (2/213) . (2) صحيح مسلم: 197. (3) صحيح مسلم: 197. (4) رواه البخاري في مواضع من صحيحه: 238، 876، 896، 2956. ومسلم: 855. (5) سنن أبي داود: 4652. وأورده الألباني في ضعيف أبي داود. (1/122) المبحث الرابع: الذين يدخلون الجنة بغير حساب أول زمرة تدخل من هذه الأمة الجنة هي القمم الشامخة في الإيمان والتقى والعمل الصالح والاستقامة على الدين الحق، يدخلون الجنة صفاً واحداً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، صورهم على صورة القمر ليلة البدر. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون، ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشياً ". (1) وروى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً أو سبعمائة ألف – لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". (2) وقد صح أن الله أعطى رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع كل واحد من السبعين هؤلاء سبعين ألفاً، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله __________ (1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/318) ، ورواه مسلم: 2834، والترمذي وغيرهما. (2) المصدر السابق، فتح الباري: (6/319) . (1/123) - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت سبعين ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً ". (1) وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان عن أبي أمامة بإسناد صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بلا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون، وثلاث حثيات من حثيات ربي ". (2) فذكر هذا الحديث زياد ثلاث حثيات. وقد وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - السبعين ألفاً الأوائل وبيَّن علاماتهم، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عُرضت عليّ الأمم، فأخذ النبي يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير، قلت: يا جبريل، هؤلاء أمتي؟ قال: لا، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير. قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم؟ قال: كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: اللهم اجعله منهم. ثم قال إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة ". (3) ولعل هؤلاء هم الذين سماهم الحق بالمقربين، وهم السابقون، __________ (1) صحيح الجامع: (1/350) ، ورقمه 1068. (2) صحيح الجامع: (6/108) ، ورقمه: 6988. (3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري: (11/450) . (1/124) (والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) [الواقعة: 10-12] ، وهؤلاء ثلة من الأولين وقليل من الآخرين (ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) [الواقعة: 13-14] . (1/125) المبحث الخامس: الفقراء يسبقون الأغنياء إلى الجنة روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة ٍإلى الجنة بأربعين خريفاً ". (1) وروى الترمذي عن أبي سعيد، وأحمد والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة سنة ". (2) وقد بيّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في موضع آخر أن هؤلاء لم يكن عندهم شيء يحاسبون عليه، هذا مع جهادهم وفضلهم، أخرج الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: فقراء المهاجرين، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة، ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أو قد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب، وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك؟ قال: فيفتح لهم، فيقيلون فيه أربعين عاماً قبل أن يدخلها الناس ". (3) __________ (1) مشكاة المصابيح: (2/663) ، ورقمه: 5235. وهو في مسلم برقم: 2979. (2) صحيح الجامع: (4/90) ورقمه: 4104. وهو في سنن الترمذي برقم: 2351. (3) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/532) ، ورقمه: 853، وقد قال الشيخ ناصر فيه: أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، أقول (الشيخ ناصر) : إنما هو على شرط مسلم فقط. (1/126) وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار " (1) . وأصحاب الجد هم الأغنياء من المسلمين. وقد وقع في الأحاديث السابقة أن الفقراء يسبقون الأغنياء بأربعين خريفاً، وجاء في حديث آخر بخمسمائة عام، ووجه التوفيق بين الحديثين أن الفقراء مختلفو الحال، وكذلك الأغنياء – كما يقول القرطبي- (2) . فالفقراء متفاوتون في قوة إيمانهم وتقدمهم، والأغنياء كذلك، فإذا كان الحساب باعتبار أول الفقراء دخولاً الجنة وآخر الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة خمسمائة عام، أما إذا نظرت إلى آخر الفقراء دخولاً الجنة وأول الأغنياء دخولاً الجنة فتكون المدة أربعين خريفاً، باعتبار أول الفقراء وآخر الأغنياء والله أعلم". (3) __________ (1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (2/345) . (2) التذكرة، للقرطبي:70 (3) النهاية لابن كثير: (2/345) . (1/127) المبحث السادس: أول ثلاثة يدخلون الجنة روى الترمذي بإسناد حسن عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عُرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة: " شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله، ونصح مواليه". (1/128) (1) المبحث السابع: دخول عصاة المؤمنين الجنة المطلب الأول: إخراجهم من النار وإدخالهم الجنة بالشفاعة روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن (2) ناس أصابتهم النار بذنوبهم (أو قال: بخطاياهم) فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحماً، أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر (3) ، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". (4) ولمسلم من حديث جابر بن عبد الله يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أقواماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم، حتى يدخلون الجنة ". (5) وهؤلاء الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة يسميهم أهل الجنة __________ (1) جامع الأصول: (20/535) . وعزاه محقق الجامع إلى أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن. وهو في سنن الترمذي برقم: 1642. وقال الترمذي فيه هذا حديث حسن وأورده الألباني في ضعيف الترمذي. (2) لكن هنا مخففة مهملة لا تعمل. (3) جماعات جماعات. (4) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين من النار، (1/172) . رقم: 185. (5) رواه مسلم كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، (1/178) ، ودارات وجوههم: ما يحيط بالوجه من جوانبه. (1/129) بالجهنميين، ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين ". (1) وفي الصحيح أيضاً عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج (2) من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير، قلت: وما الثعارير؟ قال: الضغابيس ". (3) وروى البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج قوم من النار بعدما مسهم منها سفع، فيدخلون الجنة، فيسميهم أهل الجنة الجهنميين". (4) وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة الطويل في وصف الآخرة: " حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار وقد امتحشوا (احترقوا) ، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون منه، كما تنبت الحبة في حميل السيل ". (5) __________ (1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/418) ولهم ذكر في حديث جابر عند مسلم: (1/179) . (2) أي أقوام. (3) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/416) والثعايير: قثاء صغار، والضغبوس: نبت يخرج قدر شبر في دقة الأصبع لا ورق له، فيه حموضة. والمقصود (وصفهم بالبياض والدقة) . (4) المصدر السباق، فتح الباري: (11/416) . (5) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الرؤية: (1/299) ، حديث رقم: (182) . (1/130) وقد ورد في أكثر من حديث أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار أو نصف دينار أو مثقال ذرة من إيمان، بل يخرج أقواماً لم يعملوا خيرا ً قط، ففي حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يدخل الله أهل الجنة الجنة، يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: " انظروا من وجدتم في قلبه حبة من خردل من إيمان فأخرجوه.. ". (1) وفي حديث جابر بن عبد الله في ورود النار: " ثم تحل الشفاعة، ويشفعون حتى يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير مثقال شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء، حتى ينبتوا نبات الشيء في حميل السيل. ويذهب حراقه (2) ثم يسأل حتى يجعل له الدنيا وعشرة أمثالها معها". (3) وفي حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وكان في قلبه ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن الذرة". والأحاديث في هذا كثيرة. __________ (1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات الشفاعة وإخراج الموحدين: (1/172) . (2) حراقة: معناه أثر النار، والضمير في (حراقه) يعود على المخرجين. (3) صحيح مسلم، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (1/178) . (1/131) (1) المطلب الثاني: موقف الفِرَق من الشفاعة أنكرت الخوارج والمعتزلة (2) شفاعة الشافعين في أهل الكبائر والذين أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها، والذين دخلوها أن دخلوها أن يخرجوا منها، قال القرطبي: " وهذه الشفاعة أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة، فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق العقلي المبني على التحسين والتقبيح ". (3) وهذه المقولة المضادة للأحاديث الصحيحة المتواترة برزت والصحابة أحياء، روى مسلم في صحيحه عن يزيد الفقير، قال: " كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد الحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم، جالس إلى سارية، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو ذكر الجهنميين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون به والله يقول: (إنك من تدخل النار فقد أخزيته) [آل عمران: 192] ، و (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) [السجدة: 20] ؟ فما هذا الذي تقولون: قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام (يعني الذي يبعثه الله فيه) ؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج، قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنه قد زعم أن قوماً __________ (1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة: (1/182) . والأحاديث في هذا كثيرة. (2) الخوارج فرقة خرجت بعد معركة صفين كفّرت علياً ومعاوية، ومن معهما، وزعمت أن أهل المعاصي مخلدون في النار، والمعتزلة أتباع واصل بن عطاء ذهبوا مذهب المعتزلة، في القول بتخليد أصحاب الكبائر في النار، وتوقفوا في أمرهم في الدنيا. (3) التذكرة للقرطبي: 49 (1/132) يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنهم القراطيس (1) ، فرجعنا قلنا: ويحكم، أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فرجعنا. فلا والله، ما خرج منا غير رجل واحد". (2) والخوارج والمعتزلة تطرفوا في هذه المسألة إذ زعموا أن أهل الكبائر لا يخرجون من النار، ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، كما أن المرجئة تطرفوا في الجانب المقابل حيث لم يقطعوا بدخول أحد من أهل الكبائر النار، ويزعمون أن أهل الكبائر جميعاً في الجنة من غير عذاب، وكلا الفريقين مخالف للسنة المتواترة الثابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهم مخالفون لإجماع سلف الأمة وأئمتها، وقد هدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، حيث ذهبوا إلى أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم برحمته، وإن شاء عذبهم بذنوبهم، ثم أدخلهم الجنة برحمته، (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] وقال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) [الزمر: 53] فالشرك لا يغفره الله، وما دونه تحت المشيئة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وحجة الخوارج في نفي هذه الشفاعة الآيات الواردة في نفي الشفاعة التي يثبتها أهل الشرك، فأهل الشرك يعتقدون أن الشفاعة عند الله كالشفاعة في الدنيا، يشفع الشافع عند غيره بدون إذن منه، ويشفع الشافع عند غيره وإن لم يرض عن المشفوع له، وهذا لا يكون عند الله تبارك وتعالى، وقد جاءت النصوص بإبطال هذا النوع من الشفاعة، __________ (1) الصحف التي يكتب فيها. (2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة، (1/179) ، ورقمه: 191. (1/133) كما قال تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) [البقرة: 48] ، وقال: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر: 48] ، وقال: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر: 18] ، وقد جاءت النصوص مبينة أن الشفاعة عند الله لا تكون إلا بإذنه، ولا تكون إلا بعد أن يرضى عن الشافع والمشفوع له: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255] وقال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] ، وقال: (وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم: 26] ، وقال عن الملائكة أيضاً: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) [الأنبياء: 28] ، وقال: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) [سبأ: 23] . فهذه النصوص تنفي الشفاعة التي أثبتها المشركون للملائكة والأنبياء والصالحين وتبطلها، وتثبت الشفاعة التي تكون بإذن الله ورضاه عن الشافع والمشفوع، والله لا يرضى عن الكفرة المشركين، أما عصاة أهل التوحيد، فيشفع فيهم الشافعون، ولا يشفعون لمشرك. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قِبل نفسه ". (1) __________ (1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/418) . (1/134) المبحث الثامن: آخر من يدخل الجنة حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - قصة آخر رجل يخرج من النار ويدخل الجنة، وما جرى من حوار بينه وبين ربه، وما أعطاه الله من الكرامة العظيمة التي لم يُصدّق أن الله أكرمه بها لعظمها، وقد جمع ابن الأثير روايات هذا الحديث في جامع الأصول، ومنه نقلنا هذه الأحاديث (1) : 1- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة " أخرجه البخاري ومسلم. ولمسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار: رجل يخرج منها زحفا، فيقال له: انطلق فادخل الجنة، قال: فيذهب فيدخل الجنة، فيجد الناس قد أخذوا المنازل، فيقال له: __________ (1) جامع الأصول: (10/553) . (1/135) أتذكر الزمان الذي كنت فيه؟ فيقول: نعم، فيقال له: تمنَّ، فيتمنى فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعاف الدنيا، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك حتى بدت نواجذه " وفي رواية الترمذي مثل هذه التي لمسلم. (1) 2- عن عبد الله بن مسعود رضي الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة، ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين، فترفع له شجرة، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها؟ فيقول: لا، يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها، قال: وربه عز وجل يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلي أن أدنيتك منها تسألني غيرها؟ فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه تعالى يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة، وهي أحسن من الأوليين، فيقول: أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب لا أسألك غيرها – وربه عز وجل __________ (1) رواه البخاري: (11/386) في الرقاق، باب في صفة الجنة والنار، وفي التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، ومسلم رقم: 186 في الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً، والترمذي رقم: 2598 في صفة جهنم، باب رقم 10. (1/136) يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك (1) ، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر " أخرجه مسلم. (2) وهذا الحديث هكذا أخرجه الحميدي وحده في أفراد مسلم، والذي قبله في المتفق عليه، وقال: إنما أفردناه للزيادة التي فيه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أدنى أهل الجنة منزلة: رجل صرف الله وجهه عن النار قِبل الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال: أي رب، قربني من هذه الشجرة لأكون في ظلها.. وساق الحديث بنحو حديث ابن مسعود، ولم يذكر: فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك؟ .. إلى آخر الحديث ". وزاد فيه: " ويذكره الله، سل كذا وكذا، فإذا انقطعت به الأماني، قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخل بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك، قال: " فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت " أخرجه مسلم هكذا عقيب حديث ابن مسعود. (3) __________ (1) أي ما الذي يرضيك، ويقطع مسألتك وأصل التصرية: القطع والجمع، ومنه الشاة المصراة: وهي التي جمع لبنها وقطع حلبه. (2) رقم: 187 في الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً. (3) رواه مسلم رقم: 188 في الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها. (1/137) المبحث التاسع: الذين دخلوا الجنة قبل يوم القيامة أول من دخل الجنة من البشر هو أبو البشر آدم (وقلنا يا أدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما) [البقرة: 35] ، وقال: (ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) [الأعراف: 19] ، ولكن آدم عصى ربه بأكله من الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها فأهبطه الله من الجنة إلى دار الشقاء: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزماً* وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس أبى* فقلنا يا آدم هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى* إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى* فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى* فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى* ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى* قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو) [طه: 115-123] . وقد رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجنة ففي صحيح البخاري عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء ". (1) __________ (1) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/318) . (1/138) ومن الذين يدخلون الجنة قبل يوم القيامة الشهداء، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون) [آل عمران: 169] . قال: " إنا قد سألنا عن ذلك فقال: " أرواحهم في أجواف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي، ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففل بهم ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا: قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا ". (1) ومن مات عرض عليه مقعده من الجنة والنار بالغداة والعشي، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ". (2) __________ (1) مشكاة المصابيح: (2/351) ، ورقمه: 3804. (2) رواه مسلم في صحيحه، انظر مسلم بشرح النووي: (17: 300) . (1/139)
__________________ ------------------------------------------------------------- سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله التعديل الأخير تم بواسطة كيوهي ; 06-04-2016 الساعة 05:04 PM |
#2
| ||
| ||
الجنة والنار الفصل الثالث: صفة الجنة المبحث الأول: الجنة لا مثل لها نعيم الجنة يفوق الوصف، ويقصر دونه الخيال، ليس لنعيمها نظير فيما يعلمه أهل الدنيا، ومهما ترقى الناس في دنياهم، فسيبقى ما يبلغونه أمراً هيناً بالنسبة لنعيم الآخرة، فالجنة كما ورد في بعض الآثار لا مثل لها، " هي نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد وفاكهة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، في مقام أبداً، في حبرة ونضرة، في دور عالية سليمة بهية ". (1) وقد سأل الصحابة الرسول عن بناء الجنة، فأسمعنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الإجابة وصفاً عجباً، يقول عليه السلام في صفة بنائها: " لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر (2) ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها __________ (1) هذا نص حديث أورده ابن ماجة في سننه، في كتاب الزهد، باب صفة الجنة، (2/1448) ، ورقمه: 4332، ولم ننسبه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأن في إسناده مقالاً، وإن كان ابن حبان أورده في صحيحه، ومعناه جميل تشهد له النصوص من الكتاب والسنة. (2) الملاط: المادة التي توضع بين اللبنتين. (1/147) الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابها، ولا يفنى شبابهم " (1) . وصدق الله حيث يقول: (وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً) [الإنسان: 20] . وما أخفاه الله عنا من نعيم الجنة شيء عظيم لا تدركه العقول، ولا تصل إلى كنهه الأفكار (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) [السجدة: 17] ، وقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] (2) . ورواه مسلم من عدة طرق عن أبي هريرة وجاء في بعض طرقه: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً، بلْه (3) ما أطلعكم الله عليه، ثم قرأ: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) . [السجدة: 17] " (4) . ورواه مسلم عن سهل بن سعد الساعدي قال: شهدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً وصف فيه الجنة حتى انتهى، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في آخر حديثه: __________ (1) رواه أحمد والترمذي والدارمي، انظر مشكاة المصابيح: (3/89) ، وهو صحيح بطرقه كما أشار إلى ذلك محقق المشكاة. (2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/318) . (3) بله: بفتح الباء وسكون اللام، ومعناها: دع ما أطلعكم الله عليه، فالذي لم يطلعكم عليه أعظم، وكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يطلع عليه، أفاده النووي في شرحه على مسلم (17/166) . (4) رواه مسلم في صحيحه في كتاب الجنة وصفة نعيم أهلها: (2/2174) ، ورقم الحديث: 2824. (1/148) " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قرأ هذه الآية: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون) [السجدة: 16-17] (1) . __________ (1) رواه مسلم، حديث رقم: 2824. (1/149) المبحث الثاني: أبواب الجنة للجنة أبواب يدخل منها المؤمنون كما يدخل منها الملائكة (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) [ص: 50] ، (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) [الرعد: 23] ، وأخبرنا الحق تبارك وتعالى أن هذه الأبواب تفتح عندما يصل المؤمنون إليها، وتستقبلهم الملائكة محيية بسلامة الوصول: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) [الزمر: 73] . وأخبرنا رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن أبواب الجنة تفتح في كل عام في رمضان، فعن أبي هريرة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ". (1) وعدد أبواب الجنة ثمانية، وأحد هذه الأبواب يسمى الريّان وهو خاص بالصائمين ففي الصحيحين عن سهل بن سعد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل غيرهم". (2) وهناك باب للمكثرين من الصلاة، وباب للمتصدقين، وباب للمجاهدين، بالإضافة إلى باب الصائمين المسمى بالريّان، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أنفق زوجين في سبيل الله من ماله، دُعي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل __________ (1) صحيح البخاري: 1898. وصحيح مسلم: 1079. (2) النهاية لابن كثير (2/214) . (1/150) الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ". فقال أبو بكر: والله ما على أحد من ضرر دعي من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم". (1) وسؤال أبي بكر يريد به شخصاً اجتمعت فيه خصال الخير، من صلاة، وصيام، وصدقة وجهاد ونحو ذلك، بحيث يدعي من جميع تلك الأبواب، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ينفق زوجين في سبيل الله يدعى من أبواب الجنة الثمانية، وأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يرفع بصره إلى السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله تفتح له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء. فقد روى مسلم في صحيحه، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ (أبو يسبغ) الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء ". (2) وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن خص الذين لا حساب عليهم بباب خاص بهم دون غيرهم وهو باب الجنة الأيمن، وبقيتهم يشاركون بقية الأمم في الأبواب الأخرى، ففي الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة في حديث الشفاعة " فيقول الله: __________ (1) النهاية لابن كثير: (2/214) . (2) صحيح مسلم: 234. (1/151) يا محمد: أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخرى " ثم بين في هذا الحديث سعة أبواب الجنة، وأن ما بين جانبي الباب كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى، ففي الحديث السابق المتفق عليه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفس محمد بيده: إن بين المصراعين من مصاريع الجنة، أو ما بين عضادتي الباب، كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى ". (1) وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أبواب الجنة تفتح في رمضان، ففي الصحيحين ومسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وفي رواية: " فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار ". (2) وورد في بعض الأحاديث أن ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، فقد روى أحمد في "مسنده" وأبو نعيم في " الحلية" عن حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم، وإنه لكظيظ " وإسناده صحيح. ورواه مسلم وأحمد عن عتبة بن غزوان قال: " لقد ذكر لنا أن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين نسة، وليأتين عليه يوم، وإنه لكظيظ من الزحام ". __________ (1) النهاية لابن كثير: (2/221) . (2) مشكاة المصابيح: (1/612) . (1/152) ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبد الله بن سلام: " إن ما بين المصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة، يزاحم عليه كازدحام الإبل وردت لخمس ظما ". (1) __________ (1) هذا التحقيق أخذناه بشيء من الاختصار من سلسلة الأحاديث الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألباني: (4/273) ، ورقم الحديث: 1698. (1/153) المبحث الثالث: درجات الجنة المطلب الأول: الأدلة على أن الجنة درجات، وأهلها متفاوتون في الرفعة الجنة درجات بعضها فوق بعض، وأهلها متفاضلون فيها بحسب منازلهم فيها، قال الله تعالى: (ومن يأتيه مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى) [طه: 75] . ومن الذين وضحوا هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: " والجنة درجات متفاضلة تفاضلاً عظيماً، وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم. قال تبارك وتعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً * انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً) [الإسراء: 18-21] . فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة من عطائه، وأن عطاءه ما كان محظوراً من بر ولا فاجر، ثم قال تعالى: (انظر كيف فضلنا (1/154) بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) [الإسراء: 21] . فبين الله سبحانه أن أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناس في الدنيا وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا. وتفاضل أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين. فقال تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) [البقرة: 253] ، وقال تعالى: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً) [الإسراء: 55] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان ". وفي الصحيحين عن أبي هريرة وعمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ". وقد قال الله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الدين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى) [الحديد: 10] وقال تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً* درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفوراً رحيماً) [النساء: 95-96] . وقال (1/155) تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم) [التوبة: 19-22] وقال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) [الزمر: 9] ، وقال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير) [المجادلة: 11] ". (1) وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، جاهد في سبيل، أو جلس في أرضه التي ولد فيها، فقالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفروس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، أراه قال: وفوقه عرش الرحمن – ومنه تفجر أنهار الجنة ". (2) وثبت في الصحيح أيضاً عن أنس أن أم حارثة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد هلك حارثة يوم بدر، أصابه سهم غرب، فقالت: يا رسول الله، قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا سوف ترى __________ (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: (11/188) . (2) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله: فتح الباري: (6/11) . (1/156) ما أصنع، فقال لها: " أجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى ". (1) وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة متفاضلون في الجنة بحسب منازلهم فيها، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر (2) في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ". (3) وفي مسند أحمد وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة وصحي ابن حبان عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أهل الدرجات العلى يراهم من هو أسفل منهم كما ترون الكوكب الطالع في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ". (4) قال القرطبي: " اعلم أن هذه الغرف مختلفة في العلو والصفة بحسب اختلاف أصحابها في الأعمال، فبعضها أعلى من بعض وأرفع.. وقوله " والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " ولم يذكر عملاً، ولا شيئاً سوى الإيمان والتصديق للمرسلين، ذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ لتصديق المرسلين من غير سؤال آية ولا تلجلج، وإلا فكيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة، ولو كان كذلك كان جميع الموحدين في أعالي الغرفات، وأرفع الدرجات، وهذا محال، وقد قال الله تعالى: __________ (1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/418) . (2) الغابر: الذاهب أو الباقي، فإنّ غبر من الأضداد، يقال: غبر إذا ذهب، وغبر إذا بقي، ويعني به أن الكوكب حالة طلوعه وغروبه بعيد عن الأبصار فيظهر صغيراً لبعده. (3) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (6/220) وصحيح مسلم، كتاب الجنة، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، (4/2177) ، ورقمه: 2831. (4) صحيح الجامع الصغير، (2/187) ، ورقمه: 2026. (1/157) (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) [الفرقان: 75] ، والصبر بذل النفس والثبات له وقوفاً بين يديه بالقلوب عبودية وهذه صفة المقربين. وقال في آية أخرى: (ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون) [سبأ: 37] ، فذكر شأن الغرفة، وأنها لا تنال بالأموال والأولاد، وإنما تنال بالإيمان والعمل الصالح، ثم بين أن لهم جزاء الضعف، وأن محلهم الغرفات، يعلمك أن هذا إيمان طمأنينة وتعلق قلب به، مطمئناً به في كل ما نابه، وبجميع أموره وأحكامه، فإذا عمل عملاً صالحاً، فلا يخلطه بضده، وهو الفاسد، فلا يكون العمل الصالح الذ ي لا يشوبه فساد إلا مع إيمان بالغ مطمئن صاحبه بمن آمن وبجميع أموره وأحكامه، والمخلط ليس إيمانه وعمله هكذا، فلهذا كانت منزلته دون غيره". (1) وأهل الدرجات العاليات يكونون في نعيم أرقى من الذين دونهم، فقد ذكر الله أنه أعد للذين يخافونه جنتين (ولمن خاف مقام ربه جنتان) [الرحمن: 46] ، ووصفهما، ثم قال: (ومن دونهما جنتان) [الرحمن: 62] ، أي دون تلك الجنتين في المقام والمرتبة، من تأمل صفات الجنتين اللتين ذكرهما الله آخراً علم أنهما دون الأوليين في الفضل، فالأوليان للمقربين، والأخريان لأصحاب اليمين، كما قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري. (2) قال القرطبي: " لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين: (فيهما عينان تجريان) [الرحمن: 50] ، وقال في الأخريين: (فيهما عينان __________ (1) التذكرة للقرطبي: 64 (2) التذكرة للقرطبي: 40 (1/158) نضاختان) [الرحمن: 66] ، أي فوارتان بالماء، ولكنهما ليستا كالجاريتين، لأن النضخ دون الجري، وقال في الأوليين: (فيهما من كل فاكهة زوجان) [الرحمن: 52] ، معروف وغريب، رطب ويابس، فعم ولم يخص، وفي الأخريين: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) [الرحمن: 68] ، ولم يقل من كل فاكهة زوجان، وقال في الأوليين: (متكئين على فرش بطائنها من استبرق) [الرحمن: 54] ، وهو الديباج، وفي الأخريين: (متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) [الرحمن: 76] ، والعبقري الوشي، ولا شك أن الديباج أعلى من الوشي، والرفرف كسر الخبا، ولا شك أن الفرش المعدة للاتكاء عليها أفضل من الخبا. وقال في الأوليين في صفة الحور العين: (كأنهن الياقوت والمرجان) [الرحمن: 58] ، وفي الأخريين: (فيهن خيرات حسان) [الرحمن: 70] ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان، وقال في الأوليين: (ذواتا أفنان) [الرحمن: 48] ، وفي الأخيرتين: (مدهامتان) [الرحمن: 64] ، أي خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، ووصف الأوليين بكثرة الأغصان، والآخرتين بالخضرة وحدها". (1) وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " جنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما __________ (1) التذكرة للقرطبي: 40 (1/159) وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " (1) ، وفي رواية الترمذي: " إن في الجنة جنتين من فضة.. "وذكر الحديث (2) . وذكر الحق تبارك وتعالى أن الأبرار يشربون كأساً ممزوجة بالكافور: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) [الإنسان: 5] ، وقال في موضع آخر: (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) [الإنسان: 17] ، ويبدو أن هذا – والعلم عند الله – لأهل اليمين، وقال في موضع آخر: (ومزاجه من تسنيم * عينا يشرب بها المقربون) [المطففين: 28-28] ، فأهل اليمين يشربون شراباً ممزوجاً من تسنيم، وهي عين في الجنة، والمقربون يشربون من تسنيم صرفاً غير ممزوج. المطلب الثاني: أعلى أهل الجنة وأدناهم منزلة روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم – قال: " سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة. فيقول: أي رب كيف؟ وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله، ومثله، __________ (1) جامع الأصول: (10/498) ، ورقمه: 8029. (2) المصدر السابق. (1/160) ومثله، ومثله. فقال في الخامسة: رضيت، رب. فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذت عينك. فيقول: رضيت رب. قال: رب. فأعلاهم منزلة؟ قال: " أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر " قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) [السجدة: 17] ". (1) المطلب الثالث: المنزلة العليا في الجنة أعلى منزلة في الجنة ينالها شخص واحد تسمى الوسيلة، وسينالها- إن شاء الله – النبي المصطفى المختار خيرة الله من خلقه نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن كثير النهاية: " ذكر أعلى منزلة في الجنة وهي الوسيلة، فيها مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محمودا الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة ". (2) وساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند مسلم في صحيحه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ فإن من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة، فإن من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ". (3) __________ (1) صحيح مسلم: 189. (2) صحيح البخاري: 614. (3) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها: (1/176) ورقمه: 189. (1/161) وقد سأل الصحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - قائلين: " وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون هو " رواه أحمد عن أبي هريرة، وفي المسند عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة ". (1) المطلب الرابع: الذين ينزلون الدرجات العاليات من الذين يحلون الدرجات العاليات في الجنة الشهداء، وأفضلهم الذين يقاتلون في الصفوف الأولى لا يلتفون حتى يقتلوا، ففي مسند أحمد ومعجم الطبراني عن نعيم بن همار (2) بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول، فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربهم، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه ". (3) والساعي على الأرملة والمسكين له منزلة المجاهد في سبيل الله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله – وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر ". (4) __________ (1) انظر هذه الأحاديث في (النهاية) لابن كثير: (2/2332) . (2) قال ابن حجر في (تقريب التهذيب) : (نعيم بن همّار، بتشديد الميم، أو هبار، أو خمّار، بالمعجمة أوالمهملة، الغطفاني، صحابي، ورجح الأكثر أن اسم أبيه همار. (3) مسند أحمد: (5/287) . صحيح الجامع الصغير: (1/363) ، ورقمه: 1118. (4) صحيح مسلم، كتاب الزهد. باب الإحسان إلى الأرملة والمسكين واليتيم: (2/2286) ، ورقم الحديث: 2982. (1/162) ومنزلة كافل اليتيم قريبة من منزلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين في الجنة " وأشار مالك بالسبابة والوسطى. (1) ويرفع الله درجة الآباء ببركة دعاء الأبناء، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنَّى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك". قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولكن له شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ". (2) __________ (1) المصدر السابق، وقوله: (له أو لغيره) أي سواء أكفله من ماله، أو من اليتيم بولاية شرعية. (2) النهاية لابن كثير: (2/340) . (1/163) المبحث الرابع: تربة الجنة ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك عن أبي ذر في حديث المعراج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ". وفي صحيح مسلم ومسند أحمد عن أبي سعيد أن ابن صياد سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن تربة الجنة، فقال: " هي درمكة (1) بيضاء مسك خالص " وفي مسند أحمد عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليهود: " إني سائلهم عن تربة الجنة، وهي درمكة بيضاء، فسألهم، فقالوا: هي خبزة يا أبا القاسم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الخبز من الدرمك ". (2) وروى أحمد والترمذي والدارمي عن أبي هريرة، قال: قلت: يا رسول الله، مم خلق الخلق؟ قال: ٍ" من ماء". قلنا: الجنة ما بناؤها؟ قال: " لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأظفر، وحصباؤها الدر والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم، ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا يبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم ". (3) __________ (1) الدرمكة: واحدة الدرمك، وهو الدقيق الحواري الخالص البياض. (2) انظر هذه الأحاديث في النهاية لابن كثير: (2/242) . (3) مشكاة المصابيح: (3/89) ، ورقمة: 5630، وقال محقق المشكاة: وله طرق وشواهد، وأورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة. (1/164) المبحث الخامس: أنهار الجنة أخبرنا الله تبارك وتعالى بأن الجنة تجري من تحتها الأنهار، (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) [البقرة: 25] وأحيانا يقول: تجري تحتهم الأنهار: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار) [الكهف: 31] . وقد حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أنهار الجنة حديثا واضحاً بينا، ففي إسرائه صلوات الله وسلامه عليه: " رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها (1) نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ قال: ٍأما النهران الباطنان: فنهران في الجنة وأما الظاهران: فالنيل والفرات ". (2) وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رفعت لي السدرة، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل والفرات، وأما الباطنان: فنهران في الجنة". (3) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة ". (4) __________ (1) الضمير عائد إلى سدرة المنتهى، كما دل على ذلك سياق بعض الأحاديث. (2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء (1/150) ، ورقم الحديث: 164. (3) جامع الأصول: (10/507) ، وقال المحقق: رواه البخاري تعليقا في الأشربة، قال الحافظ في الفتح: وصله أبو عوانة والإسماعيلي والطبراني في (الصغير) من طريقه. (4) صحيح مسلم، كتاب الجنة، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة، (4/2183) ، ورقم الحديث 2839 وعزاه الشيخ ناصر في سلسلة الأحاديث الصحيحة: (1/6) إلى مسلم وأحمد والآجري والخطيب. (1/165) " ولعل المراد من كون هذه الأنهار من الجنة أن أصلها منها كما أن أصل الإنسان من الجنة، فلا ينافي الحديث ما هو معلوم مشاهد من أن هذه الأنهار تنبع من منابعها المعروفة في الأرض، فإذا لم يكن هذا هو المعنى أو ما يشبهه، فالحديث من أمور الغيب التي يجب الإيمان بها، والتسليم للمخبر عنها ". (1) وقال القاري: " إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنة، لما فيها من العذوبة والهضم، ولتضمنها البركة الإلهية، وتشرفها بورود الأنبياء إليها وشربهم منها ". (2) ومن أنهار الجنة الكوثر الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنا أعطيناك الكوثر) [الكوثر: 1] ، وقد رآه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحدثنا عنه، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينما أنا أسير في الجنة، إذ أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طيبه- أو طينه – مسك أذفر" شك هُدْبة. (3) وقد فسر ابن عباس الكوثر بالخير الكثير الذي أعطاه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو بشر لسعيد بن جبير راوي هذا التفسير عن ابن عباس: إن أناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه. (4) وقد جمع الحافظ بن كثير الأحاديث التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها عن __________ (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/18) . (2) نقله عن الشيخ ناصر في تعليقه على مشكاة المصابيح: (3/80) . (3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، فتح الباري: (11/464) ، وهدبة أحد رواة الحديث. (4) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، فتح الباري: (11/463) . (1/166) الكوثر، فمن هذه الأحاديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت عليه (إنا أعطيناك الكوثر) [الكوثر: 1] قال: " أتدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هو نهر وعدنيه الله عز وجل، عليه خير كثير". وساق حديث أنس عند أحمد في مسنده عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت الكوثر، فإذا نهر يجري على ظهر الأرض، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفاً، فضربت بيدي إلى تربته، فإذا تربته مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ ". وفي رواية أخرى في المسند عن أنس يرفعه: " هو نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، ترده طيور أعناقها مثل أعناق الجزور". وقد ساق الحافظ ابن كثير روايات أخرى كثيرة في الموضوع فارجع إليه إن شئت المزيد. (1) وأنهار الجنة ليست ماء فحسب، بل منها الماء، ومنها اللبن، ومنها الخمر، ومنها العسل المصفى. قال تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) [محمد: 15] . __________ (1) النهاية لابن كثير: (2/246) . (1/167) وفي سنن الترمذي بإسناد صحيح عن حكيم بن معاوية (وهو جد بهز بن حكيم) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة بحر العسل، وبحر الخمر، وبحر اللبن، وبحر الماء، ثم تنشق الأنهار بعد ". (1) فأنهار الجنة تنشق من تلك البحار التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نهر يسمى بارق يكون على باب الجنة، ويكون الشهداء في البرزخ عند هذا النهر، ففي مسند أحمد، ومعجم الطبراني، ومستدرك الحاكم عن ابن عباس بإسناد حسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً ". (2) __________ (1) جامع الأصول: (10/507) ، وقال المحقق: رواه الترمذي في صفة أنهار الجنة، ورواه أيضاً الدارمي، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو كما قال. (2) صحيح الجامع الصغير: (3/235) ، ورقمه: 3636. (1/168) المبحث السادس: عيون الجنة في الجنة عيون كثيرة مختلفة الطعوم والمشارب (إن المتقين في جنات وعيون) [الحجر: 45] ، (إن المتقين في ظلال وعيون) [المرسلات: 41] ، وقال في وصف الجنتين اللتين أعدهما لمن خاف ربه (فيهما عينان تجريان) [الرحمن: 50] . وقال في وصف الجنتين اللتين دونهما (فيهما عينان نضاختان) [الرحمن: 66] . وفي الجنة عينان يشرب المقربون ماءها صرفاً غير مخلوط، ويشرب منهما الأبرار الشراب مخلوطاً ممزوجاً بغيره. العين الأولى: عين الكافور قال تعالى: (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً* عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) [الإنسان: 5-6] . فقد أخبر أن الأبرار يشربون شرابهم ممزوجاً من عين الكافور، بينما عباد الله يشربونها خالصاً. العين الثانية: عين التسنيم، قال تعالىٍ: (إن الأبرار لفي نعيم* على الأرائك ينظرون * تعرف في وجوههم نضرة النعيم * يسقون من رحيق (1/169) مختوم * ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون * ومزاجه من تسنيم* عيناً يشرب بها المقربون) [المطففين: 22-28] . ومن عيون الجنة عين تسمى السلسبيل، قال تعالى: (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً * عيناً فيها تسمى سلسبيلاً) [الإنسان: 17-18] . ولعل هذه هي العين الأولى نفسها. (1/170) المبحث السابع: قصور الجنة وخيامها يبني الله لأهل الجنة في الجنة مساكن طيبة حسنة كما قال تعالى: (ومساكن طيبة في جنات عدن) [التوبة: 72] . وقد سمى الله في مواضع من كتابه هذه المساكن بالغرفات، قال تعالى: (وهم في الغرفات آمنون) [سبأ: 37] ، وقال في جزاء عباد الرحمن: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما) [الفرقان: 75] ، وقال تعالى واصفاً هذه الغرفات: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد) [الزمر: 20] . قال ابن كثير: " أخبر عز وجل عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة وهي القصور أي الشاهقة، (من فوقها غرف مبنية) [الزمر: 20] ، طباق فوق طباق مبنيات محكمات مزخرفات عاليات. وقد وصف لنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه القصور، ففي الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن أبي مالك الأشعري والترمذي عن عليٍّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام ". (1) __________ (1) صحيح الجامع الصغير: (2/220) ، ورقمه: 2119. (1/171) وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن في الجنة خياماً، قال تعالى: (حور مقصورات في الخيام) [الرحمن: 72] . وهذه الخيام خيام عجيبة، فهي من لؤلؤ، بل هي من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها في السماء ستون ميلاً، وفي بعض الروايات عرضها ستون ميلاً ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن قيس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ثلاثون ميلاً، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون"، قال أبو عبد الصمد والحارث عن أبي عمران: "ستون ميلاً ". (1) ورواه مسلم عن عبد الله بن قيس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً ٍ، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضاً ". وفي رواية عند مسلم: " في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل، ما يرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمن". (2) وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن صفات قصور بعض أزواجه وبعض أصحابه، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معا إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب". (3) __________ (1) صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة الجنة، فتح الباري: (6/318) . (2) رواه مسلم كتاب الجنة، باب في صفة خيام الجنة: (4/2182) ورقمه: 2838. (3) مشكاة المصابيح: (3/266) . (1/172) وفي صحيح البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك "، فقال عمر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله: أعليك أغار؟ ". (1) وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالطريق الذي يحصل به المؤمن على مزيد من البيوت في الجنة، فالذي يبني لله مسجداً يبني الله له بيتاً في الجنة، ففي مسند أحمد عن ابن عباس بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من بنى لله مسجداً، ولو كمفحص قطاة لبيضها بنى الله له بيتاً في الجنة ". (2) وفي مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي وسنن ابن ماجة عن عثمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بنى مسجداً، يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة ". (3) وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة عن أم حبيبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشرة ركعة تطوعاً، بنى الله له بيتاً في الجنة ". (4) __________ (1) مشكاة المصابيح: (3/226) . (2) صحيح الجامع الصغير: (5/265) ، ورقم الحديث: 6005. (3) صحيح الجامع: (5/316) ، ورقمه 6234. (4) صحيح الجامع: (5/316) ، ورقمه: 6234. (1/173) المبحث الثامن: نور الجنة قال القرطبي: " قال العلماء: ليس في الجنة ليل ونهار، وإنما هم في نور دائم أبداً، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ذكره أبو الفرج بن الجوزي. (1) قال ابن كثير في تفسير قوله تعالىولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا * تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً ( [مريم: 62-63] : " أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات، لا أن هناك ليلاً ونهاراً، ولكنهم في ٍأوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ". (2) ويقول ابن تيمية في هذا الموضوع: " والجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قِبل العرش ". (3) __________ (1) التذكرة للقرطبي: 04 (2) تفسير ابن كثير: (4/471) . (3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: ٍ (4/312) . (1/174) المبحث التاسع: ريح الجنة للجنة رائحة عبقية زكية تملأ جنباتها، وهذه الرائحة يجدها المؤمنون من مسافات شاسعة، ففي مسند أحمد وسنن النسائي وابن ماجة ومستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً ". (1) وفي صحيح البخاري ومسند أحمد، وسنن النسائي، وسنن ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً ". (2) __________ (1) صحيح الجامع الصغير: (5/335) ، ورقم الحديث: 6324. (2) صحيح الجامع: (5/337) ، ورقم الحديث: 6333. وهو في صحيح البخاري برقم: 3166. (1/175) المبحث العاشر: أشجار الجنة وثمارها المطلب الأول: أشجارها وثمارها كثيرة متنوعة دائمة أشجار الجنة كثيرة طيبة متنوعة، وقد أخبرنا الحق أن في الجنة أشجار العنب والنخل والرمان، كما فيها أشجار السدر والطلح، (إن للمتقين مفازاً * حدائق وأعناباً) [النبأ: 31-32] ، (فيها فاكهة ونخل ورمان) [الرحمن ٍ: 68] ، (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين* في سدر مخضود *وطلح منضود * وظل ممدود * وماء مسكوب * وفاكهة كثيرة) [الواقعة: 27-32] ، والسدر هو شجر النبق الشائك، ولكنه في الجنة مخضود شوكه، أي منزوع. والطلح: شجر من شجر الحجاز من نوع العضاه فيه شوك، ولكنه في الجنة منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة. وهذا الذي ذكره القرآن من أشجار الجنان شيء قليل مما تحويه تلك الجنان، ولذا قال الحق: (فيهما من كل فاكهة زوجان) [الرحمن: 52] ، ولكثرتها فإن أهلها يدعون منها بما يريدون، ويتخيرون منها ما يشتهون (يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب) [ص: 51] ، (وفاكهة مما يتخيرون) [الواقعة: 20] ، (إن المتقين في ظلال (1/176) وعيون* وفواكه مما يشتهون) [المرسلات: 41-42] ، وبالجملة فإن في الجنة من أنواع الثمار والنعيم كل ما تشتهيه النفوس وتلذه العيون (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) [الزخرف: 71] . وقال ابن كثير كلاماً لطيفاً دلل فيه على عظيم ثمار الجنة، إذ استنتج أن الله نبه بالقليل على الكثير، والهين على العظيم عندما ذكر السدر والطلح، قال: " وإذا كان السدر الذي في الدنيا لا يثمر إلا ثمرة ضعيفة وهو النبق، وشوكه كثير، والطلح الذي لا يراد منه في الدنيا إلا الظل، يكونان في الجنة في غاية من كثرة الثمار وحسنها، حتى إن الثمرة الواحدة منها تتفتق عن سبعين نوعاً من الطعوم، والألوان، التي يشبه بعضها بعضاً، فما ظنك بثمار الأشجار، التي تكون في الدنيا حسنة الثمار، كالتفاح، والنخل، والعنب، وغير ذلك؟ وما ظنك بأنواع الرياحين، والأزاهير؟ وبالجملة فإن فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله منها من فضله ". (1) وأشجار الجنة دائمة العطاء، فهي ليست كأشجار الدنيا تعطي في وقت دون وقت، وفصل دون فصل، بل هي دائمة الإثمار والظلال (مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها) [الرعد: 35] (وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة) [الواقعة: 32-33] . أي دائمة مستمرة، وهي مع دوامها لا يمنع عنها أهل الجنة. ومن لطائف ما يجده أهل الجنة عندما تأتيهم ثمارها أنهم يجدونها تتشابه في __________ (1) النهاية لابن كثير: (2/262) . (1/177) المظهر، ولكنها تختلف في المخبر، (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا به من قبل وأتوا به متشابهاً) [البقرة: 25] . وأشجار الجنة ذات فروع وأغصان باسقة نامية (ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * ذواتا أفنان) [الرحمن: 46-48] ، وهي شديدة الخضرة: (ومن دونهما جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان* مدهامتان) [الرحمن: 62-64] ، ولا توصف الجنة بأنها مدهامة إلا إذا كانت أشجارها مائلة إلى السواد من شدة خضرتها، واشتباك أشجارها. أما ثمار تلك الأشجار فإنها قريبة دانية مذللة ينالها أهل الجنة بيسر وسهولة، (متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنى الجنتين دان) [الرحمن: 54] ، (وذللت قطوفها تذليلاً) [الإنسان: 14] . أما ظلها فكما قال تعالى: (وندخلهم ظلاً ظليلاً) [النساء: 57] ، و (وظل ممدود) [الواقعة: 30] ، (إن المتقين في ظلال وعيون) [المرسلات: 41] . (1/178) المطلب الثاني: وصف بعض شجر الجنة حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض شجر الجنة حديثاً عجباً ينبيك عن خلق بديع هائل يسبح الخيال في تقديره والتعرف عليه طويلاً، ونحن نسوق لك بعض ما حدثنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - به. 1- الشجرة التي يسير الراكب في ظلها مائة عام: هذه شجرة هائلة لا يقدر قدرها إلا الذي خلقها، وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظم هذه الشجرة بأن أخبر أن الراكب لفرس من الخيل التي تعد للسباق يحتاج إلى مائة عام حتى يقطعها إذا سار بأقصى ما يمكنه، ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: " إن في الجنة لشجرة (1) يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها ". (2) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة، واقرؤوا إن شئتم: (وظل ممدود) [الواقعة: 30] ". (3) ورواه مسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها ". (4) __________ (1) في صحيح مسلم: شجرة. (2) رواه البخاري في كتاب الرقاق، باب صفة الجنة، فتح الباري: (11/416) ، ورواه مسلم في كتاب الجنة باب إن في الجنة شجرة: (2/2176) ، ورقم الحديث: 2828. (3) رواه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباري: (6/319) . (4) رواه مسلم في كتاب الجنة، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام (2/2175) ، ورقم الحديث: 2826، 2827. (1/179) 2- سدرة المنتهى: وهذه الشجرة ذكرها الحق في محكم التنزيل، وأخبر الحق أن رسولنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها عندها، وأن هذه الشجرة عند جنة المأوى، كما أعلمنا أنه قد غشيها ما غشيها مما لا يعلمه إلا الله عندما رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (ولقد رآها نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وما طغى) [النجم: 13-17] . وقد أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الشجرة بشيء مما رآه " ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة. قال: (أي جبريل) هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ". رواه البخاري ومسلم. (1) وفي الصحيحين أيضاً: " ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ونبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، تكاد الورقة تغطي هذه الأمة، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك ". (2) 3- شجرة طوبى: وهذه شجرة عظيمة كبيرة تصنع ثياب أهل الجنة، ففي مسند أحمد، وتفسير ابن جرير، وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - __________ (1) صحيح الجامع الصغير: (3/18) ، ورقمة: 2861، وعزاه إلى البخاري ومسلم وأحمد والترمذي. (2) صحيح الجامع الصغير: (4/82) ، وعزاه إلى البخاري ومسلم ورقمه: 4075. (1/180) قال: " طوبى شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ". (1) وقد دل على أن ثياب أهل الجنة تشقق عنها ثمار الجنة – الحديث الذي يرويه أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب أهل الجنة خلقاً تخلق، أمن نسجاً تنسج؟ فضحك بعض القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ومم تضحكون، من جاهل سأل عالماً؟ ثم أكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: أين السائل؟ قال: هو ذا أنا يا رسول الله، قال: " لا بل تشقق عنها ثمر الجنة، ثلاث مرات ". (2) المطلب الثالث: سيد ريحان الجنة أخبرنا الله أن في الجنة ريحاناً (فأما إن كان من المقربين* فروح وريحان وجنة نعيم) [الواقعة: 88-89] ، وأخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيد ريحان أهل الجنة الحناء، ففي معجم الطبراني الكبير بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيد ريحان الجنة الحناء ". (3) __________ (1) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (4/639) ، ورقم الحديث: 1985، والحديث إسناده حسن. (2) المصدر السابق: (4/640) . (3) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/407) ، ورقمه: 1420. (1/181) المطلب الرابع: سيقان أشجار الجنة من ذهب ومن عجب ما أخبرنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن سيقان أشجار الجنة من ذهب، ففي سنن الترمذي، وصحيح ابن حبان، سنن البيهقي، بإسناد صحيح، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب ". (1) المطلب الخامس: كيف يكثر المؤمن حظه من أشجار الجنة؟ طلب خليل الرحمن أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام من نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ليلة الإسراء أن يبلغ أمته السلام وأن يخبرهم بالطريقة التي يستطيعون بها تكثير حظهم من أشجار الجنة، فقد روى الترمذي بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك أن الجنة أرض طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ". (2) __________ (1) صحيح الجامع الصغير: (5/150) ، قال ابن كثير في النهاية: (2/254) ، رواه الترمذي: وقال: حسن صحيح. (2) صحيح الجامع الصغير: (5/34) ، ورقم الحديث: 5028. (1/182) المبحث الحادي عشر: دواب الجنة وطورها في الجنة من الطيور والدواب مالا يعلمه إلا الله تعالى، قال تعالى فيما يناله أهل الجنة من النعيم (ولحم طير مما يشتهون * وحور عين) [الواقعة: 21-22] ، وفي سنن الترمذي عن أنس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكوثر؟ قال: "ذاك نهر أعطانيه الله - يعني في الجنة - أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر (1) ". قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أكلتها أنعم منها ". (2) وأخرج أبو نعيم في الحلية، والحاكم في مستدركه عن ابن مسعود قال: "جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: يا رسول الله هذه الناقة في سبيل الله. فقال: " لك بها سبعمائة ناقة مخطومة (3) في الجنة ". وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، ووافقهما الشيخ ناصر الدين الألباني (4) . ورواه مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة ". رواه مسلم (5) . __________ (1) الجزر: الجمال. (2) مشكاة المصابيح: (2/91) ، قال المحقق: رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، قلت (الشيخ ناصر) : سنده حسن. (3) مخطومة: فيها خطام وهو قريب من الزمام. (4) سلسلة الأحاديث الصحيحة: (2/228) ، ورقم الحديث: 634. (5) صحيح مسلم: 1892.
__________________ ------------------------------------------------------------- سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله |
#3
| ||
| ||
السلام عليكم يعطيك الف عافيه موضوع رائع جدا ومعلومات لم اكن اعرفها شكرت علي الموضوع
__________________ |
#4
| ||
| ||
الفصل الرابع: النار خالدة لا تبيد النار خالدة لا تفنى ولا تبيد، كما قال الطحاوي في عقيدته: " والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان ولا تبيدان " (1) ، ونقل ابن حزم اتفاق الأمة على ذلك، فقد جاء في كتابه " الملل والنحل " قوله: " اتفقت فرق الأمة كلها على أن لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان ". (2) وجاء في كتابه " مراتب الإجماع" قوله: " ... وأن النار حق، وأنها دار عذاب لا تفنى، ولا يفنى أهلها بلا نهاية " (3) . والنصوص الدالة على خلود النار كثيرة، وحسبك أن الله سماها " دار الخلد ". هذا مذهب أهل السنة والجماعة أن النار خالدة لا تبيد، وأهلها فيها خالدون، ولا يخرج منها إلا عصاة الموحدين، أما الكفرة والمشركون فهم فيها خالدون. __________ (1) شرح الطحاوية: ص 476. (2) الملل والنحل: لابن حزم: (4/83) . (3) مراتب الإجماع: 173. (1/41) القائلون بفناء النار والمخالفون لمذهب أهل الحق في هذه المسألة سبع فرق: 1- الجهمية: القائلون بفناء النار وفناء الجنة أيضاً، وقد حكى الإمام أحمد في آخر كتاب " الرد على الزنادقة " مذهب الجهمية بأن النار والجنة تفنيان، ورد عليهم ذاكراً النصوص الدالة على عدم فنائهما. 2- الخوارج والمعتزلة: يقولون بخلود كل من يدخل النار، ولو كانوا من أهل التوحيد، وسر هذا القول أن الخوارج يكفرون المسلمين بالذنوب، فكل من ارتكب ذنباً، فإنه كافر خالد مخلد في نار جهنم، والمعتزلة يرون أن من ارتكب ذنباً في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا كافر، ويجرون عليه أحكام الإسلام في الدنيا، ولكنه في الآخرة مخلد في نار جهنم، وقد سقنا كثيراً من النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يخرجون من النار. 3- اليهود: الذين يزعمون أنهم يعذبون في النار وقتاً محدوداً، ثم يخلفهم غيرهم فيها، وقد أكذبهم الله في زعمهم، ورد عليهم مقالتهم (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 80 - 81] . (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون*ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) [آل عمران: 23 - 24] . (1/42) ونقل ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس أنه قال في تفسير آية البقرة: " قال أعداء الله اليهود: لن يدخلنا الله النار إلا تحلة القسم، الأيام التي أصبنا فيها العجل: أربعين يوماُ، فإذا انقضت عنا تلك الأيام، انقطع عنا العذاب ". وذكر ابن حرير عن السدي قوله: " قالت اليهود: إن الله يدخلنا النار أربعين ليلة، حتى إذا أكلت النار خطايانا، نادى مناد: أخرجوا كل مختون من ولد بني إسرائيل، فلذلك أمرنا أن نختن، قالوا: فلا يدعون منا في النار أحداً إلا أخرجوه ". (1) وذكر أيضاً ابن عباس قال: " ذكر أن اليهود وجدوا في التوراة مكتوياً: إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهي إلى شجرة الزقوم ثابتة في أصل الجحيم، وكان ابن عباس يقول: إن الجحيم سقر، وفيها شجرة الزقوم، فزعم أعداء الله أنه خلا العدد الذي وجدوا في كتابهم أياماً معدودة ". قال ابن جرير: "وإنما يعني بذلك يعني بذلك المسير الذي ينتهي في أصل الجحيم، فقالوا: إذا خلا العدد انتهى الأجل، فلا عذاب وتذهب جهنم وتهلك، فذلك قوله: (لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) [البقرة: 80] . يعنون بذلك الأجل، فقال ابن عباس: " لما اقتحموا من باب جهنم ساروا في العذاب، حتى انتهوا إلى شجرة الزقوم آخر يوم من الأيام المعدودة، قال لهم خزان سقر: زعمتم أنكم لن تمسكم النار إلا أياماً معدودة، فقد خلا العدد، وأنتم في الأبد، فأخذ بهم في الصعود في جهنم يرهقون ". (2) __________ (1) تفسير ابن جرير: (1/381) . (2) تفسير ابن جرير: (1/381) . (1/43) 4- قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي، فإنه زعم أن أهلها يعذبون فيها مدة، ثم تنقلب طبائعهم نارية يتلذذون بالنار لموافقتها لطبائعهم، قال ابن حجر في الفتح: "وهذا قول بعض من ينسب إلى التصوف من الزنادقة ". (1) 5- قول من زعم أن أهلها يخرجون منها، وتبقى على حالها خالدة لا تبيد. 6- قول أبي هذيل العلاف من أئمة المعتزلة الذاهب إلى أن حياة أهل النار تفنى، ويصيرون جماداً لا يتحركون، ولا يحسون بألم، قال بذلك لأنه يقول بامتناع حوادث لا نهاية لها، فخالف الأدلة الصريحة القطيعة الثبوت بمقاييس عقلية باطلة. 7- قول من قال: إن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الأحاديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه. (2) والقول الأخير مال إليه البحر العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغفر له، كما ذهب تلميذه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى. وقد تتابع العلماء في التأليف لبيان خطأ هذا المذهب، يقول ابن حجر العسقلاني بعد حكايته لهذا القول: "وقد مال بعض المتأخرين إلى هذا القول، ونصره بعدة أوجه من جهة النظر، وهو مذهب رديء مردود على قائله، وقد أطنب السبكي الكبير في بيان وهائه فأجاد " (3) ، وهذا الكتاب الذي أشار إليه هو __________ (1) فتح الباري: (11/421) . (2) راجع في هذا المبحث المصادر التالية: شرح الطحاوية: 83شرح عقيدة السفاريني (2/234) ، بقظة أولي الاعتبار لصديق حسن خان:1فتح الباري: (11/421) . (3) فتح الباري: (11/422) . (1/44) "الاعتبار ببقاء الجنة والنار" لتقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي المتوفى سنة 756. وقال صديق حسن خان: "وقد ألف العلامة الشيخ مرعي الكرمي الحنبلي رسالة سماها: " توفيق الفريقين على خلود أهل الدارين "، وفي الباب رسالة للسيد الإمام محمد بن إسماعيل الأمير، ورسالة للقاضي العلامة المجتهد محمد بن علي الشوكاني، حاصلهما بقاء الجنة والنار وخلود أهلهما فيهما ". (1) وهنا أمور نحب بيانها: الأول: أن هذا القول قول باطل وإن ذهب إليه علمان من أعلام الإسلام، فقد علمنا شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم أن حب الحق ينبغي أن يكون مقدماً على حب الرجال. وأدلة بطلانه النصوص الكثيرة الدالة على خلود النار، وهي نصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وقد ذكرنا قول من نقل الإجماع على خلود النار. الثاني: أنه لا يجوز بحال من الأحوال ذم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بسبب هذه المقالة، فقد كفرهما قوم، وفسقهما قوم بسبب ذلك، وكل هذا ليس بصواب، فإنهما مجتهدان مأجوران مثابان، ولو علما الحق في خلاف قولهما لاتبعاه، ودعوى أن المخالف في مثل هذا يكفر قائله يوصل القائلين بهذا إلى تكفير أئمة هذه الأمة الذين لا يُمارى في إمامتهم، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يذهب إلى أن المسافر إذا لم يجد الماء لا يتيمم ولا يصلي، وقد اتفقت الأمة على خلاف هذا، والإمام مالك كان يرى أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست آية __________ (1) يقظة أولي الاعتبار، لصديق حسن خان: ص 42، ورسالة الصنعاني طبعها المكتب الإسلامي بييروت، وقد حققها وكتب لها مقدمة ضافية الشيخ ناصر الدين الألباني فأجاد. (1/45) من كتاب الله، وقد أجمعت الأمة على أن مابين الدفتين قرآن، وقال أقوام بعدم زيادة الإيمان ونقصانه مع كونه مثبت بالكتاب والسنة صريح فيهما، والإجماع منعقد عليه. الثالث: ينبغي أن ننبه أن لابن تيمية وابن القيم قولاً بعدم فناء النار، جاء في مجموع فتاوى شيخ الإسلام قوله في إجابة سؤال: " وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة على أن من المخلوقات ما لا يعدم ولا يفنى بالكلية كالجنة والنار والعرش وغير ذلك، ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكلام المبتدعين، كالجهم بن صفوان ومن وافقه من المعتزلة ونحوهم، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله، وسنة رسوله، وجماع سلف الأمة وأئمتها ". (1) وإذا كان الأمر كذلك، أي لهما قولان، فلا يجوز أن نجزم بأن القول بفناء النار هو قولهما ما لم يعلم أنه القول الأخير، وإذا لم يعلم القول الأخير فالأولى التوقف في نسبة أحد المذهبين إليهما. الرابع: الأدلة التي احتج بها شيخ الإسلام وابن القيم على فناء النار، بعضها غير صحيح، والصحيح منها غير صريح، بل يمكن حمله على غير فناء النار، بل على فناء النار التي يكون فيها عصاة الموحدين. وقد ناقش الصنعاني في رسالته التي يرد فيها على ابن تيمية وابن القيم هذه الأدلة، وبين عدم نهوضها على ما ذهبا إليه. وهذه الرسالة هي المسماة " برفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار ". (2) __________ (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 18/307) . (2) طبعها المكتب الإسلامي / بيروت. (1/46) ومن الذين تعرضوا لهذه المسألة القرطبي في " التذكرة "، فقد ساق النصوص الدالة على خلود الجنة والنار، والمخبرة بأن الموت يذبح بين الجنة والنار ثم يقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قال: " هذه الأحاديث مع صحتها في خلود أهل الدارين فيها، لا إلى غاية ولا إلى أمد، مقيمين على الدوام والسرمد من غير موت ولا حياة ولا راحة ولا نجاة ". (1) ورد القرطبي على الذين قالوا بفناء النار، وبين أن الذي يفنى إنما هو النار التي يدخلها عصاة الموحدين، قال: " فمن قال: إنهم يخرجون منها، وأن النار تبقى خالية بجملتها خاوية على عروشها، وأنها تفنى وتزول، فهو خارج عن مقتضى المعقول، ومخالف لما جاء به الرسول، وما أجمع عليه أهل السنة والأئمة العدول.. وإنما تخلى جهنم وهي الطبقة العلية التي فيها العصاة من أهل التوحيد، وهي التي ينبت على شفيرها الجرجير ". (2) ونقل القرطبي عن فضل بن صالح المعافري قال: " كنا عند مالك بن أنس ذات يوم، فقال لنا: انصرفوا، فلما كان العشية رجعنا إليه، فقال: إنما قلت لكم انصرفوا، لأنه جاءني رجل يستأذن علي زعم أنه قدم من الشام في مسألة فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في أكل الجرجير، فإنه يتحدث عنه أنه ينبت على شفير جهنم؟ فقلت له: لا بأس به (3) . فقال: أستودعك الله، وأقرأ عليك السلام، ذكره الخطيب أبو بكر أحمد رحمه الله، وذكر أبو بكر البزار، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: يأتي على النار زمان تخفق الرياح أبوابها، ليس فيها أحد، يعني من الموحدين، هكذا رواه __________ (1) التذكرة للقرطبي: ص 436. (2) هذا القول لا يصح فيه خبر ثابت، وكأن قائله أراد منه خمود النار التي يكون فيها عصاة الموحدين حتى ينبت النبات على حوافها. (3) هذه القصة إن كانت صحيحة فقد تكلف هذا السائل في سفره لتبين أمر هو في غاية الوضوح. (1/47) موقوفاً عن عبد الله بن عمرو، وليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع ". (1) __________ (1) التذكرة للقرطبي: ص 437. (1/48)
__________________ ------------------------------------------------------------- سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله |
#5
| ||
| ||
الفصل الخامس: أهل النيران وجرائمهم المبحث الأول: أهلها المخلدون فيها المطلب الأول: التعريف بهم أهل النار الخالدون فيها الذين لا يرحلون ولا يبيدون - هم الكفرة والمشركون. قال تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [الأعراف: 36] ، وقال: (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون) [الأنبياء: 99] ، وقال: (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون) [الزخرف: 74] ، وقال: (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من (1/49) عذابها) [فاطر: 36] . وقال: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 39] ، وقال: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين*خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) [البقرة: 160-161] . وقال: (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم) [التوبة: 63] ، وقال: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون) [التوبة: 17] . ولما كانوا خالدين فيها فقد وصف الحق عذاب النار بأنه مقيم، أي لا ينقطع، كما أضافه إلى الخلد، قال تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) [المائدة: 37] وقال: (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) [يونس: 52] . وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقوم مؤذن بينهم: يا أهل النار لا موت، ويا أهل الجنة لا موت، خلود " (1) . وروي عن أبي هريرة قال: __________ (1) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً بغير حساب، فتح الباري: (11/406) . (1/50) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار، يا أهل النار خلود لا موت ". (1) وهذا يقال بعد ذبح الموت كما في حديث ابن عمر عند البخاري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صار أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم ". (2) وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت. قال: ويقال: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم، هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح. قال: ثم قال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون) [مريم: 39] . (3) وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: " إذا كان يوم القيامة أتي بالموت كالكبش الأملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح وهم ينظرون، فلو أن أحداً مات فرحاً لمات أهل الجنة، ولو أن أحداً مات حزناً لمات أهل النار " قال: حديث حسن صحيح. (4) __________ (1) المصدر السابق. (2) صحيح البخاري، كتاب الرقاق: باب صفة الجنة والنار، فتح الباري: (11/415) . (3) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها: (4/2188) . (4) سنن الترمذي: 2558. (1/51) المطلب الثاني: النار مسكن الكفرة المشركين لما كان الكفرة المشركون خالدين في النار فإن النار تعتبر بالنسبة لهم سكناً ومأوى، كما أن الجنة مسكن المؤمنين، (ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين) [آل عمران: 151] ، (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) [يونس: 8] ، (أليس في جهنم مثوى للكافرين) [العنكبوت: 68] . وهي مأواهم تتولى أمرهم (مأواكم النار هي مولاكم) [الحديد: 15] . وهي بئس المسكن والمثوى، (فحسبه جهنم ولبئس المهاد) [البقرة: 206] ، (وإن للطاغين لشر مئاب*جهنم يصلونها فبئس المهاد) [ص: 55-56] . المطلب الثالث: الدعاة إلى النار أصحاب المبادئ الضالة، والمذاهب الباطلة المخالفون لشرع الله، الدعاة المؤمنون بباطلهم هم دعاة النار، (أولئك يدعون إلى النار) [البقرة: 221] ، (1/52) (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) [القصص: 41] ، ومن هؤلاء الشيطان (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) [لقمان: 21] ، (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) [فاطر: 6] . وهؤلاء الذين يدعون إلى النار في الدنيا يقودون أقوامهم وأتباعهم إلى النار في الآخرة، ففرعون مثلاً: (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) [هود: 98] . وكل قادة الشر الذين يدعون إلى عقائد ومبادئ مخالفة للإسلام هم دعاة إلى النار، لأن الطريق الوحيد الذي ينجي من النار ويدخل الجنة هو طريق الإيمان (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) [غافر: 41] ، كانوا يدعونه إلى فرعون وكفره وشركه، وهو يدعوهم إلى الله وتوحيده والإيمان به. ولما كان الكفار دعاة إلى النار حرم الله على المؤمنين الزواج من المشركات، كما حرم على المؤمنات الزواج من المشركين (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) [البقرة: 221] . المطلب الرابع: أعظم جرائم الخالدين في النار لقد أطال القرآن في تبيان جرائم الخالدين الذين استحقوا بها الخلود في النيران، ونحن نذكر هنا أهمها: (1/53) 1- الكفر والشرك: فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن الذين كفروا يُنادَون عندما يكونون في النار. فيقال لهم: إن مقت الله لكم أعظم من مقتكم أنفسكم بسبب كفركم بالإيمان، ثم بين أن خلودهم في النار إنما هو بسبب كفرهم وشركهم (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون*قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل*ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير) [غافر: 10] . وحدثنا الحق تبارك وتعالى أن خزنة النار يسألون الكفار عند ورودهم النار قائلين: (أولم تكُ تأتيكم رسلكم بالبينات) [غافر: 50] ، فيكون الجواب: أنهم استحقوا النار بسبب تكذيبهم المرسلين، وما جاؤوا به (قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير) [الملك: 9] . وقال في المكذبين بالكتاب: (وقد آتيناك من لدنا ذكرا*من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيها وساء لهم يوم القيامة حملا) [طه: 99-101] . وقال في المكذبين بالكتاب المشركين بالله: (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون*إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون* ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون* من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً كذلك يضل الله الكافرين* ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون* ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) [غافر: 70-76] . (1/54) وقال في الكفرة المشركين المسوين آلهتم برب العالمين (فكبكبوا فيها هم والغاوون* وجنود إبليس أجمعون* قالوا وهم فيها يختصمون*تالله إن كنا لفي ضلال مبين* إذ نسويكم برب العالمين) [الشعراء: 94-98] . وقال في حق المكذبين بيوم الدين: (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا) [الفرقان: 11] ، (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا تراباً أءنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [الرعد: 5] . وقال: (مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا*ذلك بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أءذا كنا عظاماً ورفاتاً أءنا لمبعوثون خلقاً جديدا) [الإسراء: 97-98] . 2- عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية، فقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى أن أهل الجنة يسألون أهل النار قائلين: (ما سلككم في صقر) [المدثر: 42] ، فيجيبون قائلين: (لم نك من المصلين*ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين*وكنا نكذب بيوم الدين*حتى أتانا اليقين) [المدثر: 43-47] . 3- طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصد عن دين الله ومتابعة المرسلين. قال تعالى في هؤلاء: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم (1/55) القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين*وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون* فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً ولنجزينهم أسوأ الذين كانوا يعملون* ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) [فصلت: 25-28] . وعندما يحل الكفار في النار، وتقلب وجوههم فيها يتندمون لعدم طاعتهم الله ورسوله، وطاعتهم السادة الكبراء: (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً*خالدين فيها أبداً لا يجدون وليا ولا نصيرا* يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا* وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) [الأحزاب: 64-67] . 4- النفاق: وعد الله المنافقين النار، وهو وعد قطعه على نفسه لا يخلفه: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) [التوبة: 68] ، وأخبرنا أن موقع المنافقين في النار هو دركاتها السفلى، وهي أشدها حراً، وأكثرها إيلاماً) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) [النساء: 145] . 5- الكبر: وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [الأعراف: 36] . وقد عقد مسلم في صحيحه باباً عنون له يقوله: " باب النار يدخلها الجبارون، والجنة يدخلها الضعفاء " وذكر فيه احتجاج الجنة والنار وما قالتا وما قال الله (1/56) لهما، وساق فيه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أن النار قالت: "يدخلني الجبارون والمتكبرون" وفي رواية قالت: " أوثرت بالمتكبرين والجبارين ". وقال الله لها: " أنت عذابي أعذب بك من أشاء ". (1) وفي صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي عن حارثة بن وهب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عتل جواظ مستكبر " (2) ، وفي رواية لمسلم: " كل جواظ زنيم متكبر ". (3) ومصداق هذا في كتاب الله تبارك وتعالى: (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) [الزمر: 60] ، وقوله: (فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) [الأحقاف: 20] ، وقوله: (فأما من طغى*وآثر الحياة الدنيا* فإن الجحيم هي المأوى) [النازعات: 37] . المطلب الخامس: جملة الجرائم التي تدخل النار سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما عمل أهل النار، وما عمل أهل الجنة؟ فأجاب: " عمل أهل النار: الإشراك بالله تعالى، والتكذيب __________ (1) صحيح مسلم: (4/2186) ورقم الحديث: 2846. (2) جامع الأصول: (10/547) ورقم الحديث: 8111 (3) انظر الحديث ورواياته في (صحيح مسلم) كتاب الجنة (باب النار يدخلها الجبارون) : (4/2190) ورقمه 2853، والمتل: الغليظ الجافي الذي لا يتقاد للخير، والزنيم: الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، أو هو اللثيم في أخلاق الناس، والجواظ: الذي جمع ومنع. (1/57) للرسل، والكفر، والحسد، والكذب، والخيانة، والظلم، والفواحش، والغدر، وقطيعة الرحم، والجبن عن الجهاد، والبخل، واختلاف السر والعلانية، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والجزع عند المصائب، والفخر والبطر عند النعم، وترك فرائض الله، واعتداء حدوده، وانتهاك حرماته، وخوف المخلوق دون الخالق، والعمل رياءً وسمعة، ومخالفة الكتاب والسنة، أي اعتقاداً وعملاً، وطاعة المخلوق في معصية الخالق، والتعصب للباطل، واستهزاء بآيات الله، وجحد الحق، والكتمان لما يجب إظهاره من علم وشهادة، والسحر، وعقوق الوالدين، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". (1) وقد ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - جماع الذنوب التي تدخل النار، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة له طويلة: " وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له (2) ، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلا ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع (3) ، وإن دقّ إلا خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك. وذكر البخل، والكذب، والشنظير (4) ، الفحاش ". (5) __________ (1) يقظة أولي الاعتبار، ص 222. (2) أي لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي، وقيل: هو الذي لا مال له. (3) أي لا يظهر له. (4) هو الفحاش كما هو مفسر في الحديث. (5) رواه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: (4/2197) . ورقمه: 2865. (1/58) المطلب السادس: أشخاص بأعيانهم في النار الكفار المشركون في النار لا شك في ذلك، وقد أخبرنا القرآن الكريم، كما أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أشخاصاً بأعيانهم في النار، فمن هؤلاء فرعون موسى، (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) [هود: 98] . ومنهم امرأة نوح وامرأة لوط، (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) [التحريم: 10] . ومنهم أبو لهب وامرأته (تبت يدا أبي لهب وتب*ما أغنى عنه ماله وما كسب* سيصلى ناراً ذات لهب* وامرأته حمالة الحطب* في جيدها حبل من مسد) [المسد] ومنهم عمرو بن عامر الخزاعي، فقد رآه الرسول يجر أمعاءه في النار (1) ، ومنهم الذي قتل عمار وسلبه، ففي معجم الطبراني بإسناد صحيح عن عمرو بن العاص وعن ابنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قاتل عمار وسالبه في النار ". (2) __________ (1) حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد، وقد ذكرنا نص الحديث في موضع آخر. (2) صحيح الجامع: (4/110) ورقمه: 4170. (1/59) المطلب السابع: كفرة الجن في النار كفرة الجن يدخلون النار كما يدخلها كفرة الإنس، فالجن مكلفون كالإنس (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] . وفي يوم القيامة يحشر الجن والإنس على حد سواء: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) [الأنعام: 128] ، (فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا* ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا*ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا) [مريم: 68-70] ثم يقال للكفرة منهم: (ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار) [الأعراف: 38] ، وعند ذلك يكبكبون في النار: (فكبكبوا فيها هم والغاوون*وجنود إبليس أجمعون) [الشعراء: 94-95] ، وبذلك تتم كلمة الله القاضية بملء النار من كفرة الجن والإنس (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) [هود: 119] (وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس) [فصلت: 25] . (1/60) المبحث الثاني: الذين لا يخلدون في النار المطلب الأول: التعريف بهم الذين يدخلون النار، ثم يخرجون منها هم أهل التوحيد الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن لهم ذنوب كثيرة فاقت حسناتهم، فخفت موازينهم، فهؤلاء يدخلون النار مدداً يعلمها الله تبارك وتعالى، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، ويخرج الله برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط. المطلب الثاني: الذنوب المتوعد عليها بالنار سنذكر هنا بعض الذنوب التي جاءت النصوص مخبرة أن أهلها يعذبون بسببها في النار: 1- الفرق المخالفة للسنة: روى أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم وغيرهم عن معاوية بن أبي سفيان أنه قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: " ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ". (1/61) وهذا حديث صحيح. قال فيه الحاكم بعد سياقه لأسانيده: "هذه أسانيد تقام بها الحجة في تصحيح الحديث". ووافقه الذهبي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية فيه: " هو حديث صحيح مشهور ". وصححه الشاطبي في " الاعتصام "، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الألباني طرقه وتكلم على أسانيده، وبين أنه حديث صحيح لا شك في صحته. (1) وقد ذهب صديق حسن خان إلى أن الزيادة التي في الحديث وهي " كلها هالكة إلا واحدة " ومثلها: " ثنتان وسبعون في النار " زيادة ضعيفة. ونقل تضعيف ذلك عن شيخه الشوكاني ومن قبله عن ابن الوزير ومن قبله عن ابن حزم. وقد استحسن قول من قال: " إن هذه الزيادة من دسيس الملاحدة، فإن فيها التفير عن الإسلام والتخويف من الدخول فيه ". (2) وقد رد الشيخ ناصر الدين الألباني على من ضعّف هذه الزيادة من وجهين: الأول: أن النقد العلمي الحديثي قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها. الثاني: أن الذين صححوها أكثر وأعلم من ابن حزم، لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده بالنقد، فلا ينبغي أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة، فكيف إذا خالف. وأما ابن الوزير فإنه يرد الزيادة من جهة المعنى لا من جهة الإسناد، وقد تكلم على هذا صديق حسن خان في "يقظة أولى الاعتبار" مبيناً أن مقتضى الزيادة أن الذي يدخل الجنة من هذه الأمة قليل، والنصوص الصحيحة الثابتة تدل على __________ (1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقم الحيث: (204) . (2) يقظة أولي الاعتبار: ص 206. (1/62) أن الداخلين من هذه الأمة الجنة كثير كثير، يبلغون نصف أهل الجنة. (1) والرد على هذا من عدة وجوه: الأول: ليس معنى انقسام الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة أن يكون أكثر الأمة في النار، لأن أكثر الأمة عوام لم يدخلوا في تلك الفرق، والذين افترقوا وقعّدوا وأصّلوا مخالفين السنة قليل بالنسبة للذين جانبوا ذلك كله. الثاني: ليس كل من خالف أهل السنة في مسألة من مسائل يعد من الفرق المخالفة للسنة، بل المراد بهم الذين تبنوا أصولاً تصيرهم فرقة مستقلة بنفسها، تركوا من أجلها كثيراً من نصوص الكتاب والسنة، كالخوارج والمعتزلة والرافضة. أما الذين يتبنون الكتاب والسنة ولا يحيدون عنهما، فإنهم إذا خالفوا في مسألة من المسائل لا يعدون فرقة من الفرق. الثالث: الزيادة دلت على أن الفرق في النار، ولكنها لم توجب لهم الخلود في النار. ومن المعلوم أن بعض أهل هذه الفرق كفرة خالدون في النار، كغلاة الباطنية الذين يُظِهرون الإيمان ويُبطنون الكفر كالإسماعيلية والدروز والنصيرية ونحوهم. ومنهم الذين خالفوا أهل السنة في مسائل كبيرة عظيمة، ولكنها لا تصل إلى الكفر، فهؤلاء ليس لهم وعد مطلق بدخول الجنة، ولكنهم تحت المشيئة إن شاء الله غفر لهم وإن شاء عذبهم، وقد تكون لهم أعمال صالحة عظيمة تنجيهم من __________ (1) انظر كلام الشيخ في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) حديث رقم (204) ، و (بقظة أولي الاعتبار) .07 (1/63) النار، وقد ينجون من النار بشفاعة الشافعين، وقد يدخلون النار، ويمكثون فيها ما شاء الله أن يمكثوا، ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين. 2- الممتنعون من الهجرة: لا يجوز للمسلم أن يقيم في ديار الكفر إذا وجدت ديار الإسلام خاصة إذا كان مكثه في ديار الكفر يعرضه للفتنة، ولم يقبل الله الذين تخلفوا عن الهجرة، فقد أخبرنا الحق أن الملائكة تُبَكّت هذا الصنف من الناس حال الموت، ولا تعذرهم عندما يدعون أنهم كانوا مستضعفين في الأرض (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تك أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا) [النساء: 97 - 98] ، فلم يعذر الله من هؤلاء إلا المستضعفين الذين لا يجدون حيلة للخروج، ولا يهتدون إلى الطريق الذي يوصلهم إلى ديار الإسلام. 3- الجائرون في الحكم: أنزل الله الشريعة ليقوم الناس بالقسط، وأمر الله عباده بالعدل (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) [النحل: 90] ، وفرض على الحكام والقضاة الحكم بالعدل وعدم الجور (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58] ، وقد تهدد الحق الذين لا يحكمون بالحق بالنار، فقد روى (1/64) بريدة بن الحصيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة: فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار" أخرجه أبو داود. (1) 4- الكذب على الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عقد ابن الأثير في كتابه الكبير: " جامع الأصول فصلاً ساق فيه كثيراً من الأحاديث التي تحذر من الكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنها ما رواه البخاري ومسلم والترمذي عن على بن أبي طالب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكذبوا على، فإنه من كذب علي يلج النار ". ومنها ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من تقول عليّ ما لم أقل (2) ، فليتبوأ مقعده في النار ". (3) ومنها ما رواه البخاري في صحيحه، وأبو داود في سننه عن عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ". ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي معتمداً فليتبوأ مقعده من النار ". (4) __________ (1) جامع الأصول: (10/167) ، وقال محقق الكتاب، وهو حديث صحيح. (2) تقول عليه: إذا قال عنه ما لم يقله. (3) التبوؤ: اتخاذ المنزل، لأن المباءة المنزل. (4) جامع الأصول: (10/611) ، وقد ساق روايات أخرى فارجع إليه إن أحببت الاطلاع على جميع ما ساقه. (1/65) 5- الكبر: من الذنوب الكبار الكبر، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما أدخلته النار " وفي رواية " أذقته النار " رواه مسلم. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، قال: " إن الله جميل يحب الجمال. الكبر: بطر الحق، وغمط الناس " رواه مسلم. (1) 6- قاتل النفس بغير حق: قال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما) [النساء: 93] . فلا يجوز في دين الله قتل النفس المسلمة إلا بإحدى ثلاث كما في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين، التارك للجماعة ". (2) وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً ". قال ابن __________ (1) انظر هذين الحديثين وأحاديث أخرى في ذم الكبر والترهيب منه في (مشكاة المصابيح) (3/634-635) . وهو في مسلم برقم: 91. (2) تفسير ابن كثير: (2/355) . وهو في البخاري برفم: 6878. وفي مسلم برقم: 1676. (1/66) عمر: " إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله " (1) . وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلمين أن يقاتل بعضهم بعضاً، وأخبر أن القاتل والمقتول في النار، فعن أبي بكرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار" قال: فقلت، أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (2) . ولذا فإن العبد الصالح أبى أن يقاتل أخاه، خشية أن يكون من أهل النار، فباء القاتل بإثمه وإثم أخيه (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين*لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقلتك إني أخاف الله رب العالمين* إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين) [المائدة: 27 - 29] . 7- أكلة الربا: من الذنوب التي توبق صاحبها الربا، وقد قال الحق في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة: 275] ، وقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون * واتقوا النار التي أعدت للكافرين) [آل عمران: 130-131] . وقد عده __________ (1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الديات، باب قول الله تعالى: [ومن يقتل مؤمنا متعمد] ، فتح الباري: (12/187) . (2) رواه مسلم، كتاب الفتن، باب إذا تواجه المسلمان بسيفهما: (4/2213) . (1/67) الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه واحداً من سبعة ذنوب توبق صاحبها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اجتنبوا السبع الموبقات ". قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ". (1) 8- أكلة أموال الناس بالباطل: من الظلم العظيم الذي يستحق به صاحبه النار أكل أموال الناس بالباطل، كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما* ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً ( [النساء: 29-30] . ومن أكل أموال الناس بالباطل أكل أموال اليتامى ظلماً، وقد خص الحق أموالهم بالذكر لضعفهم وسهولة أكل أموالهم، ولشناعة هذه الجريمة (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيرا) [النساء: 10] . 9- المصورون: أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون الذين يضاهئون خلق الله، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أشدّ الناس عذاباً عند الله يوم القيامة المصورون ". (2) __________ (1) صحيح البخاري: 2766. وصحيح مسلم: 89. (2) صحيح البخاري: 5950، وصحيح مسلم: 2109. (1/68) وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً، فتعذبه في جهنم " متفق عليه. (1) وعن عائشة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال في النمرقة التي فيها تصاوير: " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم " متفق عليه. (2) وعن عائشة أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أشدّ الناس عذاباً الذين يضاهون بخلق الله " متفق عليه. (3) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال عزّ وجلّ: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة " متفق عليه. (4) 10 – الركون إلى الظالمين: من الأسباب التي تدخل النار الركون إلى الظالمين أعداء الله وموالاتهم، (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) [هود: 113] . __________ (1) صحيح مسلم: 2110. ورواه البخاري بألفاظ مقاربة: 2225، 5963. (2) صحيح البخاري: 5957. وصحيح مسلم: 2107. (3) صحيح البخاري: 5954. وصحيح مسلم: 2107. (4) صحيح البخاري: 5953، وصحيح مسلم: 2111. واللفظ لمسلم. (1/69) 11 – الكاسيات العاريات والذين يجلدون ظهور الناس: من الأصناف التي تصلى النار الفاسقات المتبرجات اللواتي يفتن عباد الله، ولا يستقمن على طاعة الله، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا " أخرجه مسلم، والبيهقي، وأحمد. (1) قال القرطبي في الذين معهم سياط كأذناب البقر: "وهذه الصفة للسياط مشاهدة عندنا بالمغرب إلى الآن " قال صديق حسن خان معقباً على قول القرطبي: " بل هو مشاهد في كل مكان وزمان، ويزداد يوماً فيوماً عند الأمراء والأعيان، فنعوذ بالله من جميع ما كرهه الله " (2) . أقول: ولا زلنا نرى هذا الصنف من الناس في كثير من الديار يجلدون أبشار الناس، فتبّاً لهؤلاء وأمثالهم. والكاسيات العاريات كثيرات في زماننا، ولعله لم يسبق أن انتشرت فتنتهن كما انتشرت في زماننا، وهن على النعت الذي وصفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت. 12- الذين يعذبون الحيوان: روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُرضَت عليّ __________ (1) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة: (3/316) ورقم الحديث: 1326. (2) يقظة أولي الاعتبار: ص 113. (1/70) النار، فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تُعذّب في هرة لها، ربطتها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت جوعاً ". (1) إذا كان هذا حال من يعذب هرة، فكيف من يتفنن في تعذيب العباد؟ فكيف إذا كان التعذيب للصالحين منهم بسبب إيمانهم وإسلامهم؟ 13 - عدم الإخلاص في طلب العلم: ساق الحافظ المنذري كثيراً من الأحاديث التي ترهب من تعلّم العلم لغير الله، منها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة " يعنى ريحها. رواه أبو داود وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم. (2) وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، من فعل ذلك فالنار النار " رواه ابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. (3) وعن ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تعلم علماً لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوأ مقعده من النار". رواه الترمذي وابن ماجة كلاهما عن خالد بن دريك عن ابن عمر، ولم يسمع منه. ورجال إسنادهما ثقات. (4) __________ (1) مشكاة المصابيح: (3/688) . (2) وهو في سنن أبي داود: 3664. وأورده الألباني في صحيح أبي داود: 3112، وصحيح ابن ماجه: 252، وقال: صحيح. (3) أورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه: 254. وقال فيه: صحيح. (4) انظر هذه الأحاديث وتخريجها في: (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري: (1/91) . (1/71) 14- الذين يشربون في آنية الذهب والفضة: روى البخاري ومسلم عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجر في بطنه نار جهنم ". وفي رواية لمسلم: " إن الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب ... ". (1) وعن حذيفة، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة " متفق عليه. (2) 15- الذي يقطع السدر الذي يظل الناس: عن عبد الله بن حبيش قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار " رواه أبو داود. (3) وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الذين يقطعون السدر يصبون في النار على رؤوسهم صباً ". (4) 16- جزاء الانتحار: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده، يتوجّأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها __________ (1) مشكاة المصابيح: (2/462) . صحيح مسلم: 2065. ورواه البخاري: 5634 بلفظ "الذي يشرب في إناء الفضة ... ". (2) صحيح البخاري: 5426. وصحيح مسلم: 2067. (3) مشكاة المصابيح: (2/125) ، وأورده الشيخ ناصر في (صحيح الجامع) : (5/341) ، ورقم الحديث: (6352) وعزاه إلى أبي داود والضياء في (المختارة) وقال: صحيح. وهو في سنن أبي داود برقم: 5239. وبعد رواية الحديث جاء ما يلي: سئل أبو داود معنى هذا الحديث، فقال: هذا الحديث مختصر، يعني: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم، عبثاً وظلماً بغير حق له فيها، صوب الله رأسه في النار. (4) عزاه في (صحيح الجامع) (2/88) إلى البيهقي في (السنن) وقال فيه: صحيح. (1/72) أبداً، ومن شرب سمّاً فقتل نفسه، فهو في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ". (1) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار ". (2) __________ (1) صحيح البخاري: 5778. وصحيح مسلم: 109 واللفظ لمسلم. (2) صحيح البخاري: 1365. (1/73)
__________________ ------------------------------------------------------------- سبحان الله والحمد لله ولا اله الا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة الا بالله |
مواقع النشر (المفضلة) |
| |
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
معنى جريان أنهار الجنة تحت الجنة | رضا البطاوى | نور الإسلام - | 3 | 09-27-2013 09:38 PM |
اهمية زيت كبد الحوت للبشرة مضمونة 2013 , قناع كبد الحوت لنضارة البشرة | ملاك الرومنسيه | حواء ~ | 0 | 04-18-2012 10:03 PM |
حصريا:: محمد و ديمة بشار | الجنة .. الله يكرمني فيها | طيور الجنة 2 | Mp3 | عطر القـلوب | خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية | 1 | 09-06-2011 06:19 PM |
الطريق إلى الجنة: معاً بإذن الله إلى الجنة | فريال (نور الإسلام ) | خطب و محاضرات و أناشيد اسلاميه صوتية و مرئية | 3 | 08-04-2007 05:59 PM |