07-10-2016, 07:09 PM
|
|
إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر، ففي عام 1311هـ (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد إلى السودان، يضم كلاًّ من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي أحد أعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة) وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجَّار من قبيلتي الزوية والمجابرة، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر إلى السودان فانضم الوفد إلى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية، ولهم خبرة جيدة بدروبها وعندما وصل المسافرون إلى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق: إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره، ومن العادة - إلا في القليل النادر - يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك وتعودت القوافل أن تترك له بعيرًا، كما يترك الإنسان قطعة اللحم إلى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام، واقترح المتحدِّث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركوه للأسد عند خروجه فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الإتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت فكيف يصح لنا أن نعيد إعطاءها للحيوان، إنها علامة الهوان والمذلَّة إننا سندفع الأسد بسلاحنا إذا ما اعترض طريقنا) وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه فردَّ عليهم قائلاً: إنني أخجل عندما أعود وأقول: إنني تركت بعيرًا إلى حيوان اعترض طريقي، وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الأسد من مكانه الذي اتخذه على إحدى شرفات الممر فقال أحد التجار - وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك -: أنا مستعدٌّ أنأتنازل عن بعير من بعائري، ولا تحاولوا مشاكسة الأسد فانبرى عمر المختار ببندقيته - وكانت من النوع اليوناني - ورمى الأسدبالرصاصة الأولى فأصابته، ولكن في غير مقتل واندفع الأسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرَعته وأصرَّ عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل فكان له ما أراد. عندما اندلعت الحرب الليبية الإيطالية عام 1911م، كان عمر المختار وقتها بواحة (جالو) خفَّ مسرعًا إلى زاوية (القصور)، وأمر بتجنيد كل مَن كان صالحًا للجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزاوية (القصور)، فاستجابوا لندائه، وأحضروا لوازمهم، وحضر أكثر من ألف مقاتل، وكان عيد الأضحى من نفس السنة الهجرية على الأبواب؛ أي لم يبقَ عليه إلا ثلاثة أيام فقط، ولم ينتظر السيد عمر المختار عند أهله حتى يشاركهم فرحة العيد، فتحرَّك بجنوده، وقضَوا يوم العيد في الطريق، وكانت الذبائح التي أكل المجاهدون من لحومها يوم العيد من السيد عمر المختار شخصيًّا، ووصل المجاهدون، وعلى رأسهم عمر المختار وبرفقته أحمد العيساوي إلى موقع بنينه حيث معسكر المجاهدين الذي فرح بقدوم نجدة عمر المختار ورفقائه، ثم شرَعوا يهاجمون العدو ليلاً ونهارًا، وكانت غنائمهم من العدو تفوق الحصر. ظل المختار في الجبل الأخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله، وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز إقامته إلى المراكز الأخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد أحوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعدُّ للطوارئ، ويأخذ معه قوَّة كافية تحرسه من العدو الذي يتربَّص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختمَ له بالشهادة ذهَب في هذه السنة كعادته في نفرٍ قليل يقدَّر بمائة فارس ولكنه عاد فردَّ من هذا العدد ستين فارسًا، وذهب في أربعين فقط، ويوجد في الجبل الأخضر وادٍ عظيم معترض بين المجاهدين، اسمه وادي الجُرَيب (بالتصغير) وهو صعب المسالك، كثير الغابات، كان لا بد من اجتيازه، فمر به عمر المختار ومن معه، وباتوا فيه ليلتين، وعلمت بهذا إيطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان، فأمرت بتطويق الوادي على عجلٍ من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ما عندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومَن معه إلا وهم وسط العدو، وقرَّر منازلة الأعداء وجهًا لوجه فإما أن يشق طريقًا يمكنه من النجاة، أو يلقى ربه شهيدًا في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاصُ المجاهدين عددًا كبيرًا من الأعداء، وسقط الشهداء وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وعلقت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكَّن من سحبها، ولم تُسعِفه يده الجريحة. والتفت المجاهد ابن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت؛ أي تخلفت) فعادوا لتخليص قائدهم، ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش أول مَن قُتل وهو يحاول إنقاذ الشيخ الجليل، وهجم جنود الطليان على الأسد الجريح دون أن يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرَّف عليه أحد الخونة وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار إلى ميناء سوسة محاطًا بعدد كبير من الضباط والجنود الإيطاليين، وأخذت كافَّة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم إ لى سوسة، ومن ثَمَّ نقل فورًا إلى بنغازي عن طريق البحر. وعندما وصل الأسير إلى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة أو مجلة بنشر أخبار أو مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء، ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه أن يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدجَّجين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلَّحة بالمدافع الرشاشة؛ حيث أودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة. ( يتبع ) |
__________________ ~~~~~~~~ .. لا لذوآت الأرواح .. يمكنني ان ابدع بدونها |