الفصل السادس: جَحِيمْ! طقوس فارماكوس
[
راقبت البلورة الرقيقة تقترب منها، وكم أشفقت على حالها.. أهذه نهايتها؟
في الحقيقة.. هي كانت تفضل الموت في ميدان المعركة، لكن ليس بهذه الطريقة
الهزيلة، المثيرة للشفقة.. كم لعنت نفسها بسبب الضعف الذي غدت فيه..
لكن ما النفع من ذلك الآن؟
جاثية على ركبتيها، خائرة القوى.. تنتظر فقط متى ستحين نهايتها
متى سيقطع نصل السيف رأسها.. كانت حقا ترغب في لقاء نيكس مجددا
لكنها راضية بقدرها، ففي النهاية لقد فشلت في تأدية ما وجب عليها القيام به
أمر واحد فقط، واحد لا غيره.. أمر في غاية البساطة، كان عليها فقط حماية إيثر
لكنها لم تفعل.. تتذكر حين دخلت إلى بهو البارثينون، حيث اجتمع الجميع يحيطون
بنيكس.. لم تصدق أبدا، حتى عندما رأت بعينيها لم تصدق أي فعل شنيع اقترفت رفيقتها.
هي زيوس من وجب ان تكون الحامية لم تقدم على فعل الكثير.. لا تزال رائحة
الدماء عالقة في أنفها، ومشهد الجثة المضمحلة يغزو تفكيرها
أكانت يوما بهذا الضعف؟ لا قطعا لم تكن، هي سيدة البرق، الشخص الذي كان
يزيل كل من يهدد إيثر ولو كلاما فقط.. لكن ماذا فعلت عندما حانت اللحظة التي تحدد كل
شيء.. لا شيء، فقط بقيت فاغرة الفاه كالحمقى، المغفلين، لا الأدهى من هذا وذاك
أنها ساعدت نيكس على الهرب، كان غباءا محضا حقا.. حتى وان كان ما قامت به لسبب
فكان من واجب زيوس أن توقفها، تسألها السبب ثم تحكم بالواجب لكنها لم تفعل
الآن فقط فتحت عينيها وهي تستنشق أخر ذرات الهواء، كانت غبية وهذا ما أكده
كل السدم، حتى ان كان فانس مقتنع أنّ ما فعلته لم يكن بهذا السوء، ماذا عن الأخرين؟
حتى أبولو الذي كان كظلها الذي لا يفارقها، قرر قتلها -مع انها تشك في حقيقة هذا-
لم تفق إلا على برودة النصل التي اخترقت ذراعها.. كان ألما لم تشعر بمثيله قط
جليد بارد يتحول نارا فور لمسه لبشرتها، لقد سمعت أن حروق الجليد أشد ألما
من حروق النار لكنها لم تقتنع إلا الآن
-تبا لك، أهذه هي القوة الجبارة لحماة إيثر الجدد؟ لا غرابة في هلاكه إذن
أين تعقلها المعتاد؟ قطعا لم تعد أعصابها المشدودة قادرة على الاستماع له أكثر
من هذا، احتقن وجهها بحمرة شديدة ثم صرخت هادرة وقد لمع برق ليلكي في سماء الليل
التي رصعتها نجوم متفرقة قبل قليل، نجوم اختفت تحت غطاء من الغيوم الرمادية خوفا من البرق،
برق لم ير ألفيوس مثله قط، كان كلسان عملاق يتمايل من دون توقف، لسان تفرعت
منه ألسنة ألف أصغر حجما.. كان أجيس مشدوها، جمال العاصفة التي أتت بغتة قد سلبت
لبه، فهذه أول مرة يرى شيئا كهذا، لكن صراخ زيوس أخرجه من أحلامه التي مادامت لأكثر
من برهة صغيرة.. تكلمت بغضب وهي تتحامل على نفسها لتنهض
-أنى لشخص مثلك الحكم علينا؟ أنى لضعيف فشل في رفع السيف أن يقول مثل هذا الكلام؟
أنى لمن كان الأقرب أن يتردد؟ أنت مثلي.. ما يميزك حتى تعظني؟
كانت تتمايل وهي تصرخ بكلماتها، ترنحت كثمل شرب طوال الليل، لم يكن امامها إلا الارتكاز
على السيف وسط الحلبة، كالحمل الخائف بدت أمام ألفيوس، كان الشحوب قد غزى وجهها
فلم تكن الدماء التي فقدتها بالقليلة، يكفي النظر إلى ثوبها الأبيض الذي تشرب ما يكفي لأن
يلتصق على جسدها، والبقعة الحمراء التي تشكلت تحت أقدامها
تسلل الخوف إلى أجيس من دون القدرة على منعه، صحيح لم يلتقها إلا اليوم، إلا أنه
عرفها منذ أن كان مجرد جنين في بذرته الصغيرة، كانت ألحانها هي ما يؤنس وحدته
في الظلام الذي أحاطه طويلا، موسيقى عذبة كبقعة من النور المضيء
وفي خضم هذه المعمعة حاول النزول إلى الحلبة ومساعدتها، غباء.. صحيح؟ فكيف
له هو من لم يحمل غير الكتب أن يساعدها، لكنه قرر ولن يعود عن قراره
تحرك بسرعة إلا أن يد فانس قد حالت بينه وبين تأدية ما قرره
حاول السؤال إلا أن خوفه من الأخير كان حائلا فسبقه أبيض الشعر باستفساره الناعس
-إلى أين يا فتى؟
تلعثم أجيس وقد احمر بسبب الرعب.. كانت العيون الستة تترقب إجابته، عينا فانس الناعسة
ونظرات أبولو المترقبة، كما أنه شعر بسيبيريوس ينتظر إجابته حتى ان لم يكن
يعيره أي اهتمام مطلقا
تنهد بهدوء ثم قال بخفوت وقد احمرت وجنتاه
-إذا لم نوقفهم فزيوس ستموت
-لست أقول العكس في مرئى كل هذا.. فزيوس لا تستعمل أبدا مهاراتها المعتادة
أبولو أكان هذا هو هدف هذه التمثيلية؟
-تمثيلية؟
ابتسم أبولو وهو يجيب بهدوء تام
-ليس تماما فانس، قد تكون لدي شكوك حول أمور عدة غير مترابطة
لكن للآن لم أحصل على شيء يثبت صحة شكوكي تلك
-ماذا تعني؟
-من يدري؟ أنا لم أكن يوما بشخص يُفهم.. فحتى أنا عاجز عن ادراك مدى دهائي
ضحك بعدها بصوت عال، ثم صوب نظره على زيوس التي كانت ترتجف
تماما كورقة ذابلة معرضة للسقوط فور تعرضها لهبة هواء صغيرة
أجيس قد فضل الصمت، هو حقا لا يفهمهم، ولا يعتقد أن الزمن سيغير من الأمر شيئا
ارتكز على الحاجز الرخامي بصعوبة حتى يستطيع الرؤية.. لم يدري لما كان عليهم
بنائه بهذا الطول، فقد وصل ذاك الجدار الأبيض الذي زخرف بخطوط متوازية لعنقه
مما جعل الرؤية صعبة حقا.. خصوصا مع توقف البرق الذي كان مصباحا
عملاقا يضيء الحلبة، بالرغم من هذا فقد أنارت النجوم والقمر المكان، ولم يكن
يحتاج لمنظار ليعرف ما تعانيه زيوس الآن.. ارهاق، تعب، وألم شديد في الجرح الذي
على ذراعها، كان قد سمع من إيثر أن حراسه مصنوعون من ماء، ماء مع عناصر مختلفة
لكل منهم، وهذا ما جعلهم يتعافون بسرعة في المعارك خلاف للآخرين
لكن ما يراه الآن مختلف تماما، فقد جرحت زيوس منذ وقت طويل وحتى إذا كان الجرح
بليغا لهذه الدرجة فكان من المفترض أن تظهر بعض الأمور تدل على تعافيها
ولم يرق له حقا عدم لمحه لأي إشارة، وهذا ما كانت تفكر فيه هي أيضا، كانت تعلم أن
هناك خطب ما، منذ أن أفاقت وهي تشعر به، لقد حذرها ليبرا من هذا قبلا.. ليس هي فقط
فقد حذر نيكس تماما مثلها، فهما على خلاف باقي السدم حياتهم تحدد بحالتهم النفسية
وان كانت لم تصدق هذا أنذاك.. لكنها بدأت تصدقه الآن، تصدقه ولو قليلا
خصوصا أنها غدت بهذا الضعف الكبير، وبسبب ارتعاش يدها الكثير أسقطت السيف
ليختل توازنها وتسقط هي كذلك.. صرخ أجيس برعب بينما قفز سيبيريوس إلى الحلبة.
كانت دقات قلبه تتسارع، يخشى أن يفقدها ثانية، فهي الشخص الوحيد الذي تجعله يحس
بأنه حي، وبسرعة كبيرة تحرك، حتى أن عيني أجيس لم تلمحانه إلا وهو أمامها يصد
السيف بمخالبه.. لم يتكلم احد، وساد صمت موتر في الحلبة.. كلاهما يترقب حركة من الأخر
كانت هناك مياه باردة تقطر من السيف الشبحي الخاص بألفيوس، تقطر وتقطر كسمفونية
معلنة بدأ رقصة النهاية. سيبيريوس أوشك على الانقضاض على خصمه، إلا أن صياح زيوس أوقفه.
لم تكن غاضبة هذه المرة ربما متعبة، مرهقة لكن غضبها قد زال الآن نبرتها تهدجت وقد تخللها
صوت تنفسها المرتفع حين قالت بإعياء
-أخبرني ألفيوس، اتشعر بالندم لأنك عجزت عن الوصول لمبتغَى إيثر؟
لم يتوقع أحد سؤالها، لا أحد حقا، حتى أبولو نفسه بقي مندهشا يراقب بتمعن
فزيوس التي يعرفها ما كانت لتقبل بحل وسط، إما الحياة أو الموت، الانتصار أم الخسارة
لم يكن أبدا يعي ما تحاول فعله وهذا لم ينل استحسانه كثيرا
بقي ألفيوس جامدا، كحجر الصوان، لا يدري أي أمر ترغب في معرفته.. لم يكن أبدا
مثل أريس، هو لا يهتم كثيرا بكبريائه، لكنه لا يرغب حقا في إجابتها.. فهي لم تنل
اعجابه حقا، خصوصا بعد ما سمعه من أبولو عن سماحها لقاتلة ملكه بالفرار
يعلم انه لا يحق له التكلم، لا يحق له حقا فتح فمه هذا والصراخ في وجهها لعدم قيامها
بواجبها، لكنه لا يستطيع، حقا أراد ولم يقدر، كل ما يريده هو رؤية إيثر والركوع وطلب الصفح
لكن كل شيء ذهب في مهب الريح، فملكه قد مات ولا طريقة لإعادته
-صمتك هذا يثبت شكوكي.. أعلم أنني لست في مقام لقول هذا لكن
مدت يدها بضعف تطلب مساعدة سيبيريوس، فأمسكها الأخير بخفة وجذبها بهدوء
لتقف وهي ترتكز عليه، أحس بحرارتها، وببلل الدماء على ملابسها، كان يكفيه
أن يشم ليعرف أن ما فقدته أكثر مما تبقى في جسدها، حاول منعها من الحديث
وأخذها إلى ليبرا، لكنها أشارت بالرفض بحركة ضعيفة من يدها السليمة، صوبت
نظراتها الزائغة نحو ألفيوس، كان بؤبؤ عينيها يرتعش بطريقة سببت لها ألما شديدا في رأسها
لكنها قالت بصوت حاولت قدر الإمكان جعله مسموعا للجميع
-قد أكون أصنف مع الخائنين الآن.. لكنني لازلت أثق بصحة فعلي، وبما أنني
أثق بصحة ما فعلت فلا بد أن لك سببا لعدم قتل رفاقك.. أذا أردت صفحه فساعدنا
كان وقع كلماتها غريبا، حتى على أبولو وسيبيريوس.. لكن أكثر من تأثر به هو ألفيوس الذي
أصبح محط سخريتها حسب اعتقاده، لهذا زادت رغبته في قتلها
حقا أراد أن يراها جثة هامدة بلا روح، لكن نظرات الكلب الواقف بجانبها قد جعلته
يتوقف، من يدري ربما كلماتها تحمل من الفائدة الكثير.. لمحت زيوس انه قد هدأ..
ولو قليلا لهذا تابعت بحذر وقد أضناها التعب
-هناك طريقة واحدة ووحيدة لمعرفة الحقيقة، إيجاد نيكس.. لا بل ملاقاة سيان نفسها.
لكن ذاك قطعا له ثمن غال جدا.. كل ما علينا فعله الآن هو إيجاد ليس هذا فقط بل ومنع احياء من مات..
كل ما نحتاجه هو العثور على زاهان، العثور على طريقة الموت المناقض، عندها ستستعيد رضا سيدك
-وما دليلك؟
أشارت زيوس بتعب إلى أجيس ثم قالت بخفوت وهي توشك على السقوط مغمى
عليها
-ذاك ابن إيثر، ملكنا وشمسنا.. هو الوريث وهو سيثبت صحة كلماتي
ثم غابت عن الوعي بعدها وقد أتعبتها الجراح التي حصلت عليها.. توتر أجيس
وهو يلمح النظرات التي رمقه بها ألفيوس، نظرة استهجان، دهشة واستغراب
وكالعادة فقد احمرت وجنتاه، كثيرا ما سمع عنه من والده هو ودروجو وسيرس
وآريس إلى جانب سثيليوس.. بالرغم من انهم خانوا إيثر إلا أن الأخير
كان لا يزال يحبهم، أخوته منذ أن كان صبيا.. بالرغم من أنّ إيثر غريب أطوار
إلا أنه يتغير كلما تكلم عنهم، خطيئته التي لم يسامح نفسه أبدا لارتكابها
كان يجدر به أن يكون واسع النظر، هذا ما كان يردده في كل مرة، وبالرغم من انّ
الجميع وضعوا اللوم على أولئك الأربعة إلا أنّ إيثر كان يلوم نفسه ومن دون شعور
وجد نفسه يقول لألفيوس
-إيثر لم يحقد عليكم أبدا، لا أنت ولا الباقين.. في الحقيقة هو من كان ينتظر عفوكم
عنه، لقد كان يلوم نفسه طوال القرن الذي مضى
لم تعد قدماه تحملانه، فخار على الأرض منهك القوى، وقد تسابقت دموعه تبلل
الأرض.. تردد صوت نحيب ألفيوس في المكان، فبدى في سكون الليل كترانيم هلاك
صاحبت صخب الحشرات الليلية.. كانت ليلة غريبة لم يشهد أجيس مثلها قط
ألفيوس الباكي، زيوس النائمة في حضن سيبيريوس، فانس وأبولو اللذان راقبا كل
شيء بصمت. كانت ليلة صيفية دونت مجرياتها النجوم التي أضاءت السماء
وشارك في جعلها فاتنة القمر الشاحب الذي بدى أكبر من حجمه المعتاد.
ابتسم أجيس ثم سار ناحية ألفيوس في الحلبة، لا يدري لما يشعر بالراحة وهو معه
لكن ما هو متأكد منه ان هذا الشخص ليس بالسيء
ركع على قدم واحدة بجانبه ثم مد يده وقد ابتسم بخجل، أمسك ألفيوس يده بحذر
كأنها كنز مصنوع من الجليد الرقيق الذي يخشى ان ينكسر، ثم ابتسم وقال بصوت ملأه
الندم وقطرات من الدموع عالقة في محجريه
-ليكن إذن تحالف، تحالف من بؤرة الخيانة، سيدي
-لا تنادني بالسيد أيها الدوني الباكي.. انهض فعلينا اخذ تلك الشيء عديم الأخلاق للطبيب
-شيء؟
بقي مشدوها، لثوان ربما.. لكنه انفجر بالضحك على نحو مفاجئ وهو يضرب ظهر أجيس
بعنف، وخوفه من كسره قد زال تماما. عقد أجيس حاجبيه بانزعاج ثم قال وهو ينهض بتكبر
-بالنسبة لمن كان يبكي كالرضع، ضحكك هذا حقا مزعج
-أسف لكنك مختلف تماما عن إيثر.. اعتقدت أنك ستكون مثله
-ومن المجنون الذي يرغب في ان يتشبه بشخص مثله، الله وحده يعلم غرابة أفكاره
-متأكد اننا نتكلم عن الشخص نفسه؟
كان ألفيوس قد امتلأ بالشك، فما يتذكره عن حاكمه لم يكن أبدا ما يذكر الأن
حاول جمع المزيد من المعلومات لكن أبولو قاطعه وهو يضرب ظهريهما بكفيه
-ألفيوس، الناس تتغير يا فتى.. والآن لنأخذ زيوس إلى ليبرا
-انتظر! أحققت هدفك من كل هذا أبولو؟
-بالطبع وقد كان نجاحا باهرا، من كان يتصور أن خطتي الملحمية ستنتهي هذه النهاية
الفاتنة، ولتشهد النجوم والقمر أن أبولو ليس له من الخلق مثيل
كان يتكلم بابتسامة مغرورة أزعجت أجيس، لكن خوفه من إطالة الحديث منعه من التعليق، إلا أن
ألفيوس كان بديله حيث قال بكل براءة وهو يشير على أبولو
-أنا لم أحبك منذ لمحتك اول مرة، لقد كانت تلك الشابة ستموت بسبب ملحمتك الغبية تلك
ظهر عرق الغضب على وجه أبولو مع أنه حاول الابتسام.. إلا أنها ظهرت كابتسامة
متكلفة جعلته يبدو كالبلهاء، وبوجه غطته خصلات الجبهة البلاتينية أعقب
-لم أطلب حبك، كما أن الشخص الذي كان سيقتلها هو أنت لا أنا
-من هو الشخص الذي ملأ عقلي بتلك الأفكار السوداء؟
-غباء، لا تحاول رمي تصرفاتك الهمجية على عاتقي، فأنا أرقى منك
-متى كان الرقي يمنح للأغبياء، أهو وسام شرف يوضع على صدرك يا سيد
الفتن؟
كان حوارهما البريء قد أخذ منحى مربك. فما كان من أجيس إلا أن دس نفسه
بينهما وهرب إلى جانب فانس الوحيد.. جال بعينيه في الساحة بحثا عن زيوس
لكنه لم يجدها لا هي ولا كلبها الأسود المخيف.
أعاد نظره إلى الساحة حيث عم صمت ثقيل بعد الجمل الاتهامية التي تبادلاها.
وقف متصلبا، فاغرا فاهه عاجزا عن الكلام مثلهم تماما، لم يكن يعلم ماذا يفعل.. مهما فكر
وفكر فهو جاهل لا يستطيع أن يحكم.. تعلق نظره في فانس وهو يأمل أن يبدي ردة
فعل واحدة عن معرفته.. تلك المعرفة التي يمكن أن تنقد ألفيوس الثلجي الذي بدأ بالاضمحلال
كسراب الصحراء. أخفض الضئيل رأسه بأسى.. تماما كما ابتسم أبولو في انكسار قبل
ان تختفي معالمه تحت شعر غرة.. بقي نظر أجيس معلقا في رفيق والده، هذا الرفيق
الذي لم يكد ينال حريته حتى التقى وشبح الموت المتأصل.
ابتسم ألفيوس بكل ود، ثم حرك يده مودعا إياهم وقد اختفى صدى كلماته غير المسموعة
كما تلاشى جسده في غبار أزرق سحري.
كان حزينا، مرتبكا لكن ولسبب ما عجز عن البكاء ووسط ثقل الجو قرر ان ينسل هاربا كاللص
ويبحث عن لاسكيريا التي اختفت منذ مدة طويلة.
اللَحْنُ الرَابِعْ:أَوَلُ خُطْوَة نَحْوَ التَغْيِيرْ..الوداع أغارثا!
كانت أغارثا غاية في الروعة، مكان خلاب لم يرى مثيلا له –وان كان لم يخرج لغيرها أبدا-
فضوء القمر الذي انعكس على المياه التي انطلقت كشلال من نافورة العذراء جعلته يحس
بالسكينة، أشجار الزيتون كانت تملأ المكان برائحة الطبيعة العطرة، اليراعات المضيئة
بألوان قوس المطر قد ملأت الأشجار، صوت السكون الذي انكسر بسبب غناء صراصير الليل
جعل الليلة كليالي العشاق الفاتنة، لم يكن يزور كل هذا أبدا.. فحتى عندما فقست البذرة
التي احتوته قبل عقدين لم يتحرك من غرفته في سرداب إيثر
بقي هناك ينتظر ظهور أحدهم لمساعدته، كان يتمنى أن يستمع إلى صوت الغناء الذي
اعتاده لكن امنيته لم تتحقق، كان جاهلا لكل ما حدث كما هو جاهل الآن لما يحدث
لا يدري لما اكتنفه الحزن فجأة عندما أدرك أنه وحيد، هو وحيد على الدوام هكذا كان
وهكذا سيبقى، لكنه أدرك ان غياب إيثر قد أصابه في الصميم
جلس على حافة النهر الموحلة، بصمت مع اليراعات المضيئة.. يتأمل خط النجوم المضيء
الذي انعكس على المياه الراكدة، كان يرتكز برأسه على ركبتيه محتضنا نفسه
سمع من لاسكيريا أنه الصيف مع هذا فهو يستشعر قرصات من البرد تنخر عظامه
لكنه تحامل على نفسه وبقي هناك.. لم يشعر أبدا بوقع خطواتها، كيف لا وهي لا تخطو
أبدا على الأرض، حتى ان بدى الحذاء ذو العنق الطويل الذي ترتديه يضرب الأرض
المفترشة بالأخضر
جلست القرفصاء خلفه ثم قال بصوتها الساخر المعتاد
-مالي أراك وقد استولى الحزن عليك، يالك من طفل يا أجيس
استدار بتفاجئ وقد غمرته سعادة عارمة، لم يكن يتصور أبدا أن غياب لاسكيريا
سيؤثر فيه لهذه الدرجة، في النهاية بعد تفكيره في الأمر مليا هذا ليس بالمفاجئ حقا
فهي كانت اول من أبصر، والوحيدة التي بقيت معه طوال الوقت، وبلكنته المتعالية قال
-كفاك هراء لاس، ألا يحق لمن مثلي أن يجلس مصاحبا نفسه؟ على كل حال أين
اختفيتِ كل هذا الوقت؟
-هذا ان كان لنفسك قرين يمكنك مصاحبته أجيس، البقاء وحدك ليست جريمة
لكن في وقت كهذا سيكون سخفا لا غير.. أما عن سؤالك الأخير فجوابه بسيط
لا يحتاج تذكير، أنا هي أغارثا نفسها لهذا اعلم الحاصل على ارضي وان كنت عن
الأعين غائبة
-ما قصدك؟ أتعتقدين أننا سنعثر على زاهان، فسيبيريوس في أيدينا الآن؟
-زاهان لم يعد هدفك المنشود الأن، فالعاصفة التي ستزيل العالم قد حانت..
والويل لنا إذا أعدنا الموتى إلى الحياة.. هذه كانت كلمات الملك الثاني.
كان كالأبله، لا بل أكثر من هذا.. فكثيرا ما كانت تقتبس أقوال الملوك من دون أن
تفسر له شيئا من معانيها.. بدت له غريبة أول وهلة لكنه اعتاد عليها الآن بعد الأعوام
التي قضياها معا.
كان انزعاجه الذي أبداه كاذبا سريع الزوال، فكل ما فعله هو الوقوف هناك، بثبات مع ازدياد قتامة عيونه
لم يكن يدري ما يفعل.. هل يصرخ أم يضرب أم يهرب أم كلهم مع بعض.. كان دوما يحس النقص وهاقد ازداد
احساسه هذا الآن، منذ لقائهما وهي تعيد نفس الكلمات -لقاء زاهان، امتلاك تعويذة
الاحياء، منع إعادة بعث الأموات- بحق الاله كانت تبدو سهلة حين سمعها أنفا
لكنه الأن لا يستطيع رفع رأسه حتى.. هو خائف مما قد يحصل إن فشلوا أكثر من خوفه على حياته حتى.
كم لعن مهجته هذه في قرارة نفسه، فبسببها حلمه الهادئ قد زال وتبدد في ثوان كأنه لم يوجد في الأصل.
تنهد بقوة وهو يحاول استعادة هدوءه ثم استدار ورحل، كان يعلم أنها تتبعه لكنه
لم يعلق أو يطردها، هو يحتاجها، يحتاج أي أحد الآن.. لكن في الوقت نفسه لا يريد أي
أحد، هو حتى لا يعلم ما يجب أن يفعل حتى وهو يعلم ما يجب القيام به؟ كره التناقض
هذا في مشاعره، ورغب بشدة في شكوى ألمه وحسرته له، أحس بحرقة الدموع في عينيه
فمسحها بقوة بكفه وهو ينهر نفسه مذكرا إياها بأنّ إيثر يعتمد عليه
أي ضعيف الذي يبكي بسبب شيء كهذا، هو وريث إيثر والشخص الذي تجري دماء الشمس
فيه، هو الشخص الذي لا يمكن للنيران أن تحرقه، بل هي تجري في عروقه وكل كيانه
هذا ما ردده وهو مشكك في صحته، هذا ما اخبرته به لاسكيريا وما كتب في المخطوطات
المهترئة التي قرأها، لكنه حقا عاجز عن التصديق، فهو ليس بابن إيثر الحقيقي، هو مجرد
دمية صنعها إيثر بدمائه، ربما يكون وحش لا غير، لم تكن حقيقة كونه وحشا تزعجه
فهذا الوحش قد ثبت على قرار لم يكن فيه رجعة أبدا.. قرار منع إعادة الاحياء ثم الزوال
والاضمحلال إلى الظلام الذي احتضنه طويلا، في النهاية السماء عادلة وكل يحصل على ما يستحق.
توقف فجأة، بصمت وهدوء، لعق شفتيه الجافتين ثم خاطب لاسكيريا طالبا بعض الإجابات
-حسب أقوالك أنا الملك الخامس.. لكني مجرد ضعيف لا يقوى حتى على حمل سلاح
لم تتغير نظرات لاس الساخرة وان ظهرت لمعة من الشفقة سرعان ما اضمحلت ثم قالت
بصوت متراخ وهي تتقدمه
-ما كان الضعف برفيق طيب يوما، وان ارتأيت ان نصف الحقيقة كذب.. أجيس
مهمتك كانت واضحة منذ البداية، فلا تلقي بثقل غبائك علي، افهم كلامي حرفيا
ولا تترجمه كيفما تشاء.. أنت ضعيف الآن وليس حين تبدأ مهمتك
-ماذا تعنين؟
-أتظن أنّ امتلاك القوة بالأمر الهين، ستتجرع ألم سم الدنيا بسبب تدريبات سيان
-ويحك يا لاسكيريا! ما عدت أدري القول الصائب من الملُتوِ.. أولم تكن سيان من الضائعين؟
توقفت في مكانها تتقدمه بخطوات ثم قالت بصوت لا يخلو من السخرية مع تنهيدة
طويلة جعلته يجفل في مكانه
-الرحمة! أنى لك أن تكون بمثل هذا الغباء؟ استمع أيها الوعل القزم، كلامي لن يعاد
وهذه أخر مرة سأسرد فيها القول الوزين.. سيان هي قديسة هذا العالم وحاميته، هي
مختارة الملوك ومالكة كل الأسلحة المقدسة وان لم تستخدمها
-أو ليست تلك القديسة مجرد أسطورة؟
-أنت أغبى من البهائم وان كنت بشريا مترفع المستوى، سيان لم تكن مجرد أسطورة
وان كان ما يقال عنها هو العجب العجاب
-هذا شنيع
-ما الشنيع في الأمر؟
-ولكن ما الغاية من كل هذا الحديث؟
-سيان ستخبرك بنفسها، في النهاية كل ما قلته سيكون هدفك بعد أيام
-ما الذي تعنينه بحق الاله؟
-لا تعتقد أن الملك إيثر سيرحل من دون سابق انذار او ترتيب.. كل ما يحدث وحدث كان
من تخطيطه، في النهاية هو ليس ذاك الملاك ذو الأجنحة البيضاء، إنّما شيطان من الجحيم
عودة ألفيوس، موته هو، خيانة نيكس وتصرفات أبولو البلهاء.. كلها كانت موزونة
لم يعد يدرك أي شيء حقا لهذا فضل الصمت وتبعها لحيث قررت الذهاب
وفي نفسه قد امتلأ شعور بعدم الراحة والارتياب.. لكنها حتما ستكون بداية
تغيره لشخص جديد.
لاحظ حركتها المفاجئة وهي تتقدم منه فتراجع متقهقرا إلى الخلف.. هي تخطو
نحوه وهو يهرب بطريقة مبطنة، لا يدري لما ربما الغريزة؟ لكن
ما يعلمه أنّ شيئا سيئا سيحصل له عندما تمسكه خاصة مع ابتسامتها الشريرة تلك.
لكن ما أثار ريبته أكثر من ابتسامتها هو توقفها عن الحركة.. ومن دون سابق انذار
وجد جسده يتهاوى إلى الأسفل بعد ان تلاشت الأرض التي كان يقف عليها
استغرق دماغه وقتا حتى يترجم ما يراه فأتت صرخته الخائفة متأخرة لكن قوية
جذبت انتباه الباقين في الجوار الذين أتوا مسرعين يستفسرون عن الحاصل
حدجتهم لاسكيريا بسخرية وشزر ثم قالت وهي تختفي مع أغارثا التي بدأت بالبهتان
-عقدين من الأن.. ابحثوا عن أنفسكم في هذه المدة، اكتشفوا العالم وطعم التشرد
ثم عودوا إلى هذه البقعة حيث منزلكم الأبدي أيتها السدم التي فقدت روحها.
اختفت أغارثا، تاركة ورائها كيانات ضائعة لا تعلم بداية الاحداث. لاسكيريا
اختفت بعد أن علا أمرها.. تشردوا في الأرض لتجدوا الإجابات.. هذا ما فهمته زيوس
التي ابتسمت بإشراق لأول مرة منذ زمن، واعدة من عرفتهم منذ يوم بالتغير نحو الأفضل ولحاقهم.
[/FONT][/B]